الآثَارُ الاجتماعية والاقتصادية لِلنُّزُوحِ والهِجْرَةِ جَرّاءَ الحَرْبِ فِي السُّودَان
تحليل للتحديات والفرص الممكنة على ضوء الرؤية الاقتصادية والاجتماعية لتأثيرات الحرب التي أعدتها بعد عام من اندلاعها
قيادة قطر السودان – اللجنة الاقتصادية
المقدمة:
تُعد الحرب، أسوأ الخيارات البشرية الطارئة، ومن أعنف الأزمات التي يمكن أن تؤدي إلى تحولات عميقة في بنية وهياكل الدول الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
في السودان، أدت الحرب المدمرة العبثية المستمرة لنحو 21 شهراً، إلى إحداث خسائر فادحة على كافة الأصعدة المختلفة، وهدر غير مسبوق للموارد، منذ نيل البلاد استقلالها السياسي، وضياع الفرص، بالإضافة إلى التدمير الذي طال البنى التحتية، والتخريب والنهب والانتهاكات والتعدي على الممتلكات العامة والخاصة ضمن مجرياتها، والتحديات المصيرية التي واجهها المواطنون.
وفي المقابل فتحت الحرب ومعاناتها، باباً للفرص التي يمكن استغلالها في مرحلة ما بعد الحرب وإعادة الإعمار بوعي جديد وخبرات مكتسبة.
يتناول هذا المبحث تحليل الآثار السلبية والإيجابية للحرب والنزوح والهجرة، مع التركيز على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية التي أفرزتها جراء طبيعة ومجريات النزاع الحربي المستمر.
أولًا: الآثار الاجتماعية للنزوح والهجرة
(أ) الآثار الاجتماعية السلبية
1/ تفكك الأسرة والمجتمع: أدى النزوح شبه الجماعي الاضطراري بسبب الحرب إلى تشتيت الأسر وتقسيمها في مناطق مختلفة داخل القطر وخارجه. هذا التشتيت أثر بشكل مباشر على نسيج الأسرة السودانية ونظامها الحياتي، حيث تضررت العلاقات الأسرية بسبب التباعد والعوامل الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن الحرب واستمرارها.
2/ زيادة العنف الاجتماعي: بسبب النزوح والهجرة إلى مناطق لأول مرة وربما غير مألوفة وارتفاع الكثافة السكانية في المناطق المستضيفة، ظهرت التوترات بين النازحين والمجتمعات المحلية، إضافة إلى ظهور عدد من الحوادث الاجتماعية في المناطق المستضيفة للنازحين بسبب الاختلاط المفاجئ واختلاف الأنماط الحياتية.
3/ التهديدات الصحية: مخيمات النزوح هي بيئات ذات كثافة سكانية عالية وتفتقر إلى البنية التحتية الصحية، مما يجعلها عرضة لتفشي الأمراض المعدية. حيث يواجه سكان المخيمات والمناطق المستضيفة مخاطر صحية خطيرة بسبب نقص المياه النظيفة، والرعاية الصحية الأساسية، مما عرضهم لأوبئة مثل الكوليرا والملاريا والحمى النزفية وأمراض الصدر والجلدية.
4/ تفاقم الاضطرابات النفسية: تأثرت الصحة النفسية للنازحين، خصوصًا الأطفال والنساء، بشكل كبير بسبب المعاناة من العنف والنزوح القسري. حسب دراسات متعددة أظهرت النتائج أن الأطفال في مناطق النزوح يعانون من اضطرابات نفسية مثل القلق والاكتئاب، بينما يعاني (40%) من النساء من اضطرابات ما بعد الصدمة (PTSD).
5/ انعدام الأمن الغذائي: حيث يعاني نحو (25) مليون شخص في السودان من نقص حاد في الأمن الغذائي، بينهم (14) مليون طفل. وحوالي (37%) من السكان، ويقدر بـ (17.7)مليون شخص يعانون من الجوع الحاد. كما أثر النزوح والهجرة على الزراعة، إذ أدى النزوح الجماعي إلى تراجع الإنتاج الزراعي، وتعطل عدد مقدر من المشاريع الزراعية أبرزها مشروع الجزيرة، مما أفقد الملايين مهنهم ومصادر دخلهم، وزاد من الاعتماد على المساعدات الخارجية والواردات.
6/ فقدان الكفاءات وهجرة العقول وتعطل التدريب:
أدت الحرب إلى نزوح جماعي للكفاءات من الأطباء، المهندسين، والأساتذة الجامعيين، والفنيين والعاملين المهرة، وتعطل مراكز التدريب، مما أدى إلى ضعف التنمية المحلية. كما أدي تعطل التعليم العام والعالي إلى تفاقم مشكلة التعليم وحرمان الطلاب استمرارية العملية التربوية والعلمية وهجرة العقول، مما أضعف فرص التنمية المحلية المستدامة.
7/ ارتفاع معدلات الفقر والتشرد:
فقدان مصادر الدخل أدى إلى ارتفاع مستويات الفقر، وانتشار البطالة في مختلف الفئات العمرية. كما أجبرت الحرب ملايين الأشخاص على النزوح الداخلي والخارجي، والتشرد، مما أدى إلى تفاقم أزمة السكن والخدمات الأساسية وارتفاع أسعارها لمستويات قياسية فاقت قدرة الغالبية الساحقة من النازحين، أجبرتهم على بدائل غير مرضية.
8/ تراجع امدادات الكهرباء : أدى استهداف البنى التحتية لقطاع الكهرباء وتأثر منشآته والعاملين في الحقل إلى تراجع إمدادات الكهرباء وانعدامها بالكامل أو لعدد من الأشهر في غالب الولايات وعدد من المدن الكبرى، إضافة إلى صعوبة توفر المشتقات النفطية وارتفاع أسعارها خاصة غاز الطهي الذي ارتفع سعر أسطوانته (12.5 ك) من 2.500 قبل الحرب إلى 45.000 ألف جنيه بعد الحرب إلى حملة جائرة وواسعة على الغابات والغطاء النباتي كبدائل، سيكون لها تأثيراتها السالبة آنيًا ومستقبليًا، سواء زيادة رقعة وحدة الجفاف والتصحر والزحف الصحراوي أو ارتفاع درجات الحرارة.
(ب) الآثار الاجتماعية الإيجابية
1/ تنامي روح التضامن الاجتماعي:
رغم المعاناة، شهدت بعض المجتمعات في السودان تعزيز روح التضامن الاجتماعي من خلال مساعدات إنسانية ومشاريع دعم للنازحين. إضافة إلى تعزيز التكافل الاجتماعي بين مختلف فئات المجتمع السوداني، من خلال تبني ثقافة التكايا وبنوك الإطعام والعلاج والنفير ومساهمات ومبادرات السودانيين العاملين فى الخارج، التي أظهرت التلاحم والترابط بين المواطنين، ورفع مستويات التعايش، وقبول البعض بغض النظر عن المناطق التي تم النزوح منها في مقابل البديل الزائف المشبع بخطاب الكراهية والعنصرية والتمييز.
2/ مشاركة أوسع للشباب في العمل المدني والطوعي: الاضطرابات السياسية والاجتماعية التي خلفتها الحرب دفعت الكثير من الشباب، داخل القطر وخارجه، للانخراط في العمل المدني والطوعي بشكل أكبر. حيث شارك العديد منهم في تقديم المساعدات الإنسانية وتنظيم حملات التوعية المجتمعية وإسعاف المصابين والمرضى والإيواء . كما ازدادت الرغبة لدى عدد من الشباب للعمل التطوعي منذ بداية الحرب (بالرغم من المخاطر التي تعرضوا لها، أو التي يُتوقع التعرض لها).
3/ الإندماج الوطني وإعادة تشكيل الهوية الوطنية
أسهم النزاع واستمرار الحرب على بلورة شعور مشترك بالانتماء الوطني والهوية الوطنية الجامعة بين مختلف المكونات السودانية. فقد أدت فترة الحرب إلى بروز وعي وتشكل حركات تطالب بالعدالة والتنمية والسلام والحفاظ على الوحدة الوطنية، وقيمة مضافة بالحلول السلمية، مما يسهم على تشكيل رؤية بثوابت وطنية توافقية جديدة لمستقبل السودان. كما كانت هناك دعوات من قبل العديد من القوى السياسية والاجتماعية لوقف الحرب وإحلال السلام وتشكيل سلطة مدنية ترسي دعائم استدامة نظام ديمقراطي تعددي يوفر المناخ المؤاتي للحلول الوطنية السلمية الديمقراطية لقضايا التطور الوطني وتحقيق التطلعات الشعبية بالإرادة الوطنية .
ثانيًا: الآثار الاقتصادية للنزوح والهجرة
(أ) الآثار الاقتصادية السلبية
1/ الضغط على الموارد الاقتصادية المحلية
أدى النزوح إلى ضغط هائل على موارد المدن المستضيفة مثل المياه، والغذاء، والطاقة وتزايد مستمر في أسعار المواد الغذائية والسلع الأخرى في غالب المدن التي نزح إليها، مما أثر بشكل مباشر على القدرة الشرائية للسكان. كما أن تدمير قواعد الإنتاج الزراعي والصناعي في المناطق الريفية أدى إلى نقص حاد في الإنتاج المحلي.
2/ تعطيل الإنتاج الزراعي والصناعي
نظرًا لأن الكثير من السكان في المناطق المتأثرة بالحرب يعملون في الزراعة بنحو 65% ، أدى النزوح الجماعي إلى تعطيل الإنتاج الزراعي والصناعي بشكل كبير. بسبب تدمير الأرض الزراعية ونقص الأيدي العاملة وفقدان الأمان نتيجة للنزوح والحرب.
3/ زيادة معدلات البطالة
أدى النزوح من الحرب في المدن السودانية، إلى زيادة أعداد السكان في المدن التي نزح إليها المواطنون السودانيين، مما أسهم في تضخم سوق العمل وارتفاع معدلات البطالة. حيث تجاوزت معدلات البطالة مستوياتها القياسية ما قبل الحرب، بسبب زيادة الطلب على الوظائف والأعمال وقلة الفرص المتاحة.
4/ ارتفاع الأسعار وتدهور القدرة الشرائية
ارتفاع أسعار السلع الأساسية وتكاليف المعيشة في المناطق التي نزح اليها المواطنون، أثر بشكل كبير على الفئات الفقيرة ومحدودة الدخل، في غالب المناطق المستضيفة للنازحين.
5/ خسائر اقتصادية فادحة
قدر الخبراء خسائر الاقتصاد السوداني بحوالي 200 مليار دولار منذ اندلاع الحرب. (ALQAHERANEWS.NET). إضافة إلى ما أحدثته الحرب من تدمير البنية التحتية تدميراً واسعاَ، مما تسبب في تعطيل عمليات التنمية بمختلف أنواعها.
6/ نهب وتخريب القطاع المصرفي ومطابع العملة
تعرض الجهاز المصرفي وفروعه وخدمات المالية، والبنك المركزي ومطابع العملة الوطنية، إلى عمليات نهب وتخريب واسعة سواء فى العاصمة التي تهيمن على نحو 65% في أفرعه وخدماته، إضافة إلى عدد من الولايات والمدن الأخرى، وحالات النزوح، إلى الاستمرار في إغلاق المصارف في العاصمة والولايات التى طالتها العمليات الحربية، مما أدى إلى شلل في الحركة المصرفية والاقتصادية بارتفاع نسبة المخاطر وتآكل رؤوس الأموال وتناقص الاحتياطيات، وتزايد تراجع الثقة بالنظام المالي، مما أضعف الاستثمارات الداخلية والخارجية.
7/ توقف التجارة الخارجية
تضررت حركة التجارة الخارجية، حيث انخفضت صادرات السودان بشكل حاد، مما أثر سلبًا على توفر السلع الأساسية. (PHAROSTUDIES.COM). كما أن توقف حركة الاستيراد والتصدير وتنامي تهريب الذهب وسلع الصادرات والعملات الحرة، أثر سلباً على الميزان التجاري وعلى التجارة الخارجية وتوفر السلع الأساسية مما أسهم في ندرتها أو ارتفاع أسعارها.
8/ انهيار قيمة العملة المحلية وارتفاع التضخم
تسببت الحرب في تدهور قيمة الجنيه السوداني، حيث أن تراجع قيمة العملة المحلية بنحو (335%) أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم وتدهور القدرة الشرائية للمواطنين وتآكل المدخرات إضافة إلى العجز عن الوفاء بصرف مرتبات العاملين بالدولة لعدة أشهر وتوجيه سلطة الأمر الواقع بإيقاف صرف مرتبات من يتهم بالتعاون مع قوات الدعم السريع، دون تحقيق أو صدور حكم قضائي، الأمر الذي يتنافى مع التزامات السودان بالقوانين الدولية الصادرة عن منظمة العمل الدولية التي تنص على حماية حقوق العمال وضمان صرف الأجور .
(ب) الآثار الاقتصادية الإيجابية
1/ توزيع القوة العاملة
رغم الضغط على الموارد، ساعد النزوح في إعادة توزيع القوة العاملة وعدد من الصناعات التحويلية على مناطق جديدة، مما أدى إلى نمو بعض الأسواق الجديدة. وتزايد عدد المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي يديرها النازحون في المناطق الحضرية التي نزحوا إليها أو اقتبستها المجتمعات المحلية.
2/ تعزيز التحويلات المالية
حول العديد من النازحين كل أو جزء من أرصدة ورأسمال أعمالهم إلى مناطقهم الأصلية أو مناطق أخرى، مما ساعد في تعزيز الاقتصاد المحلي، والمساهمة في استدامة بعض الاقتصادات المحلية وتطويرها.
3/ إحياء الأسواق المحلية:
تدفق النازحين إلى المدن الكبرى ساهم في تنشيط بعض الأسواق المحلية، حيث ازداد الطلب على السلع والخدمات، مما ساعد في تحفيز بعض القطاعات الاقتصادية غير الرسمية مثل التجارة الصغيرة والورش والمشاريع الزراعية والمهن الحرفية.
4/ ظهور اقتصاد الحرب والابتكار في الأزمات
نشوء اقتصاد غير رسمي، فبالرغم من الأوضاع المتدهورة، ازدهرت بعض الأنشطة الاقتصادية غير الرسمية مثل التجارة عبر الحدود والتجارة الإلكترونية الصغيرة، مما وفر فرص عمل محدودة لبعض الفئات. كما أدى تعطل المصارف إلى انتشار حلول مالية غير تقليدية مثل الدفع عبر الهواتف المحمولة وتحويل الأموال عبر قنوات غير رسمية، مما ساهم في إبقاء بعض المعاملات التجارية نشطة.
5/ تعزيز الاعتماد على الموارد المحلية
زيادة الإنتاج المحلي، فنظرًا لصعوبة الاستيراد ومحدودية السوق، توجه بعض المستثمرين إلى تعزيز الإنتاج المحلي في قطاعات مثل الزراعة والصناعات الغذائية، مما يسهم في تحقيق قدر من الاكتفاء الذاتي. إضافة إلى تبني تحفيز الابتكار الزراعي، حيث بدأ بعض المزارعين باستخدام تقنيات أكثر كفاءة في استغلال الموارد والمساحات المتاحة، مما يعزز الإنتاج الزراعي في المستقبل.
6/ زيادة الوعي الاقتصادي والإصلاحات المحتملة
المطالبة بالإصلاحات الاقتصادية، حيث أجبرت الحرب سلطة الأمر الواقع والمجتمع المدني على البحث عن حلول لإعادة هيكلة الاقتصاد، مثل مكافحة الفساد وتحسين بيئة الاستثمار. إضافة إلى التحرك نحو اقتصاد حقيقي أكثر شفافية، انطلاقاً من أن مع الأزمات تأتي فرص جديدة أو بديلة لإعادة النظر في السياسات الاقتصادية وتعزيز الشمول المالي والرقابة المالية.
يتبع لطفاً..