شبكة ذي قار
في سبيل البعث – ميشيل عفلق – الكتابات السياسية الكاملة

في سبيل البعث – ميشيل عفلق – الكتابات السياسية الكاملة

 

 

 

 

 

 

 

 

الجزء الأول

Vol I- Fi Sabil al Baath

الجزء الثاني: معركة المصير الواحد

Vol II- Fi Sabil al Baath

الجزء الثالث: البعث والتراث

Vol III- Fi Sabil al Baath

الجزء الرابع: البعث وسوريا

Vol IV-Fi Sabil al Baath

الجزء الخامس: البعث والعراق

Vol V- Fi Sabil al Baath

 

في سبيل البعث الجزء الأول – في الاشتراكية العربية

في سبيل البعث

الجزء الأول

في الاشتراكية العربية

موقفنا من النظرية الشيوعية

 

 ان قوة النظرية الشيوعية في البلاد العربية ناتجة عن ضعف الفكر بصورة عامة، وعن ضعف الفكرة القومية بصورة خاصة.

 وسنتناول فيما يلي بعض النقاط التي تتعارض فيها الشيوعية مع الفكرة العربية. ونحن نعتقد ان تأثيرات النظرية الشيوعية ستبقى سلبية على القومية العربية، ما لم تعبر هذه القومية عن نفسها بنظرية علمية متماسكة شاملة، قابلة لان تتحقق في العمل المنظم.

 1 الشيوعية غربية

الشيوعية هي وليدة الفكر الأوربي والأوضاع الأوروبية الحديثة. وكل الذين تناولوا الماركسية بالشرح والتصحيح أرجعوها إلى أصولها الأوروبية الصرفة، فهي في نظرهم تمثل النزعة الانسانية التي ظهرت في اوروبا في القرن السادس عشر كبعث وتجديد لروح الحضارة الاغريقية اللاتينية. وهي وليدة القرن الثامن عشر وفلسفته العقلانية المجردة التي تلخصت في مبادئ الثورة الافرنسية. وهي اخيرا نتيجة لتقدم الصناعة العجيب في القرن الماضي ولما رافقه من نظريات اقتصادية ومذاهب اجتماعية.

فالشيوعية تتصل بألمانيا بواسطة فلسفة هيجل وبفرنسا بواسطة مبادئ الثورة والمذاهب الاشتراكية التي تفرعت عنها، وبانكلترا بواسطة الثورة الصناعية وما انتجته من نظريات في الاقتصاد. اما في روسيا فللشيوعية صلة بروحها القومية الخالصة، يعرف ذلك من اطلع على كتابات تولستوي ودوستويفسكي. والحق ان الشيوعية في روسيا هي مزيج من التصوف الروسي والعلم الاوروبي.

2 الشيوعية رسالة تنفي الرسالة العربية الخالدة

ان الشيوعيين اذ يدعون العرب الى نظريتهم، يتجاهلون حقيقتين:

1 – ان للامة العربية تاريخا مستقلا عن التاريخ الغربي الاوروبي وان النظريات والانظمة المنبعثة من حضارة الغرب واوضاعه لا  تلبي حاجات البيئة العربية ولا تلقى فيها تقبلا.

2- ان الامة العربية ليست كأية امة صغيرة ثانوية، يمكنها ان تتبنى رسالة غير رسالاتها الخاصة، وان تسير في ركاب امة اخرى وتعيش من فضلاتها.

الشيوعية ليست مجرد نظام اقتصادي بل هي رسالة، رسالة مادية اممية تنفي حقيقة القوميات في العالم وتنكر الأسس الروحية والوشائج التاريخية التي تقوم عليها الأمة، فالعرب اذن مخيرون بين الاممية المصطنعة وبين انسانيتهم الحية المتحققة ضمن قوميتهم كنتيجة لنضج هذه القومية وتكاملها. وان حرص العرب على رسالتهم الخاصة بهم وعلى استقلال شخصيتهم لا يعني منهم تعصبا ورغبة في الانعزال والجمود، ففي حاضرهم وماضيهم ما يكذب هذه التهمة. ولكنهم مقتنعون بأن كل اصلاح او تقدم لحياتهم لا يستمد دوافعه وغايته من عقيدتهم القومية، ومن الايمان بوجود رسالة عربية خالدة سيكون تقدما سطحيا يعجز عن توحيدهم ورفعهم الى مستوى الابداع والبطولة، ويتركهم افرادا متنافرين، تستعبدهم الانانية وشهوة المادة.

3 الشيوعية تربط العرب بالعالم ربطا متحزبا خطرا

يقرر الشيوعيون ان العرب عاجزون عن تحقيق استقلالهم ونهضتهم القومية اذا لم يربطوا مصيرهم بمصير العالم، ولم يأخذوا بأسباب الحضارة الحديثة، ثم يستنتجون من ذلك نتيجة خاطئة مغرضة: وهي انهم وحدهم يستطيعون ايجاد هذا الارتباط المزدوج، بأن يلحقوا العرب فكريا بالنظرية الشيوعية وان يلحقوهم سياسيا بمنظمات الاممية الثالثة أي بسياسة الاتحاد السوفييتي. ولكن العرب لا ينكرون ضرورة اتصالهم بالعالم الحديث، الا انهم لا يرون امكان الافادة من الاتصال الثقافي الا اذا تكونت شخصيتهم القومية وبلغت حدا كافيا من النمو والوضوح والوعي لخصائصها يسمح لها بتمثل الافكار الاجنبية وتحويلها الى ما يزيد في نموها وتوضيح اتجاهها.  لذلك هم يشعرون بخطر الارتباط الفكري المتحزب عليهم، لانه من جهة يهدد بطمس شخصيتهم القومية او على الأقل يعوق تفتحها، ومن جهة اخرى يفرض على الفكر العربي الحديث، وهو بعد في اول يقظته، نظرة متحزبة تقضي على حريته ونزاهته، وتدفعه في طريق التعسف والتعصب والخطأ. اما من جهة الاتصال السياسي فالعرب لا يطلبون اكثر من ان يكون تحالفهم مع الدول حرا، وان يستلهموا فيه مصلحتهم القومية قبل كل شيء.

4 الشيوعية لا تفهم امراض المجتمع العربي

النظرية الشيوعية وليدة الغرب وقومياته المتعصبة المتناحرة، وصناعته المتضخمة. لذلك فهي في البلاد العربية تحارب امراضا غير موجودة، أي انها تلهي العرب عن محاربة امراضهم الحقيقية. فالشيوعية تريد ان تهدم العصبية القومية في امة لم تتكون قوميتها بعد، وتخشى من هذه العصبية على الامم الاخرى وعلى السلام العالمي في وقت لا يزال العرب فيه محكومين من قبل غيرهم.

واخيرا فالشيوعية تمنع العرب من التفكير في اشتراكيتهم والاهتداء اليها، لأنها بادعائها ان الاشتراكية هي الماركسية، وان لا اشتراكية الا فيها وبها، قد شوهت الاشتراكية الصحيحة التي يحتاجها العرب. والماركسية، كما رأينا، نظام كلي أممي يتجاوز السياسة والاقتصاد الى الاخلاق والدين وكل ناحية من نواحي الحياة، في حين ان الاشتركية ليست اكثر من نظام اقتصادي مرن متكيف مع حاجات كل امة. وليس بعسير على العرب ان يهتدوا الى اشتراكية عربية مستمدة من روحهم وحاجات مجتمعهم ونهضتهم الحديثة، تقتصر على ايجاد تنظيم اقتصادي عقلاني عادل يحول دون الاحقاد والنزاعات الداخلية ودون استغلال طبقة لأخرى وما ينتج عن هذا الاستغلال من فقر وجهل وشلل لنشاط أكثرية افراد الشعب العربي، وهكذا تكون هذه الاشتراكية خادمة للقومية العربية، وعنصرا هاما في بعثها وتحقيقها.

عام 1944


معالم الاشتراكية العربية

 

 اذا اردنا ان نعرف اشتراكيتنا تعريفا يميزها عن الاشتراكية الغربية، لا بل لنا من ان نلقي نظرة على نشأة الاشتراكية في اوروبا وعلى الشروط الفكرية والروحية والاقتصادية التي ادت الى ظهورها، ثم ننتقل بعد ذلك الى الكلام عن مجتمعنا العربي فنميز وضعه وشرطه وننظر فيما اذا كان الحل الذي يصلح للامم الغربية يمكن ان يكون صالحا لنا ايضا، لان اشتراكية البلاد العربية يجب ان تلبي الحاجات العربية وتراعي جميع الشروط والظروف المحيطة بالأمة العربية في مرحلتها الحاضرة.

ظهور الاشتراكية الغربية- ظهرت الاشتراكية في الغرب كحركة منظمة على اثر ظهور الصناعة الكبرى. والصناعة الكبرى وليدة الاختراعات الحديثة، بصورة خاصة اختراع الآلة، فنتج عن ذلك ان نشأت المصانع الكبيرة واجتذبت اليها العدد الغفير من العمال، وتوسعت المدن وتشكلت هذه الجماهير من العمال التي تميز العصر الحديث في الغرب خاصة وفي العالم بصورة عامة. فقد كان لا بد لهذه الصناعة الكبرى من أيد عاملة كثيرة، فترك الفلاحون قراهم وزراعتهم، وهاجر صغار الصناع واصحاب الحرف الصغيرة المستقلة صناعتهم وحرفهم اضطرارا نتيجة للمزاحمة القاسية التي فرضتها عليهم الصناعة الكبرى ذات رؤوس الاموال الضخمة المكتلة، واضطروا الى ان يشتغلوا كعمال مأجورين، بعد ان كان للفلاح أرضه وأسرته ووسطه الاجتماعي وتقاليده الروحية، وبعد ان كان للصانع الصغير المستقل حريته ولذته في العمل.

لقد اصبح جميع هؤلاء بمثابة آلات بشرية تخضع لمقتضيات الصناعة الكبرى الضخمة، وكان عليهم ان يهجروا حياتهم الماضية ويرضوا بهذا المصير البائس، فنشأت في المدن جماهير تميزت بفقدان الأواصر الاجتماعية، واتصفت بالنقمة واليأس، ثم دخلها المهاجرون المشردون من شتى الآفاق والبلدان، فلم يكن يجمع بين هذا العدد الكبير من العمال أي رابط كرابط الجنس والتاريخ والبيئة الاجتماعية، والصلة الوحيدة التي كانت تضمهم هي شيء سلبي الا وهو اليأس والنقمة.

من وحي هذا الوسط السلبي ظهرت النظريات الاشتراكية فانطبعت بطابعه وأفصحت عن حاجاته، فكانت النظريات الاشتراكية نظريات أممية لا تعترف بالوطن، منفصلة عن كل رابطة تاريخية او اجتماعية، متمردة على الدين السائد والاخلاق المعروفة، وبالجملة كانت ثورية الى ابعد حد، وكانت على حق في اتخاذها هذا الشكل، وفي اتجاهها في هذا السبيل.

ومنذ أوائل القرن الماضي بدأت البلاد الغربية والدول الكبرى مرحلة توسع وتخمة بعد ان استكملت شروطها القومية، وكانت الغاية من هذا التوسع في العالم هي ايجاد مصرف لنشاطها العسكري والاقتصادي. وكانت الطبقات الرأسمالية المتمولة هي المسيطرة على الدولة، والحكومة ليست الا ممثلة او مندوبة من قبل هذه الطبقة فنتج عن ذلك افتراق تام بين طبقتين من المجتمع، الطبقة المتمولة المستثمرة، والطبقة الفقيرة المستثمَرة، وأدت نقمة هذه الطبقة الاخيرة على المتمولين واصحاب الصناعات الكبرى الى النقمة على الأمة كلها وعلى الوطن، فاصطبغت الاشتراكية هناك بالصبغة الاممية المعادية للفكرة القومية. وقد خاطب ماركس عمال العالم وهو يقصد عمال اوروبا بصورة خاصة فقال: ليس للعامل وطن، يا عمال العالم اتحدوا.

فالاشتراكية قد توجهت اذن نحو بيئة ونوع من البشر فقد روابطه بالوطن فعلا، وقضت عليه الأزمة الاقتصادية والتنافس الرأسمالي القاسي بان يكون مبتورا عن مجتمعه قد قطعت جذوره من أرضه وقوميته، فلم تبق له الا تلك الصفة الحيوانية التي تقتصر علي الغذاء فقط، لم يعد العامل غير مخلوق لا يهتم الا بما يغذي جسمه وينقذه من الجوع.

 اما المؤسسات الفكرية والروحية في الامم الغربية فقد وقفت على الغالب في صف الرأسمالية المستثمرة. فالدين انحاز الى الحكومات الرأسمالية واخذ يحميها بنفوذه ويدافع عنها، والفكر بصورة عامة انحاز الى الطبقة المحافظة، اي ان الكتاب وممثلي الفكر اخذوا يدافعون عن الوضع الراهن والماضي ويطلبون المحافظة عليه والدفاع عنه، فادى هذا الى حدوث تلك الموجة الطاغية من الثورة والتطرف اللذين حملت الاشتراكية لواءهما.

والخلاصة، ان الاشتراكية في الغرب كانت مضطرة الى ان تقف ليس ضد الرأسمالية فحسب، بل ضد القومية ايضا التي حمت الرأسمالية، وضد الدين الذي دافع عنها، وضد كل فكرة تدعو الى المحافظة وتقديس الماضي، كل ذلك لان الرأسمالية قد استغلته للدفاع عن مصالحها، فكان ضد مصلحة الحركة الاشتراكية.

العرب والمجتمع المغربي لنعد الآن الى المجتمع العربي ولننظر الى شروطه الحاضرة، الى مميزات المرحلة التي يجتازها العرب. اننا نرى اولا ان البلاد العربية لا تشبه في شيء حالة الامم الغربية في مطلع القرن التاسع عشر فهي اي الامم الغربية قد انهت دور تشكيلها واستكملت شروطها ودخلت في دور جديد هو التوسع، في حين ان الأمة العربية لا تزال الى حد كبير فاقدة لحريتها وسيادتها وهي علاوة على ذلك فاقدة لوحدتها القومية، تشكو من تجزئة اقطارها.

والبلاد العربية من جهة ثانية ليست في حالة الامم الغربية من حيث المحافظة الروحية او الفكرية او الاجتماعية لان الأمة العربية تشعر وتدرك تمام الادراك ان حياتها تتوقف على نبذ القديم والدخول في مرحلة تجدد قوي حاسم، وتعرف ان ليس في حياتها الحاضرة شيء حسن يستحق ان تحافظ عليه، بعكس الامم الغربية التي كان تاريخها تاريخا صاعدا يتكامل، لذلك فهي مطبوعة بطابع المحافظة، كما ان الأمة العربية ليست امة طامعة الى الاستعمار والتوسع حتى تكون في صف معاكس للاشتراكية. فوضع الأمة العربية السياسي والروحي والحقوقي هو وضع انساني، يتوافق كل التوافق مع سير قوميتنا في اتجاه الانسانية لان الحقوق التي نطالب بها وندافع عنها هي عين الحقوق الانسانية. وكذلك فانه ليس من مبرر لاصطباغ اشتراكيتنا بالصبغة المادية، فالروح في الغرب قد وصمت وصمة كبيرة لانها وقفت الى جانب الاستغلال والظلم والرجعية والى جانب شهوة التوسع والاستعمار، فكان لابد للاشتراكية وهي الحركة التحررية من ان ترفع لواء المادة في وجه تلك الروح المحافظة الرجعية، كما كان لا بد لها أيضا حتى تستطيع الصمود واقتحام تلك الصعوبات التي تقف في وجهها فتجابه ذلك الخصم العنيد الا وهو المال وكل المؤسسات التي تدافع عنه، من ان تظهر بمظهر الدين الجديد، فجعلت من المادة فلسفة عامة للكون ونظرة للحياة. اما نحن فليس هناك ما يوجب علينا ان نتبنى الفلسفة المادية حتى نكون اشتراكيين لان الروح بالنسبة الينا هي الأمل الكبير والمحرك العميق لنهضتنا، وهي التي تتجاوب اعمق التجاوب مع أمانينا في الحرية والتجدد والعدل والمساواة. انها روح سليمة غير مشوبة بالظلم كما في الغرب. والاشتراكية بالنسبة الينا فرع ونتيجة لحالتنا القومية ولضرورات قوميتنا، فلا يمكن ان تكون الفلسفة الاولى والنظرة الموجهة لكل الحياة، انها فرع خاضع للأصل الذي هو الفكرة القومية.

اشتراكيتنا ايجابية ان نظرة نلقيها على الصورة التي رسمناها للمجتمع الغربي الذي نشأت فيه الاشتراكية يمكن ان تنبئنا بالفروق التي تميز حياتنا ومرحلتنا عن ذلك المجتمع. فنحن امة تتأهب لاستقبال حياة جديدة، وتناضل لاستكمال حريتها ووحدتها، فالدافع الذي يحدو بها هو الامل في المستقبل والشعور بروابط الماضي والتاريخ ووحدة المجتمع، فليس لدينا ذلك الوسط السلبي الذي يخاطبه ماركس والذي لا يعرف له اصل او روح. لذلك فان حركتنا ايجابية بعكس الاشتراكية الغربية المطبوعة بطابع السلبية، ويمكننا ان نقرر بان القومية العربية مرادفة للاشتراكية في وقتنا الحاضر، فلا تناقض ولا تضاد ولا حرب بين القوميين والاشتراكيين. فالقومي العربي يدرك ان الاشتراكية هي أنجع وسيلة لنهوض قوميته وأمته، لأنه يعلم بان نضال العرب في الوقت الحاضر لا يقوم الا على مجموع العرب، ولا يمكنهم ان يشتركوا في هذا النضال اذا كانوا مستثمَرين منقسمين سادة وعبيدا. فضرورات النضال القومي توجب النظرة الاشتراكية، اي ان نؤمن ان العرب لا يمكن ان ينهضوا الا اذا شعروا وآمنوا بان هذه القومية ستضمن العدالة والمساواة والعيش الكريم للجميع. القوميون العرب هم الاشتراكيون، فهذا النضال الذي تقومون به ضد الطبقة المستغلة التي فشلت في نضالها، وشوهت النضال وانحرفت به عن طريقه واستغلته اي استغلال، ان هذا النضال الذي يقوم به الجيل الجديد هو في الوقت نفسه نضال في سبيل تحقيق الاشتراكية، لان القضاء على الطبقة المستغلة للقضية القومية، هو ايضا قضاء على الاستغلال الطبقي الاجتماعي، اي تحقيق للاشتراكية.

مشكلتنا هي القضية القومية لكل أمة في مرحله معينة من مراحل حياتها محرك اساسي يهز اعماقها ويفجر فيها ينابيع النشاط والحيوية والحماسة ويتفتح له قلبها وهو بمثابة نقطة يتركز فيها انتباه الأمة، وتكون مفصحة عن اعماق حاجاتها في مرحلة ما.

فاذا نظرنا الى العرب في الماضي وجدنا ان هذا المحرك الاساسي كان في وقت ما عند ظهور الاسلام هو الدين. فقد قدر وحده على استثارة كوامن القوى في النفس العربية واستطاع ان يحقق الوحدة والتضامن وان يلهب النفوس ويفتح القرائح وان يحقق بالتالي تلك النهضة. في ذلك الوقت، دعي العرب الى الايمان بإله واحد، فقادهم ذلك الايمان الى تحقيق الانقلاب الاجتماعي الاقتصادي الذي كانوا بحاجة اليه. فالاصلاح الاجتماعي كان فرعا ونتيجة للايمان العميق بالدين. اما اليوم فان المحرك الاساسي للعرب في هذه المرحلة من حياتهم هو القومية، التي هي كلمة السر التي تستطيع وحدها ان تحرك اوتار قلوبهم وتنفذ الى اعماق نفوسهم وتتجاوب مع حاجاتهم الحقيقية الاصيلة. فهم مكلومون في حريتهم وسيادتهم ووحدتهم لذلك لا يمكنهم ان يفهموا لغة غير لغة القومية.

وكما استجابوا في الماضي لنداء الدين فاستطاعوا ان يحققوا الاصلاح الاجتماعي فانهم يستطيعون اليوم تحقيق العدالة الاجتماعية و المساواة بين المواطنين وضمان الحرية بين العرب جميعا، نتيجة للايمان القومي وحده.

فالفرق بيننا وبين الغرب هو ان الامم الغربية، والكبيرة منها بصورة خاصة، انها امم ذات قوميات قائمة مستكملة الشروط، فليست القومية هي المحرك الاساسي بل الاقتصاد لان المشكلة الاجتماعية تحتل المكانة الاولى في حياتها. فهم لا يختلفون على استقلال البلاد وحريتها ووحدتها، لانها مستقلة موحدة، بل على تعريف المواطن وحقوق المواطنين، وهم لا يتنازعون على تاريخ الأمة وماضيها ومستقبلها، وانما على توزيع الثروة.

انهم يختلفون على حق كل مواطن في ان يستمتع بالشروط المادية اللازمة، لتحقيق مواهبه وضمان كرامته في الحياة. ونحن بالرغم من ان المسالة الاجتماعية والاقتصادية لها خطورة كبيرة في حياتنا فهي المشكلة الاولى غير انها تابعة لمشكلة اهم واعمق هي المشكلة القومية. ولا نستطيع ان نضمن للمشكلة الاقتصادية حلا الا اذا اعتبرت فرعا ونتيجة لازمة للمشكلة القومية.

اذا القينا نظره اخيرة على وضع الأمة العربية اليوم نشاهد ان الفكر العربي اخذ يستفيق من نومه الطويل ويتأهب لخلع القيود ولانطلاق والابداع ويظهر استعداده لاسترداد حريته وحيويته الماضية، غير ان النظريات الاشتراكية الغربية تهدده بان تخنق يقظته في مهدها لانها مركبة تركيبا مصطنعا، وهي لا يمكن ان تحدث في الغرب الاضرار نفسها التي يمكن ان تحدثها في بلادنا، لان الفكر الغربي نشيط قوي ذو تراث حي متصل.. ومهما كانت النظريات الاجتماعية والسياسية مصطنعه فانها لا تستطيع القضاء على حرية الفكر الغربي وعلى نزاهته وعلى القواعد الاساسية التي يقوم عليها، في حين انه لم يمضي زمن طويل على تحررنا من العقلية السحرية والاوهام والخرافات، بل اننا لا نزال خاضعين لها الى حد ما. فكيف يكون مصير الفكر العربي اذا احتوته نظرية مصطنعة تفسر الكون والحياة وكل مظهر من مظاهر النشاط الانساني، وفي هذا التفسير ما فيه من تعسف وتعصب.

فالفرد العربي اليوم يحاول بعد خضوع مئات السنين للمجتمع ولقيوده البالية ان يسترد حقوقه شيئا فشيئا، والمجتمع الصحيح لا يقوم الا على الافراد الاحرار، فحرية الفرد شرط اساسي لتحريك المجتمع ولإنقاذه من الجمود، لانها هي التي تسمح بظهور العباقرة والمصلحين. اما الاشتراكية الغربية، فلا تعترف لهذا الفرد الذي نعلق عليه نحن الآمال الكبار، بأي حق او بأية حرية. فكيف يمكننا نحن الذين لم نكد نخرج بعد من جمود المجتمع القديم، ولم نكد نتحرر من سيطرة طغيان المجتمع ان ندخل ثانية في أسر مجتمع ليس للفرد فيه مكان غير مكان الآلة او مكان خلية سجينة في نظام ضيق محكم.

اما الخطر الثالث فهو على الروح العربية. فهي آخذة بالاستيقاظ، تحن الى البطولات الماضية وتتشوق الى بطولات جديدة، والتفكير المادي كما هو سائد في الغرب يهدد هذه الروح بالعقم والجفاف والنضوب.

اشتراكيتنا قومية عندما نقول اننا نحتاج الى اشتراكية عربية، نقصد فقط ان تراعي الشروط الخاصة بنا كعرب في هذه المرحلة من الحياة. ونحن لا نختلف على مبدأ الاشتراكية وانما على اسلوبها، وعلى الموضع الذي يجب ان تحتله من حياتنا، فلا نقبل ان تكون قوميتنا مرحلة عارضة طارئة من مراحل التطور الاقتصادي كما تدعي الاشتراكية الغربية بل ان على الاشتراكية ان تتلاءم مع امتنا ومع نضالها القومي فلا تكون أداة للتآمر على الوطن، وعامل تفرقة او ستارا لحركات شعوبية.

نريد من الاشتراكية ان تخدم قضيتنا القومية، فعليها ان تزيدنا جرأة في الإقدام على حرية التفكير وعلى المناداة بحرية الفرد والدعوة إلى خصب الروح وغناها، لا ان تقضي على حريتنا الوليدة في مهدها.

دعوتنا الروحية دعوة واقعية يجب ان لا يفهم من الدعوة الى الروح اننا ندعو الى المحافظة على الاوضاع الفاسدة، او اننا نتوهم ان الاصلاح الاجتماعي يمكن ان يتم بسهولة وذلك بمجرد توفر الرغبة وحسن النية، وان يظن اننا ننبذ التفكير الواقعي ونهمل ضرورات العلم ومقتضيات التفكير العلمي.

اننا بعيدون عن مثل هذه الاوهام، لأننا نؤمن بان واجبنا هو ان نكون واقعيين في تفكيرنا كما لو كنا ماديين، لان العودة بالمجتمع الى الوضع السوي المنشود لا تكون بالوهم، والسحر، والغموض، وانما بمشاهدة الواقع والتحقق من أمراضه ومداواتها مداواة حقيقية. فالطبقة المستغِلة المستثمِرة لن تتنازل عن ثروتها ومصالحها بمجرد ان ندعوها الى ذلك باسم القومية او باسم الروح والتقدمية، فلا بد من النضال والتكتل السياسي والتفكير الجدي. ان القومية في الغرب أصبحت وسيلة لاستثمار الشعب واستعباده وأداة للتعدي على الشعوب الاخرى والدين وقف الى جانب المستثمرين يدافع عنهم، والفكر اخذ يدعو الى المحافظة ومحاربة التجدد، لذلك فقدت الدعوة الروحية كل قيمة لها، وظهرت الدعوة المادية بمثابة المنقذ والمخلص. فالروح إذا آل أمرها الى ان تعجز عن معالجة الواقع، وصارت شعارا للجمود والنفعية والجهل، عندها تكون الدعوة الى المادة هي الدعوة الحقة.

فنحن مهددون بان تحل المادة محل الروح وان يحتل الإلحاد مكان الإيمان والانفلات والتطرف محل الاخلاق، اذا لم يع الشباب مسؤوليته الخطيرة وهي في ان يعطي هذه المفاهيم الروحية والقيم السامية معناها الحقيقي حتى تعود الروح فتسيطر مرة ثانية على الواقع وتفهمه وتستجيب لضروراته. فاذا ارجع الشباب الى هذه القيم الروحية معانيها الاصيلة الحقيقية أنقذ أمته من أخطار العقلية المادية التي تهددنا في اخلاقنا وحيويتنا وحرية فكرنا وافرادنا، كما تهددنا في قضيتنا القومية.

 

عام 1946


العمال والاشتراكية

 

ان بين(1) الشباب العربي والشعب العربي فرقة لم يقصدها احد من الطرفين وانما وقعت بحكم الاضطرار. فلا الشعب اراد ان يبتعد عن ابنائه ولا الشباب أرادوا أن يبتعدوا عن الشعب، ولكن حالتنا غير طبيعية، ولو كانت الاوضاع سليمة صحيحة شأن البلاد الراقية لكان هذا الاتصال أمرا ميسورا ولما كنا سمينا شعبا وشبابا وفرقنا بينهم لأن الشباب هم من الشعب ابناؤه واخوته.

 ولهذه الحالة غير الطبيعية اسباب ومبررات، فوجود افراد وفئات تستغل موارد البلاد ومواهب الشعب تستعبده لكي يسهل عليها استغلاله لا يوافقها أبدا ان يكون هناك اتصال بين الشعب وابنائه المخلصين الذين يفهمون حاجاته ويطمحون للتعاون معه لبلوغ الغاية المشتركة لمصلحة الجميع.

 ان موضوع حديثنا هو الاشتراكية. والاشتراكية بصورة بسيطة كما يفهم من لفظها هي أن يشترك جميع المواطنين في موارد بلادهم بقصد أن يحسنوا حياتهم وبالتالي حياة أمتهم، لأن الإنسان الفرد لا يقبل ان يجعل نفسه غاية في الحياة. حتى ان ادنى المخلوقات البشرية في الاخلاق والتفكير نرى فيها هذا الميل وهذه الحاجة الى ان تجعل لحياتها غاية ابعد من مصلحتها الشخصية، فبالأحرى الإنسان الراقي الذي لا يستهدف سوى نجاح امته وازدهارها. والاشتراكية يمكن ان تفهم أيضا بأنها نظرية اقتصادية حديثة ظهرت في قسم من بلاد العالم في هذا العصر، ولها تعاريف وأصول وأنظمة معروفة، غير انها كلها ترجع الى هذا التعريف البسيط الذي ذكرناه، أي اشتراك المواطنين في موارد البلاد التي هم منها.

 لكن علينا أن نعرف بأن للاشتراكية معنى آخر غير معنى نظرة معينة ظهرت في الغرب. لها معنى طبيعي مستساغ من النفس البشرية والعقل والضمير، وهي بهذا المعنى لا تخص أمة بعينها او تخص عصرا او زمانا بذاته. هي شيء أعم وأثبت من النظرية.

 أيها الاخوان: الحقائق هي دوما بسيطة. ماذا نريد من الحياة لأنفسنا ولأمتنا وللارض التي نعيش عليها؟ هل نريد لها الا الخير والتقدم؟ هل نريد لها الا ان يكون الواحد منا ضامنا لحاجاته، وان تكون السبل مفتوحة أمامه لكي يظهر مواهبه وينشط ويعمل وينتج في النواحي التي يجيدها، وان يضمن مثل هذا السبيل لأولاده؟ وبالتالي نريد لأمتنا ان تكون أمة يسودها الخير والعدل والانتاج النشيط الراقي. وان تكون حالتها الاجتماعية على ارقى شكل ممكن في العلوم والفنون، وهذا ما يريده الفرد وما يريده المجموع فكيف يمكن ان تحقق هذه الغاية؟ ان أقلية من الناس تملك معظم الثروات وتسيطر على السلطة وتتصرف بها حسب رغباتها، وهي لا تكتفي بذلك بل تطلب المزيد. والنتيجة الطبيعية هي أن تحرم أكثرية الشعب من حقوقها. ولو كان الاسياد يستطيعون أن يحرثوا الارض بأنفسهم او يشتغلوا بالمصانع لحرموا الشعب من كل حقوقه، لذلك فانهم يجدون انفسهم مضطرين الى ان يعترفوا للاكثرية بحق بقاء الرمق حتى يستطيع الشعب العمل للاسياد.

 في هذه الحالة من الاستثمار والاستغلال لا يكون الغدر واقعا على افراد او فئة من الناس وانما تكون الجناية على الأمة بأسرها. والبلاد المتخلفة هي تلك التي يكون افرادها محرومين من اكثر حقوقهم متأخرين في صحتهم وعملهم وانتاجهم الاقتصادي. ان هذا الوضع الشاذ، أي سيطرة أقلية من أبناء البلاد على ثورتها، وحرمان أكثرية الشعب من الحقوق الطبيعية المشروعة، يحول دون تقدم الوطن.

 فهذه المنافع التي يجنيها المستغلون تخنق مجموع الشعب وتحكم على الأكثرية الساحقة التي هي مجموع الأمة تقريبا بأن تدفن وهي حية، فالشعب الذي يستطيع ان يصنع وينتج ولا يسمح له الا بانتاج بسيط ولا يعطى الا مدى ضيقا محدودا جدا في الحياة، ويفرض عليه الجهل والمرض والخوف والعبودية، هذا الشعب هو في حكم الميت وان كانت روحه في صدره.

 فاذا فهمنا الاشتراكية بهذا المعنى وهي اننا نريد ان نرجع الى الحالة الطبيعية المشروعة وان ينال كل ذي حق حقه حسب جدارته وكفاءته ويسمح للشعب بأن يظهر مواهبه ويستفيد منها، عندها يمكن ان يرتقي الشعب أي المجموع، فالطبقة الشعبية تساوي الامة تماما لانها الاكثرية الساحقة والعنصر المنتج حقا.

 الاشتراكية اذن ليست شيئا غريبا صعبا اتانا من بلاد نائية، وليست نظريات معقدة. انها الشيء البسيط المشروع الذي يطلبه كل عقل سليم وضمير حي، ولا يمكن لأي فرد أو فئة أن يكون مخلصا لوطنه، يشعر شعورا صادقا نحو أمته ويأبى في الوقت نفسه على الشعب هذا الحق، لان القومية، التي هي الغيرة على مصلحة الأمة، والاشتراكية تكادان تكونان شيئا واحدا.

فتحقيق الاشتراكية في حياتنا شرط اساسي لبقاء امتنا ولإمكان تقدمها، اذا لم تعمم الاشتراكية ولم نسع الى تحقيق العدل الاجتماعي لجميع الافراد، ولم ينقلب الشعب العربي الى شعب منتج الى اقصى حدود الطاقة، اذا لم يتحقق كل هذا يكون كل كلام عن حرية العرب واستقلالهم ضربا من اللغو ونوعا من التضليل.

ان مصلحة القومية وبقاء الأمة ومجاراتها للأمم الراقية وصمودها في تيار التنافس بين الدول متوقف على تحقيق الاشتراكية، أي السماح لكل عربي دون تمييز او تفريق بأن يصبح حقيقة ملموسة منتجة ولا وهما من الأوهام.

عام 1950

(1) حديث ألقي في إجتماع عمالي.


دور العمال في تحقيق الوحدة و الاشتراكية

ليس مستغربا(1) في نظرنا ان تشهد ميلاد هذا الحدث التاريخي الذي هو تأسيس أول اتحاد لنقابات العمال العرب في هذا العام بالذات، الذي حفل بالاحداث الخطيرة وبوثبات الشعب العربي الفذة في ميادين التحرر والاستقلال والوحدة القومية. فلقد بنينا عملنا ونضالنا في هذا الحزب منذ خمسة عشر عاما على مسلمة اساسية بسيطة هي ان القضية العربية كل لا يتجزأ. وربطنا بين تحرر الأمة من الاستعمار الخارجي وبين تحررها من الاستثمار الداخلي وبين تغلبها على التجزئة وتحقيقها لوحدتها القومية، وها أن الحوادث والوقائع تجيء عاما بعد عام ويوما بعد يوم مصداقا لسلامة تلك النظرة ومتانة ذلك الأساس الذي بنينا عليه نضالنا. فأية خطوة يخطوها الشعب العربي في سبيل انتزاع حريته وسيادته من الأجنبي الغاصب، تؤدي حتما وبالضرورة الى خطوة او خطوات في طريق تحرر هذا الشعب من الاوضاع الاقتصادية الجائرة المتأخرة، كما تسهل عليه توحيد نضاله في مختلف اجزاء وطنه العربي لتؤدي الى توحيد هذه الاجزاء نفسها.

في العمال العرب تتجسد وحدة القضية العربية– على أن هذه النظرة الموحدة لقضيتنا ظلت حتى الماضي القريب تقابل من الحكومات ومن أكثر السياسيين في بلاد العرب بالاستهجان والتجريح والمقاومة. ولا نستطيع أن نقول أنها ظفرت اليوم ظفرا تاما بل نعلم انه ما يزال امامها كثير من العقبات التي تقيمها في وجهها المصالح الخاصة وأنانيات الحكام ورواسب عقلية التجزئة. واذا كان في وطننا العربي فئة مهيأة لان تتحرر قبل غيرها من هذه المصالح والرواسب، وأن تجسد في تفكيرها ونضالها وحدة القضية العربية، فانها تكون فئة العمال العرب بصورة خاصة وجماهير الشعب العربي الكادحة بوجه أعم، لان هذه الجماهير تعاني بالتجربة اليومية الحية هذه الحقيقة الناصعة وهي أن أعداءها هم أنفسهم أعداء الأمة العربية. فالاستعمار الأجنبي وربيبته إسرائيل والرجعية العربية والحكام الانفصاليون، كل هؤلاء، لئن كانوا متحالفين متضامنين في تآمرهم على حرية الامة العربية وانبعاثها وبقائها، فانما ذلك يعود في النهاية الى غرض واحد هو استثمار جماهير الشعب العربي وتسخيرها لمصالحهم الاستعمارية والاقطاعية والرأسمالية، ومعنى ذلك ان مقاومة جماهير شعبنا لهذا الاستثمار الاجنبي والداخلي هي في حقيقة الامر مقاومة الامة العربية للفناء ودفاعها عن بقائها ووجودها.

الوحدة و الاشتراكية بالامس كنت أتحدث في بيروت أمام حشد من الجامعيين، فوجه الي بعضهم هذا السؤال: لماذا نهتم الان او منذ الان بالاشتراكية قبل ان نحقق الوحدة العربية. ألا يكون النضال الاشتراكي عائقا في سبيل توحيد أقطارنا ومبعثرا لجهودنا، أليست الوحدة، عندما تتحقق، كفيلة بتحقيق كل ما ينشده الشعب العربي من حرية وعدالة ورخاء؟ ولا بد لي أن أذكر ان هذا السؤال كان يطرح علينا قبل عشر سنوات على شكل اخر من الحكام وأحزابهم وأنصارهم، اذ كانوا يسألون عن مبرر العمل للاشتراكية وللوحدة العربية قبل ان يتم التحرر من الاجنبي.

و قد أجبت الجامعيين في بيروت بأن الوحدة العربية ليست عملية سياسية ومفاوضات واتفاقات تقوم بين الحكومات بل هي عملية ثورة ونضال يقوم بها الشعب لانه وحده محتاج اليها، مخلص في طلبها، ولذلك فأن النضال في سبيل الوحدة العربية لا يكون واقعيا ومجديا إلا إذا امتزج بنضال جماهير الشعب العربي في سبيل حقوقها الحياتية ورفع مستوى معيشتها. ويجب ان نعلم ان اعداء الوحدة الكثيرين هم الاستعمار وإسرائيل التي لم توجد الا لتعطيل الوحدة وعرقلتها، والمصالح الرجعية الداخلية وكل ما في مجتمعنا من امراض وعصبيات وجهل وتأخر. ولا يمكن التغلب على هذه الكثرة المخيفة من الأعداء بالعمل الحكومي وحده، خاصة اذا عرفنا ان الحكومات ما زالت في اكثرها ممثلة لهذه المصالح المعادية للوحدة. ولا بد اذن من ان ينهض بعبء الوحدة شعب بكامله يرى فيها خبزه اليومي وتحرر وطنه من الاجنبي ويستميت بالتالي في طلبها لانها سبيل حريته وكرامته الانسانية.

فعندما ربطنا الوحدة بالاشتراكية لم نتعسف ولم نرتجل، بل وجدنا في ذلك السبيل الوحيد لكي تصبح الوحدة في حياتنا حقيقة حية متحركة، يطالب بها كل عامل عندما يطالب بخبزه وبزيادة أجره و بالدواء لأبنائه، وعندما يطالب كل فلاح فقير ومظلوم باسترداد حقه في انتاجه ويرفع الظلم و الاستعباد عن كاهله. هكذا جعلنا الوحدة العربية مطلبا حيا واقعيا يداخل حياة افراد الشعب العربي في ظروف حياتهم اليومية وفي ابسط شيء في حياتهم و هو حاجاتهم المادية.

نهضة مصر من ارادة الشعب ـ الم تروا أيها الاخوان الى هذه النهضة في قطرنا الحبيب مصر، كيف حاول السياسيون والمتزعمون الى جانب الاستعمار المجرم عشرات السنين عزله عن أمة العروبة وعن قضيته الحقيقية ومصلحته الواقعية. حتى اذا ارتفع كابوس الاستعمار وتطهرت ارض مصر من فساد الدخلاء والاجانب ومن عبث المستثمرين الداخليين، جاء الاندفاع للفكرة العربية عفويا، سهلا، بسيطا، لان العروبة لا تستيقظ الا في جو النضال وعندما يسترد الشعب شعوره بمسؤوليته وكرامته.

وليس ما حدث في مصر من قبيل المصادفة وليس هو عمل أفراد، وان كان لهؤلاء الافراد الذين قاموا بالثورة في مصر فضل كبير. ان هذا الرجوع الى الطريق الصحيح كان من وحي الشعب ومن ارادة الشعب ومن هذا الجو النظيف السليم الذي تحقق لمصر بعد ان تغلبت على الاستعمار وعلى الفساد.

اننا مع استبشارنا باتجاه رجال الثورة الجديد، نرى من الواجب ان نطالبهم بالمزيد من الجرأة في هذا الاتجاه. و ليثقوا بأن كل خطوة يخطونها في طريق الوحدة العربية والعمل الموحد للقضية العربية اذا كانت ستكلفهم بعض التضحيات الانية المحلية، فانها ستفجر امامهم مقابل ذلك امكانيات دفينة في الشعب العربي قد تبلغ حد المعجزات.

النضال في سبيل القضية العربية الواحدة– ان الشعب العربي يثبت في مختلف اقطاره في نضال المغرب الدامي، في نهضة مصر وفي وثبة الاردن، وحتى في العراق الذي لم يجرؤ حكامه ان يتركوا المجال لخروج افراد قلائل يمثلون المحامين في مؤتمرهم في القاهرة والعمال في هذا المؤتمر، وهذا دليل على ان غضبة الشعب العربي في العراق قوية جدا حتى أخافت الحكام الأذلاء إلى مثل هذا الحد.

وانني في نهاية هذه الكلمة احمل اخواني اعضاء الوفود النقابية تحية الاعجاب والتفاؤل والعهد المقيم على النضال المستمر في سبيل قضيتنا العربية الواحدة التي لا نفرق فيها بين ما هو اجتماعي اقتصادي وبين ما هو قومي لان نجاح هذه القضية رهن بابقائها وحده….

آذار 1956

(1) كلمة ارتجلت في المهرجان الذي اقيم في مكتب الحزب عند زيارة وفود اتحاد نقابات العمال العرب للحزب بمناسبة انعقاد مؤتمرهم الاول في دمشق.


نظرتنا للرأسمالية و للصراع الطبقي

لا احسب ان ثمة حاجة للتفصيل في ان كل نظرة الحزب وما كتب خلال هذه السنوات تفيد اننا رفضنا منذ البدء ونهائيا النظرة الرأسمالية، او اننا رفضنا كل مفهوم يجعل الاشياء اعلى من الإنسان لانه هو القيمة العليا في نظر حزبنا والرأسمالية بجملتها قائمة على العكس.

ليست الرأسمالية فلسفة انما هي واقع: انها تنازل الانسان وتراجعه امام الأشياء التي خلقها والتي أبدعها وأنتجها. واذا فهم من الرأسمالية التسليم بالحرية التي لا حد لها للتملك الفردي و لما ينتج عنه من نتائج، وان هذه الحرية بهذا الشكل مقدسة لا يجوز للانسان او للمجتمع او للدولة ان تمسها او تعرقل سير نظامها، فهذه نظرة لا يوجد اليوم من يدافع عنها حتى في الدول الرأسمالية ذاتها، اذ أن هذه الدول أو المجتمعات الرأسمالية نفسها اخذت تعترف اخيرا بأن التملك الفردي المطلق من كل قيد ليس مقدسا ولا يعطي دوما النتائج الصحيحة ولا ينسجم دوما مع المصالح العامة وانه لا بد من تدخل الدولة ومن ان يحسب لمصلحة المجتمع حسابها. اما الذين يريدون ان يفهموا من الرأسمالية بل الاشتراكية التي ننادي بها نحن والتي تنادي بها شعوب كثيرة: اشتراكية حية واقعية غير مصطنعة لا تريد ان تبدل مرضا بمرض ولا تريد ان تقضي على صنم الرأسمالية لتقيم مقابله صنم المجتمع الذي يستعبد الافراد و يقتل فيهم الاندفاعات الخيرة. فهذه هي الاشتراكية، الاشتراكية التي تعتبر الانسان كما قلنا القيمة العليا وانه يبقى دوما مسيطرا على الاشياء التي خلقها وانه بالتالي يجب ان توجد تلك الصيغة الحقيقية الحية الحكيمة التي تقضي على الاستغلال بكل اشكاله دون ان تقتل حرية الافراد.

واتطرق بهذه المناسبة الى سؤال عن الطبقية و هل يؤمن بها الحزب ام لا؟ ليس في فكرة الحزب طبقية بالمعنى الذي تفهمه الماركسية ولكن فيه طبقية. أي اننا نعترف بها وان كنا لا نتبنى المفهوم الماركسي لها. فالماركسية اقرت حقيقة واقعة عندما قالت بأن الصراع في هذا العصر هو بين الطبقات وجعلته بهذا قانون التطور التاريخي وهي محقة في تعليلها واستقرائها لمميزات هذا العصر. اذن هنالك صراع بين الطبقات لا يجوز تجاهله، الا ان الماركسية انطلقت من نظرة وجعلت هذا الصراع على النطاق العالمي الاممي وتجاهلت الى حد بعيد اذا لم نقل انها تجاهلت تماما، هذا التكوين التاريخي الحي للقوميات حين اعتقدت بأن الروابط التي تجمع الطبقة العاملة  والمستغلة في جميع بلدان العالم هي اقوى بكثير من الروابط التي تجمع طبقة معينة في امة معينة بقوميتها.

مما لا شك فيه ان هناك ضمن الامة الواحدة صراعا بين الطبقة المالكة لوسائل الانتاج والطبقة المحرومة منها. الا انه حتى في نطاق الامة الواحدة لا يمكن ان ينظر الى هذا الصراع بالشكل الحرفي الضيق الذي صورته الماركسية. فنحن اولا رفضنا الاممية بشكلها الماركسي وقلنا بتعاون حر بين الشعوب الاشتراكية الحرة، اذن فنحن نتعرف بصلتنا صلة الشعب العربي بالشعوب الاخرى وبامكان الالتقاء على صعيد واحد.

فنظرتنا اقرب الى الصواب والى الواقع حين جعلنا التعاون بين الشعوب تعاونا حرا، بين شعوب اختارت النظام الاشتراكي الحر ايضا. اما في داخل الوطن العربي فنحن طرحنا المشكلة على شكل مختلف: طرحنا المشكلة القومية كوحدة لا تتجزأ ولم نأخذ منها جزءاُ فقط كما فعلت الماركسية حين اخذت الناحية الطبقية، ناحية الصراع بين المالكين و المحرومين. مشكلتنا اوسع من ذلك واعمق بكثير: مشكلة وطن مجزأ مستعمر في بعض اجزائه، والتجزئة هي اكبر عائق في طريق نهضته، وهي مشكلة وطن متخلف في شتى النواحي: في الفكرة والاقتصاد والسياسة، وفي كل شيء، ويحتاج الى ان نبني فيه كل شيء من جديد. لذلك جعلنا الشعب العربي في صف والذين يعادون ويعرقلون القضية القومية ويقفون في سبيلها، جعلناهم في صف آخرفليس فقط الرأسماليون والاقطاعيون هم اعداء الشعب العربي، بل ايضا هم السياسيون الذين يتمسكون بالتجزئة لانها تفيدهم شخصياٌ، وليس هؤلاء فحسب بل اولئك الذين يسايرون الاستعمار بشكل من الاشكال، وأولئك الذين يعادون الفكر والعلم والتطور والتفتح والتسامح والذين يقاومون او يحولون دون تحرر أمتنا، وضعناهم في صف ومجموع الشعب العربي في صف آخر… فنحن اذن لا نستطيع ان نقول اننا قسمنا امتنا الى طبقات او طبقتين: ان رجل دين مثلا يبذر بذور التعصب وهو فقير لا يملك ثروة يسيء الى الشعب بقدر ما يسيء الرأسمالي المستغل للعمال والاقطاعي للفلاحين…

ان على هذه الوحدة في قضيتنا وهذه النظرة القومية التي ترفع مشكلتنا الى صعيد أرقى واصدق من الصعيد الاقتصادي البحت ان لا تنسينا ان المشكلة الاجتماعية في اللب والصميم، واننا اذا تساهلنا أي تساهل بحجة القومية مع طبقة المستغلين والرجعيين نكون قد افقدنا نضالنا العصب الفعال. فهذا الصراع بين جمهور الشعب المحروم وبين الطبقة المستغلة والمستعصية على كل تطور وكل استجابة الى المصلحة القومية ليس فيه الا الخير، ويجب ان لا نخاف منه اذ منه تخرج النهضة القومية. من تحرير الشعب المحروم يتكون المواطن العربي الصالح الذي يستطيع ان يفهم قوميته وان يحقق قيمتها لان القومية تبقى مجرد الفاظ مع الظلم والفقر والحرمان.

فالمشكلة ليست سهلة كما تظنون، ان علينا، هنا كذلك، ان نبقي التوتر بين طرفي المشكلة. ولنحذر دوما ان نضيع الفكرة القومية وتلتبس مع المصالح الطبقية المجرمة حين يتغنى اصحاب هذه المصالح كذبا و بهتانا بالمصلحة القومية لينقذوا جلودهم، واقوالهم عندما يحاولون ان يؤثروا علينا: ألسنا ابناء شعب واحد؟ كل هذه الحيل الخبيثة يجب ان يبقى المناضلون فوقها وبمنجاة من التأثر بها. ان مفهوم القومية الشائع سواء في بلادنا او في بلاد الغرب هو في معظمه مفهوم سلبي زائف تدخله المصالح الرجعية و الاستغلالية، فعلينا ان نعري هذه القومية الزائفة من الزوائد السلبية الخبيثة، ونحن لا نخشى كثيراُ من هذه التعرية لانه يبقى دوما شيء قد يكون بسيطا جدا ليس له وزن مادي و لكنه شيء اساسي جدا، هذه هي القومية: انها ليست غرورا او استعلاء وليست تعصب امة ضد الامم الاخرى، انما غريبة تماما عن كل مصلحة مادية لفئة من الفئات في الامة، وهي الانسانية بالذات متحققة في واقع حي هو الامة…

اذن نحن لا نعترف الا بما في القومية من ايجابي يبقى بعد طرح كل العصبيات وكل الامور السطحية، انه عبارة عن الرابطة الروحية والتاريخية بين افراد الامة الذين طبعهم التاريخ بطابع معين و لم يغلقهم على الانسانية وباقي الامم وإنما اعطاهم لونا خاصا وتجسيدا خاصا لهذه الانسانية لكي يكونوا جزءا فعالا منها ومبدعا ومتجاوبا معها. هذه هي قوميتنا، لا تقوم على الحقد تجاه الاقوام الاخرى ولا تقوم على الحقد ضمن ابنائها. فالصراع الذي اقمناه في داخل امتنا ليس موسوما بالحقد وانما هو موسوم بالحق والخير. والحب في حقيقته قاس لاننا عندما نحب امتنا وافراد شعبنا ونريد لهم المستقبل الزاهر والحياة الكريمة، لا نتهيب من استعمال القوة ضد كل الذين يحولون دون هذا الارتقاء والنمو. فأصحاب المصالح المادية والمعنوية من حكام وغيرهم الذين يعرقلون وحدة الامة يجب ان يناضلهم الشعب نضالا عنيفا وحاسما.

عام 1956


الطبقة العاملة طليعة الكفاح العربي

أيها الإخوة(1)

أحمد الله ان حقق لي حلما كان يراودني منذ الصبا، وهو ان أرى هذه الارض العربية الكريمة، ان ارى هذا الشطر الغالي من وطننا الأكبر.

هذا الحلم نشأ عندي ايام الدراسة ايام جمعتنا الدراسة من كل قطر عربي وخاصة من اقطار المغرب العربي فتعرفت منذ سنين طويلة الى النفسية النضالية القوية التي يتصف بها شباب المغرب العربي عامة. وكنت منذ ذلك الحين لا يخالجني شك في ان المغرب العربي يعاني تجربة انسانية فريدة من نوعها غنية بالمعاني، وانه سيقدم الى العروبة والى الانسانية ثمار هذه التجربة، فيغني بها النهضة العربية الحديثة ويغني بها الثرات الانساني العام.

كنا طلابا نتداول في شؤون وطننا وفي مستقبلنا، كان يساورنا قلق وطموح بأن نسهم في الارتفاع بمستوى القضية العربية، وفي اخراجها من ذلك الطور الابتدائي الغامض المعالم الفارغ المحتوى، الذي طبعها به رجال طبقة وجيهة تصدت لزعامة النضال ضد الاجنبي قبل عشرات من السنين، ولم تكن هي المهيأة فعلا لان تمثل روح امتنا وان تمثل طموح بيئتنا وان ترسم الخطوط لمستقبلنا العظيم.

فكان قلق الشباب اذ ذاك الا يكتفوا بذلك المستوى المنخفض الذي يترك معظم امكانات الشعب العربي مهملة ومهدرة لانه لم يكن ثمة تجاوب مخلص بين طبقة الزعماء وبين جماهير الشعب.

فظهر لنا اول خيط من خيوط النور، من خيوط الخلاص، ظهر لنا ان الخلاص لن يكون الا على يد الشعب، على يد الكثرة الساحقة من ابناء شعبنا، على يد الكثرة الكادحة والمظلومة المستغلة، ليس لأنها اكثرية فحسب بل لأنها تعاني الظلم والاستغلال وفقدان الحرية وجرح الكرامة في جميع النواحي: الانسانية والقومية. اذن فظروفها واوضاعها وقوتها قد هيأتها لان تكون هي محرك التاريخ في هذه المرحلة، لان تكون هي المنقذة للأمة، لان تكون طليعة الامة المناضلة وصورتها الصادقة.

فلم يأت تفكيرنا الاشتراكي من الكتب، من الأفكار المجردة، من النزعة الانسانية العامة، النابعة من مجرد شعور بالشفقة، وانما أتى من صميم الحاجة -اتى بدافع الحاجة الحيوية- لننقذ امتنا من الفناء، لان معركة الامة العربية مع مستعمريها واعدائها كانت معركة بقاء او فناء. فكان التفكير الاشتراكي وكان اكتشاف دور الطبقة العاملة العربية في هذه المرحلة التاريخية من حياتنا بدافع الدفاع عن البقاء.

لطالما تأملنا وشعرنا بالخجل، وشعرنا بالامتعاض عندما كانت القيادة التقليدية القديمة تسبغ على قوميتنا صفاتها هي، وروحها هي:

صفات الطبقة المترفة وروح الطبقة الشائخة الهرمة، فكانت القومية العربية والكفاح القومي في ذلك الحين على ايدي اولئك الزعماء الذين كانو يمثلون عصرا قد مضى ويفقدون قوة التأثير وقوة الجاذبية لجماهير الشعب ولجمهور الشباب، وكانت القضية القومية التي هي قضية حياة او موت، في مستوى متخلف لا قيمة للفكر فيه ولا صلة له بالعصر الذي نعيش فيه عدا عن مظهره المنفر، مظهر القومية المتغطرسة، القومية السلبية، التي لا تشعر بنفسها الا اذا خاصمت غيرها.

وكنا نشعر بأن هذا ليس حقيقة قضيتنا وليس حقيقة امتنا. وكان لا بد ان ننتقل الى مستوى يتناسب مع العصر الذي نعيش فيه، مع امكانيات شعبنا العظيم وشبابنا المنفتح للنور.

فكانت محاولة اسهم فيها جيل بكامله لا ينحصر في قطر من الاقطار العربية وانما هو موجود في كل قطر. هذه المحاولة أسهم فيها الشباب المثقف واسهمت فيها طبقة العمال الكادحة المناضلة، واذا بقضيتنا تخرج من سجن الغموض والفراغ وتمتلىء بالحياة، بالواقع الحي، ويدخلها الوضوح وبالتالي تستطيع ان تتحقق وان تنتصر.

ايها الاخوة،

ان القضية القومية كل لا يتجزاء فهي حياة الشعب المادية وهي حياته الروحية، هي مطالبه الاقتصادية العادلة ومطالبه الاجتماعية العادلة، وهي حقوقه ومطالبه القومية المشروعة، هي خبزه ورفاهه وهي استقلال وطنه وسيادته، وهي وحدة وطنه وتوحيده من بعد التمزيق والتجزئة.

فعندما ننظر الى قضية شعبنا بهذا المنظار الشامل الحي الذي لا تعسف فيه ولا اصطناع، لأن المطالب القومية هي حقيقية وواقعية مثل طلب الخبز والعيش، عندما ننظر الى هذا الترابط بين هدف التحرر وهدف العدالة الاجتماعية وهدف الوحدة القومية الشاملة، عندما ننظر الى ذلك كله كأنه اوجه متعددة من شيء واحد، عندما نستطيع ان نوجه نضال الشعب في الطريق السليم المثمر الذي لا يبقي امكانية من امكانيات شعبنا الا ايقظها واستفاد منها. فملء فكرة القومية العربية بالمحتوى الوحدوي الى جانب المحتوى التحرري والاجتماعي هو الذي يفسر الى حد كبير تلك الخطوات التي قطعناها حتى الان في طريقنا الطويل نحو حرية امتنا ونحو بناء مجتمعنا الجديد ونحو بلوغنا المستوى الذي يؤهلنا لتحقيق رسالتنا بين مجموع الأمم.

انكم تعلمون، ولا شك، كيف كان النضال التحرري متقطعا، فاقدا بعض وضوحه، وكيف كانت الوحدة العربية على الاخص فكرة نظرية خيالية تقال دونما ثقة بقدرتها على التحقق، تقال اما بدافع التقليد، او بدافع العاطفة فحسب.

ولكن عندما سُلّمت قضية التحرر القومي، وعندما سلمت قضية الوحدة القومية الى جماهير الشعب العربي وربطت هذه الجماهير بين مطلب التحرر والوحدة وبين كفاحها اليومي من أجل الرزق وبلوغ مستوى كريم من العيش -عندها دخلنا في طور التحقيق، عندها أمكن أن نحقق الانتصارات على الاستعمار، عندها لم تعد الوحدة العربية فكرة خيالية. حدث ذلك كله لاننا سلمنا هذه الأهداف الغالية إلى اصحابها إلى الطبقة الكادحة.

ان مطلب الوحدة العربية ظل زمنا طويلا ضحية الجهل، ضحية الغموض، ضحية الالتباس… وكان يتبناه ويستغله أبعد الناس عن الاخلاص له او الايمان به، فكان حجة وذريعة او كان ستارا لمآرب غير مشروعة. كان الاستعمار أحيانا يختبئ وراء مشاريع للوحدة وكانت الطبقة الاقطاعية تغتصب زورا وبهتانا هذا الشعار لا لتحققه بل لترد به على مطالب الشعب الاجتماعية، لتحارب به الثورة الاجتماعية. فكانت الوحدة في ذلك الحين مشبوهة ومظلمة الى ان دخلت في حياة الجماهير. ولكن يجدر بنا ان ننظر إلى هذه الحقيقة، يجدر بنا بعد ان مررنا بتجارب كثيرة وفضحنا بالتجربة كذب الطبقة الرجعية في تبني الوحدة وان لا وحدة مع الرجعية، يجدر بنا ان ننظر الى حقيقه اخرى، وهي ان لا تقدمية مع التجزئة. فاذا كنا في وقت مضى قد كفرنا بوحدة الرجعيين والاستعماريين، فلم يعد جائزا بعد ان استرد الشعب قضيته واستلمها بكلتا يديه، لم يعد جائزا ان نتخوف من الوحدة او نظن بها الظنون، لاننا بمقدار ما نتفهمها ونقدم عليها لنتبناها ونعجل في سيرها نبعد عنها الاستغلال.

فالوحدة يطلبها كفاح العمال قبل كل شيء -وكفاح العمال يطلب وحدة على نطاق عالمي، فكيف لا يطلبها على نطاق قومي- هذه الوحدة ان دخلها العمال، ان دخلتها الطبقة الشعبية الكادحة يخرج منها كل رجعي وكل مشبوه.

فالقضية قضيتنا فلا يجوز ان نقف منها موقف المتفرج من بعيد لاننا اذا لم نصنعها نحن الشعب، بأيدينا فمن ذا الذي سيصنعها؟

ولقد كانت وحدتنا القومية موضع الهجوم والتآمر الاستعماري والاجنبي عامة منذ زمن طويل. لان الاستعمار يدرك قبل غيره ما هو مفعول الوحدة اذا ما تحققت، وان تحققها نهاية للاستعمار في ارضنا -لا بل نهاية للرجعية وللتخلف ولكل ما هو ميت غير جدير بالحياة- فكانت الهجمات والمؤامرات توضع دوما في طريق الوحدة، ومن أدرى منكم بذلك، انتم ابناء المغرب العربي عامة وابناء المغرب الاقصى خاصة، من ادرى منكم بذلك الانقطاع، بتلك الحواجز الكثيفة التي وضعها الاستعمار بينكم وبين اخوانكم بالمشرق وحتى بينكم وبين اخوانكم في المغرب العربي نفسه.

فالوحدة اذن ليست ترفا نطلبه بعد ان نحصل على المطالب الجوهرية الضرورية، ليست شيئا يأتي في المستقبل، او من نفسه بصورة آلية بعد ان نكون حصلنا على استقلالنا وحريتنا وبعد ان نكون قد حققنا الديمقراطية والعدالة.

الوحدة ايها الاخوة داخلة في كل هذا، وهي شرط اساسي لكي نحقق كل هذا، وهي كالاستقلال وكالعدالة الاجتماعية ومطالب الطبقة الشعبية المشروعة، هي ايضا تحتاج الى معركة قاسية، وتحتاج إلى نضال، إلى انتزاع.

انها لا تأتي من نفسها بل علينا ان نكافح من اجلها في نفس الوقت الذي نكافح فيه من اجل حياة لائقة لشعبنا. لانها هي الواسطة لكي يتحقق الظفر لنضالنا التحرري والاجتماعي، وهي الضمانة ايضا لكي نحافظ على الحرية لوطننا وعلى المكتسبات الشعبية لجماهير شعبنا.

ان المستوى الجديد الذي حاول جيل الشباب العربي في كل قطر ان يرفع اليه القضية العربية في المشرق والمغرب، ويضع هذه القضية في العصر الذي نعيش فيه -أي في عصر المذاهب الاجتماعية، في عصر العقائد، اذ لم يعد جائزا ان تبقى قضية الامة العربية مرتجلة او تبقى اجزاء مفككة لا رابط بينها ولا منطق يجمعها- هو هذه الصيغة الجديدة التي لا نعتبرها صيغة نهائية ولا نعتبرها صيغة كاملة، اذ ان حياتنا يجب ان تتجدد دوما وان تنمو وتتعمق دوما، ولكن على كل حال هي صيغة نقلت النضال العربي من مستوى ضعيف فاتر مفكك الى آخر جديد يتصف بالمنطق والترابط والوضوح ويسمح بالتنظيم. هذا المستوى هو المستوى العقائدي الذي يتيح لقضية امتنا ان تظهر بشكل فكري متناسق.

وهذه الصيغة الجديدة غالبا ما يعبر عنها بالقومية العربية وان كان التعبير لا يزال غامضا وما يزال يتسع لتعاريف شتى، الا ان التيار الشعبي الذي يحرك الجماهير العربية في كل قطر عربي، يفهم ويدرك تماما ما هو المقصود بالقومية العربية، ويدرك انها هي الاشتراكية، يدرك انها هي الديمقراطية، ويدرك انها قومية انسانية تتلافى اخطاء الماضي وتصلح كل ما كان في الماضي سببا للتفرقة داخل امتنا ومجتمعنا.

هذه القومية ليست وقفا على العرب فحسب وانما هي صورة لإنسانية جديدة، أي اننا نؤمن بأن لكل امة في العالم الحق بأن يكون لها شخصيتها الحرة المستقلة. وان يكون هناك انفتاح بين القوميات وان يكون هناك تضامن في الكفاح التقدمي، وان يكون هناك انسانية جديدة تقوم على قوميات تقدمية حرة متضامنة لا استعمار فيها ولا عنصرية ولا تمييز.

ففكرة القومية العربية اذن لا تنحصر بالعرب وانما لها نزوع انساني. وفكرة الرسالة في هذه القومية تربطها بالانسانية عامة وتقيها من التردي في المفاهيم السلبية للقومية -كالمفهوم العنصري والمذهبي وكل تعصب وضيق او شهوة للسيطرة- وتذكرها دوما بأن امامها رسالة انسانية لا يمكن ان تؤدى اذا لم يكن الشعب العربي في الداخل ممارسا لحريته، اذ لا شيء ذا قيمة يمكن ان يصدر عن القسر والضغط والاكراه، فالحرية هي منبع الفضائل وهي التي تميز الشعب الحي، ولذلك فان الديمقراطية التي يكافح العمال في سبيلها ليست مطلبا عماليا فحسب وانما هي مطلب قومي لكل جماهير الشعب العربي، لكي نحفظ لقوميتنا العربية ونهضتنا الحديثة المعنى الانساني الايجابي البعيد عن كل تعصب وكل سلبية والذي يوجد السلام في داخل مجتمعنا ويسهم في ايجاد السلام في العالم: هذا المفهوم الانساني، هذه الملامح الايجابية لقوميتنا يجب ان نحرص عليها كل الحرص، واعود فأقول بأن المغرب العربي عليه مسؤولية تجاه الامة العربية، وهو مطالب بأداء قسم كبير في معركة القومية العربية، خاصة في تجربته الديمقراطية وفي فهمه للديمقراطية وفي كفاحه المرير الطويل من أجل الحرية والديمقراطية، من اجل المساواة الانسانية، من اجل الكرامة الانسانية.

لقد عرف المغرب العربي ما لم يعرفه المشرق العربي، عرف ألما عميقا، اذ ان الاستعمار دخل اليه ليس بالجيوش فحسب وانما بالهجوم والغزو البشري لكي يفنى شعبنا في المغرب ويحل محله شعب آخر، وصمد الشعب العربي لمعركة الافناء هذه، واستطاع من خلال هذه المعركة الشاقة ان يرجع الى نفسه وان يعيد النظر في كثير من التقاليد التي استلمها والانظمة التي كان يرتضيها والقيم والمفاهيم القديمة لكي يدافع عن بقائه امام شعب غاز متحضر. ففي المغرب العربي وقفت الامة العربية ممثلة في الشعب المغربي وجها لوجه امام الحضارة الاوروبية فكافحت وصمدت واعطت البرهان على حيوية امتنا وقدرتها على التجدد واعادة النظر في كثير من شؤونها لكي تصحح الاخطاء الماضية وتجدد الحاضر الذي هي فيه.

ان هذه التجربة الواسعة العميقة التي يخوضها الشعب العربي في المغرب وتونس والجزائر خاصة، والتي تبدو ثمارها وعلائمها ومميزاتها منذ الآن بأنها نظرة جديدة إلى الحياة وتقدير اساسي للحرية وللديمقراطية وايمان لا يتزعزع بالمساواة الانسانية..كل هذا يمكن ان يؤديه المغرب العربي الى النهضة العربية عامة لان تجربة المشرق العربي لم تكن بمثل هذا العمق، فلقد اراد الله ان يجعل اقطارنا متكاملة يكمل بعضها بعضا لكي تأتي النهضة العربية الحديثة كاملة الجوانب ولكي تكون جديرة بماضي العرب، وتكون نهضة أصيلة تفيد شعبها وتفيد الانسانية.

عام 1960

(1) حديث ألقي في الدار البيضاء بدعوة من جريدة “الطليعة” الناطقة بلسان الاتحاد المغربي للشغل بمناسبة احتفالات أول أيار.

في سبيل البعث الجزء الأول – حول وحدة النضال العربي

لا ينتظّرن العرب ظهور المعجزة

فلسطين لا تنقذها الحكومات بل العمل الشعبي

 ليس بين العرب من يجهل أن قضية فلسطين هي اليوم أخطر مشكلة في حياتهم القومية. ولكن ما يجهله أكثر العرب هو أن الطريقة التي تعالج بها هذه القضية بعيدة كل البعد عن الصواب والنزاهة. فإذا عرفنا أن للصهيونية والدول التي تناصرها عقلية سياسية في غاية النضج والحنكة، وأساليب في التضليل والإغراء لا يقيدها شرف، ولا يردعها ضمير، إستطعنا من جهة أن نقدر درجة الخطر الذي ينتج عن الإستمرار في تلك الطريقة السطحية في المعالجة، وأن نسيء الظن من جهة أخرى في قصد الكثيرين من سالكيها ومروجي أساليبها.

ويمكن تلخيص هذه الطريقة في ناحيتين بارزتين: الأولى هي تحويل مشكلة فلسطين الى وجهة عاطفية عقيمة، بأن لا نرى فيها الا صورة لغدر الدول الغربية بنا ورجوعها عما قطعته لنا من عهود وخيانتها لما تدعيه وتتذرع به من مبادئ،  فنقصر كلامنا على فضح هذه النوايا المفضوحة، واقتحام هذه الأبواب المفتوحة، وندعو الى الحذر من هذه الدول الماكرة،  شعباً، لم يكن في يوم من الأيام الا حذراً منها، مرتاباً فيها، ونشجعه على الوقوف موقف المتشائم اليائس الذي لا يرى حوله إلا المؤامرات، ولا يبصر أمامه إلا تكتل قوى باغية طاغية لا قبل له بدفعها، فكأن الشعب الحي لا يفرض فيه أن يحسب لغدر الأعداء ومؤامراتهم حساباً.. وكأن واجبنا لم يكن دوماً أن نصون حقوقنا ونكسب قضيتنا بالرغم مما يقع عليها من اعتداء ويدبر لها من مكائد.

أما الناحية الثانية، فهي أن نسرف في الإطمئنان والتفاؤل بعد اسرافنا في الارتياب والتشاؤم، فنعتمد على خطب الزعماء وتصريحات الوزراء ووعود رؤساء الدول العربية، مع معرفتنا بوسائل هؤلاء السياسيين وامكانياتهم، وبالحد الذي تقف عنده جرأتهم وتضحيتهم، والسهولة التي يتملصون بها من تصريحاتهم هذه أو يناقضونها. وهكذا نرى الخطر محدقاً بنا ثم نرجئ الإستعداد له ونعلل النفس بالوهم. لأن زعيماً هدد وعظيماً وعد! منتظرين أن تظهر المعجزة التي لا نرى دليلاً واحداً ينبئ بظهورها، مضحين بالعقل على مذبح السحر!.

لنقف بجرأة ورجولة أمام الحقائق التالية:

ان تكن الصهيونية بالنسبة الى بلادنا حركة عدوان، فإنها بالنسبة الى أصحابها حركة إيمان. وان يكن وراء الصهيونية رأسماليون يغذونها ويستغلونها ودول إستعمارية تجد في مؤازرتها ربحاً لها، وتثبيتاً لاستعمارها في بلاد العرب فذلك لا يمنع الصهيونية ان تكون في صميمها حركة شعبية وأن تحصل على التأييد الفعال من جميع يهود العالم!

ونرى أيضاً أن الدول الغربية التي تناصر الصهيونية لا تفعل ذلك مختارة بل مكرهة بدافع المصلحة لأنها تجد في مناصرتها من الربح أكثر مما تلاقي في معاداة العرب من الخسارة. وأخيراً فإن واقع اليهود القوي الراقي يجعل من باطلهم في نظر الغربيين حقاً، في حين أن واقع العرب الضعيف التأخر يكاد يحجب حقهم، أو على الأقل يضع هذا الحق مع باطل اليهود في مستوى واحد. فاذا وجب أن نصر على اعتبار الصهيونية بغياً وعدواناً وان نفضح أمام العالم هذا العدوان فيجب أيضاً أن لا نغفل ما يكمن وراءه من عقيدة متينة توحي الى الشعب اليهودي بالتضحية والإقدام وإلى زعماء اليهود بالتجرد والصلابة،  وتطبع الحركة كلها بطابع القوة والجد والاحكام.

فالخطر الصهيوني ليس إذن مجرد غزو إقتصادي يحركه المال والطمع المادي وانما هو بالدرجة الاولى غزو ديني لا يشبهه في التاريخ الا الحروب الصليبية! ولا يقوى على دفعه الا يقظة الإيمان في نفوس العرب، وتجسد هذا الإيمان بشكل عملي فعال. لذلك كان الإتكال على السياسة بحساباتها ومماطلاتها أكبر مخدر لروح النضال في الشعب وأكثف ستار يحجب عن العرب رؤية الخطر الذي يهددهم. فكما أن السر في نجاح الحركة الصهيونية هو كونها حركة شعبية، كذلك لا تحبط مساعي هذه الحركة الإجرامية الا متى أصبحت مقاومة العرب لها شعبية حقة. واذا كان اليهود وهم المشردون في الآفاق، الذين ليس لهم أرض تجمعهم ولا دولة تمثلهم، قد استطاعوا أن ينظموا أنفسهم بشكل نادر التوحيد وأن يسخّروا لأغراضهم دولاً كبرى برمتها فهل يعجز العرب وهم شعب واحد يسكن أرضاً واحدة، عن ان يحققوا مثل تلك الوحدة في تنظيمهم وأن ينقذوا قضيتهم من استغلال حكوماتهم وطبقاتهم المتزعمة، اذا لم يقدروا على توجيه هذه الحكومات والزعامات في الطريق التي تنفع القضية القومية؟

إن العرب يعانون مشكلة أساسية واحدة هي استسلامهم لطبقة إجتماعية تقوم على الإستثمار والإستئثار، وهذا الوضع يشكل ضعفهم الداخلي والخارجي لأنه يخنق معظم قواهم وامكانياتهم في الداخل ويظهرهم أمام العالم بمظهر الشعب المتأخر.

ولئن كان الظرف الآن لا يحتمل الانتظار لكي تعالج المشكلة من أساسها ولا يتسع للانشقاق والإنقسام، فيبقى أمام العرب واجب عاجل لانقاذ فلسطين، هو أن يتركوا الحكومات وشأنها ويودعوا آخر أمل لهم في نجوع السياسة الرسمية فيلتفتوا الى العمل الشعبي ويصبوا فيه كل جهودهم.

أما الحكومات العربية وجامعتها فيبقى أمامها سبيل واحد لكي تبرهن على انها لم توجد لخدمة الأجنبي والعمل بوحيه، هو أن لا تضع العقبات والعراقيل في وجه الشعب المتعطش للجهاد!.

6 آب 1946


وحدة النضال ووحدة المصير

بعد نكبة فلسطين التاريخية(1) تأتي حوادث المغرب العربي واهمال بقية الاقطار العربية لهذا الشطر الكبير من وطننا، ومساومة حكومات بعض هذه الاقطار على نضاله، دليلا جديدا على الحدة التي بلغها تناقض أوضاعنا القومية. لقد صمد المغرب مدة قرن وأكثر لأشد أنواع الاستعمار هولا ووحشية، الاستعمار الفرنسي الغاشم الذي كانت خطته إبادة العرب في الشمال الافريقي وإلحاق هذه البقعة العربية الغالية بالارض الفرنسية. وكان المغرب طوال تلك الحقبة يكافح وحيدا اعزل، لا يدري به العالم، ولا يستطيع عرب المشرق الخاضعون مثله لنير الاستعمار أن يمدوه بأي عون. وفي السنوات الاخيرة، أستأنف المغرب معارك حريته مؤملا في عون الجامعة العربية ودولها المستقلة، الا انه لم يلق غير الوعود والجحود.

إن الشعب العربي مؤمن بوحدة مصيره وبضرورة توحيد نضاله كشرط أساسي لتوحيد أقطاره في المستقبل القريب. فما هي العوامل والاسباب التي تؤدي الى تشويه ارادته على هذا الشكل الذي نرى فتجعل جهوده تتبعثر بدلا من ان تتوحد، وقواه تتناحر بدلا من ان تنسجم؟ ذلك ان وحدة النضال التي نحاول تحقيقها عبثا، لا تكون ممكنة الا بنضال الوحدة أي بتكوين عقيدة واضحة عن الوحدة العربية تصبح الموجه الاول لتفكيرنا، والناظم الرئيسي لكل ناحية من نواحي نضالنا.

يحسب الكثيرون أن فكرة الوحدة العربية فكرة بديهية قد تتهيأ كل الشروط في مجتمعنا لانتشارها ونجاحها، والواقع انها اقل الافكار وضوحا وأكثرها صعوبة وان كل شيء في واقعنا يعاكسها. فواقعنا المتأخر المتردي قائم على احدى الدعائم الكبرى للتأخر والتردي، الا وهي التجزئة، يفكر بعقلية التجزئة ويعمل بدوافعها حتى عندما يفكر بالوحدة ويعمل لها.

وليس أشد الافكار خطرا على الوحدة العربية هي الافكار الاقليمية والشعوبية الصريحة المفضوحة، انما هي الافكار التي يروجها دعاة الوحدة الرائجة، أي “وحدويو التجزئة”.

فكرة الوحدة العربية هي الفكرة الانقلابية بالمعنى الصحيح، لا يدانيها في انقلابيتها التحرر من الاستعمار على ما فيه من جدية وقسوة، ولا التحرر الاجتماعي الاشتراكي الذي يصدم في المجتمع أضخم المصالح وأقوى العادات والنظم. ذلك ان التحرر الخارجي يستفيد من عاطفة الشعب السلبية المباشرة، والتحرر الاجتماعي يعتمد على مصلحة الشعب المادية المباشرة، وكلا التحررين الخارجي والاجتماعي يلتقيان باتجاه هذا العصر السائر في طريق تصفية الاستعمار والاستثمار الطبقي. في حين ان فكرة الوحدة لا تحمل في طياتها أي معنى من معاني السلبية، ولا تتراءى فيها المصلحة المادية الا جزئية آجلة غير مباشرة، فهي ايجابية كلها، وروحية قبل ان تكون مادية، وإرادية أكثر منها عفوية، تغالب السهولة والمصالح الآنية، وتخاطب العقل والايمان العميق وتطلب التضحية بالحاضر في سبيل المستقبل وتقتضي تهيئة جدية، وتربية جديدة.

يعتبر وحدويو التجزئة الوحدة شيئا آليا يبلغ بالتوحيد السياسي عندما تتهيأ الظروف وتسنح الفرص، وانها لا تحتاج إلى تهيئة سابقة اللهم الا التهيئة السياسية بالمفاوضات والمناورات. وأما التهيئة الفكرية فلا تعدو أن تكون -في أحسن الاحتمالات- تبشيرا عاما بالوحدة يتسع لشتى الارتجالات والتناقضات. وفي حين تمسي الوحدة في نظر هؤلاء هذا الشيء الآلي السطحي المشوش الذي تعوزه الجدية ويأتي في أدنى درجة من درجات الاهمية بالنسبة الى المشاغل القطرية التي تستأثر عمليا باهتمامهم كله، فان الوحدة في نظرنا فكرة اساسية لها نظريتها كما للحرية والاشتراكية نظريتهما، ولها مثلهما نضالها المبدئي اليومي المنظم المستمر، ومرحلها العملية التي تزيد في قوة النضال وتمهد الطريق للنصر الاخير.

جميع الاحزاب العربية تقول بالوحدة العربية، وكذلك الحكومات، ومع ذلك فان هذه الاحزاب  المتماثلة الهدف لا تلتقي ولا تتعاون، اما الحكومات فانما تلتقي لكي تتخاصم. ذلك لان الاحزاب والحكومات تعتبر الوحدة العربية محصلة ونتيجة لنضال كل قطر من أجل حريته ونهضته، في حين ان العكس هو الصحيح. فحرية كل قطر عربي ونهضته هما محصلة ونتيجة لنضاله من اجل الوحدة. فالايمان بالوحدة والنضال في سبيلها هما اللذان، بتوجيههما نضال القطر وجهوده الوجهة الصحيحة، أي بتذكير القطر باستمرار انه جزء من كل، لا كل قائم بذاته، يجعلان من حرية القطر حرية سليمة أي خطوة ووسيلة الى حرية مجموع الامة، لا انفصالا وعقبة في طريق هذه الحرية الشاملة، ويرسمان لنهضة القطر ملامحها وحدودها لتكون تهيئة وتمهيدا للنهضة العربية العامة دون تبذير او تصادم في الجهود والمصالح.

ان اهداف العرب الكبرى (الحرية والاشتراكية والوحدة) تشكل كلا لا يتجزأ ولا يجوز فصل بعضها او تأجيله عن بعضها الاخر. وهذا يكفي للقول بأننا نفهم من الوحدة العربية غير ما ينشده بعض العاطفيين الخياليين الذين يعتقدون بامكان توحيد العرب في ظل السيطرة الاجنبية، او بعض النفعيين واصحاب المصالح الكبرى الذين يأملون من وراء التوحيد تدعيما للحكم الرجعي الذي يستطيع ان يحمي مصالحهم من ثورة الجماهير.

وتبعا لهذا المنطق نفسه -منطق وحدة الاهداف القومية وتداخلها- فان ارتيابنا بأولئك الذين يحسبون أن شيئا جديا صادقا من الحرية والاشتراكية يمكن أن يتحقق في نطاق القطر الواحد ليس اقل من ارتيابنا بدعاة الوحدة الخياليين او النفعيين. انها دعوة مشبوهة تلك التي تحاول ان تسبغ على الاستقلال القطري، صفات الاستقلال التام الكامل، لتجعل منه مرادفا للانفصال وعقبة في طريق الوحدة القومية. وهي نظرة ضالة سطحية تلك التي تسمي الاصلاحات الجزئية التي تحققها بعض الاقطار ثورة وانقلابا، في حين انه لا ثورة جدية الا في نطاق الامة العربية الواحدة.

ان الحرية التي يطالب بها حزب مصري او عراقي، والاشتراكية التي يعمل لها حزب سوري او لبناني هما غير الحرية والاشتراكية التي تحتاجها وتقدر على تحقيقها الامة العربية كأمة ذات تراث حضاري واستعدادات وامكانيات لنهضة جديدة أصيلة. فالحرية التي يسعى اليها كل قطر عربي على حدة لا يمكن ان تبلغ من العمق والشمول والمعنى الايجابي ما تبلغه الحرية التي تنزع اليها الامة العربية عندما تضع مصيرها ومصير الانسانية موضع التساؤل، كما ان الاشتراكية التي تتقلص وتتشوه في حدود القطر الواحد، حتى تقتصر على اصلاحات جزئية خادعة، تأخذ كل مداها النظري والتطبيقي عندما يكون مجالها الوطن العربي كوحدة اقتصادية وكوحدة شعبية نضالية.

ان امكانيات الامة الواحدة ليست مجموعا عدديا لامكانيات أجزائها في حالة الانفصال، بل هي اكثر في الكم، ومختلفة في النوع. فالثراث العربي القديم لو وقع على كاهل قطر بمفرده، اما ان يقف منه هذا القطر موقفا ايجابيا فينوء تحت عبئه ولا يخرج منه بغير الغرور والابهام، واما ان يقف منه موقفا سلبيا فيتنكر له ويحرم من فوائده ومن كل صلة حية بماضيه فنفسية التجزئة هي التي تفسر الى حد بعيد ليس فوضى الاتجاهات المتنافرة المتناقضة فحسب، بل ايضا سلبية هذه الاتجاهات وعجزها عن كل بناء. هي نفسية الفرار والعجز، فرار الى التوسع الوهمي (كالاممية الشيوعية والدينية) او التقلص الصنعي (الاقليمية السورية واللبنانية والمصرية). كأن ربط العرب بعجلة عالم اوسع من عالمهم يغنيهم عن التحرك الذاتي او كأن الجهد الروحي الذي يبذل لبعث الحياة في قسم منهم لا يكفي لبعثهم جميعا. أما نفسية الوحدة فهي التي تحمل مسؤولية التراث السلبي دون تبرم، وتتفتح لخيرات التراث الايجابي دون غرور. نفسية التجزئة (تحلم) بالثورات الصاخبة العاصفة، وتقنع بالاصلاحات الرخيصة والترقيعات الهزيلة المضحكة، (تتكلم) عن المبادئ والقيم الروحية وتعني اقتسام المناصب والدفاع عن زعامة الاحياء والقرى.

فلم يعد اذن عمل الاحزاب القطرية والحكومات مرحلة توصل الى الوحدة بل اتجاها جديدا وطريقا مختلفا يبعد عنها ويضعف امكانياتها. والوحدة ليست عملا آليا تتم من نفسها نتيجة للظروف والتطور، فالظروف لا تخدمها والتطور قد يسير معاكسا لها، نحو تبلور كاذب للتجزئة. فهي بهذا المعنى فاعلية وخلق، ومغالبة للتيار، وسباق مع الزمن أي انها تفكير انقلابي وعمل نضالي.

ان هجوم الاستعمار والصهيونية يكاد يتركز على الوحدة العربية، هذا هو الهدف الذي يلتقي عليه الاستعمار الغربي والاحزاب الشيوعية الستالينية (وهو ما يفسر اتفاق الطرفين على خلق دولة اسرائيل كحائل كبير في طريق الوحدة) ولا يحتاج الاستعمار الى تدخل مباشر لتزييف الاستقلال والديمقراطية والتقدمية فالتجزئة كفيلة بذلك ما دام وضعها ومنطقها يغريان كل جزء بأن يستغلها لبلوغ بعض الفوائد الخادعة على حساب الاجزاء الاخرى، وهكذا فبالرغم من وحدة حاجات الشعب العربي في جميع اقطاره فان معظم نضاله يهدر ويبعثر، لان دماءه التي تسيل في مكافحة الاستعمار في بقعة تستخدم وسيلة للمساومة على صفقة سلاح او زيادة ارباح شركة في بقعة اخرى، ولان (الديمقراطية) في قطر تهلل للدكتاتورية في قطر آخر، ولان (الجمهورية) يحميها الملوك… فمنطق التجزئة لا يمنع الحركات المتماثلة في الدول العربية من التوحيد والتعاون فحسب، بل يدفعها الى التعاكس والتناقص. وهكذا نصل الى هذه النتيجة: لا يحقق الشعب العربي وحدة النضال، ما لم يمارس نضال الوحدة.

في الايام الجدية العصبية، اذ يشتد الخطر وتنزل المحن وتتعاظم التضحيات، تحظى الامة بلحظات خاطفة نادرة، تسترد فيها وعيها لمصيرها الحقيقي، ويصبح الجو النفسي العام اكثر ملاءمة وتقبلا لموقف التجرد وكلمة الحق. وعسى أن تكون البطولة الشماء والايام الدامية التي يحياها قسم من شعبنا في المغرب العربي وخاصة في الجزائر، مناسبة صالحة وثمنا كافيا لبعض الحق والتجرد يدخلان جونا ويساعداننا في مختلف أقطارنا على النظر الى مصيرنا بمنظار جديد يهيئ لنا سبيل تحول أساسي في تفكيرنا وعملنا.

آب 1955

(1) خطاب القي في مهرجان بوم الجزائر ني مقهى الرشيد، دمشق.


نظرتنا للوحدة العربية الوحدة والنضال الشعبي

 

ايها الاخوان: بدأ حزبنا قبل خمسة عشر عاما، ونادى بفكرة، اعتقد بأنكم تعرفون خلاصتها، والوحدة العربية أبرز شيء فيها. وبالرغم من أن حلم الوحدة يراود العرب جميعا في مشرقهم ومغربهم الا ان الكثيرين حتى من المثقفين ومن العاملين في الحقل القومي كانوا ضعيفي الإيمان في أمر الوحدة، وكانوا ينسبون الى دعوتنا “الخيالية“، ويعتبرون بأننا نطالب بأشياء نظرية، وان هذا الحزب المؤلف من شباب وطلاب لم يختبر الواقع ولم يعرف حدود الامكانيات وحقيقة الصعوبات، لذلك فهو يستسهل الارتجال وطرح المطالب الصعبة. ولكن اليوم بعد خمسة عشر عاما أعتقد بأن أكثر الذين كانوا يأخذون علينا هذا التطرف في المطالب عرفوا بالتجربة بأننا لم نكن حالمين ولا متوهمين، وان الوحدة العربية ليست مجرد حلم وخيال بل حقيقة حية سائرة في طريق التحقيق، وانها قد قطعت شوطا كبيرا في هذه السنوات، ولكن أمامها أيضا أشواطا كثيرة.

 لكي أقرب الى أذهانكم هذا الموضوع لا بأس من أن أذكر لكم كيف يتصور بعض الساسة والمثقفين فكرة الوحدة العربية وأسلوب تحقيقها، وكيف أننا خالفنا هذا التفكير منذ البدء.

تعرفون بأن البلاد العربية طرأ عليها منذ قرون عدة تفكك وانحلال. ولسنا بحاجة الآن للرجوع الى التاريخ. والمفروض أنكم تعرفون هذه الاشياء. اذن عاش العرب مئات السنين مجزئين سياسيا الى أقطار ودويلات متنافرة، وفقدوا في كثير من أقطارهم سيادتهم، وفقدوا -حتى في الاقطار التي احتفظت بالسيادة فقدوا الابداع، ملكة الابداع، ملكة التقدم والحضارة، أي أن المجتمع انتابته عوامل الجمود والتفكك فلم يعد قادرا على ان يتابع التقدم، فصار ينحل شيئا فشيئا ويعيش عالة على غيره.. على حضارة الآخرين، أو على بقايا حضارته القديمة. ففي هذه الحالة الوحدة المفقودة هي الوحدة القومية وليست الوحدة السياسية، لأن الوحدة السياسية، نتيجة، ولكن المهم في مثل هذه الحالة أن العرب في المشرق والمغرب لم يعودوا يشعرون انهم أمة واحدة.. الشعور العميق الجدي، الشعور الايجابي، وبالتالي لم يعودوا يشعرون بمسؤولية رسالة لهم في الحياة، وفي التاريخ. تكونت الأنانيات وتراكمت المشاغل المادية والنفعية والآنية على نفوسهم. ولم يفقدوا كل شعور بالرابطة القومية لانهم ظلوا يشعرون ويعرفون بأنهم كانوا قديما أمة واحدة، ولهم دولة واحدة، وانهم مازالوا يتكلمون لغة واحدة، ولا يزال في مجتمعهم بعض التقاليد والعادات المشتركة، هذا طبعا بقي، الا ان العناصر الايجابية فقدت، لان الوحدة الحقيقية لا تكون بالتشابه السلبي: أن يتشابه الجميع بالتأخر، بالجمود، بالأمراض.. الوحدة الحقيقية هي وحدة ايجابية: أن يتشابهوا بالعمل، القدرة على العمل والانتاج، أن يتشابهوا بنظرة دائمة مبدعة للحياة تتجدد دوما وتوحي لهم بالاعمال المستمرة في شتى الميادين.

ففي مطلع قرننا هذا كان فقدان الوحدة الروحية هو الأساس الذي يجب أن ينصب عليه التفكير لإعادة الوحدة القومية والسياسية. لكن السياسيين والمفكرين السطحيين يأخذون المظاهر والنتائج دون ان ينفذوا منها الى الاسباب والاسس والاعماق. يظنون ان وحدة العرب مرهونة بالقوة المادية، بالقوة العسكرية، بقوة دولة من دويلاتهم، تستطيع أن تفرض سلطتها على الآخرين وتوحد شتاتهم. هذا ما خلفناه نحن عندما نظرنا إلى الأسس: بأنه لا يمكن تحقيق الوحدة العربية تحقيقا جديا ومتينا وصامدا للزمن الا اذا حدث انبعاث روحي في المجتمع العربي. أي بكلمة مختصرة الا اذا عاد العرب فشعروا بأنهم لم يوجدوا عبثا في الحياة، ولم يوجدوا ليعيشوا على فضلة الآخرين، وليكونوا عبيدا للآخرين، وليكونوا أفرادا وجماعات متنافرة تتنافس على المادة والنفع الحقير، انما وجدوا ككل شعب ليعطوا خير ما في نفوسهم وعقولهم، ليعيدوا للحياة ما أعطتهم اياه، ليعبروا أكمل تعبير عن إنسانيتهم، ليرتفعوا فوق المشاغل الحقيرة وفوق الأنانية وفوق النظرة التي لا تؤمن بالقيم والخلود، ليرتفعوا الى مستوى روحي يصهر نفوسهم من جديد وينسيهم خلافاتهم ويبدل ضعفهم قوة ليشعروا بأن عليهم مسؤولية جدية تامة بأن يحرروا أنفسهم ليحرروا غيرهم، وأن يرتفعوا بأنفسهم، بمستوى معاشهم، بنظام مجتمعهم، ليستطيعوا فيما بعد أن يغنوا المجموع البشري بقدرتهم وكفاءاتهم. لذلك تصورنا الوحدة العربية تصورا انقلابيا ثوريا.لم نتصورها تصورا سياسيا بأنها جمع اعداد… جمع كميات بعضها الى بعض، لان الاشياء الميتة اذا جمع بعضها الى بعض فلا تنتج حياة، ولكن اذا حركنا الروح.. بعثنا الروح في هذا الشعب.. في هذا المجتمع، عندما يكون الجمع مجديا ومقويا، وعندها يكون الجمع ممكنا. اذ لا امكان للتوحيد في حالة التأخر والجمود وهبوط الروح. لا يمكن ان يتحد اثنان اذا لم يكن فيهما بذرة مهما تكن بسيطة من النزوع الروحي ليعرفا ان في الحياة شيئا أثمن من الانانية المحضة، وبالتالي يمكن أن يجتمع اثنان في سبيل غاية مشتركة أعلى من أنانية كل منهما على حدة.

 فالوحدة العربية في نظرنا اذن هي نتيجة للانقلاب الروحي في المجتمع العربي، وهي ايضا في نفس الوقت سبب من أسباب هذا الانقلاب. هي نتيجة له، ولكن هي بحد ذاتها يمكن ان تكون دافعا مثيرا من دوافع الانقلاب، لذلك لم نقل مع القائلين: لنسع أولا الى إصلاح حال كل قطر، وبعد أن تصلح أحوال هذه الاقطار عندها تجتمع. لم نقل هذا القول، لان القطر الواحد الجزء اذا لم يعرف منذ البدء بأنه جزء فقط وبالتالي بأنه ناقص، وبأنه عاجز ومفتقر الى ما يكمله، وانه لا تستقيم حياته ولا تستقيم نظرته الى الحياة اذا لم يتصور نفسه حلقة في سلسلة، وجزءا من كل، وعضوا في جسم كامل، وان لهذا الجسم معنى في الوجود ورسالة في الحياة، فلا يستطيع القطر أن يصلح شؤونه اصلاحا عميقا. لذلك كان علينا ان نبدأ من البدء بإثارة فكرة الوحدة ليس فقط على نطاق التبشير ولكن في النضال والعمل. ونحن عارفون أن التحقيق النهائي للوحدة يتطلب وقتا ومشقات، ونعرف أن بين الاقطار العربية تفاوتا في الاوضاع والظروف الخارجية والداخلية، ونعرف أن الوحدة تتحقق على مراحل.. كل ذلك ندركه ولكن رغم ذلك وجدنا أن من الضروري ان يقترن نضال كل قطر في سبيل مشاكله الخاصة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، بفكرة الوحدة والنضال من أجلها، ليعرف كل قطر عندما يبدأ بتطوير حياته واصلاح شؤونه ان مهمته أعظم بكثير من مهمة هذا الجزء وان التصميم او الخطة التي سيضعها لتطوره ولنهضته ايضا يجب ان تكون جزءا من كل… ان يعرف بانه وجد ليتمم الاجزاء الاخرى وان يحسب لها حسابا.

 هنالك نظرة سقيمة منحرفة وخطرة عرضت لجانب منها، وهناك جانب آخر هو نظرة السياسيين المعروفين: بأن الوحدة العربية او الرابطة العربية ليست شيئا ينبعث من أعماق حياة العرب في كل اقطارهم، وانما هي نقاط التقاء مشتركة بين هذه الاقطار، أي ان كل قطر: سوريا، مصر، العراق، تونس، مراكش، الجزائر، كل قطر له حاجاته، له مشاكله عليه ان يعالجها، ثم في مستوى اعلى من مستوى المشاكل الخاصة بكل قطر، توجد مواضيع مشتركة يمكن ان تلتقي عليها الاقطار العربية كلها او بعضها.

 والواقع كما تعرفون ان هنالك نوعين من التجمع، تجمع الاقطار العربية المشرقية وتجمع الاقطار العربية المغربية وعلى هذا الاساس قامت الجامعة العربية: ان بين اقطار الشعب العربي بعض النقاط المتشابهة في السياسة، أحوالهم متشابهة يمكن ان يجتمعوا ليبحثوا هذه الشؤون في الاقتصاد ويتعاونوا في الثقافة وهكذا. هذا معناه ان كل قطر بشخصيته الخاصة ومشاكله الخاصة هو الأصل والأساس وانه في الفروع… في النتائج… في أمور سطحية ليست عميقة يمكن ان يلتقي مع الاقطار كلها أو بعضها.

 مثل هذا الالتقاء قد يقع بين الشعوب مختلفة، لا تتكلم لغة واحدة ولا ترجع الى اصل واحد، موجودة في قارة او جزء منها، تفرض عليها ظروفها ان تتعاون، وهذا ما يريد الاستعمار ان يحدث في الشرق الاوسط.. في الأقطار العربية المشرقية.. تعاون سطحي في بعض أمور لا تنفذ الى صميم حياة الشعب، ولأن هذا التعاون سطحي فان فائدته ستذهب الى الاستعمار، وليس الى أهل البلاد. لذلك كان الاستعمار هو المحرض على انشاء الجامعة العربية، هو المقترح لها، ولم يخَفْ عواقبها. والاستعمار يعاود الكرة دوما لكي يوجد تعاونا اقتصاديا وعسكريا بين هذه الاقطار بشرط أن يكون هو حاضرا فيها لكي يستغلها.

 هذا تصور خاطئ للوحدة ليس خاطئا فحسب بل ضارا لاننا نكون بهذا الشكل أعطينا شرعية وترسيخا للتجزئة، وسمحنا لعناصر الاختلاف والتباين الموجودة في الأقطار ان تنمو وتتوسع. وهكذا تكون الجامعة ستارا حاميا للتجزئة، للتفرقة، للتباين، في ظله تنمو التجزئة في امان، وهذا ما يريده الاستعمار لنا: بأن نصل الى زمن نتناكر فيه، ينكر بعضنا البعض الآخر وينادي كل جزء بشخصيته الخاصة التي لا يمكن ان يتنازل عنها ونعيش في تناحر وتنافس.

 النظرة الصحيحة الى الوحدة في اعتقادي هي ان يكون أساس النهضة العربية الجديدة، أساس الانقلاب العربي المنشود، قائما على هذا المبدأ الذي لا يجوز التفريط فيه او التهاون فيه: بأن العرب أمة واحدة، وبأنهم في أي جزء من أجزائهم، وفي أي مشكلة تعترض أي جزء يجب ان يشعروا أو يفكروا ويعملوا بهذا الواقع، بهذا التصور، بأنهم ان لم يكونوا عمليا موحدين فانهم روحيا موحدون، وانهم يعالجوا مشاكلهم على أساس انهم سائرون نحو الوحدة ويعملون لها بجد وبنضال. فحزبنا في سورية مثلا، وهذا ينطبق عليه في كل الاقطار التي له فيها فروع، بدأ حياته منذ تأسيسه وبدأ بنضاله يعالج مشاكل الشعب في الجزء الذي وجد الحزب فيه ولكن على أساس عربي. لما بدأ الحزب في سوريا كان يناضل ضد الاستعمار الفرنسي ولكنه في كل خطوة خطاها في نضاله ضد الاستعمار كان يذكر الشعب بأن هذا الجزء هو جزء من كل.. من الوطن العربي، وان الاستعمار موجود في أجزاء أخرى، وان طرده من هنا واضعافه سيساعد الاقطار الاخرى على التحرر، وان بقاءه هنا في سورية يساعد الاستعمار على الضغط والاستبداد باخواننا في أقطار أخرى. وهذا الشيء متجسم في سورية لان فرنسا كانت تحرص على سوريا بصورة خاصة ليسهل استعمارها للمغرب وليطول أمد هذا الاستعمار، ولكي تضمن عدم وصول حركات وأفكار التحرر والمساعدات الاخوية من عرب المشرق إلى المغرب اذا هي ضمنت سيطرتها في هذه البقعة.

وبعد الانتهاء من مرحلة الاستعمار في سورية واجهنا مشكلة اخرى لم نكن نجهلها قبلا، ولم نسكت عنها كل السكوت زمن الاستعمار، ولكن لم نستطع أن نعطيها حقها من المعالجة ما دام الاستعمار هو العدو الاول: مشكة الطبفة الحاكمة او الفئة المتزعمة. فبعد التخلص من الاستعمار الفرنسي هنا وجه الحزب نضاله ضد هذه الطبقة لأنها كانت زمن الاستعمارية سببا في استمرار بقائه، لانها زيفت النضال، وأضعفته عندما تزعمت النضال وساومت الاستعمار مرارا عليه. دعت الشعب الى النضال، وما كان الشعب ليخطو خطوة او خطوتين حتى كانت هذه الفئة نفسها توقفه في منتصف الطريق، وتخاف من جموحه واسترساله في النضال واظهار كل قواه وامكانياته، لانها كانت مهددة في مصالحها وفي زعامتها. وآخر الامر تغلب الشعب على الاستعمار وعليها وعلى مساومتها، فوجدت ان تحل محل الاستعمار في حكم البلاد متذرعة بتضحياتها زمن النضال الوطني، وبأسبقيتها في مقاومة الاستعمار وغير ذلك.

ولا اعتقد انكم بعد كل هذه التجارب التي مرت على العرب في عشرات السنين الماضية، لا اعتقد انكم تجهلون حقيقة ادعاء هذه الطبقة التي هي ذاتها في كل قطر عربي، الوجهاء، الاغنياء، الزعماء التقليديون، والني تقاوم الاستعمار كمنافس ليس كمستعبد للوطن والامة: وانما كمنافس على الزعامة والاستثمار، وترضى منه بالمشاركة في كثير من الحالات.. أن تقاسمه المنافع والزعامة. ولما استطاع نضال الشعب أن يخرج الاستعمار من هنا انفضحت هذه الطبقة انفضاحا تاما، وظهر مفهومها للنضال والوطنية لأن نوعا من البيع والشراء حصل، لأنها دفعت الفلس لتأخذ مئة، وانها تعبت سنة لترتاح عشرين، وانها ضحت ببعض المنافع وحرمت من بعض المناصب لكي تستأثر فيما بعد بالحكم ومنافعه، ونظرتها إلى الشعب نظرة احتقار وتضليل لا تقيم له وزنا، ولا تشركه في قضيته ولا تطلعه على سياسة البلد، تسيره بالبطش تارة وبالحيل والاكاذيب والتضليلات تارة اخرى. فهل كنا في نضالنا ضد هذه الطبقة.. هل كنا نعمل لسورية كبلد قائم بذاته مستقل، لا تصله بالبلاد العربية صلة..؟.. كلا.. كنا نعرف ان نضالنا ضد هذه الطبقة هو نضال ضد مرض واحد ابتلي به العرب في كل أرضهم، واننا اذا نجحنا في تغيير هذه العقلية وهذه الاساليب في الزعامة والحكم، وفي تهديم القيم القديمة التي تجيز استعباد الشعب وخداعه واستثمار، وخلقنا قيما جديدة تعترف للشعب بالحقوق الكاملة، بالاحترام، وبأن يكون له الحق في الاطلاع على شؤونه وفي ممارسة تصريف هذه الشؤون.. عندما ننجح في تهديم هذه العقلية القديمة وخلق عقلية جديدة نكون قد قدمنا للعرب عامة تجربة وقدرة.

هذا لم يكن مكتوما، بل اعلناه. قلنا ان هذه الطبقة واحدة، وهذه العقلية واحدة في كل وطننا عقلية الانحطاط والتأخر ويجب ان تزال. وعندما قاومنا الدكتاتورية العسكرية لم نكن نعالج حادثا اقليميا وانما ظاهرة عربية، لأننا نعرف بأن وطننا العربي يمر في مرحلة تاريخية يتدرب فيها على الحكم من جديد، يتدرب على الاستقلال بعد ان أضاع قياد نفسه مئات السنين، فاذن هو معرض، هذا الشعب العربي في كل بقعة، ان يضلل وان تغريه الأفكار الخاطئة السطحية عن الحكم العسكري والابطال المغامرين الاقوياء، علينا أن نفضح هذه الخرافة، ونفع هذه التجربة سيعود على كل العرب.

 علاوة على اننا كنا في هذا النضال سواء زمن الفرنسيين او زمن الحكم الوطني او زمن الدكتاتورية، نجد رابطة بين الاشياء التي نقاومها وبين المصلحة العامة. قلت لكم ان الفرنسيين جاؤوا الى سورية ليضمنوا بقاءهم في المغرب والدكتاتورية العسكرية قد ساومت على قضية المغرب من أجل صفقات سلاح وخذلت قضية تونس وهي في ابان نضالها المسلح قبل أربع سنوات، ومنعت كل تأييد وكل تظاهر وكل معونة وكل حدث في سبيل نصرة النضال في المغرب فكانت مقاومتنا للدكتاتورية ليس فقط لانها تبطش بالشعب العربي في سورية وليس لأنها تبتز أمواله، بل وبصورة خاصة لانها أجازت لنفسها ان تساوم على قضية قومية خطيرة.

 تجدون اذن ان المصلحة العربية واحدة لا تتجزأ، وانها ليست كما يتصورها او كما يريد ان يتصورها الاجانب والسياسيون التقليديون في بلادنا: المصلحة العربية هي بعض أشياء مشتركة سطحية.. وانما هي في صميم نضال كل قطر، وبالتالي ان الوحدة العربية ليست مرحلة من نضالنا يمكن ان نوقتها فنقول: بعد ان ننتهي من الاستعمار في القطر الفلاني، وبعد زوال الاقطاع في قطر آخر والدكتاتورية في قطر ثالث نفرغ للوحدة. العمل للوحدة يبدأ منذ البدء والاستعمار موجود والاستغلال الاقطاعي موجود والحكم الرجعي الانتهازي موجود. علينا ان نوضح للشعب العلاقة بين مشاكله الجزئية وبين أساس المشاكل كلها: المشكلة القومية.

 اذا أردنا أن نجيب على سؤال: ما هي الخطوات العملية نحو الوحدة العربية؟ فجوابنا هو بالدرجة الأولى والاهم هذا الذي ذكرت:

النضال الموحد. فالوحدة العربية قبل ان تصل الى طور التحقيق السياسي والانشائي يجب ان تبنى في جو النضال.. في صميم النضال.. ولا يجوز لنا ان نغفل هذه الناحية، وهذا ما يريد السياسيون ان يغفلوه لانهم لا يريدون الوحدة لأنها تقضي على زعاماتهم.. لأنها تطيح بهم وتخلق مستوى رفيعا من الوطنية والوعي والانتاج عند الشعب لا يعود متلائما مع وجود هذه الزعامات البالية، فهم يريدون تثبيت التجزئة.. يصورون الوحدة ان دورها لم يأت بعد.. الواقع هو ان دور الوحدة موجود دوما. اقطار المغرب العربي التي عرفت من ألوان الاستعمار وثقل ضغطه وبطشه ما لم تعرفه الاقطار الاخرى، وربما ما لم يعرفه بلد آخر في العالم.. هذه الاقطار اذا قدرت لها قيادة واعية مخلصة وهي موجودة لا شك فانها تستطيع ان تعمل للوحدة والاستعمار مسلط فوقها، اي ان تبني نضالها على اساس الوحدة. هذا لا يمنعها من معالجة مشاكل المغرب كما لم يمنعها من معالجة مشاكل سورية. ولكن بهذه الروح يجب ان يكون النضال.

فنحن اذن واضحون جدا في هذه النقطة. الوحدة العربية هي قبل كل شيء نضال ووحدة في النضال، ثم، كمستوى آخر قد يرافق هذا المستوى الاول وقد يتبعه، تأتي ظروف تكون فيها شروط بعض الاقطار السياسية والاجتماعية مهيأة لان تخطو خطوات انشائية في سبيل الوحدة مع متابعة النضال. وحدة النضال يمكن ان تنشئ بين اقطار علاقات توحيدية في السياسة والاقتصاد والشؤون العسكرية.

 وهذا ممكن ومتيسر في اقطار الشرق العربي، ولو كانت للفئات الحاكمة في الشرق العربي عقلية متحررة ومؤمنة وواثقة بالشعب وبعيدة عن المصالح الخاصة، المصالح الطبقية، لحققت خطوات جديدة في طريق التوحيد منذ زمن. ولكن هناك مجالات سياسية تتطلب دقة، وحيطة وحذرا، لا يجوز ان تتوحد السياسة وهناك استعمار في الداخل ونفوذ استعماري، ولكن يمكن ان يتوحد الاقتصاد، وان تتوحد الثقافة. فنرى نحن بأن كثيرا من الاشياء يعجز عنها الحكام او يتهربون منها لا لأن الاستعمار يحول بينهم وبيننا بل لأن مصالحهم تحول بينهم وبينها، او لأن عقليتهم المتأخرة تمنعهم من تحقيقها.

الشيء الذي يهمنا جميعا الآن هو نضال المغرب ووحدة المغرب، فعلى الاساس الذي وصفناه اقول بأن وحدة المغرب لا يمكن ان تتحقق الا في وحدة نضاله، وأي تجزئة لنضال المغرب ستمنع في المستقبل التوحيد السياسي والاقتصادي. فالوحدة السياسية هي التي تتم في النضال. لأن النضال هو الحياة الصحيحة للعرب، ككل امة فقدت قياد نفسها في الماضي وتأخرت وتريد ان تستأنف سيرها، تريد ان تنهض. الحالة السليمة التي تعبر عن حقيقة الامة هي النضال.  خذوا العرب بدون نضال، تروهم بين الشعوب المتأخرة. وخذوهم في حالة النضال: هم في مستوى أرقى الأمم.

 النضال هو المعبر الصحيح عن الامة. فاننا في النضال نبني أسس حياتنا المقبلة، في النضال تزول عوامل الانحطاط، في جو النضال الجدي لا يبقى نفع خاص، ولا تبقى مادة، ولا يبقى تنافس حقير، ولا تبقى انانيات. لأن النضال يبني مستوى جديدا اما ان ترقى اليه النفوس او تسقط من الحساب. ومن ناحية عملية، لا يخفى عليكم ان تجزئة النضال اكبر سلاح بيد الاستعمار، وان حيلة الاستعمار التقليدية في الماضي والحاضر عندما يغلب على امره، عندما تثور الشعوب في وجهه، ان يلجأ الى التفريق.

 خذوا أمثلة من حالة الشرق العربي: الاستعمار عندما يتراجع امام ثورة الشعب في قطر عربي، امام هذه الموجة الطاغية من الوعي والاستبسال في التمسك بالحقوق، حقوق السيادة والحرية، يكون محتارا بين امرين: اما ان يقاوم الى النفس الاخير، هذا يكلفه مالا وأرواحا وسمعة سيئة في العالم، واما ان يلجأ الى الحيلة فيسلم للشعب بالاستقلال، ولكن قبل ان يعطي الاستقلال يسحب منه حيويته.. يشترط الانفصال، وهذا ما حدث في السودان وفي سورية ولبنان. الدول الاستعمارية وافقت على الاستقلال في سورية ولبنان بشرط التجزئة. وأوجدوا لهم الجامعة العربية، كل دولة تنافس الاخرى، وتضع العراقيل في سبيل أبسط المشاريع التوحيديةحتى ان الجامعة التي مضى على تأسيسها احدى عشرة سنة لا تزال مشاريع بسيطة جدا نائمة في مكاتبها، كالغاء الجوازات والغاء الرسوم الجمركية، وهذه اشياء تتحقق اليوم بين أمم متباينة كانت بالامس يحارب بعضها بعضا: لم يعد بينها جمارك وجوازات. ولكن الجامعة تعقد اجتماعات وتدرس ولا تنفذ، لأن الاستعمار الذي شعر بضعفه في هذه البلاد وجد هذه الحيلة: ان يعطي استقلالا شكليا فاقدا لأكثر نواحيه الايجابية المبدعة، عندما يجرد هذه اليلاد من الوحدة.

لذلك وبعده هذه التجارب المرة التي عانيناها لم نستطع السكوت على ما يجري في المغرب من تجزئة للنضال بفعل الاستعمار والذين يوافقونه من السياسيين الانتهازيين، لأننا نعرف قصة هذه السياسة ونتائجها.

عام 1956


وحدة النضال في المغرب العربي

ابتدأ الحديث(1) بتوجيه السؤال التالي: الاقطار المغربية الثلاثة تختلف أحيانا في مراحل الكفاح.. هل من الاحسن ان تتوحد الشعوب فيها قبل الاستقلال ام بعد الاستقلال؟

نظرتنا نحن بأن كفاح الشعب العربي في كل اقطاره واحد، ويجب ان يكون موحداً اي ان تكون له نظرة واحدة، واهداف واحدة وخطة عملية واحدة، وبالاحرى ان تكون نظرتنا الى كفاح الشعب العربي في المغرب هي نظرة التوحيد لانه لا شك ان بين الاقطار العربية المختلفة بعض الفروق في الاوضاع الداخلية وخاصة الخارجية، وهذه الفروق ليست في رأينا مما لا يمكن التغلب عليه من اجل توحيد النضال، ولكن حتى مع التسليم جدلا بفائدة مراعاة هذه الفروق وبالتالي مع التسليم بامكان التدرج في توحيد النضال -اي ان نصل بعد مراحل وتدريجيا الى توحيد نضال العرب كلهم- اعتقد ان لا احد يستطيع ان يجادل في ضرورة توحيد نضال المغرب كله لان اوضاعه واحدة لا فرق بين اقطار المغرب الثلاثة لا في الداخل ولا في الخارج..

اما اذا فهمنا من الفروق اكثر مما تمثل هذه الكلمة، واغرقنا وبالغنا في اعطاء الاهمية للفروق، عندها سنجد فرقا بين مدن سورية وعندها يتعذر كل عمل. اذا رضينا ان نسترسل في طريق التفريق والتمييز واعطاء الاهمية للفروق فان في ضمن القطر الواحد، فروقا بين منطقة واخرى، وهذا الاسترسال في التمييز في عرف العمل السياسي والعمل القومي غير جائز مطلقا.

اذن في مفهوم العمل السياسي والقومي كلمة “فروق” لها حدود لايجوز ان تتجاوزها، ولها مستوى لا يجوز ان تهبط عنه فاذا قيل مثلا ان ثمة فرق بين اليمن وبين باقي الاقطار العربية، لان اليمن معزولة منذ قرون، وفى حالة اجتماعية متخلفة جدا، بقيت على حياة القرون الوسطى الموغلة في القدم، واذا قيل بأن ثمة فرقا تحسن مراعاته بين المملكة العربية السعودية وبين الاقطار العربية الاخرى فأيضا يمكن ان نسلم نوعا ما بهذا الفرق لأنه لم يوجد بعد فى المملكة السعودية ما يسمى رأيا عاما، ما يسمى شعبا ومواطنين.. فالوضع بدوي عشائري، مغلق، معدوم الثقافة، معدوم النور وحرية الرأي، ولكن لا يجوز مطلقا ان نذهب لابعد من ذلك. عندها نكون عمليا كأننا نخضع لمنطق الاستعمار نفسه، الاستعمار الذي يتذرع بفروق ثانوية مصطنعة ليمنع توحيد الامة وليمنع توحيد نضالها ضده، او انه هو يخلق هذه الفروق. وربما ذكرت لكم مرة ان الافرنسيين قبل ربع قرن جعلوا من هذا القطر الصغير سورية خمس دويلات.. كانت سورية مؤلفة من خمس دويلات كان يطلق على كل منها اسم دولة: دولة الشام – دولة حلب – دولة العلويين – دولة جبل الدروز – دولة الاسكندرون.

والافرنسيون هنا حاولوا ان يجربوا فى هذا الشعب كل اساليبهم الخبيثة التي يستعملونها في المغرب، فمثلا حاولوا ان يوجدوا في منطقة العلويين، بعد ان فصلوها عن باقي المناطق، نعرة طائفية وعنصرية، وسعوا كثيرا بدعاياتهم وبكتابات كتابهم ومؤرخيهم ان يبرهنوا ان العلويين من اصل صليبي، انهم ليسوا عربا وليسوا من هذه البلاد، ان المذهب العلوي هو اقرب الى المسيحية.

من حيث المذهب، أرادوا ان يبعدوا مذهبا من مذاهب الاسلام، ومن حيث العنصر أرادوا ان يظهروا العلويين كأنهم اوروبيون.. أرادوا استغلال التفرقة بين الطوائف وضاعفوها اضعافا. كذلك كان من أهم الاسلحة التي يتسلحون بها في احتلالهم لهذه البلاد، ويثيرونها بين الحين والآخر، أنهم جاؤوا لحماية الاقليات المسيحية، وان المسيحيين فى خطر.. حياتهم وممتلكاتهم فى خطر في هذه البلاد، وانهم هم مكلفون بحمايتها. كل هذه الخدع كان يظهر بطلانها وزيفها، وآخر الامر قهرت أمام الحق.

اذن كيف يمكن أن نقبل بالتفكير الذي يقول بوجود فروق بين اقطار المغرب وهي أقطار واحدة..؟ الحياة الاجتماعية.. الحياة الروحية… الحياة المادية واحدة.. الاستعمار واحد.. الاستعمار الذي يضغط عليها، على الشعب العربي هناك واحد. نفس المشاكل التي اصطنعوها هنا وفي العراق ولبنان اصطنعوها في المغرب وخاصة قصة العرب والبربر وهذه كما تعلمون باطلة لان القومية العربية لا تقوم على اساس عنصر أو دم وانما على اساس تاريخ وثقافة مشتركة ولغة واحدة ومصلحة مشتركة في الحياة معا وفي الدفاع عن وطن واحد والعمل لبناء مستقبل واحد.

اذا دققنا كثيرا في أوضاع المغرب نجد، على ما اعتقد، بأن الاستعمارالفرنسي هو الذي أوجد بعض الفروق بين تونس والجزائر ومراكش خلال هذه المدة الطويلة من وجوده. مثلا خلق أو نمى طبقة من الوجهاء، من الاغنياء من ملاكي الارض الاقطاعيين هي اقرب الى الولاء له او المسايرة لوجوده في كل من تونس ومراكش. لم يكن حكما استعماريا مباشرا بكل معنى الكلمة كما هو في الجزائر، لانه بقيت بعض السلطة ولو في حدود ضيقة جدا لأهالي البلاد، أما في الجزائر التي دخلها الافرنسيون بالفتح، وأعلنوا أنها جزء من فرنسا، وفتحوها للهجرة الواسعة، وللاستيطان والتعمير والاستعمار امام مهاجرين افرنسيين وأوروبيين بصورة عامة.. في الجزائر لم يكونوا بحاجة الى تشجيع طبقة بورجوازية واقطاعية، بل بالعكس كانت مصلحتهم في القضاء على هذه الطبقة حتى يزيلوا الشعب من طريقهم ويستلبوا ارضه وثرواته، ويجعلوا العرب في الجزائر بمنزلة الخدم عند الافرنسيين، ويعملوا على افنائهم بالافقارالتدريجي وبالقمع، وجعلهم ادوات للخدمة والعمل لا اكثر.

هذا الفرق بين الجزائرمن جهة وبين تونس ومراكش من جهة اخرى هو لمصلحة النضال، فهو الذي أدى الى ثورة شعبية مئة بالمئة في الجزائركما نشاهد اليوم. هذا الشيء لم يحصل في أي قطر عربي آخر لا في الشرق ولا في الغرب.

الشرق العربي هنا في كفاحه ضد الاستعمار لم يتوصل كفاحه الى ان يكون شعبيا مئة بالمئة، ولذلك كان نضاله مشوبا في كثير من النواحي وكان يتراوح بين النضال الجدي وبين التراجع والمساومة والمفاوضات الكاذبة. لماذا؟ لان في هذه الاقطار طبقة من الزعماء.. من الملاكين الكبار والاغنياء والوجهاء لهم مصالح اقتصادية ضخمة هي هي نفسها تستتبع مصالح معنوية من وجاهة وزعامة وغير ذلك. وهذه الطبقة من اصحاب المصالح لا تستطيع ان تصارع الاستعمار مصارعة جدية حاسمة، بل ان من منطق مصالحها ان تناوش من الحين الى الآخر.. ان تأخذ وتطالب كما يقال، تأخذ شيئا، ثم تهدأ، ثم تعود لتطالب وهكذا. وكانت تدفع الشعب.. تحمس الشعب لمقاومة الاستعمار، لان الشعب بغريزته مقاوم للاستعمار. واحيانا كان هو الذي يدفعها، ولكن متى حصلت على بعض المكاسب البسيطة كانت تتخلى عن الشعب الثائر وتضطره الى الاستسلام. في حين ان الوضع في الجزائر اليوم هو وضع ثورة شعبية اذ لا يوجد هناك هذه الطبقة المميزة من الشعب العربي. لم يكن هناك فروق واضحة بارزة بين افراد الشعب العربي في الجزائر وقد تساووا جميعا في الفقر وفي الخضوع للظلم، ولذلك ثاروا معا.

فاذا قيل بأن ثمة فرقا بين وضع تونس ووضع الجزائر، أو بين وضع مراكش ووضح الجزائر، نقول: نعم، ولمصلحة القضية هذا الفرق، ويجب ان تتبع تونس الجزائر، وان تكون الجزائر المقياس في النضال لان وضعها أسلم قوميا ونضاليا، ولأن هذه الثورة الهائلة في الجزائر هي اكبركسب لتونس ومراكش، اذا عرف الزعماء في تونس ومراكش كيف يستفيدون من هذه الثورة. فالعرب في الجزائر وصلوا فعلا الى الحد الممتاز ثوريا الذي يعتبر أميز حالة ثورية، وهي عندما يتساوى الموت والحياة، او عندما يصبح الموت أثمن من الحياة أو السبيل الوحيد الى الحياة، أو كما تقول الماركسية في البيان الشيوعي المشهور: بأن العمال -البروليتاريا- ستخوض الحرب ضد الرأسمالية، وهي حرب مضمونة النجاح.. لماذا؟.. لان العمال ليس لهم شيء يمكن ان يخسروه.. يمكن ان يفقدوه.. لم يعودوا يملكون شيئا يمكن ان يدافع عنه. البيان الشيوعي يقول: ليس لهم ما يضيعون الا قيودهم وأغلالهم. وهذا هو وضع الشعب في الجزائر. وهذا ما يبين لكم خطأ ومحاذير تزعم الطبقة البورجوازية للنضال القومي، رغم ان زعامة هذه الطبقة في بعضى الاحيان لا يكون منها مناص، أي ان المرحلة تقضي بها. في سورية، في العراق، في مصر: الطبقة البورجوازية هي التي تزعمت النضال ضد الاستعمار… الوجهاء عامة، التجار، الاقطاعيون، ليست هي التي حاربت وانما وجهت الشعب الى الحرب. في تونس ومراكش الامر تقريبا من هذا النوع، فالمتزعمون للنضال القومي ضد الاستعمار هم من هذه الطبقة، لذلك حتى بعد ظهور الثورة في الجزائر -وهوحادث فريد من نوعه ومليء بالامكانيات- لم يجرؤوا على الاستفادة منه ليتابعوا النضال ويحصلوا على اكثر مما حصلوا عليه، خوفا على مصالحهم من أن تتهدد. وأعود لأذكر لكم أشياء ربما ذكرتها في الماضي، بأن ظروف هذه المرحلة النضالية في حياة المغرب العربي ظروف مواتية جدا، ومشجعة جدا، لان فرنسا في حالة انهيار ونضوب، وانه في حالة تضامن الاقطار المغربية الثلاثة تعجز فرنسا عجزا صريحا عن المقاومة، فليس لديها الامكانيات العسكرية والاقتصادية الكافية لشن حرب. والدليل هو ما تشاهدون الان رغم تجزئة النضال، ورغم براعة السياسيين الفرنسيين من جهة، وقصر نظر بعض الزعماء في تونس ومراكش الذين رضوا ان يجزئوا النضال، رغم ذلك الشعب الفرنسي بكليته او بقسم كبير منه يثور على حكوماته ضد هذه الحرب في المغرب العربي، ويؤيد الى حد ما استقلال هذه البلاد، ويطلب بأن تكف الحكومة الفرنسية عن هذه الحرب التي ليس فيها الا الخسارة وضياع دماء الافرنسيين، وبعض الافرنسيين ينضمون الى الثوار او يشجعونهم.

ما دام الامر قد وصل الى هذا الحد فان توحيد النضال كان يمكن ان يختصر الطريق، وان يضع فرنسا امام الامر الواقع، بأن تسلم لمطالبنا، وفي أقل الاحتمالات واسوئها الشيء الذي يحصل عليه العرب في نضالهم الموحد هو حتما أحسن مما بحصلون عليه في حالة تجزئة النضال وانفراد كل قطر بالمفاوضة.

هذا من حيث علاقة النضال بالتحرر من الاستعمار: توحيد النضال هو من كل الوجوه أحسن واكثر نفعا. ولنأخذ من الناحية الاخرى، بالنسبة الى حياة الشعب العربي هناك.. بالنسبة الى العرب انفسهم بصرف النظر عن الاستعمار. ما دمنا مؤمنين ان الاستعمار زائل هذه السنة أو بعد سنوات، يبقى الموضوع بالنسبة الى هذه الحياة الاستقلالية التي يسير نحوها عرب المغرب، والتي سيحصلون عليها بلا ريب.. هل الافضل ان يحصلوا على الوحدة الان او بعد الاستقلال؟..

الجواب أقوى من الاول: التوحيد وقت النضال هو التوحيد الصحيح الذي يصل الى اعماق النفوس.. يصهر النفوس والعواطف وكل شيء.. أما بعد أن يستقل كل قطر، ويرتب أوضاعه على أنه مستقل فالصعوبات ستظهر بشكل لا يصدقه العقل.. ستضحك علينا اجيالنا المقبلة، سيضحكون ويتألمون من هذه التجزئة التي صنعها الاستعمار، وصدقها العرب.. ليس العرب كلهم.. ولكن الزعماء، وتمسكوا بها وهي اكبر خطر في حياتهم.

فاليوم ليس الاستعمار هو كل شيء في بقاء التجزئة وفي الحيلولة دون الوحدة، وانما الاستعمار واصحاب المصالح هم في جانب التجزئة، حريصون عليها. عندما يبحث شباب مثلكم يرون ان من السهل التضحية بالمصالح، ولكن بالنسبة الى اصحاب المصالح أنفسهم ليس من السهل التفريط بها. لذلك نعتبر ان الفرصة ذهبية من اجل توحيد المغرب منذ الان.

ولاحاجة الى ان أشرح لكم اكثر من ذلك أنه بالنسبة الى الامم التي طرأ عليها التأخر والانحطاط والجمود اجيالا من الدهر كأمتنا العربية -وهذا شيء لا مجال لنكرانه- احسن حالة يمكن لأمة متأخرة… احسن حالة لها لكي تتوحد ولكي تشعر بشخصيتها وبمؤهلاتها: هي حالة النضال. فالامة العربية هي الان شيء مجرد، شيء في اذهان الجيل الجديد، ولكنها عمليا غير متحققة.. هي حلم في اذهاننا.. في كل مكان فيه شباب مؤمن.. يؤمن ان امته قادرة على الانبعاث وستعود مجموعة حية في المستقبل. ولكن عمليا هل هناك امة عربية متحققة؟.. إنها متحققة ولكن الى حد ضعيف، ولكنها متحققة في كل مكان يوجد فيه نضال، وبشكل خاص اذا كان جديا يواجه الموت في كل ساعة.. في حالة مجابهة الموت ترتفع الغشاوات وكل اثقال الجمود التي تراكمت خلال القرون.. أثقال الجهل والمصالح المختلفة والانانية وغير ذلك.. كل هذه الاثقال التي جعلت منها امة ضعيفة وأفقدتها انسانيتها، وأفقدتها امكانية التجارب مع الحياة وامكانية الحضارة.. كل هذه الاثقال المسيئة السلبية التي حطمت امتنا لا يعود لها وجود في حالة مواجهة الموت. الرجل الذي يقف امام الموت هو الانسان الصحيح.. الانسان الذي في هذه اللحظة يغامر ويستعد للتضحية بحياته -عندها يستطيع ان يكتشف زيف الاعتبارات التي كانت تكبله: العصبيات والمصالح الخاصة.. لان الموت اقوى من كل شيء مصطنع.

امتنا اذن موجودة في كل مكان يحمل فيه افرادها السلاح.

سؤال: مارأيكم في استقلال مراكش؟

اذا قلت ان هذا المنطق في معالجة القضية القومية وانتزاع حقوق الشعب من المستعمر هو منطق خاطئ وضار فاني لا أخص بذلك زعماء المغرب، ومن الواضح جدا ان هذا ينطبق على كل زعماء سياسيي العرب في المغرب والمشرق، خاصة في المشرق. لان زعماء المشرق هم الذين سبقوا، عندما بدأ النضال هنا، بالمفاوضات مع الاستعمار الفرنسي والانجليزي في سورية ومصر والعراق وغير ذلك، ولم يكن المغرب قد وصل بعد الى حد المفاوضات، لذلك فزعماء المغرب اليوم -في مراكش وتونس- لا يفعلون اكثر من الاقتداء بمنطق السياسيين والزعماء في مصر وسوريا. فاذن نحن نستنكر هذا المنطق ونقاومه، وقد قاومناه ونقاومه فعلا في اقطار الشرق العربي، ولذلك ايضا نقاومه في المغرب مقاومة فكرية لاننا ليس بعد حزب هناك حتى يقاوم مقاومة عملية.

صحيح ان اصحاب هذا المنطق من الزعماء لا يمكن ان يسموا خونة، ولا يمكن ان ننكر عليهم كل وطنية وان لا يكون بيدهم بعض الحجج، وهذا شيء نعرفه وقد عانيناه هنا سنين طويلة. فالمسألة ليست بسيطة كما يظن بأن الذين يأخذون بمنطق المفاوضة هم خونة واجراء استعمار، وهكذا تحل المشكلة. كلا، هذا حل مصطنع ومبسط جدا. الذين يأخذون بهذا المنطق هم ايضا وطنيون ويريدون الخير لبلادهم بنسب متفاوته: بينهم المخلص، وبينهم الأشد اخلاصا، وبينهم المتاجر بالوطنية لمنافع خاصة، ولكن بالاجمال، الحركات الوطنية التي يتزعمها البرجوازيون هي حركات وطنية ليست خالصة وليست وطنية واعية كل الوعي… ليست خالصة من المصالح اذن، وتشوبها اعتبارات مصلحية.. ليست واعية كل الوعي لانها لم تبلغ بعد درجة الوعي الثوري الذي يدرك حقيقة امكانيات الشعب ويعتمد عليها ولو انها اليوم غير ظاهرة، ولكن يعرف أنها ستظهر بعد.

هذا ما يميز الوعي الثوري. الوعي العربي الثوري يتطلب النظرة الشاملة الى الظروف العالمية والعربية، ويفترض التنظيم من جميع النواحي، ويفترض مستوى حارا من النضال، مستوى لا يقبل انصاف الحلول وأنصاف التضحيات، ولا يقبل الفتور.

فاذن ان ما نقوله بحق هؤلاء هو انهم ليسوا ثوريين. ولا نقول انهم ليسوا وطنيين، الا أننا نعتقد ان الوطنية الصحيحة هي الوطنية الثورية. لذلك فوطنيتهم ليست صحيحة كل الصحة. لهؤلاء منطقهم، منطق الاخذ والمطالبة -كما قلنا-، ومنطق التدرج على مراحل.. منطق عدم ارهاق الشعب -كما يزعمون- والواقع عدم ارهاق انفسهم واتباعهم أي عدم ارهاق الطبقة البورجوازية نفسها.. منطق توفير شروط حسنة أو صالحة نسبيا في جزء من الأجزاء على امل ان يتمكن هذا الجزء من تغذية النضال في الاجزاء الاخرى، وهذا ما يقال بصدد استقلال مراكش، وما يقال من قبل هؤلاء الزعماء -الذين لايشك باخلاصهم الى حد ما- انه اذا توافرت لمراكش شروط جيدة فباستطاعتها ان تغذي النضال في الجزائر، من سلاح ومن رجال، ومن تأييد دبلوماسي الخ..

هذه نظرية، طبقت هنا في الشرق، وطبقت ايضا في بلاد اخرى، ولكنها غير مناسبة لهذه المرحلة في رأينا. قد نجد عذرا لرجال الكتلة الوطنية في سورية قبل عشرين سنة او اكثر عندما لجأوا الى اسلوب المفاوضة مع فرنسا، وقد نجد مثل هذا العذر -الخفيف طبعا- لزعماء مصر الذين ارتضوا هذا الاسلوب قبل عشرين سنة واكثر وفاوضوا الانجليز على اساس تعاقد ومعاهدة وغير ذلك، اذ انه قبل ربع قرن كان العالم غير اليوم، وكانت الدول الرأسمالية الغربية في حالة ازدهار وقوة، ولم يكن حتى بصيص امل في انهيار سريع لهذه الدول، وزوال سريع للاستعمار. انجلترا وفرنسا بعد الحرب الاولى خرجتا دولتين جبارتين قويتين بمستعمرات هائلة ومصانع وغير ذلك، والبلاد العربية كانت في حالة اغفاء ونوم، في بدء يقظة لم تتوضح بعد، ولم يشتد ساعدها، اما اليوم فما هو العذر والعالم قد تبدل تبدلا اساسيا؟… ففرنسا طرحت من الصف الاول الى الصف الثاني من الدول وبريطانية نفسها زال الكثير من نفوذها وقوتها ايضا ونشأت في العالم دول برمتها لم تكن موجودة او لم يكن لها شأن قبل ربع قرن: هذا الاتحاد السوفياتي الذي كان مشكوكا في أمره قبل ربع قرن، هل يصمد؟… هل يمكن أن يعيش؟.. فاذا به يعيش ويقوى ويصبح قوة هائلة معدلة للقوى الغربية. وهذه شعوب ودول آسيوية كانت في حكم العدم قبل ثلاثين سنة، مستعبدة محكومة بالحديد والنار، ويستغل اهلها كالعبيد، ومتخلفة في كل نواحي الحياة، واذ بها تتابع نضالها وتستفيد من الظروف العالمية وتتحرر وتبني هذا الاستقلال بناء ايجابيا.

وهذا الوطن العربي الذي كان شبه نائم ومتأخرا جدا قطع اليوم اشوطا في التقدم والتحرر. اذن ما يجب ان يدخل في حساب الزعماء في المغرب هو هذه التبدلات الاساسية التي حصلت في العالم وفي وطننا بالذات، والتي هي في مصلحة الشعوب الثائرة والمطالبة بالتحرر.

ترون الان بأن الحكومة التونسية تحاول ان تعيد النظر في الاتفافية التي عقدتها مع فرنسا، وان تحصل على اشياء جديدة وحقوق جديدة. هل هذا كان ممكنا بدون نضال الجزائر وبدون نضال مراكش؟  كلا. أليس وجود النضال في مراكش والجزائر هو الذي سمح للحكومة التونسية التي كانت تحسب قبل عام أنها حققت معجزة ان ترى اليوم انها ارتضت بشيء هزيل؟

كل يوم يأتي بدليل جديد على فائدة النضال ولو كان مجزءا. وعلى ضرورة توحيد هذا النضال لانه يعطي اضعاف ما يعطيه النضال المجزأ.

آذار 1956

(1) حديث مع طلبة المغرب العربي.


حصيلة مرحلة من النضال

حلف بغداد، وملامح اليقظة العربية: يمكن أن نسمي حلف بغداد هجوما استعماريا دفاعيا لجأت اليه بريطانيا لوقف نمو اليقظة العربية وتدارك نتائجها قبل وقوعها، فصاغت هذا الحلف في تصميمه وبمراميه على نحو يكون فيه لكل وجهة من وجهات الحركة العربية الجديدة وجهة تقابلها فتشوهها او تحرفها او تعطلها.

فاذا كان من ملامح اليقظة العربية انها تسعى للخروج من حالة التخلف الاقتصادي، بتخطيط سياسة اقتصادية تقوم على أسس شعبية تقدمية ثورية، فتوجه معظم الجهود لرفع مستوى العدد الاكبر من ابناء الأمة العربية وتنصب على الأمور الجوهرية كتقوية الدفاع وإنشاء الصناعات الاساسية لتحرير البلاد من التبعية الأجنبية، كل ذلك ضمن منطق الوحدة العربية الذي يرتب عليه ان يكون الاقتصاد العربي متكاملا ومتمما بعضه لبعض ومفتوحا للخطوات التوحيدية ومساعدا عليها، فان حلف بغداد ايضا يحاول ان يقدم انتعاشا مصطنعا متلائما مع المصالح الاستعمارية تشرف عليه الطبقة الرجعية، ومشاريع اعمار يكون نصيب الشعب منها النصيب الذي قد يخدره دون أن يطلق طاقته ويرفع مستواه.

واذا كان من ملامح اليقظة العربية تسليح تضال الشعب بالسلاح المادي وانماء القوة العسكرية كي يتمكن الشعب من نفسه ويزداد ثقة بنجوع نضاله، فحلف بغداد أيضا يمني نفسه الأماني الكاذبة بالقوة العسكرية ويعمد لفصل القوة المسلحة عن نضال الشعب، وبث التناقض والتشكك كي يقيم بينهما توازنا. واذا كانت الحركة العربية الجديدة تهدف الى توحيد الاقطار العربية، ولكن مفهومها للوحدة ان نسيجها هو وحدة نضالية شعبية يكون من ثمراتها الوحدة السياسية، فحلف بغداد يقدم ايضا وحدة هي وحدة الطبقة الرجعية والخونة والعملاء من المحيط الاطلسي الى الخليج العربي، اي وحدة الطبقة المتمسكة بالتجزئة والمستغلة لها والمتآمرة على شخصية الامة العربية ووجودها. فساسة الحلف لا يكتفون بالضغط على سورية والاردن ولبنان لربط هذه الاقطار بحلف يغداد، بل يتصلون ببعض ساسة المغرب العربي ويشجعونهم على ربط المغرب بحلف الاطلسي والتنكر التام للعروبة.

واذا كانت الحركة العربية الجديدة تتجه في المجال الدولي الى اقامة السياسة العربية على اساس استقلال الامة العربية عن سياسة التكتلات الدولية وحياده ودورها الايجابي الخاص بالنسبة الى الانسانية، فحلف بغداد اتخذ هدفا آخر هو الانحياز التام الى المعسكر الغربي بحجة مكافحة الشيوعية، ومقاومة خطر الاتحاد السوفياتي، ولعب على فكرة خطر اسرائيل وضرورة مقاومتها في حين أنه بتبعيته للاستعمار يمكن لاسرائيل ويؤمن وجودها وبقاءها على حساب الوجود العربي.

وأخيرا اذا كانت الحركة العربية تهدف الى وقاية السلام وتدعميه فحلف بغداد تقدم بهدف آخر حين كون اتجاها نحو سياسة المعسكرات والاحلاف العسكرية والحرب. فشل الاستعمار وظفر العرب: ولكن الاستعمار رغم خطته هذه التي ظنها متكافئة لليقظة العربية ورغم ما حرك من فئات من العرب سلحها بمنطق كامل من المغالطات لتزييف اهداف هذه اليقظة وطريقها، فقد فشل في قطرين، سورية والاردن، وصعق امام ثورتين في الجزائر ومصر، فانكمش على نفسه وتحدد عمله بشراء بعض اضمائر واستئجار بعض العملاء والخونة للتخريب والتفرقة وإثارة الفتن، ولم يجد مناصا من تمزيق أقنعته واللجوء الى العدوان السافر فسجل على نفسه فضيحة تاريخية وسجل العرب بمقاومتهم تحولا تاريخيا.

اثر كارثة فلسطين: واذا كان الوعي والنضال العربيان قد فككا هذه الخطة المحكمة واستبانا اغراضها الخفية وهدماها، فان كارثة فلسطين هي التي اعطت أحدهما العمق والنفاذ والآخر الصلابة والتنظيم. فقد حزت الكارثة في الضمير العربي وواجهت الشعب بوجوده ومصيره فكانت منطلقه الى اعادة النظر في التكوين الداخلي لكل قطر وفي نوعية التضامن بين الاقطار العربية وفي تحديد موضع العرب من الانسانية والعالم، وهكذا طرحت على الشعب العربي من أعماق المأساة مشكلات وجوده الموحد وصورة هذا الوجود الاجتماعية الموضوعية وعلاقته بالوجود الانساني، فانبثقت ثورتا مصر والجزائر وارتبطت مصر بالمصير العربي بشكل واع وجدي، وبرزت السياسة المتحررة.

وما كانت كارثة فلسطين لتحدث كل هذا الأثر العميق ولتعطي كل هذه النتائج الايجابية لو لم يسبقها قبل يضع سنوات في سوريا والاردن والعراق ولبنان اتجاه عربي واضح الاهداف قائم علي أسس نظرية ونضالية جديدة، عبر عن وجهة العرب العميقة في هذه المرحلة من تاريخهم وتاريخ الانسانية وهو الاتجاه الذي مثلته حركة البعث، وقد جاءت الكارثة مثالا حيا مؤكدا صحة هذا الاتجاه فأغنته وفتحت امامه سبل امتداده كما كان هو من اهم العوامل التي حولت موقف العرب امامها من ان يكون موقفا سلبيا ينتهي الى التفكك والانحلال الى موقف ايجابي يحيل الكارثة الى مرتقى في طريق النمو العربي.

وحين اكره الاستعمار على الانتقال من معركة السياسة والتآمر للقضاء على اليقظة العربية، الى معركة العدوان السافر على مصر وعلى تمزيق جميع اقنعة الرياء التي كان يلتف بها، وحين اكرهت اسرائيل على ان تنكشف امام العالم بأسره.. وتبدو على حقيقتها اداة للاستعمار وجزءا منه، وكانت معرفتها من قبل مقصورة على الشعب العربي، بل على قسم منه، أتى كل ذلك برهانا على مدى القوة التي بلغها التيار العربي الجديد، ومدى الخطورة التي أحس بها الاستعمار واسرائيل على وجودهما.

واذا كانت ثورية السياسة العربية المتحررة وجرأتها قد جلبتا بعض الخسائر فقد جلبتا ايضا أضعاف هذه الخسائر من المكاسب للقضية العربية، إن بالنسبة للشعب العربي وإن بالنسبة للعالم. لقد كانت المعركة ثمينة وكانت تجربة مصر القاسية ثمينة، وكأنما كان العرب في حاجة الى هذا العدوان، ولقد كان شيئا حيويا بالنسبة اليهم في مرحلتهم الحاضرة.

لقد حسمت المعركة بضربة واحدة سياسة دامت عشرات السنين كلها مساومات وانصاف حلول وكلها تهرب من المعركة الحاسمة، وكلها نضال يقوم به الشعب بعفويته ويفرضه فرضا على الحكام والزعماء، فيثلمونه ويخدرونه ويمنعونه من الوصول الى غاياته.

أما في هذه المرة فقد تعهد قادة الثورة في مصر اتجاهات الشعب العفوية وطاقته النضالية بالتجاوب معها والرعاية والتنظيم فازدادت الاتجاهات وعيا وعمقا ونفاذا وشمولا، واكتسب النضال ثباتا وطمأنينة وكان امتحانا لاستعدادات الشعب تخمرت منذ سنوات، واجتاز قسم من الشعب العربي هذا الامتحان المرير ببطولة.

لقد أتى هذا العدوان برهانا حسيا على صحة الاتجاه الجديد القائم على الشعب، ودور الشعب في المعركة، وسيكون له نتائج ضخمة حين يعمم ما برهن عليه الشعب في مصر على الاقطار العربية جميعا.

وقد ارتدت تجربة الاتجاه الجديد، في الاعتماد على الشعب والاستلهام منه وتنظيم طاقته الثورية، ومصارحته ومشاركته في تخطيط سياسة بلاده وتحمل مسؤولية مصير الوطن، على الشعب ذاته، فاستيقظ الوعي لدى ابعد الطبقات ونفذ الى حيث كان من المستبعد ان ينفذ بسهولة ويسر، وانصب على طريق النضال قوى لم تكن في الحسبان.

كما ان هذا العدوان، والمستوى الذي بلغه الشعب كانا سببا لطرح القضية العربية طرحا واضحا على الرأي العام العالمي، فتحركت كافة القوى الحرة الثورية في اقطار الارض كافة ونهضت للاشتراك بالمعركة. لقد فرض عليها الخروج عن جهلها أو اهمالها او حيادها وشعرت بارتباط مبادئها ومصالحها في المعركة القائمة في ارض العرب. وكان ذلك من المكاسب الكبرى.

وأكد هذا التفهم الانساني والدعم للقضية العربية الاتجاه القومي العربي نحو الانسانية. ففي الواقع، وهذا دليل على سلامة الاتجاه العربي في هذه المرحلة التاريخية، انه في الوقت الذي تفتحت في الشعب العربي أواصر وحدته القومية انكشفت امامه بوضوح وعمق أواصر ارتباطاته الانسانية وبالتالي دوره في التاريخ الانساني، وفي هذا وفي تمتين هذه الصلات الانسانية اكبر ضمانة لسلامة المستقبل العربي.

القومية والانسانية: وليس مستغربا ولا من قبيل المصادفة ان تتضح صلتنا بالانسانية وتقوى في الوقت نفسه الذي تتضح فيه مقومات وحدتنا العربية ويقوي أندفاعنا في طريق تحقيقها. فنحن كلما اقتربنا من انفسنا زاد قربنا من الانسانية، وكلما اطمأننا على شخصيتنا ازدادت هذه الشخصية انفتاحا على الآخرين. وان تجربتنا العميقة القاسية لحاضرنا تؤهلنا لان نفيد من تجارب تاريخنا، ومن تجارب التاريخ كله، ولان نتحاشى الاخطاء والانحرافات في ماضينا وماضي الامم الاخرى، فتربط ربطا مبدئيا حيا بين قوميتنا وانسانيتنا ولا نسمح بأي انقطاع او مسافة بينهما، لانه لن تصل القومية الى الانسانية اذا اعتبرت مبدئيا؟ منفصلة عنها او مرحلة لها، فالانسانية هي في القومية لا قبلها ولا بعدها، وليس ثمة قومية وانسانية، بل قومية انسانية “وهي الصحيحة” وقومية منحرفة مشوهة لانها منفصلة عن الانسانية. وكل ما ظهر في تاريخ القوميات من تعصب واتجاه نحو الاغتصاب والاستعمار انما مرده الى انه سلم فيها بالبدء بانفصال القومية عن الانسانية او بامكان البدء بالقومية وانمائها للوصول في مرحلة أخرى الى الانسانية.

لقد ربح العرب معركة لم تكن هينة كما خسر الاستعمار معركة جدية ولكنها ليست اقسى معاركه ولا آخرها. فما هي العبرة التي حصلنا عليها والتي تفيدنا في تخطيطاتنا المقبلة وفي وعينا ونضالنا لمواجهة المعارك المحتملة دائما وبالتالي في اعداد مستقبلنا؟

لقد برزت قوة مصر في اتجاه عربي سليم وكان ذلك اكبر ظفر للعرب في هذه المرحلة. ولئن استحقت مصر في عهدها الجديد مكان الصدارة في القيادة العربية فلا يجوزان يلقى العبء كله عليها، لاننا نكون كأنما نال الاستعمار على هدفه الذي اذا اصابه بمقتل حل كل مشكلاته في الوطن العربي، ولذلك يجب ان يتحقق في كل قطر عربي ما تحقق في مصر من حيث العمل الداخلي، من رجوع الى الشعب ومصارحته وتأمين حاجاته الاجتماعية وتطهير جبهته الداخلية من الخيانة المرض.

وحدة النضال: كانت المعركة الاخيرة مناسبة لدفع وحدة النضال العربي خطوة جديدة جريئة الى الامام ولكن لا بد من الاعتراف بأننا ما زلنا مقصرين عن الوحدة النضالية المنظمة الخلاقة. فكثيرا ما تستبهم الحدود بين توحيد النضال وتوحيد السياسات الرسمية، ويستعاض عن ذاك بهذا، في حين ان الاصل والاساس هو الاعتماد على نضال الشعب العربي ومن ثم يمكن الاعتماد على السياسات الرسمية، بمقدار ما تتجاوب مع هذا النضال وتتأثر به، وليس توحيد النضال بمجرد تنسيق لاشياء موجودة بل هو خاصة خلق للنضال حيث لا يوجد، تنظيم له ورفع لمستواه حيث يوجد، ثم من بعد ذلك هو تنسيق.

الثقة بالنفس والمبادئ: كانت المعركة الاخيرة مجالا ايضا لظهور الوجه الايجابي الاصيل للحركة الثورية العربية. فبينما كان الكثيرون يخشون على مصر ورجال ثورتها من ردة انهزامية نتيجة لتآمر بعض الحكومات العربية عليها ولضعف تضامن بعض الحكومات الاخرى معها، جاء خطاب الرئيس عبد الناصر على اثر المعركة يؤكد سلامة الاتجاه العربي في مصر وعمقه عندما اعلن ان الشعب العربي في جميع اقطاره تضامن تضامنا فعالا مع مصر العربية وان معركة مصر كانت معركة العروبة. فهو اذن لم يحكم على الشعب العربي من خلال الاوضاع الشاذة التي يفرضها عليه الاستعمار والطبقة الرجعية وهو بهذا الموقف الواثق بالامة العربية وإمكانياتها والمؤمن بالمبادئ الثورية الشعبية، لم يكتف بأن سجل واقعة عن تضامن الشعب العربي مع مصر، بل قوى هذا التضامن وغذاه وفتح امامه مستقبلا لا حد له. وهذا الوجه الايجابي لحركتنا الثورية هو اكثر ما نحتاج اليه في مرحلتنا الجديدة لكي نتجنب المواقف المنفعلة القصيرة النظر، ونبني احكامنا وتصرفاتنا القومية على اساس الثقة والتفاؤل بإمكانيات شعبنا وأصالته.

كما اننا في مرحلتنا الجديدة بحاجة الى هذا الوجه الايجابي الاصيل في موقفنا من العالم. فنحن بعد اليوم مسؤولون عن العالم وسلامة اتجاهه وأوضاعه بقدر ما هو مسؤول عنا. وقد مضى الزمن الذي كنا فيه نكتفي بنقد الدول والامم الاخرى ومحاسبتها على ابتعادها او مناقضتها للمبادئ التي تدعيها، ونثق بهذه المبادئ او نتشكك فيها، بمقدار ما نجد عند الاخرين من انصاف لنا او اجحاف بحقوقنا. فهذه المبادئ لم تعد وقفا على غيرنا، وان تبنينا الايجابي لها سيؤثر حتما في نجاحها وفي تدعيم صف الحرية والعدالة في العالم.

البنيان الداخلي هو الاساس: لقد اصبح واضحا ان العرب حققوا في مختلف اقطارهم خطوة في التقدم، وظاهر هذه الخطوة انها ظفر على الاستعمار وكسب للحرية، اما مادتها الباطنية فهي انها تقدم شعبي داخلي في الفكر والاقتصاد وفي التربية السياسية والتنظيم، ولولا ذلك ما أمكن احراز هذا الانتصار على الاستعمار. فالموضوع اذا دائما هو بنياننا الداخلي، بنياننا القومي، هو دائما انشاء مجتمعنا وبناؤه لأن الاستعمار في الاساس انما نفذ الى مجتمعنا من ثغرات ضعف البنيان الداخلي والتخلف والامراض الاجتماعية. فاذا كان مفروضا علينا دائما ان نكافح الاستعمار، واذا كنا نعلم ان معاركه المقبلة معنا ستكون اقسى واكثر اتساعا من معاركه السابقة، فيجب ان نعلم ايضا ان مادة هذه المعارك ومادة الانتصارات انما هي في سد الثغرات في جبهتنا الداخلية، انما هي في الانشاء والبناء الداخلي. ان علينا كلما ازددنا تقدما في تحررنا الخارجي، ان نزداد جرأة في مواجهة امراضنا الداخلية ومعالجتها. وابرز ما في بنياننا الداخلي الوضع الاجتماعي، فواجبنا ان ننقذه من تناقضاته الجارحة وان نقضي على التفاوت بين الطبقات والاستغلال الطبقي لنوصله الى السلامة والانسجام والازدهار. كما ان هناك امراضا فكرية ونفسية كالعصبيات في مختلف صورها العنصرية والطائفية والعشائرية، والجهل وسواها، يجب ان تحسن مواجهتها بالعلاج الناجع.

لقد ربحنا معركة، فعلينا ان نوجه جزءا من الربح الى داخل البيت لنصلحه، فنكون اشد مناعة وأكثر تهيؤا لمواجهة الاخطار والمعارك المقبلة.

كانون الاول 1956  

 


 

دور معركة الجزائر في نضالنا

مشكلة فرنسا مع الجزائر أعمق مشكلة تعرضت لها فرنسا، وفضحت فيها، وعرف فيها ضعفها واسباب ضعفها، لان مشكلة الجزائر جاءت بعد انتهاء مشكلة الهند الصينية، فلو كان كيان فرنسا ما يزال يملك المقومات الايجابية لكان ينبغي ان تكون اقدر على حل مشكلة الجزائر، بعد ان ارتاحت من عبء الهند الصينية واستعمارها المرهق. ان مشكلة فرنسا مع الجزائر أضخم من مشكلتها مع الهند الصينية، وهي تثير أزمة أعمق وأوسع. ان فرنسا تنظر الى ارض الجزائر خاصة، والى ارض المغرب العربي عامة، على انها امتداد حيوي قريب لارضها، وان حرمانها من هذا الامتداد يهدد حياتها، اقتصاديا وعسكريا الخ.

ورغم ذلك نرى اكثرية الشعب الفرنسي تقف ضد سياسة الحكومات في تشبثها العنيد المصطنع باستعمار المغرب والجزائر، ومعنى هذا انه اصبح هناك تناقض واضح جدا بين مصلحتها القومية التي يمثلها الشعب ويعبر عنها، وبين وضعها الاجتماعي الذي تدافع عنه الحكومات لمصلحة فئات مستثمرة ليس للجزائر فحسب، بل للفرنسيين انفسهم ايضا. نستطيع ان نقول ان فرنسا منذ زمان، والآن خاصة، في حالة تفسخ، وقد يؤدي هذا الى ولادة شيء جديد، وقد لا يؤدي الى شيء من ذلك.

وقد ظهر هذا التفسخ في الحرب الاخيرة، وظهرت في مقابله بقايا الايجابية والحيوية في فرنسا، تمثلت في مقاومة الالمان. وقد ادركت العناصر الموجهة في حركة المقاومة عمق المشكلة التي تعانيها فرنسا، أدركت انها مشكلة أساسية تتناول النظام الاجتماعي كله، وحاولت أن تكون هذه المقاومة مناسبة لنهضة فرنسا على أسس جديدة. ولم تكن هذه العناصر كافية، كما ان العناصر الاخرى غير الثورية دخلت معها، وحدّت من عمق حركتها وشمولها فاقتصرت هذه الحركة آخر الامر على تحرير فرنسا من الاحتلال، وبقيت المشكلة الاساسية معلقة.

ومرة أخرى انتصرت فرنسا انتصارا كاذبا قائما على الغش (لقد كان انتصارها عام 1918 كاذبا، وكان عام 1944 أكذب، فقد قام على مساعدات أجنبية وعلى تغطية للمشاكل الاساسية). وطبيعي ان لا يحول هذا الانتصار المغشوش دون ازدياد المشاكل الداخلية والخارجية.

في بلد كفرنسا يملك هذه الحضارة وهذا الوعي، كل كلمة تقال، وكل موقف يتخذ، تكمن وراءه مصالح حيوية. فموقف احرار الفكر، الى جانب موقف الاحزاب اليسارية، الى جانب تظاهرات الشعب نفسه، ليست مجرد مثالية مجانية، وانما هي تعبر عن مصالح واقعية لهذا الشعب الفرنسي نفسه، وهذه المصالح نفسها تصرخ: يجب ان تستقل الجزائر وان تتخلص فرنسا من الاستعمار، فكأنهم لا يهبون الاستقلال للجزائر بل يطلبون تحررهم من عبء استعمارهم للجزائر، يطلبون التخلص من اوضاع ستؤدي بفرنسا الى الانحلال المحقق. والواقع يرينا ان هذه الفئات الاستعمارية المحصورة بالشركات الرأسمالية والطبقة الاقطاعية تشتري الحكومات والصحافة والجيش نفسه وتتستر وراء الشرف القومي والكرامة الفرنسية والمصلحة القومية وهيبة فرنسا ومستقبلها ولكن هذا كله أصبح بالنسبة الى الشعب الفرنسي مفضوحا ولا يلقى لديه أي صدى.

ان مصالح الشعوب لا تتصادم، فمصلحة الشعب العربي في الجزائر والمغرب تتمشى مع مصلحة الشعب الفرنسي في التحرر من أوضاعه الجائرة. وفي هذا ضمانة لانتصار العرب في المغرب، لان كل امعان من قبل فرنسا في السياسة الاستعمارية، ان كان يوقع ضررا في عرب الجزائر، فهو يوقع في مصالح الشعب الفرنسي اضعاف هذا الضرر مما يؤدي الى ثورة الشعب الفرنسي.

على ان هذه الضمانة ليست بالوحيدة ولا هي الضمانة الأولى او الأهم، فالضمانة الاولى ايجابية لا سلبية، أي هي لا تأتي من ضعف العدو بل من قوة العرب أنفسهم ومن وعيهم لمصالحهم وتفتح امكانياتهم الهائلة التي ظلت خلال زمن طويل مكبوتة ثم حركها الظلم والاستثمار واخذت تتفجر في كل مكان من ارجاء الوطن العربي وتأتلف وتتناسق.

وينبغي ان نشير الى فروق اساسية بين المعركة التي يخوضها العرب في شتى أقطارهم في هذه المرحلة التاريخية، وبين العدوان الاستعماري وما يخفي وراءه وما يعبر عنه. فمعركة العرب معركة ايجابية بكل معنى الكلمة لانفسهم وللعالم، فبمقدار ما يتحررون يحررون العالم، وهي معركة صادقة تنبثق شعاراتها من صميم واقعها، وهي لذلك قوية بالنسبة الى العرب وبالنسبة الى الرأي العام العالمي لانه ليس فيها تزييف ونفاق، وهي معركة رابحة لانها تقوم على الشعب كله وتسير في اتجاه مصلحة الشعوب، شعوب العالم.

وهي اذن معركة انسانية، هي معركة الحضارة والقيم الانسانية والمستقبل، اما معركة الاستعمار فهي نقيض ذلك كله. ومعركة العرب معركة موحدة، توحد العرب انفسهم وتوحدهم مع التاريخ والعصر والشعوب، اما معركة الاستعمار فهي معركة مجزئة، تقسم البلد الاستعماري على نفسه، وتخلق اعمق الازمات بين فئات الشعب الواحد وتفضح تناقضات الوضع المؤدي الى الاستعمار وتعزل الدول الاستعمارية عن شعوب العالم واتجاه الحضارة. وهي كذلك معركة سلبية رغم هجومها الظاهر، فهي تهاجم لتدافع عن بقايا مصالح لم تعد تأتلف مع اتجاه العصر… وهي معركة قاضية، فشعوب الدول الاستعمارية تصبح يوما بعد يوم اقل تحمسا لهذا الحروب الاستعمارية، وهي تنسحب منها انسحابا متزايدا لتقتصر المعركة أخيرا على اصحابها الحقيقيين بدون قناع: الرأسماليين والمغامرين والمرتزقة الذين يستفيدون من الحروب، وعندما تصل الى هذا الحد، تكون قد وصلت الى نهايتها، لأن الحروب الاستعمارية لا تقوم على الاستعماريين وحدهم بل على قدرتهم على خداع شعوبهم، وعلى زجها في تلك الحروب.

ان حدا ادنى من الوعي كان ضروريا ليبدأ العرب نضالهم القومي التحرري ولكن هذا النضال نفسه كان باستمراره واتساعه وتوالده ينمي في الوقت نفسه ذلك الوعي الذي يولد النضال ويرفع مستواه ويكشف عن آفاق جديدة له. وان ما يطلب منا اليوم هو ان نعود فنرفع نضالنا الى مستوى الوعي الجديد الذي خلقه النضال.

لقد كنا قبل عشرات السنين لا نطمع في اكثر من رفع القيود عن انفسنا وعن وطننا معتبرين هذه المرحلة مرحلة سلبية، على هامش حياتنا وتاريخنا على هامش الحياة والتاريخ، منتظرين يوم التحرر الكامل ليدخلنا الى التاريخ.

واليوم ندرك اننا دخلنا التاريخ منذ بدأنا النضال، وان كل قيد حطمناه سواء من قيود الاستعمار أو قيود اوضاعنا، البالية المساعدة للاستعمار، كان في الوقت نفسه قيدا من قيود الانسانية يتحطم وحجرا من احجار المستقبل يرتفع. وان رسالتنا لم تعد ذلك الشيء البعيد الاجل الذي يبتدئ بعد الاستقلال وبعد الوحدة وبعد الثورة الداخلية، بل اننا اخذنا نحيا هذه الرسالة ونؤديها منذ اللحظة التي وعينا فيها انه يجب ان تكون لنا رسالة.

نحن اليوم في قلب التاريخ الانساني، نؤثر فيه اكثر مما نتأثر به، فبقدر ما نهدم من أوضاعنا الاستعمارية والاستثمارية، ونساهم في تحرير الشعوب المستعمرة لنا بقدر ما يكون نضالنا ضد الاستعمار صادقا وشاملا ومعبرا عن تجربتنا القومية التي هي تجربة الانسانية.

كانت عقيدتنا حافزا ومحركا، واليوم حان الوقت لتصبح منهاجا عمليا نعبئ اقصى امكانياتنا لتحقيقه في وعي تام لأهداف نضالنا القومي البناء، فهل قدّرنا الموضع الخطير لمعركة الجزائر من هذا النضال؟

عام 1956


في الحياد الإيجابي

ان حركة البعث ترى انه ليس من مصلحة الامة العربية، في المرحلة الحاضرة من التاريخ، ان ينهار أي من المعسكرين الرأسمالي او الاشتراكي. وهي لهذا قد دعت منذ البداية الى الحياد، وبفعل الزمن والاحداث المحلية والدولية إتخذ هذا الحياد شكله الايجابي القائم الآن لدى عدد كبير من الشعوب الآسيوية والأفريقية. وهذا الحياد الايجابي لا يجد مبرراته في الدواعي السياسية والاقتصادية وحدها، بل يبرره أيضا موقفنا الحضاري وموقفنا من مشكلة الحرية، في الصراع الدولي السياسي والعقائدي المحيط بنا، كما تتجلى آثاره في علاقات اقطارنا بعضها ببعض، وفي علاقات مختلف الفئات داخل كل من هذه الاقطار على حدة، بحيث يمكن القول ان هدف الحياد هو سلم عالمي وسلم داخلي عربي أيضا.

ونقول انه ليس من مصلحة الامة العربية الآن ان ينهار أي من المعسكرين العالميين، لأن انهيار المعسكر الاشتراكي معناه ظفر المعسكر الرأسمالي الاستعماري وزيادة سطوته الاستغلالية على مواردنا وثرواتنا وانتقاصه من سيادتنا. كما ان انهزام المعسكر الرأسمالي يعني بالمقابل اكتساح الفكرة الشيوعية للعالم بما تتضمنه من انكار للقومية والحرية. فمصلحتنا هي في ان يتطور كل من المعسكرين، يتطور المعسكر الرأسمالي نحو الاشتراكية والتنازل عن الاستعمار، ويتطور المعسكر الاشتراكي نحو الحرية في داخل الاتحاد السوفياتي، ونحو الاعتراف بحقوق القوميات الاخرى في اختيار طريق تحقيقها للاشتراكية في خارجه، ولن ينفسح المجال لتحقيق هذا التطور بشقيه الا اذا امتنعت الحرب .

وقيام جبهة كبيرة من شعوب العالم بسياسة الحياد، أي برفض انهيار احد المعسكرين سريعا هو رفض للحرب واعتراف بضرورة السلم. وان النجاح الذي حققته سياسة الحياد حتى الآن هو دليل واضح على وجود نقص أساسي وخطر كبير في سياسة المعسكرات والانقسام المذهبي الضيق، إذ لو كان احد المعسكرين العالميين محقا في دعوته وسياسته لما وقف قسم كبير من العالم خارج هذا الصراع لا يرى فيه مشروعية ولا مصلحة. فسياسة الحياد تعني الحكم على كلا الطرفين بالخطأ، وان كان ذلك لا يشترط تساوي الخطأ ولا تساوي الضرر. وكون هذا الحياد (إيجابيا) يعني ان هذا القسم غير الصغير من العالم الذي اخذ بالحياد لا يكتفي بسلبية الرفض والتنصل من الخطأ وإنما يأتي بحل جديد. وبهذا المعنى تصبح فكرة الحياد الايجابي اشمل من عدد الشعوب الآسيوية والافريقية، وأعمق من المستوى السياسي البحت الذي يعبر به عادة عنها. فالحياد الايجابي -بمعنى التطلع الى موقف جديد شامل- يرتفع فوق ذلك التضاد بين الاشتراكية والرأسمالية، ويتعمق في المشكلات الإنسانية والعلاقات الدولية اكثر من ذي قبل، مستفيدا من جميع التطورات والتبدلات التي تمت منذ وضعت نظرية التضاد هذه، وخاصة منذ تبلور الانقسام والصراع بين المعسكرين الغربي والشرقي. وبالتالي، فإن هذا الموقف الجديد يشترط التحرر التام من كل نظرة مذهبية بغية اعادة النظر في جميع النظريات والمذاهب وفي الخطط والاساليب المستمدة منها، كما يتطلب توفير الجو والشروط التي تسمح بالتخلص النهائي من منطق الصراع بين هذه النظريات بشكل واقعي سلمي.

والفهم الدقيق لسياسة الحياد يقتضيها ان تتوافق مع المراحل الطبيعية الضرورية لنضج النضال القومي في كل نواحيه. واذا كان اول واجباتنا أن نعبئ كل القوى الممكنة لانهاء الاستعمار وتحقيق الاشتراكية في أسرع وقت، فأن هذه السرعة ليست غاية في ذاتها ، ولا يجوز ان ندفع ثمنا لها الارتماء في المعسكر الشرقي، مستعينين بقوة مصطنعة خارجة عنا، وهي بالتالي تحمل بذور أخطار جديدة علينا، ومتجاهلين ضرورة نضج الشعب في نضاله، هذا النضج الذي يضمن له وحده النضج في حماية مكاسبه. ان  انضمامنا للمعسكر الشرقي قد يكون هو أقصر الطرق الى التخلص من الاستعمار، لكننا نضحي بالطريق الأقصر لكي نصل في النهاية الى الحل الافضل: التخلص من الاستعمار، والحرية في الداخل، وممارسة كل حقوقنا القومية. وهذا المنطق يؤدي بنا الى ان الموقف الوحيد السليم الذي يجب علينا التزامه في هذه المرحلة هو موقف الحياد الايجابى .


وموقف الحياد الايجابي هو ايضا موقف حضاري جديد وخلاق بين الحضارتين المتصارعتين لا يتبنى تبنيا كليا لا القيم الشرقية ولا الغربية. ولا يقبل التعصب الاعمى لمذهب معين، ولا العداء الأعمى لنظام او فلسفة معينة. وموقفنا من الحرية هو ايضا موقف الحياد الايجابي بين المعسكرين لقد أفرغ الغرب الحرية من محتواها حتى امست عنوانا اجوف لا مضمون له، وجاء موقف الشرق في الواقع كرد فعل لتزييف الحرية في الغرب، فنفى الحرية نفيا كليا. أما نحن فنرى أن الجواب على تزييف الحرية لا يكون بالاستغناء عنها، وانما بتطبيقها تطبيقا صادقا. ان ما يزعم انه معركة الحرية بين الغرب والشرق هو في الواقع ضد الحرية، لأن الحرية واستئصال الخصم لا يجتمعان. ولقد رأينا الحرية تستيقظ في المعسكر الشرقي حين خف ضغط الغرب عليه، فلما عاود الغرب ضغطه وتهديده، عادت قوى الحرية فانكمشت من جديد، كما حدث في المجر مثلاً، فالعدوان الاستعماري الغربي هو الذي أوقف حركة التحرر في أوروبا الشرقية وكان ممكنا ان تنمو وتصبح حركة سليمة ايجابية.

وبالتالي، من هذه الزاوية أيضا، يبرز اثر ايجابية الحياد على الصعيد الانساني. فهي في الواقع لا تهدف الى مجرد تأمين مصلحة الشعوب القائمة بهذه السياسة، بل تتجاوزها الى تأمين مصلحة شعوب المعسكرين المتناحرين ايضا. فهي، من جهة، تتيح لحكومات المعسكر الشرقي مجال تصحيح موقفها من شعوبها بالاتجاه نحو الحرية، ومن جهة اخرى تعمل، بانسجامها مع مصلحة الشعوب الغربية نفسها، على ان تزداد الهوة القائمة بين هذه الشعوب وبين حكوماتها الرأسمالية الاستعمارية، لتدفعها تدريجيا الى الاشتراكية، والى طرح الاستعمار والاعتراف بحقوق الشعوب وسيادتها. وسياسة الحياد لا تعني رفض التعامل مع الغرب، بل رفض احتكار الغرب لهذا التعامل، وتقبل بالتعامل مع الغرب والشرق على السواء، تحقيقا لمصلحة شعوبهما ومصلحتنا في وقت واحد .

من هذا كله، يتبين ان مهمة الحياد الايجابي هي منع انفجار الصراع بين الديمقراطية بمعناها العميق الشامل وبين العدالة الاجتماعية في صورتها الاشتراكية الكاملة. ان كلا المعسكرين يراهن على المستقبل، المعسكر الغربي يقول ان الديمقراطية اذا روعيت بشكلها الكامل تضمن في النهاية تحقيق العدالة الاجتماعية، والمعسكر الشرقي يؤمن بأن تحقيق العدالة الاجتماعية هو الذي سيؤدي في نهاية الامر الى الديمقراطية الصحيحة. وكلا المعسكرين بالتالي، يعترف بافتقاره الى تصحيح أوضاعه، ولكنه لا يسلك السبيل الى ذلك، بل يحاول تسويف هذا التصحيح إلى ما بعد القضاء على المعسكر الآخر، أي انه ينفي الضمانة الكبرى لهذا التصحيح.  أما الحياد الايجابي فيدعو الى ان يتم هذا التصحيح الآن لا في المستقبل، أي أن يصحح المعسكر الشرقي نفسه مع وجود الغرب، متطورا نحو الحرية، وان يصحح الغرب نفسه مع وجود الشيوعية، متطورا نحو الاشتراكية وتصفية الاستعمار. وهكذا يرد الحياد الايجابي سياسة الإحراج أي إحراج الدول غير المنضمة الى احد المعسكرين بدعوى انه يجب القضاء على العدو قبل أن يصحح كلاهما خطأه- هذه السياسة التي يتضمنها منطق التناحر بين المعسكرين، ويتيح فرصة لكل منهما للتصحيح، ويحول دون دخولهما في معركة، ويضمن السلم للعالم .

وكذلك في داخل بلادنا تضمن سياسة الحياد السلم. ذلك ان الحياد هو السياسة التي تسمح للفئات التي لا تقاوم الاستعمار مقاومة عنيفة أن تنضم الى النضال الشعبي، اذ من الصعب على هذه الفئات أن تظهر رفضها لسياسة تحارب التبعية والاستعمار، وان كانت لا تخلص حقا لهذه السياسة بسبب الارتباط الوثيق بين السياسة التحررية وبين تصفية المصالح الاقتصادية لهذه الفئات، ولأن التحرر من الاستعمار يؤدي بطبيعته الى التحرر الاجتماعي في الداخل والى القضاء على امتيازات هذه الفئات. أما لو تخلينا عن سياسة الحياد هذه وقلنا بالانحياز الى الشرق لتعجيل التحرر، فان تلك الفئات الرجعية ستنحاز صراحة الى صف الاستعمار وتحارب في صفه، ومن ثم تكون الحرب الأهلية في الداخل. وواقع الامر أننا الآن في مرحلة تقتضي تركيز الجهود للتحرر من الاستعمار، وان رافق ذلك جهد معتدل نسبيا للتحرر الداخلي والتوحيد القومي، فيجب اذن ان نستفيد من كل قوانا الممكنة في المعركة، حتى ولو كانت بعض هذه القوى غير مخلصة كل الاخلاص في مساهمتها، دون ان يمنعنا ذلك -خلال الطريق- من ان ننتزع من هذه الفئات بعض الامتيازات ومن ان نحقق بعض الكسب في مجال الوحدة القومية لضمان تقوية نضال الشعب وتحرره.

ومن هنا، يظهر خطأ موقف الشيوعيين العرب من الحياد، اذ يرون فيه كسبا دون ان يروا فيه الكفاية، متخذين في ذلك موقفا هو في الواقع رد فعل يكشف عن ضعف ثقتهم بأمتهم. فكما كانوا في الماضي يعادون القومية والوحدة لانهم لم يكونوا يؤمنون بإمكان قيام فكرة قومية او دعوة للوحدة غير رجعية، كذلك تراهم الآن لا يكتفون بالحياد للصمود في وجه الاستعمار، بل يبدون من طرف خفي انحيازهم للمعسكر الشرقي، وموقفهم في الحالين موقف رد فعل لموقف الرجعيين وعملاء الاستعمار، ولا يحاولون السمو عنه الى موقف استقلالي أصيل. ان هذا الموقف الأصيل هو الحياد، الذي يحقق السلم الداخلي حين لا يستبق المراحل في النضال ولا يفتح الباب لحرب اهلية في كل قطر من اقطارنا، كما انه ييسر تعاون هذه الاقطار بعضها مع بعض. فالوطن العربي يضم اقطاراً متحررة واخرى غير متحررة، أقطارا بلغ فيها الوعي الشعبي حدا أوصل معه الى الحكم او فرض على رجال الحكم عناصر تقاوم الاستعمار، واقطارا اخرى ما تزال حكوماتها لا تقبل هذه السياسة التحررية لان الشعب فيها لم يبلغ بعد المستوى اللازم من النضج النضالي ولان شروط النضال والتنظيم فيها عسيرة، وسياسة الحياد تتيح لهذه الاقطار المتخلفة ان ينضج فيها هذا النضال حتى تتساوى مع الاقطار الاسبق، ونحن نرى اليوم فائدة هذه السياسة. اذاً بالرغم من ان بعض حكوماتنا تنحاز صراحة الى الغرب، وبعضها ينحاز اليه انحيازا خجولا يحاول ان يجد له المبررات، فان سياسة الحياد هي التي تجعل هذا الانحياز بهذا التردد وهذا الخجل، وتضغط على الحكومات كي تستجيب للشعب في الانفكاك عن الاستعمار والعمل للتحرر.

القاهرة، آذار 1957


الشعب العربي الواحد

كان الأستاذ ميشيل عفلق قد اجتمع في القاهرة سنة 1957 بعدد كبير من الطلبة والمثقفين العرب، بينهم القوميون والماركسيون وغيرهم وقد عكس هذا الاجتماع التيارات الفكرية والسياسية التي كانت تشغل أذهان المثقفين العرب في تلك الفترة المضطربة والمحفوفة بالاخطار، والتي كانت في الوقت نفسه، تمثل اعلى درجات الوعي العربي الجماهيري والمد الشعبي التحرري الواسع ضد الاستعمار كما عكس ذلك الاجتماع. بصورة خاصة، تطلع المثقفين من ابناء القطر المصري لتفهم القومية العربية وشعاراتها التي كانوا يواجهونها لاول مرة بشكل عقيدة لها منطق ولها فلسفة سيما وهم يعيشون مرحلة ثورية ونضالية ضخمة اثناء معركة تاميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر لمسوا من خلالها اهمية هذه الافكار، حتى قبل ان يستوعبوها بشكل علمي.

 لذلك اراد الاستاذ ميشيل ان ياخذ الحديث في ذلك الاجتماع طابع الحوار، فيستمع الى تساؤلاتهم ومن ثم يوضح لهم رأي الحزب فيها فكان هذا الحديث الشامل

سؤال: ما رأيكم فيما يقوله البعض من ان القومية ليست الا شعار النضال العربي المشترك؟

الواقع الذي لا ينكر ان القومية العربية قد استفادت كثيرا من النضال العربي المشترك ضد الاستعمار، ولكن ليس معنى هذا ان القومية هي شعار هذا النضال المشترك، بل الاصح ان يقال ان النضال ضد الاستعمار هو احد شعارات القومية العربية في المرحلة الحاضرة. وذلك لان هذه القومية كانت ابدا موجودة، وان اختلفت وضوحا وضعفا، وكانت ابدا تتمتع بالحد الادنى من المقومات الضرورية التي كونتها اللغة والدين والتراث، وهي الآن ترتفع فوق هذه المقومات جميعا لتزداد حياة وانسانية.

سؤال: ما رأيكم في قول البعض بان العالم صائر يوما الى وحدة واحدة، تندمج فيها القوميات وتنصهر في بوتقة واحدة؟

ان هذه الوحدة قد تتم، وفي ظروف قد لا تكون بعيدة، اذا قصد بها ان تكون تنظيما دوليا او مجرد شكل للحكم. ولكن هذا التنظيم لا يكون حيا ولا يمكن ان يستمر اذا قصد به ان يؤلف شخصية واحدة تمحو الشخصيات القومية، بدلا من ان تكون تنسيقا لها يزيدها تفاعلا وغنى. ولذلك نقول ان القومية باقية خالدة، تظل ذات شخصية حية ومقومات، ولو ان هذه المقومات كما حدث في الماضي، يمكن دائما ان تتطور كما يمكن ان تتبدل وتتشتت ولكنها على اية حال تظل باقية لا تزول.

والواقع ان من الخطأ وضع القومية والانسانية كمراحل ترتيب زمني. ان الانسانية موجودة وجود القومية، وهي الآن تزداد غنى بتيسر وسائل الاتصال بين البشر، ولكنها لا تذيب القوميات في وحدة تأتي بعدها، بل تغنيها بتفاعلها المستمر، فبدلا من ان نقول ان عهد القوميات سائر الى الزوال ليفسح المجال امام عهد الانسانية، يصح ان نقول اننا قد بدأنا فعلا في عهد “القوميات الانسانية”، الذي تصبح فيه القومية انسانية بتخلصها من تعصبها وانكماشها وعواملها السلبية الأخرى.

سؤال: لماذا يصر حزب البعث على القول “بشعب عربى واحد” ويتجنب دوما استعمال عبارة “الشعوب العربية”؟

من الخطأ الظن بان هذه المجموعات من الناس التي تعيش ما بين المحيط الاطلسي والخليج العربي والتي يجمعها الشعور بوحدة المصير، هي شعوب لكل منها المقومات التي تميزه بقومية خاصة، الا اذا اخذت كلمة “الشعب” في اصلها اللغوي الذي يعطيها معنى الفرع في جسم الامة، بمعنى ان له بعض المميزات المحلية التي يفرضها تنوع الأقاليم والبيئات والظروف في اطار الوحدة العامة. واذ ذاك نقول الشعب المصري والشعب السوري بما يقارب المعنى الذي نقول به شعب الاسكندرية وشعب اسيوط، اما اذا قصدنا بالشعب معناه القومي الكامل فكل هذه المجموعات اجزاء في شعب واحد هو الشعب العربي.

وان اكثر الاقطار التي تؤلف الوطن العربي اليوم كانت حتى قبل الفتح العربي، وبرغم الطابع المحلي لكل منها، تؤلف شخصية حضارية واحدة تتغذى بالتيارات الحضارية التي تمر بها، فتغتني بها دون ان تفقد مقومات هذه الشخصية. وقد كانت مهمة الفتح العربي ان زاد شخصيتها هذه قوة ووحدة فظلت حية مستمرة حتى الان، ويكمن فيها تراث كل الحضارات التي سبقتها. ونحن لا نحارب تراث الحضارات المختلفة في قوميتنا ولا نحاول ان نحاربه، بل بالعكس يهمنا ان تغتني به عروبتنا، تماما كما يهمنا ان نتفاعل الان مع حضارات الشعوب الاخرى في العالم.

ولو صح ان كل مرحلة حضارية مرت في بلادنا يجب ان تبعث وان يعترف لها بقومية خاصة لتعددت هذه “القوميات” في كل قطر من اقطارنا، لا في مجموعة هذه الاقطار فحسب. مع ان الواقع ان كلا من هذه الحضارات الفرعونية او الآشورية او الفينيقية قد أدت مهمتها التاريخية في حينها، وما ظل من تراثها له القدرة على الاستمرار فقد ساهم في اغناء القومية العربية واصبح جزءا من مقوماتها.

سؤال: ما هو موقفكم من الفئات التي اخذت اخيرا ترفع شعارات القومية العربية؟

ان تبنّي مختلف الفئات للشعارات العربية التي ينادي بها البعث لدليل على قوة العقيدة القومية، اذ بعد ان كانت تهاجم ويشكك فيها، اثبتت الاحداث عمق تجاوبها مع الشعب العربي، وفرضت نفسها حتى على اولئك الذين لا يؤمنون بها كشيء ثابت ونهائي، وان كانوا يقرونها الان. وهذا بالطبع كسب يجب ان يلقي منا التشجيع وان يزيدنا ثقة بسلامة عقيدتنا.

على ان نجاح الفكرة القومية وانتشارها هذين لا يعفيان معتنقيها الاصليين من متابعة العمل والنضال لزيادتها توضيحا وتعميقا وترسيخا، لانهم بصورة طبيعية اقدر على ذلك من الجماعات الاخرى. فهذا الفارق بين حمل الفكرة يوم كان حملها ثورة على الواقع وتحديا له، وبين تبني الفكرة نفسها بعد ان راجت وتم نجاحها، لا بد ان تكون له آثار عملية في المرحلة الحاضرة بالذات وفي المستقبل، حتى عندما نسلم بصدق مقاصد الذين اخذوا يتبنونها، لما يعتور هذا التبني من سطحية وأخطاء.

فنحن اذن نرحب بان ترفع الفئات الاخرى شعاراتنا ولكن على حذر وتحفظ، يضمنان ان تحتفظ الفكرة القومية باصالتها وبكل طاقتها الثورية. اذ لو اكتفى الناس بتبني نتائج الثورة دون ان يصعدوا الى اسبابها ومقدماتها واسسها، لكانت معرضة دوما للانتكاس او للتخلي عنها في حال تبدل الظروف. فما نقصده بالحذر والتحفظ انما هو الاصرار والالحاح، في المجال الفكري العقائدي، على ربط النتائج بالمقدمات لنرتفع بالشعارات القومية العربية من مستوى الاستهلاك السياسي الى مستوى القناعة.

سؤال: ما هي علاقة الوحدة العربية بالقومية العربية ؟

ان الوحدة العربية ليست هي القومية العربية كما يشعر بذلك التعبير المتداول الان، بل هي جزء من محتوى هذه القومية في مرحلة من المراحل، فالنظرية القومية للفكرة العربية في هذه المرحلة تقوم على تحقيق الاهداف الثورية الثلاثة: الحرية والوحدة والاشتراكية. النظرية القومية تنشأ في مرحلة لتحقق اشياء مفقودة في حياة الأمة العربية في هذه المرحلة، اما القومية العربية نفسها فهي ابدا موجودة قائمة.. ووجودها هو الذي يسمح بتحقيق الحرية والاشتراكية والوحدة.

ولقد كانت الوحدة مطلبا للامة العربية منذ ان طرأت عليها التجزئة، فالبعث لم يخلق مطلب او هدف الوحدة ولكنه اعطاه مفهوما جديدا جعله قابلا للتحقيق. فالوحدة في نظر البعث فكرة ثورية وعمل ثوري، خلافا للمفهوم الذي كان سائدا والذي لم تزل آثاره ممتدة الى اليوم والذي يعني مجرد الجمع والربط بين اجزاء الوطن العربي، اما المفهوم الثوري فيعني خلق التفكير والنضال المناقضين لحالة التجزئة ولما اورثته واصطنعته التجزئة من عقلية وعواطف ومصالح واوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية داخل كل قطر من اقطار الأمة.

وهكذا تتصل الوحدة، بمفهومها الثوري، بالهدفين الثوريين الآخرين: الحرية والاشتراكية، وتتفاعل معهما وتغذيهما وتتغذى منهما. وهكذا تدخل الوحدة لاول مرة منذ اجيال في صميم حياة الشعب العربي وفي صميم نضاله من اجل حريته واستقلاله ومن اجل حقوقه السياسية وقوته اليومي والشروط الاقتصادية والاجتماعية المحققة لكرامته الانسانية ولمهمته القومية.

فالوحدة العربية هي وحدة الشعب العربي، والنضال في سبيلها نضال شعبي، وصورتها المقبلة تولد وتتحد بما يحمل نضال الجماهير العربية من تجارب ومعان تحررية انسانية.

سؤال: ما اثر الوحدة في الخصائص الاقليمية لكل قطر عربي؟

الوحدة ثورة تأتي لتزيل التشويه وتغير الواقع وتكشف عن الاعماق وتطلق القوى الحبيسة والنظرة السليمة. والخصائص الاقليمية منها السليم ومنها الزائف السلبي الذي ليس هو الا نتيجة انعدام الوحدة. فليس كل شيء في واقعنا جديرا بالبقاء لمجرد انه موجود. اما السليم الايجابي فهو الذي يغني الوحدة ويأتلف معها بل هو شرط لوجودها. والغريب ان تعطى الوحدة العالمية من الحقوق ما ينكر على الوحدة القومية. فالوحدة العالمية هي ايضا تفترض التخلص من الخصائص السلبية الزائفة بعملية تقريب وتوحيد وتوجيه، كما انها تتسع للخصائص السليمة وتغنى بها. والاغرب من كل شيء ان نسمع استنكارا للعمومية ممن اوصلوا العمومية الى نهايتها المجردة وان نراهم يخافون على الخصائص الصغيرة وهم اتباع النظرية التي تضرب صفحا حتى عن الخصائص الضخمة الجسيمة. الا يكون هذا لكي يبقى الكيان القومي ضعيفا حتى يسهل غزوه بفكرة الاممية الطبقية، وهل يكون اذن هذا الحرص على الخصائص الصغيرة بريئا ومقصودا لذاته؟

اذن، فلا يجور ان نتصور الوحدة كعملية جمع منفعل، لانها ليست وحدة لاجزاء سليمة، ولا نتيجة لتجزئة حديثة طارئة. انها فاعلة خلاقة فيما بين الاجزاء وفي داخل كل جزء، وهي منبعثة من داخل كل جزء كضرورة حيوية لهذا الجزء نفسه، قبل ان تكون مطروحة بشكل علاقة بين الاجزاء للتعاون والتضامن. الوحدة لا تفقد الجزء شخصيته، بل تؤكدها وتعمقها وتعطيها حقيقتها واصالتها وابداعها عندما تضع الجزء في مكانة الحي كجزء من كل.

سؤال: ما موقف “البعث” من اسرائيل؟

اننا نعتبر اسرائيل قاعدة للاستعمار دون شك، فهو الذي خلقها ويدافع عنها ويغذيها لهذه الغاية، ولكن هذا لا يستنفد كل المشكلة، فالمشكلة هي هذا واكثر.

فاسرائيل هي ايضا تعبير عن قوة الصهيونية العالمية، التي تستطيع ان تسخّر الاستعمار. الاستعمار يسخّر اسرائيل، ولكن الصهيونية العالمية تستطيع ان تسخّر الاستعمار نفسه، فتوصّل العرب الى القضاء على الاستعمار يحل اضخم جزء من المشكلة ولكن لا يحلها كلها. وبالاصح، هذا التوصل الى القضاء على الاستعمار يشترط حتى يتحقق ان نحسب حسابا لقوة الصهيونية العالمية، وبالتالي فان نضالا آخر يجب ان يرافق نضالنا ضد الاستعمار، هو نضالنا ضد الصهيونية. والصهيونية العالمية بما لها من نفوذ قوي استطاعت ان تسخّر بالاضافة الى القوة الاستعمارية، الطبقات الشعبية نفسها في كثير من البلاد، مستغلة الوضع التاريخي الخاص لوجود يهود في اوروبا تعرضوا في فترات كثيرة للاضطهاد الديني والعنصري، ومستغلة المستوى الحديث الراقي لدولة اسرائيل من حيث الكفاءة الفنية، وبالتالي تخلف المجتمع العربي وطابعه الرجعي، لتجعل من اسرائيل رائدة التقدم في هذه المنطقة من العالم وتجربة جديدة لحضارة الغرب في هذا الجزء من الشرق، تجربة تستحق الرعاية والتشجيع.

ووجود اسرائيل واقع في مرحلتنا القومية الحاضرة، يجب ان ندخله في حسابنا وان نجد له الحل الكامل دون ان نتهرب من بعض المصاعب، ودون ان نتهيب رؤية العلاقة العميقة التي تصل وجود اسرائيل بمشكلاتنا القومية من جميع نواحيها، اي فيما يتعلق بأسس نظامنا الاقتصادي واتجاهنا الاجتماعي وتربيتنا السياسية ووحدتنا القومية، وان نرى بوضوح وجرأة ان كل تلكؤ في مواجهة مشاكلنا السياسية ووحدتنا القومية، بتفكير واسلوب ثوريين انقلابيين، قد لا يؤخر حل مشكلة اسرائيل فحسب، بل يسمح بتدعيم كيانها الى حد يصعب او يتعذر معه في المستقبل التخلص من هذا الخطر. فاذا عالجنا مشكلة اسرائيل على ضوء نظرتنا العربية الانقلابية، التي ترتبط فيها صورة المجتمع العربي المقبل بصورة العالم او المجتمع الدولي والانساني المقبل الذي يسهم العرب في تحقيقه، نصل الى النتيجة الآتية:

ان ما يشكل خطرا على الأمة العربية هو كيان اسرائيل كدولة، لا وجود اقلية يهودية في الوطن العربي، وان التعجيل في النضال التحرري والوحدوي وتحقيق خطوات سريعة وجدية في هذين المجالين يقطع الطريق على اطماع الاستعمار في استخدام اسرائيل، واطماع الصهيونية العالمية في استخدام الاستعمار للمحافظة على اسرائيل وتوسيعها، والتعجيل في النضال الاشتراكي العربي يضعف مخاوف الاقلية اليهودية من تعذر تعايشها السلمي العادل مع العرب، كما يزيل او يضعف سلاح الدعاية الصهيونية العالمية في استدرار عطف الشعوب الحرة والطبقات الشعبية على اسرائيل كدولة يراد لها ان تكون ملجأ لشعب مضطهد ولشعب راق متقدم قد يحمل بذور التقدم الى الاقطار المجاورة. واخيرا، فان اصرار العرب على اتجاههم الانساني في المجال الدولي، وتعاونهم مع الشعوب الاخرى في سبيل توطيد السلم والتقدم الاشتراكي لجميع الشعوب وسياسة الحياد الايجابي، كل هذا يساهم في ازالة اسباب التعصب العنصري والديني ويساهم الى حد ما في حل هذه المشكلة.

سؤال: ما هي العلاقة بين اسرائيل والاستعمار؟

لم يكن وجود الصهيونية كافيا لكي ينجح الصهيونيون في استملاك فلسطين واقامة دولة فيها. و الحركة الصهيونية في البدء لم يكن هدفها فلسطين. كانت تفتش عن اي ارض في العالم تقيم عليها وطنا قوميا يهوديا. ولكن الحركة الصهيونية من جهة ومصلحة الاستعمار من جهة… وتلاقي المصلحتين هو الذي ساعد على خلق هذه الدولة. والمفهوم بداهة بان مساعدة الدول الاستعمارية للحركة الصهيونية على تحقيق اغراضها في فلسطين يقصد منه الحيلولة دون الوحدة العربية، والحيلولة دون قوة الأمة العربية. ان استكمال هذه القوة يشكل خطرا على وجود الاستعمار. فعندما يتمكن اليهود من اقامة دولة في قلب البلاد العربية تساعدها الدول الاستعمارية باستمرار، ينشغل العرب بهذا العدو ويبذلون قسما كبيرا من جهودهم في دفع خطر هذا العدو وفي الاستعداد لمواجهة خطره، كما ان نفسيتهم وتفكيرهم يمكن ان يشغل عن الاستعمار بهذا العدو الظاهر المقيم. وتعرفون كيف ان بريطانيا نفسها كانت، واحسب انها مازالت الى اليوم والى الغد، تحاول ان تظهر بوجهين وان تلعب على الحبلين، فهي التي اوجدت اسرائيل وتدعو الى مقاومة اسرائيل وتتكلم كانها عربية قحطانية تغار على العروبة، وتتحالف مع بعض الدول العربية بحجة الدفاع ضد الخطر الاسرائيلي او بحجة التخلص من اسرائيل. فلم نكن مخطئين اذن عندما وضعنا دوما العدو الاول هو الاستعمار، واعتبرنا اسرائيل نتيجة للاستعمار وحليفة له وربيبة له، وان مصيرها مرتبط بمصيره. ولكن لا حاجة الى تنبيهكم بان هذا لا يجوز ان يؤخذ بالشكل الحرفي وان تظنوا ان اسرائيل تأتمر بالاستعمار بكل شيء، هي حليفة للاستعمار ولكنها ليست اداة بالمعنى العادي… لها كيانها، ولها خططها ولها مصالحها ولها قوتها وذكاؤها وسياستها. اذن هي احيانا تورط الدول الاستعمارية، واحيانا اخرى الدول الاستعمارية تدفعها.

اشرت الى هذا لكي ابين لكم انها تضليل الدعايات الاستعمارية، ودعايات عملاء الاستعمار والفئات الرجعية التي تتبنى منطق الاستعمار، لانها اصبحت تعي صلتها بالاستعمار وان مصلحتها رهن ببقاء الاستعمار. ففي هذه الاشهر الاخيرة فقط، اذا اكتفينا بها، كنا نرى صحفا كثيرة في هذا البلد وفي بلدان عربية اخرى مسيرة مباشرة او بصورة غير مباشرة من الاستعمار، ومن الانكليز بصورة خاصة، كلما قامت حركة شعبية، كلما قام نضال في بلاد العرب في وجه الاستعمار الغربي، قامت هذه الدعايات وهذه الفئات والاوساط تصرح بانكم نسيتم العدو الاول للعرب، اسرائيل، وان كل الانتباه يجب ان يركز عليها وان كل الجهود يجب ان تصرف لمقاومتها. وتعرفون ايضا بانهم حاولوا كثيرا ان يظهروا حلف بغداد بان مبرره الاول والاكبر انه وجد ليساعد على محو اسرائيل وعلى التخلص منها، وان بواسطته سيحصل العراق على الاسلحة، وتقوى الجيوش العربية. وكان هذا تناقضا مفضوحا، واستمروا الى الايام الاخيرة في هذه الدعاية حتى ان الاوساط الانهزامية في لبنان، وهي معروفة بجفائها لكل ما هو عربي وبعقليتها الطائفية المتعصبة، وبصلاتها المشبوهة مع دول الغرب، قد شاركت فيها. عندما نشأت ازمة قناة السويس سمعنا اصوات هذه الفئات تذوب غيرة علي فلسطين وتتوعد اسرائيل وتكثر من الكلام والكتابة عن اسرائيل وخطرها على العرب والعروبة، لكي تلهي الناس عن الخطر الحقيقي وعن موضوع الساعة.

سؤال: ما هو موقفكم من الاحلاف ومبدأ ايزنهاور؟

قبل ظهور السياسة التحررية، كان منطق السياسيين العرب في موضوع الاحلاف لا يعترض الا على عدم تسليم الغرب بمطالب العرب القومية، اي انه كان يقبل بمبدأ الاحلاف قبولا مشروطا بتحقيق الاهداف القومية. وكان هذا منطقا متناقضا متهافتا، اذ لو كانت دول الغرب مستعدة للتسليم بهذه الاهداف ولتحقيقها اي مستعدة للتنازل عن الاستعمار، لتغير الوضع العالمي تغيرا اساسيا أثر بصورة عميقة على موقف المعسكر الشرقي، ولما عاد ثمة مبرر للاحلاف.

اما نحن فنرى في هذه الاحلاف عدوانا جديدا على العرب، عدوانا مزدوجا، لانها اولا استمرار لاستعمار العرب، يثبت قبضته عليهم ويعاود احتلال ما تحرر من اقطارهم وينهب خيراتها، ويعرقل وحدتها ونهضتها. ولانها ثانيا تتحكم برأي العرب في السياسة الدولية وفي النظرة الى مستقبل العالم، اذ تدعوهم للتحالف مع الغرب ضد عدو مشترك، مع انه ليس من شيء يبرر اقتداء العرب بالغرب في النظر الى المعسكر الشرقي وان كانوا لا يقبلون الشيوعية. وهكذا ينبع رفضنا للاحلاف من نظرة اعمق واسلم واكثر ايجابية، فهو يشير دون مواربة الى ان عدونا الحقيقي هو الاستعمار، ويقضي بتركيز كل الجهود لمحاربة الاحلاف. فالاستعمار سبب الاحلاف وليس عقبة بيننا وبينها، وبصورة اخرى نقول ان الاحلاف هي الاستعمار ذاته لانها في حقيقتها لا تتوخى تحقيق شيء بعد مرحلة الاستعمار او شيء يتجاوز علاقتنا مع الاستعمار الى هدف عالمي انساني.

اما النظرة العالمية الانسانية فهي في موقف العرب من الاحلاف: انهم في حرصهم على حريتهم واستقلالهم ووحدتهم، ونضالهم في سبيل هذه الاهداف، انما ينظرون الى مستقبل العالم من خلال نظرتهم الى مستقبلهم هم كما يريدونه. ففي عالم يكون فيه العرب امة حرة مستقلة موحدة، ومثلهم سواهم من الشعوب المستضعفة، لن يبقى استعمار ولن تبقى معسكرات وبالتالي لن تكون ثمة حاجة الى الاحلاف.

اما مبدأ ايزنهاور فهو يمثل ذروة المنطق الاستعماري. انه الخطوة الاخيرة التي كان على الاستعمار ان يخطوها ليصل الى الصيغة المعبرة اقوى تعبير عن تناقضه وتعصبه وقرب انهياره. فالاستعمار الذي هو نقيض المبادئ يصل اليوم لتسمية نفسه باسم “مبدأ”. والغرب الذي كانت اقوى حججه على الشيوعية انه لم يجارها في المذهبية المتعصبة يضطر اليوم لتفادي انهياره، ان يلبس نفس اللباس المذهبي المتعصب فيسمي نفسه العالم الحر ويفرض على الدول والشعوب الضعيفة الاستغلال والتبعية باسم الدفاع عن الحرية، فهو يفضح ماهية هذه الحرية كما يفهمها: حرية السادة الذين يجب ان يكون لهم عبيد، حرية الغرب الذي لا يستطيع ان يبقى حرا الا اذا ظل جزء كبير من العالم مستعبدا له.

فالحرية التي يأتي مشروع ايزنهاور ليغري العرب بها ليست الا استمرارا وتضخيما للاستعمار الذي عرفوه عشرات السنين: فهو محاربة لكل نزعة تقدمية، وتشجيع للرجعية وللمجتمع الطبقي الفاسد، وتعميق للانقسام بين الاقطار العربية وفي داخلها، بالفتن والمؤامرات، وتقوية لاسرائيل على حساب العرب.

سؤال ما معنى القول بان اشتراكيتنا عربية؟

يمكن القول بان هذا الوصف للاشتراكية بانها عربية يتضمن شيئين:

الاول: بانها اشتراكية ملائمة لظروف وحاجات المجتمع العربي. وقد كنا بحاجة الى الالحاح على هذه الناحية، رغم انها تبدو اليوم بديهية. متى عرفتم ان الإشتراكية الماركسية، لم تكن تقبل فكرة التنوع مطلقا بل تعتبر ان الاشتراكية واحدة، وكانت وما زالت تسمي نفسها اشتراكية علمية وتقصد بذلك ان القوانين العلمية لا تتغير بتغير الزمان والمكان وانها واحدة يصح تطبيقها في كل الحالات. ولكن الماركسية هي التي تراجعت عن هذا الادعاء وغدت اكثر مرونة.

والثاني: (وهو المعنى الذي لا يتبادر الى الذهن مباشرة وقد لا يفطن اليه كثيرا) هو ان اشتراكيتنا مرتبطة ارتباطا وثيقا بقوميتنا العربية. فهي في تفاعل مع هذه القومية وهي جزء اصيل منها، وبالتالي ليست شيئا خارجا عنها وليست شيئا اعلى منها يفرض نفسه على القومية العربية، وتضطر هذه القومية الى ان تتكيف بما يناسب الإشتراكية. واحسبكم تفطنون الى الرأي المعاكس الذي يقول ان الاشتراكية هي الاصل وكل الاشياء الاخرى تتفرع عنها وتنفعل بها. فنحن قد لا نصل الى حد القول بان القومية هي الاصل والاشتراكية هي الفرع، ولوان هذا جائز نوعا ما اذا لم يكن بد من ايجاد تسلسل في الاهمية والقيمة، ولكن الواقع ان تفكير الحزب كان حريصا على الا يقيم مثل هذا التفريق المصطنع، فنظرة الحزب تحرص دائما على ان تكون نظرة حية. 

سؤال ما هي علاقة الاشتراكية بالقومية العربية؟

قلنا دائما ان الإشتراكية ليست طارئة على القومية العربية، فالقومية العربية عندما تعي ذاتها وعيا عميقا وصحيحا، عندما تتهيأ الشروط لكي تنضج النضج الصحيح وتعبر عن نفسها، تجد ان الاشتراكية شيء اصيل فيها.

واعتقد ان هذا المعنى يختلف عن الفهم الذائع الذي يريد ان يقصر الصفة العربية لاشتراكيتا او الصفة القومية لاية اشتراكية على كونها فقط اشتراكية متأقلمة، اي خاضعة لظروف الزمان والمكان. هذا يعني ان لب الاشتراكية واحد ولا يتغير، ولكن هناك تعديلات ثانوية تطرأ عليها عندما تتغير مجالات تطبيقها. هذا المفهوم هو الذي بدأت الماركسية تتسع له وتنادي به، ولكن هذا داخل في تفكير البعث منذ البدء وهو ليس كل شيء فيه.

واعتقد ان الناحية المادية هي المميزة لتفكير البعث: ان هناك بين قوميتا واشتراكيتا ترادفا وتمازجا وتفاعلا وانه ليس هناك قومية واشتراكية، نجمع بينهما لنصل الى صيغة جديدة للقومية، وانما هناك قومية هي اشتراكية بمجرد وجودها، وانها اذا لم تكن اشتراكية فانها تفقد وجودها ذاته. كذلك فحن بتخصيصنا ان اشتراكيتا هي عربية، من صميم ومن صلب قوميتا، نتيح للامة العربية ان تتمكن من الاهتداء بحرية وقناعة وبدون ضغط وارهاب من الخارج، الى نظرتها الخاصة الى الانسان والاخلاق والى التاريخ والسياسة ولى شتى مجالات الفكر والعمل.

ثم انه ترتب على نظرتنا القومية واعتبار العرب أمة واحدة لا تتجزأ، والبلاد العربية وطنا واحدا، ان كانت دعوتنا دوما الى اشتراكيتنا بانها الاشتراكية التي تحتاج الى نضال الشعب العربي بكاملة لتتحقق، وتحتاج الى الوطن العربي بكامله كمجال للتطبيق. فلم نؤمن في يوم من الايام بامكان تحقيق اشتراكية صحيحة في قطر واحد، وان كنا نعمل دوما للتمهيد لهذه الاشتراكية بتحقيق اصلاحات في كل قطر. وذلك ان بعض الاقطار العربية على الاقل ليس فيه الشروط الاقتصادية الكافية لقيام اشتراكية سليمة. في حين ان الحركة الشيوعية، لانها لم تنظر الى الأمة العربية كوحدة فانها وقعت، نظريا على الاقل، في تناقض عندما تعد الناس باقامة نظام اشتراكي في قطر صغير ليس فيه صناعة ولا مقومات اقتصادية كافية. كذلك فان الشيوعية تقع في التناقض، نتيجة عدم ايمانها بالقومية وبوحدة الأمة، حينما تربط احيانا بين النضال في قطر عربي والنضال العالمي، قافزة من فوق نضال الاقطار العربية الاخرى.

 واشتراكيتنا التي هي على اساس عربي موحد، حافظت دوما على اتجاهها الانقلابي لانها كانت دائما تستند الى واقع الأمة العربية بمجموعها، وهو واقع ثوري انقلابي من الطراز الاول، ولكن اذا اهمل اعتبار وحدة الأمة فقد لا تكون الاشتراكية ثورية دائما بالنسبة الى جميع الاقطار العربية، اذ ان من بينها اقطارا في حالة او شروط اجتماعية واقتصادية قد يظن بانها لا تستدعي الانقلاب وانما يكفيها الاصلاح، فمثل هذه الاقطار قد يستفيد احيانا من وضع التجزئة الذي يدعمه الاستعمار والطبقة الرجعية فيحصل على مكاسب اقتصادية مصطنعة تضعف من حاجته الى الثورة الاشتراكية، اما حركتنا فهي الوحيدة التي تكشف هذا الزيف والاصطناع لانها تنظر الى هذه الاقطار كاجزاء في جسم واحد، وبالتالي تطالب لها كلها باشتراكية واحدة ثورية.

سؤال هل تأخذ حركة البعث بسياسة المراحل؟

ان حركتنا تأخذ بسياسة المراحل ولكنها تفهمها على انها الحاح على ناحية اكثر من غيرها، وليست الاقتصار على ناحية واحدة واهمال النواحي الاخرى، فلا نقتصر على مقاومة الاستعمار فحسب، بل نعمل ايضا للاشتراكية والوحدة. قد تكون الظروف مهيأة لمحاربة الاستعمار اكثر من اي عمل آخر. ولكن اقتصارنا على محاربة الاستعمار فحسب يطعن النضال نفسه.

فنحن اذن لا نفصل فصلا تاما بين مرحلة نضال وطني واجتماعي ووحدوي وانما نمشي في هذه المجالات كلها في آن واحد، ولكن نلح فقط ونركز على ناحية او اكثر حسب الظروف، ولا نؤمن بامكان تحقيق اي نجاح في احد هذه المجالات اذا لم يكن مدعوما بنجاح وتقدم في المجالات الاخرى. فنحن لم نسكت في هذا الظروف كما لم نسكت في الماضي عن المطالب الاشتراكية او المقربة من الاشتراكية، لعلمنا بان التحرر من الاستعمار دون تحقيق اصلاحات اجتماعية تقوي نضال الجبهة الشعبية وتهيئ لها شروطا انسب لمتابعة النضال، يبقى شيئا ضعيفا ومهددا دوما بالانهيار او الانتكاس، وكذلك الشان في نضالنا من اجل الوحدة. وبكلمة مختصرة فان حركتنا لا تحتاج الى ان تضحي باي هدف رئيسي من اهدافنا الانقلابية في مرحلة من المراحل، في سبيل الاهداف الاخرى، فهي دوما قادرة على ان تناضل من اجل جميع أهدافها.

كذلك فان المراحل في نظرنا هي في التطبيق لا في الوعي، فالوعي لا يجزأ، لذلك كان على الشعب العربي ان يدرك منذ ظهور الحركة ما هي حقيقة اوضاعه، وما هي العلاجات الحاسمة لها، وما يريد ان يصل اليه في آخر النضال. فاذن في الوعي لا نتبع سياسة التكتم في الاهداف التي لم يحن الوقت لتحقيقها.

عام 1957 


وحدة مصر وسوريا

 

اذا كان العرب قد حققوا بنضالهم وحدتهم في الجمهورية العربية المتحدة، فان هذه الوحدة التي حققوها لا يرون فيها الا خطوة، وان الآمال لتبدو اقرب منالا، وأقرب الى الواقع واكثر حقيقة من قبل، ولو ان الذين يعيشون في قلب المعركة في أي قطر من الاقطار لا يؤثر فيهم الزمن، فالنضال يشق حجب الزمن ويكشف عن المستقبل للمناضلين المؤمنين وينقل المستقبل الى الحاضر، ويريهم حقيقة امتهم، ولو ان كثيرا من الحجب الكثيفة والامراض تشوه وجهها، ولكن النضال يعطي الثقة للنفس ويصفي النفس ويظهر الحقيقة ويتيح للمناضلين بأن ينقلوا هكذا ايمانهم الى العدد الاكبر. ولم نكن نشك لحظة واحدة منذ سنين طويلة بأن امتنا امة واحدة من الأطلسي حتى الخليج العربي، وان روحها روح واحدة وان النضال وحده هو الذي ينقل هذه الوحدة من حيز الامكان الى حيز الفعل والتحقيق لأنه يغسل النفس من الادران، وحرارته تذيب ما علق بالامة من تشويه ومن جمود ومن امراض دخيلة، وكنا دوما نعتبر النضال وسيلة وغاية وليس وسيلة فقط من اجل التحرر والتغلب على العدو ولكنه وسيلة لنقترب من انفسنا، من حقيقتنا، لان الوحدة هي حياة وليست جمودا ولا موتا، وعندما تكون الاقطار العربية في حالة التقاعس واليأس والاستكانة فانها لا تفقد شعور الوحدة بينها فحسب وانما الفرد العربي يفقد شعور الوحدة مع أخيه الذي يعيش بجانبه، اما في حالة النضال فان هذه الوحدة تتجسد حقيقة حية وتنهار الأوهام والسدود والمصالح الآنية الحقيرة، ويرتفع ابناء الامة الى الجو التاريخي، الى جو معنى وجود الامة، جو رسالة الامة في الحياة وفي التاريخ وفي الانسانية. اذا ذكر النضال فيجب ان تذكر الجزائر كأكبر وأروع دليل على النضال في كل التاريخ البشري.

 ثورة الجزائر ايها الاخوان كان لها آثار ضخمة قوية قد لا نكون وعينا الا جزءا يسيرا منها، وسنعي بقية هذه الآثار مع الايام والسنين المقبلة، هذا القطر العربي الذي تحمل ما لم يتحمله بلد في العالم من قسوة الاستعمار، وأي استعمار واي وحشية وأي حرب!.. تصميم على الابادة في هذا  القطر الذي تجمعت عليه قوى الشر ونذالة المستعمرين بأقوى الصور وابشع الصور تخرج منه اروع الثورات وأعمق الثورات معنى وشعبية.. تخرج الثورة من الفلاحين، من ابناء الريف البسطاء، من ابناء الجبال، من هذه الطبيعة الصافية الروح التي طهرها الالم وتصمد في وجه الجيوش الحديثة والاسلحة الفتاكة فأي اثر اكبر من هذا، ليس على شعب الجزائر، بل على الامة العربية بكاملها. انه المثال الحي على ان العروبة خالدة وان في الامة العربية من الامكانيات والاصالة ما يستحيل على الزمن وعلى القوى الاستعمارية الغاشمة مهما اشتدت ان تطفئ هذه الشعلة…

 ان نضال سورية ونضال مصر ونضال العراق والاردن وعمان ما كان يمكن ان يكون بمثل هذه القوة وما كان يمكن لمصر وسورية ان تصمدا امام مؤامرات الاستعمار وجيوشه المعتدية وضغوطه المتلاحقة لو لم يستمدا من ثورة الجزائر ثقة عميقة بالنفس وبأصالة العروبة، ثقة بما تصبو له العروبة التي بعثت من جديد على ارض الجزائر.

فالوطن العربي وطن واحد، والشعب العربي شعب واحد، هو رغم التباعد ورغم الحواجز يتفاعل بعضه مع بعض ويستمد بعضه من بعض القوة والقدوة والمثل. فكما ان ثورة الجزائر تستمد من نضال العرب في الشرق جرأة ويقينا بالنصر القريب وشعورا بأن الجزائر ليست وحيدة وانما لها اخوة، كذلك نحن استوحينا من ثورة الجزائر ثقة عظيمة، في هذا الوقت الذي يحقق العرب فيه هذه الخطوة التاريخية، وحدة سوريا ومصر، التي سيكون لها أعظم التأثير في تاريخهم وتاريخ البشرية، لننظر ولنتجه بأنظارنا وقلوبنا الى اخواننا في الجزائر لان لهم النصيب الاول في تحقيق هذه الخطوة.

لقد اعطت الثورة الجزائر دليلا قويا على ان الامة العربية بلغت بعد طول التحمل والمحن والتخلف الطويل بلغت مستوى من النضج يؤهلها بأن تنطلق من جديد ليس من اجل طرد المستعمرين فحسب بل من أجل بناء مجتمع عربي جديد ومن اجل الكفاح وحمل رسالة الى العالم كما حملتها من قبل، اذ لو لم تكن امتنا قد بلغت هذا المستوى لما رأينا حركات ثلاثا اصيلة عميقة تخرج من اقطار عربية مختلفة ليس بينها صلة وثيقة وليس بينها تعارف، وتخرج وكل حركة منها اتخذت شكلا يختلف عن شكل الاخرى ما لبثت هذه الحركات بعد قليل حتى ظهر انها تتكلم نفس اللغة، وتعلن نفس الاهداف والمبادئ، وتناضل من أجل نفس الغايات والاهداف، هذه الحركات الثلاث حركة البعث، وثورة الجزائر، وثورة مصر.

لقد كنا نقول دوما بأننا لسنا الا تعبيرا عن نضج امتنا. اننا لا نخلق الامة بل هي تخلقنا، اننا نستمد منها القوة، اننا نترجم فقط حاجاتها وامانيها ونعلن ارادتها، وان قوتنا ما كانت لتكون شيئا مذكورا لولا استنادها الى قوة الامة والى هذا الوعي المستمر في كل جزء من اجزائها الذي صقلته التجارب والآلام الطويلة، وهكذا كان لا بد لهذه التجارب المتماثلة ان تعطي نفس النتائج في مختلف اقطار الوطن العربي.

فلو كانت الامة العربية غير مؤهلة للبعث وللرسالة العظيمة التي تنتظرها، لما ظهرت هذه الحركات في وقت واحد دون أي تعارف، ومع ذالك فقد اتفقت في المبادئ والاهداف والنضال.

وهذا خير دليل على ان هذه الامة تستطيع ان تمضي بعمق واصالة وان ترتفع الى مستوى التخطيط الموحد الشامل للنضال العربي بعد ان اعطتنا هذه الاحداث والتجارب البراهين الحسية على ان امتنا ناضجة مهيأة كل التهيئة ولا تحتاج الا الى الطليعة الواعية التي تتقدم الصف الى السباقين الذين ينيرون الطريق الامام. واعتقد ان كل مناضل حقيقي دخل النضال لمس هذه الحقيقة لمس اليد بأن الشعب العربي يعطي اكثر مما كان ينتظر منه.

فلنتعاهد على ان نجعل من هذا النصر الجزئي الذي حققه جميع العرب في جزء من اجزاء وطنهم، لنتعاهد على ان تكون ثمار هذا النصر ايضا لجميع العرب وعلى ان يكون فاتحة جديدة لعمل قومي موحد منظم، وان تكون هذه الوحدة الصغيرة التي يفرح لها العرب في كل مكان ان تكون النواة للوحدة الشاملة وأن تنصب اكثر جهودها في مساندة ودعم حركات التحرر وفي العمل لتوحيد الاقطار المجزأة لان خطر التجزئة خطر بالغ الخطورة، خطر قتال. واذا (لا سمح الله وهذا لن يكون مطلقا) انصرفت جهود هذه الجمهورية الى الداخل وقصرت في واجباتها نحو اخوتها في الاقطار الاخرى فان هذا الانصراف يهددها في وجودها، وما دمنا مؤمنين بان القضية العربية واحدة ومصير العرب واحد فجمهوريتنا الجديدة عندما تدعم الجزائر وتعمل من اجل تحرر أي قطر عربي مكافح فهي تدافع عن نفسها وتبني كيانها. ووحدة سوريا ومصر الآن وبعد هذه التجارب العديدة والنضال الطويل هي مدينة الى هذه الحقيقة بأن قضيتنا واحدة ويجب ان يكون مستقبلها ايضا ملتزما بهذه الحقيقة وان ترى حياتها في حياة الاقطار العربية الاخرى.

20 شباط 1958


الوحدة ثورة تاريخية

في هذا الظرف التاريخي الذي كان لحزبنا فيه اكبر الأثر لابد ان اذكركم  بملحمة عن مميزات حركتنا ومبررات وجودها، ثم نصل إلى إلقاء نظرة على هذا الحدث العظيم الذي تحقق اخيرا وما يستتبعه من نتائج وواجبات بالنسبة لحزبنا وبالنسبة الى جميع المواطنين العرب .

لقد كان ظهور حركة البعث ثورة في تاريخ الامة العربية بمعنى ان حركة البعث لم تكن استمراراً لما قبلها بل كانت عبارة عن انقطاع او بتر ارادي واع وارتفاعاً الى مستوى جديد من التفكير والاخلاق، والجو الروحي، رغم ما انتابها من ضعف ونقص، وما دخلها من شوائب. منذ البداية، لم تكن خالية من الضعف والنقص، ولم تكن منـزهة من الخطأ ولم يخل سيرها من التعثر، ولكن أية حركة تاريخية لا تجيء كاملة سليمة، كل الكمال والسلامة. والمهم هو الحكم الاجمالي على الحركة، هل تجاوبت مع مرحلتنا وأحست بعمق ما يجب ان يعمل، وعملت؟ هذا هو المهم. هل ملأت فراغاً في حقبة من التاريخ وملأته ملأ ايجابياً، ملأ فيه ابداع وبناء ورغم كل النواقص والاخطاء كما قلت؟ هل يعني ظهورها بدءاً لتاريخ؟ اذا كان الامر كذلك فهي اذن حركة تاريخية. هذه الحركة التي بدأت بدءاً متواضعاً جدا فكان سر قوتها في هذه البداية المتواضعة، لانها انطلقت قوة أصيلة لا زيف فيها، لم تعتمد على شيء من القوى الراهنة التي هي كلها قوى زائفة، هذه الحركة في الواقع كانت ترجمة لاستعدادات وامكانيات قائمة غير انها مغطاة عن أعين الاكثرية. فهذه الحركة استطاعت أن تنظر نظرة صافية وبريئة لم تعكرها المصالح والمفاهيم الموروثة او الاهواء والانانيات، فعرفت القوة حيث كان اكثر الناس لا يرون الا الضعف والانحلال، واعتمدت على هذه القوة لانها كانت مؤمنة بان هذه القوة قوة حقيقية. راهنت على المستقبل، وكانت نظرتها منذ البداية بعيدة بكل معاني الكلمة، بعيدة في العمق، بعيدة في المكان وبعيدة في الزمن، فهي نظرت الى اعماق الامة العربية المغلفة بواقع مريض ومشوه. ونظرت وهي التي ولدت في قطر صغير من اقطار الوطن العربي الشاسع، نظرت الى جميع اجزاء الوطن، لم تغفل احداً منها، نظرت نظرة بعيدة في الزمن، اي انها توجهت الى الشباب، الى تلك السن التي تحتاج الى زمن غير قليل لكي تصبح قوة بالمعنى المتعارف عليه، بمعنى السياسة الراهنة والمصالح الراهنة، توجهت الى الشباب العربي في جميع اقطاره. ومن هذا تتبينون ميزة من ميزاتها. انها في روحها وفي نزعتها العميقة كانت دوماً تتطلب الصعب، تتطلب الشيء العميق، الشيء الاصيل الذي لا يبلغ بسهولة وتترفع وتعف عن كل ما هو قريب وسهل. فاليوم تبدو لنا المسألة بسيطة وسهلة للغاية، ان يظهر حزب او حركة، وتتوجه من جهة الى الشباب الحديث السن، ومن جهة اخرى الى هذا الشباب في اقطار غير القطر الذي توجد فيه الحركة. والشباب كما قلت في تلك السن لا يكونون وزنا سياسيا يمكن ان يفيد فائدة سياسية عاجلة وبالاحرى عندما يكون بعيدا عن القطر فليس له وزن قط.

هذه الاشياء التي تبدو اليوم بسيطة وطبيعية كان لا بد من روح ثورية وايمان غير عادي لكي نقدم عليها ولكي نخالف كل المألوف ونتحدى سخرية الناس ونتحدى مقاومة أصحاب المصالح والعقلية البالية وأصحاب النظرة السطحية. ولا يشترط في أصحاب النظرة البالية والسطحية ان يكونوا من الجيل القديم دوما ومن غير المتعلمين بل قد يكونون من اكثر الناس ثقافة ومن الشباب أيضا. فالنـزعة الاولى كما ترون نزعة روحية اخلاقية اقترنت بوعي ثوري، وقلما يجوز التفريق بين الوعي والخلق لان بينهما تفاعلا وتأثيرا متبادلا، فالروح الاخلاقية السليمة الصافية التي تترفع عن السهل وعن الشيء الشخصي، والشيء الزائل، هي التي تساهم الى حد كبير بإيجاد الوعي الثوري، وهي من اهم عناصر التفكير الثوري لان التفكير الثوري هي رؤية الحقيقة المغلفة المستترة، رؤية الحقيقة العميقة. فاذا كانت ثمة أهواء وأنانيات ومصالح خاصة، فانها تحجب عن التفكير هذه الحقيقة وتشوش التفكير، وتمنعه من
ان يصل الى الاعماق، وبالعكس عندما يتوفر التفكير الجذري الثوري يستطيع ايضاً إلى حد ما ان يؤثر في الجو النفسي، في الخلق وفي الروح، ان يحررها الى حد ما من كثير من الاشياء. اقول كل هذا ولا اعتقد بأنه خروج عن الموضوع أو حشو كان يمكن الاستغناء عنه لكثرة ما كررت هذه الاقوال خلال سنين عديدة في الحزب، ولكن بودي ان أثبت في اذهانكم بأن بعض الشروط الاساسية في حياة الانسان والشعوب اذا ما اغفلت او انتقص من قيمتها فان المقاييس تختل وان حياة شعب بكامله ستتعرض لأفدح الاخطار والانتكاسات اذا لم تحترم هذه الحقائق الاساسية.

والآن اعود فأقول ان حركة البعث اختلفت اختلافاً نوعياً لا كمياً عن كل ما سبقها من حركات في الوطن العربي، فطرحت قضية الامة العربية طرحاً ثورياً لأول مرة منذ مئات السنين، طرحاً انقلابياً كما اعتدنا ان نقول، واعتبرت الامة العربية في مرحلة ثورة اصيلة، ثورة تاريخية، وانها مهيأة كل التهيؤ لتحقيق هذه الثورة اذا انتشر وعيها بين الجماهير. هذا الطرح الانقلابي للقضية القومية يمكن ان يلخص ببضع نقاط:


1- وضع قضية ومصير الامة العربية ضمن قضايا العالم ومصير الانسانية بعد ان كانت الحركات الوطنية تنكمش على نفسها وتتجاهل ما يجري في العالم. حركة البعث حينما بدأت كانت قد كونت فكرة اجمالية تقوم على دراسة اجمالية لمشاكل وقضايا العالم الاجتماعية والفكرية، عن المذاهب الكبرى التي تحرك البشر في هذا العصر. بدأنا ونحن نعرف هذه المعرفة الاجمالية من الناحيتين الفكرية والعملية، نعرف هذه القضايا والمذاهب في خطواتها الاساسية وفي اسلوبها وخططها ونتائجها وآثارها العملية في العالم، ولم يكن من ذلك بد لان العالم، اذا نحن تجاهلناه فانه لا يتجاهلنا، فهو كان غازياً لنا ومحتلاً ديارنا، لذلك كان لا بد من ان نعرف ونربط بين مصيرنا ومصير العالم.

2- نقطة اخرى يمكن ان تستنتج من الاولى اولها علاقة بها هي الفكرة القومية او اذا جاز ان نقول النظرية القومية. كانت المذاهب والفلسفات التي احتلت المكان الفعال في هذا العصر تنكر القومية بشكل او بآخر، بعضهم كان ينكرها من شدة المغالاة بها، المغالاة السلبية المريضة، وبعضهم كان ينكرها ويعتبرها شيئا عارضا ومرحلة، فوضعت حركة البعث بذور النظرية القومية بصورة عامة لا للعرب وحدهم وانما ألحت على حقيقة الامة في حياة البشر، فما يصح على العرب لا بد ان يصح على غيرهم . وصوبت نظرها على النواحي الخبيئة الثمينة الايجابية في القومية لانه لم يكن يظهر من القومية إلا النواحي السلبية، وأوجدت صيغة، او محاولة لصيغة، تربط القومية بالانسانية ربطاً حياً لا اصطناعياً، فاعتبرت القومية خالدة والانسانية خالدة وليست احداهما بسباقة على الاخرى لا في الزمن ولا في القيمة، وانما هما مظهران لشيء واحد، وان الانسانية هي ثمرة لنضج القومية، هي المجال الطبيعي السليم الوحيد لتحقيق القيم الانسانية تحقيقا حيا لا اصطناع فيه ولا تضليل. ثم نظرت حركتنا الى امتنا فأعلنت وحدتها رغم جميع المظاهر التي كانت تتحدى هذه الوحدة في كل لحظة وفي كل عمل، وأعلنت في نفس الوقت ان رسالتها . . رسالة انسانية رغم ان جميع المظاهر كانت تتحدى هذا الاعلان وهذا الادعاء، رغم كون الامة العربية في حالة سلبية فاقدة لأي ابداع تعيش عالة على العالم، فأكدت حركة البعث رسالة الامة العربية. كل هذه الاشياء تنبع من نظرة واحدة كما تلاحظون، من نظرة ثورية، النظرة المتجددة البعيدة المدى الطويلة النفس التي تنظر للمستقبل نظرة ليست حالمة كنظرة الشعراء، ليست نظرة التمنيات، وانما نظرة في منتهى القسوة والواقعية والجدية. من خلال الواقع الفاسد المشوه كانت ملامح المستقبل تتراءى، او لأن الواقع كان بلغ هذا الحد من الفساد والمرض لم يكن صعباً على اصحاب النظر الصافي ان يروا الكنوز المخبأة في ضمير المستقبل المشرق الذي ينتظرنا.

وكانت هذه الحركة اول من وضع القضية القومية، قضية الامة العربية، في قلب الواقع، في قلب الجد، بوضعها المشكلة الاجتماعية في صميم الثورة القومية، بوضعها مشكلة عيش الملايين من افراد الشعب العربي، رزق الملايين وعشرات الملايين الذين كانوا وما يزالون مشلولين الى حد بعيد بنتيجة الاوضاع الجائرة المعكوسة. فالتعبير العملي عن الثورة القومية هو الثورة الاجتماعية. وطرحت مشكلة الحرية على كل اتساعها وأبعادها، التحرر من الاستعمار ومن الاجنبي ونفوذه واستغلاله بكل اشكاله، والتحرر في الداخل الذي يشمل النواحي السياسية والاجتماعية والفكرية، مشكلة الحرية ووعي الشعب ووعي الافراد ومشكلة التحرر وأهمية هذه المشكلة وأسبقيتها، وكما تعلمون اوجدت بين هذه النواحي المختلفة اتصالاً وتفاعلاً حياً.

ولكن استطيع ان اقول بأن مشكلة الوحدة، قضية الوحدة، كان لها مكان بارز في فكرة البعث ونضال البعث لانها كانت معرضة لان تظلم حتى من الذين ليس لهم مصلحة في ان يظلموها لانها كانت خافية في حقيقتها على الكثيرين، فطرحت حركتنا قضية الوحدة طرحا ثوريا لقي الكثير من المقاومة والمغالطة وسوء الفهم، ولكنه تجاوب مع حالات الشعب، وحس الشعب، ووعي الشعب اخيراً، وكتب له ان يظفر.

قلت لكم في البدء بأن مسألة الوحدة كانت تتطلب اول ما تتطلب تجرداً في النفس لانها تشترط كثيراً من الاغفال للنتائج العاجلة، تشترط العمل للمستقبل البعيد نسبياً وتشترط في نفس الوقت تفكيراً ثورياً اصيلاً، وليس كل ما يسمى بالتفكير الثوري هو فعلا هكذا. الاستعمار عدو اجنبي غريب محتل مستغل وقح، ودعوة الشعب لمقاومته ليست صعبة ولا غامضة. الإقطاع والرأسمال والنفعية والاستغلال بأشكاله وألوانه أقل وضوحاً من الاستعمار، ولكن رغم ذلك فيه بعض الوضوح، ولكن التجزئة التي مرت عليها قرون احيانا وعشرات السنين في احسن الاحوال والاحتمالات ولم يقتصر الامر على ان المستعمر خلقها بل اصبحت هي تخلق نفسها بنفسها فيما بعد، تخلق قوى ومصالح وزعامات وعقلية معينة وعواطف معينة تنفخ الروح وتبث الدم والحياة في هذه التجزئة المخزية المصطنعة. وأصبح من السهل ومن غير المستنكر (وهذا الشيء لا يمكن بسهولة ان يكشف تناقضه) ان يقوم الزعماء وتقوم الاحزاب وتنادي بالوحدة العربية وتسجل الوحدة في رأس برامجها، وان تعمل وتوجه وتتصرف وتدبر يومياً كل ما هو نقيض الوحدة تارة بقصد وتصميم وتارة دون قصد أو وعي.

والخلاصة ايها الاخوان ان معركة الوحدة التي لا تنفصل حسب عقيدتنا ونظريتنا ونضالنا عن معركة الحرية والتحرر وعن معركة الاشتراكية، ولا يجوز فصلها بحال من الاحوال، ولكن يجوزكما اعتقد ان نصفها على حقيقتها فنقول انها هي بصورة خاصة المعيار لثورية الافراد والجماعات ولثورية امتنا في هذه المرحلة التاريخية .

عندما نتغلب على التجزئة نكون قد اطمأننا فعلاً على اننا سنؤدي رسالتنا التاريخية لان معركة الوحدة اصعب معركة يواجهها الشعب العربي منذ زمن طويل. وعندما اثمرت معركة الوحدة هذه الثمرة الاولى الطيبة الضخمة في نتائجها كما سنرى يوماً بعد يوم، فوجئ العالم مفاجأة تاريخية لا تحدث كل يوم ولا كل سنة وقد لا تحدث الا في مئات السنين، فوجئ حتى القسم المتحرر من العالم الذي تغلب على الاوضاع الرجعية الفاسدة، وتجاوب مع مصلحة الجماهير وتسلح بنظرية علمية، وبينه وبيننا وبين جميع الشعوب المناضلة من اجل حريتها وتقدمها تعاطف طبيعي. رغم ذلك لم يكن احد يصدق بأن هذه الوحدة ممكنة، وهذه كلها دلائل ثمينة جداً تنبئ عن العمق والنضج الذي وصلت اليه حركة القومية العربية وتنبئ عن غنى مستقبلها ايضاً.

ان ما تحقق للعرب في هذا الظرف هو نتيجة ثورة وبداية ثورة، هو لا شك ثمرة لهذا النضال الطويل الذي بدأ قبل حركتنا بزمن، ولكن حركتنا بدأت مستوى جديداً في الفكر والعمل، هذا النضال هو مستوى ثوري يختلف عما سبقه. هذه الوحدة التي هي ثمرة لنضال الماضي ستكون بذورها بذرة قوية ومحركاً قوياً لثورات متعاقبة، أو قد يختلف نوعها او مظهرها عن السابق حسب درجة النمو الذي بلغته الحركة العربية الثورية. فعلينا ان نقدر هذه الخطوة حق قدرها، وان نعرف السهل والصعب فيها، وأن نأخذ مكاناً في قلب المعركة لان المعركة لم تنته بعد. ان اهمية هذه الخطوة بالدرجة الاولى هي انها قضت على نوع من التفكير، نوع من العقلية، نوع من النفسية المتخاذلة او في احسن الاحتمالات النفسية التي لم تبلغ حد الامتلاء ، وبالتالي لم تصل الى حد الايمان بأن الوحدة ممكنة. فتحقيق هذه الخطوة سيبدل النفسية العربية في كل مكان وحتى في اشد الامكنة والاوساط انكاراً وجحوداً، وسيكون لها آثار ونتائج سياسية واجتماعية ضخمة عاجلة وآجلة. ولكن المهم ان نعرف بأن البداية هي دوما صعبة، ودوما محفوفة بالاخطار، وان علينا واجباً مقدساً بأن نحمي هذه الخطوة التاريخية وان نغذيها بكل طاقاتنا، وان لا نرى فيها مبرراً للراحة والانسحاب من العمل او المطالبة بثمن الاتعاب الماضية. فهذه الخطوة ما تزال معرضة لأخطار كثيرة، والاخطار المكشوفة هي اخف هذه الاخطار لانها مكشوفة، والاخطار المخفية هي التي لا تظهر كثيرا بوضوح تام، وأهمها ان يستمر شيء من عقلية التجزئة ومصالح التجزئة وان تنسج الوحدة بخيوط التجزئة فتتناقض وتفشل .

ايها الاخوان، تبين من حديثي ان حزبنا كان له مساهمة لم اتورع عن ان اسميها تاريخية في نضال امتنا في هذه الحقبة وخاصة في نضال الوحدة الذي اوصلنا الى هذا الانتصار. ولكن هذا لا يعني اننا وحدنا في الساحة وان غيرنا لم يعمل. ألححت على ذكر الحزب ومميزات فكرته في هذه المناسبة، ولكن تعرفون كما اعرف بأن الشعب العربي في كل مكان عمل وناضل من اجل هذه الوحدة بصورة غير مباشرة، وتعرفون على الأخص ان للثورة المصرية شاناً تاريخياً في هذه المرحلة وهو قد قلب وجه التاريخ العربي، او كان مناسبة لكي تتجلى قيمة النضال العربي في اقطار المشرق الذي انتشر فيه الحزب، ولا يمكن ان نفسر شيئا مما حدث من التحولات الضخمة العميقة في حياة العرب في هذه السنوات الاخيرة اذا لم تعط ثورة مصر حقها من الاهمية، حتى انها اثرت في حياة العصر والعالم كله، ويمكن القول بان تأميم قناة السويس هو بداية لعصر جديد في العالم في كثير من النواحي، وان مولد الجمهورية العربية المتحدة هو ايضاً بداية تاريخ جديد بالنسبة للعرب والعالم.

صحيح ايها الاخوان ان ثورة مصر لم تتبع نفس الطريق الذي اتبعناه، فهي ثورة عسكرية لم تبدأ من الشعب، ولم تبدأ بفكرة او نظرية، ولكن هذا لا يغير شيئا من حقيقتها وقيمتها، فهي ثورة اصيلة صادقة، لذلك اعطت مثل هذه النتائج، ولم يمض وقت طويل عليها حتى استقرت واتضحت معالمها وخط سيرها، وبدأ الاتصال والتفاعل بينها وبين حركتنا، تفاعلاً مباشراً وغير مباشر. المباشر بالاتصال بالحزب وقادة الحزب وفكرة الحزب وغير المباشر بتأثرها بنضال الشعب العربي في الاقطار التي يقود النضال فيها حزبنا وتجاوبها مع نضال هذه الاقطار ومع شعارات هذا النضال . .

23 شباط 1958


معركة الوحدة في العراق

ليس عندي(1) مناسبة أغلى من مناسبة الاجتماع بالشباب العربي لأنني اعرف منذ زمن طويل بأن هذه المرحلة التاريخية التي تجتازها امتنا العربية، هذه المرحلة الانقلابية العميقة الشاقة لا يقوى على حملها والاضطلاع بأعبائها الا الشباب المهيأ بطبيعة تكوينه للايمان بالمثل والمبادئ والقيم الخالدة. وها نحن الآن وما زلنا في الخطوات الاولى لثورتنا نواجه امتحاناً صعباً وليس غير الشباب من هو جدير بأن يمتحن هذا الامتحان، لذلك اقدر وافهم قلقكم وحماستكم واهتمامكم البالغ بما يجري في عراقنا الحبيب لأنكم تدركون بما توفر لديكم من وعي وبما يجيش في اعماقكم من ايمان، تدركون بأن ما يجري في العراق الآن يتناول مصير الامة العربية كلها، فلذلك تشعرون بواجبكم التاريخي وتتطلعون الى اداء هذا الواجب بشكل قوي يحقق النصر لمبادئكم. ان من طبيعة هذه النهضة العربية الحديثة ان يكون طريقها شاقاً وان تمتحن بين الحين والآخر بالمشاكل الصعبة المعقدة، لأنها نهضة هيأت لها قرون طويلة كانت فيها عبقرية الشعب العربي وحيويته مختزنة، وكان لابد ان تأتي نهضته نهضة اصيلة انسانية لأنها أتت بعد صبر وانتظار طويل، ولأنها تأتي من أمة ألفت حمل الرسالة واعتادت أن تنظر الى الحياة بأنها رسالة. فيجدر بنا اذن ان نتذكر هذه الخاصة لبعثنا الجديد، خاصة الصعوبة والمشقة لكي يكون بعثاً اصيلاً، وعندما نتذكر ذلك نقبل على الصعوبات بلهفة للقائها لاننا نرى فيها السبيل الذي نريد ان نحققه. الفرق هو بين ان ننظر الى العقبات بأنها عقبات وبين ان ننظر اليها بأنها هي الطريق. كل ذلك لكي يعطي العرب ما يؤهلهم تاريخهم ان يعطوه وما تنتظره البشرية منهم. ولا يمكن أن نعطي شيئاً اصيلاً يصلح لاعادة تنظيم مجتمعنا ووضع اسس حديثة له، لا يمكن ان نعطي ذلك الا اذا خبرنا المصاعب واصطدمنا بغيرنا وبمختلف المشاكل والاغراض الانسانية حتى يكون الحل الذي يخرج من العرب حلا انسانياً. ولكن ذلك يرتب علينا مسؤوليات كبيرة لأن المهمة الاصيلة لا تأتي بالكلام ولأن هذا التفاؤل والاستبشار بالصعوبات لا يكون في التأمل وانما يستوجب العمل الجدي بكل معاني الجدية، فهذا الامتحان الجديد لنهضتنا مهما يكن بالغ الخطورة لا يليق بنا الا أن ننظر اليه كحافز على التصحيح للنواقص التي لا تزال في نهضتنا، للأخطاء والسطحية في التفكير، للضعف في التنظيم، لسطحية الايمان وسطحية الاخلاص للمبادىء التي آمنا بها، فهذه المحنة وهذه التجربة ليست في الواقع الا حافزاً ومنبهاً وليست الا تحدياً جديداً علينا أن نكون به جديرين وأن نعطيه المثل الايجابي.

لعلكم تذكرون بأني كنت أقول بأن معركة الوحدة هي أصعب معاركنا لأنها هي الثورة الخالصة التي يضع فيها العرب جميع امكانياتهم. الثورة العربية التي لا يعتمد فيها العرب الا على انفسهم هي معركة الوحدة، في حين أن ثورة التحرر والثورة الاجتماعية تساندهم فيها قوى أخرى: تيار العصر يصفي الاستعمار، وتقدم الانظمة الاشتراكية في كل مكان. أما الوحدة فهي أصعب لأنها تتطلب من العرب الجهد الذاتي، تتطلب محاربة النفس، تتطلب تضحية وبعداً في النظر، تضحية للسهل القريب في سبيل الآجل الصعب الباقي المتين، وللفوائد التافهة الرخيصة سواء أكانت شخصية أم قطرية في سبيل منفعة الجميع، وهي حساب دقيق وتنظيم وايمان وتجرد. لذلك أقيمت اسرائيل لتعيق سبيل الوحدة، وعندما انطلقت الوحدة، وهذا شيء لم يكن الاستعمار يصدق أنه سيحدث، عندما حدث ذلك كان بالرغم من وجود اسرائيل والاستعمار.

لقد التقوا وتناسوا ما بينهم من فروق قبل عشر سنوات في سبيل اقامة هذا الحاجز وسط الارض العربية، لذلك جمعوا جمعهم لكي يحولوا دون ما نؤمن نحن أنه قدر لابد ان يتحقق. فالمسألة هي هذا الصراع بين الوحدة وأعداء الوحدة. لكن أعداء الوحدة ليسوا كلهم من الأجانب، ليسوا كلهم في الخارج، انما لا تزال توجد في وطننا شروط وأوضاع وعوامل تمنع مجيء الجميع الى الوحدة، تؤخر شمول عقيدة الوحدة. لا يزال يوجد عدد غير قليل في شتى الأقطار يقاوم الوحدة حرصاً على المصالح الخاصة وعلى الزعامات المحلية ويقاوم الوحدة عن جهل بخيرات الوحدة. لذلك اذا اردنا ان ندخل هذه المعركة ونحن واثقون من انتصارنا فيها فليس أوجب علينا من رؤية الأمور على حقيقتها، ليس أوجب علينا من رؤية الأمور صريحة لا مواربة فيها. فكما أن ثمة في العالم مصالح ضخمة تعادي الوحدة لأن الوحدة تهدد هذه المصالح الآثمة، فان في داخل الوطن العربي مصالح آثمة، مصالح خاصة تقاوم وتعارض الوحدة. وهناك ايضاً أعداء للوحدة دون أن يكون لهم مصلحة في مقاومتها. اذن هناك تقصير من قبل دعاة الوحدة وأنصار الوحدة والعاملين في سبيلها، هناك خطأ ونقص، اذ لكي تستطيع الوحدة ان تصمد في وجه أعدائنا ذوي المصالح الذين يقاومونها خوفاً على مصالحهم، يجب ان نكسب وبأسرع وقت ممكن جميع الذين ليس من مصلحتهم معاداة الوحدة لكي يكونوا معها وفي صفها وتيارها وجنوداً في معركتها.

بالرغم من التقدم الكبير الذي حققته الفكرة القومية العربية في السنوات الاخيرة في مجالي الفكر والعمل، وبالرغم من الوضوح الذي أصاب نواحي عدة من هذه الفكرة، وبالرغم من بعض الانسجام الذي أصاب مختلف نواحي الفكرة القومية فلا يزال فيها جوانب غامضة ولا يزال فيها اضطراب. وهذا يعني أن ألوفاً ومئات الآلاف من أبناء الشعب العربي لا زالوا يقفون خارج المعركة، فنخسر مساهمتهم وان لم يدخلوا الصف الآخر ضدنا.

قلت لكم، أيها الاخوة والاخوات، بأن المعركة في تقديري معركة وحدة وانفصالية، وإن تكن تحولت في وقت قصير جداً الى معركة بين القومية والشيوعية. ولو اننا اعطينا الوحدة مفهومها السليم الكامل الواضح من جميع النواحي لما أمكن ان تتحول المعركة بهذه السهولة وبهذه السرعة الى مضاعفات جديدة، الى معركة قومية وشيوعية. اذ اني لا اقول بوجود غموض تام بل بوجود بقايا غموض في الناحية الاجتماعية لفكرتنا وبقايا غموض في النواحي الأخرى الانسانية والفكرية عامة منعت الوحدة من ان تكون منذ اليوم الاول في العراق شعاراً لجماهير الشعب، شعاراً يرون فيه تلبية جميع مطالبهم وحاجاتهم القومية والاجتماعية والانسانية. لقد كانت الى حد ما هذا الشيء، ولكن بعض الغموض الذي بقي فيها أتاح للشيوعيين ان يظهروا على المسرح كتقدميين مع ان تقدميتهم زائفة وهزيلة اذا قيست بتقدمية القومية العربية عندما تفهم الوحدة على حقيقتها. وهذا ما سمح لبعض العناصر الرجعية ان تلوذ بالوحدة تتستر بها وتلقي عليها ظلالها الثقيلة وشبهاتها. وهذه سيرة مألوفة، اذ أن نوري السعيد كان في الماضي يتغنى بالوحدة وكان يدعي أنه يعمل لها. واجبنا أن نجعل تقدمية الوحدة العربية حاسمة فاصلة كالسيف لا تدع مجالاً للالتباس كي نكسب الشعب العربي كله. ويجب ان نعرف بأن كسب الشعب العربي له ثمن هو ان نخسر الرجعيين والاقطاعيين والمستثمرين من كل صنف. وهنا لا يمكن التردد في اقتحام الطريق الثوري وفي اتباع الاسلوب الثوري القاطع الحاسم، الاسلوب القوي الذي يدعو جماهير الشعب للالتفاف حول القضية بمنع الفئات المستغلة للشعب من أن تدخل وتتسرب الى صف الشعب لتوجيهه. فهذا القدر من الغموض والارتجال والعاطفية الذي ما زال في فكرة الوحدة وفكرة القومية عامة يحمل، لا أقول كل المسؤولية، ولكن بعضها في المعركة الجديدة التي فرضت علينا.

وهذا ما مكن الشيوعيين  بمساعدة الاستعمار وبمساعدة الشيوعية الدولية ومساعدة الانفصالية والشعوبية في الداخل من ان يخدعوا ويضللوا ويكسبوا وقتاً وقواعد، ويمتلكوا الى حد ما زمام المعركة مؤقتاً. لم يكن في مخطط الحركة التقدمية ان تدخل في معركة مع الشيوعية. لم تكن الخطة القومية في ان تفتح معركة مع الشيوعية، ولكن الشيوعيين هم الذين فرضوها، فما علينا الا أن نجني فوائدها. فالشيوعية في الواقع استبقت المعركة كالمذعور الخائف الذي يعرف ان مصيره آت، ومعرفته هذه تدفعه الى استباق الحادث والى التعجيل في مصيره. لقد ادركت الشيوعية المحلية في البلاد العربية منذ سنتين او ثلاث سنوات على الأقل بأن ما كان يقال وما كان يجري على ألسنة الشعب هو حق وحقيقة، وليس لهواً أو مزاحاً، وان الامة العربية دخلت في طور البعث وفي طور النهضة الحديثة، وان لا مجال للشيوعية مع هذه النهضة، فأصبح همهم ان يعرقلوا ويؤجلوا تحقيقها في هذه البلاد. وأقول يقينا بأن هذا ليس مقتصراً على الشيوعية المحلية، بل أؤمن بأن الشيوعية الدولية ترى في نجاح الثورة العربية نهاية لها او ما يشبه النهاية، أو على الأقل منافساً خطيراً لها لأن الثورة العربية ليست وليدة الثورة الشيوعية ولأنها عقيدة تستطيع اكثر من غيرها ان تثبت ملامح الثورة الاصيلة والعقيدة الاصيلة. والشيوعية تعرف خطر ذلك عليها. فكان اذن للشيوعية مصلحتان في عرقلة الوحدة: مصلحة في داخل الوطن العربي ومصلحة عالمية، لأن نجاح الثورة العربية ظهر منذ الآن، ونحن ما زلنا في الخطوات الاولى، انه يعطي مثلا وقدوة لجميع شعوب العالم وخاصة شعوب آسيا وافريقيا، خاصة وان الشيوعية كانت تحسب هذه الشعوب رصيداً لها تستطيع أن تؤثر فيها وتسيرها. وهكذا تطورت المعركة واتخذت شكلاً جدياً، عقائدياً، حاداً، فما علينا الا ان نستبشر بما فرض علينا فرضاً وأن نحول المصاعب الى مناسبات لتعميق فكرتنا ولتقوية وتوحيد نضالنا ولرفع مستوى معركتنا الى المكان التاريخي الذي يليق بأمتنا. فلقد كنا ننحصر كثيراً بالحوادث القريبة، ننحصر كثيراً في حدودنا السياسية ونهمل ان نلقي نظرة على حركتنا في العالم وفي التاريخ. فجاءت هذه المعركة تذكرنا بالقوى الكامنة في حركتنا وتجربتنا القومية التي انتبه اليها الاعداء والمنافسون ونحن لم ننتبه لها.

الثورة الشيوعية في اوروبا تعرف انها تدخل مرحلة الشيخوخة، ليس لأن عشرات السنين مضت عليها، اذ ليس ضرورياً ان يكون الزمن عامل شيخوخة. بل لأنها سلكت سبيل المساومة والابتعاد عن المبادئ، ولأنها نسيت الدافع الاول الثوري واخذت تتنازل امام الواقع ونسيت الثورة كثورة عالمية وأخذت تهتم بمصلحة الدولة. هذا الضعف الذي طرأ على الشيوعية منذ سنين، اقول انه بلغ ذروته عندما تورطت الشيوعية في معاداة ومهاجمة القومية العربية وفي معاداة الامة العربية التي هي أمة ثائرة ما زالت تكافح الاستعمار وما زالت تكافح الرجعية وما زالت تناضل من اجل وحدة أجزائها والحق في جانبها والتاريخ في صفها، وان اي دولة تقف في صف آخر فانها تقف ضد سير التاريخ وضد الحق. ولا أعرف ورطة اصعب من هذه الورطة التي انزلقت اليها الشيوعية العالمية. الشيوعية المحلية قصيرة النظر، مزيفة منذ بدايتها لأنها لم تقم على طبقة عاملة وانما على الاقليات غير المندمجة في التيار الوطني. وقد زادتها تزييفاً تبعيتها العمياء للشيوعية الدولية، وخاصة عندما وضعت هذه الاخيرة نفسها في صف ضد القومية العربية، وعندما يقوم الشيوعيون المحليون بتقليد الشيوعية العالمية في تشويه الحقيقة العربية وفي تفسير الشيوعية العالمية تفسيراً خاطئاً.

اذن نحن نستبشر لأن حركتنا اصيلة الى حد ان الحركة التي كانت تحتكر العقائدية في العالم وتحتكر رعاية مصلحة الشعوب، شعرت بالغيرة وشعرت بالمنافسة فتورطت في معاداتنا ولم نعادها نحن. فيا ايها الاخوة، اقول لكم ذلك لتعرفوا دائماً المستوى التاريخي الذي يجب ان نعمل فيه. لكي تتذكروا دائماً ان للامة العربية رسالة، وان ثمن الرسالة لا يكون سهلاً ولا ثمناً رخيصاً. اقول لكم بأن ثورتنا هي لنا وهي للعالم، ومن حقنا ان نطمح هذا الطموح، لأننا عانينا وما زلنا نعاني تجارب قاسية تؤهلنا معاناتها لأن نعطي حلولاً عميقة للانسانية. ولكن يجب علينا الا نؤخذ بالجانب السهل من هذا الكلام. اذ لا يليق بنا مطلقاً ان نهمل ما يرافق ثورتنا من ثغرات، بل الاجدر بنا ان نعترف بها ونتلافاها، وان نشكك في انفسنا وفي ما نقدمه، وان نطلب دوماً المزيد من النقد الذاتي وان نكون مستعدين للتصحيح اذا ظهر اي خطأ في خططنا وعملنا. جدير بنا ان نعطي للخصم حقه. فالمعركة التي نخوضها قاسية وهي معركة تشرفنا لأنها مقياس لتضحيتنا ولأنها تنبئ عن الامكانيات الكامنة في ثورتنا. ولكن بين خصومنا من هم اشداء متسلحون بالعلم والتنظيم. هذه الثورة الشائخة التي تحدثت عنها الآن، لا يحسن بنا ان نستخف بها لأن عقيدتها رغم ما فيها من اصطناع، فان فيها جهداً انسانياً كبيراً، فيها جهد المئات والألوف، فيها خلاصة اتعاب مائة سنة من الذكاء البشري وتجارب البشرية في النضال. يجدر بنا ان نعرف مواطن القوة عند الآخرين كما نعرف مواطن الضعف فيهم. فالمعركة خطيرة وقاسية، ولكن نستطيع اذا رجعنا الى مبادئنا وتعمقنا فيها وفي تطبيقها، وجعلنا نضالنا وتنظيمنا في مستوى هذه المبادئ وفي مستوى الامة التي تصنع التاريخ، عندها نستطيع ان نحول جميع الصعوبات والعقبات والمحن التي تعترض سبيلنا الى فوائد وخيرات ومناسبات لتعميق فكرتنا. وأول ما تتطلب منا هذه المعركة، وهي اولاً وآخراً معركة الوحدة العربية، ان نطبق فعلياً وبكل اخلاص وجدية مبدأ الوحدة، وحدة النضال، وان نعتبر العراق اليوم ساحة نضال لجميع العرب .

نيسان 1959

) حديث القي في اجتماع لرابطة طلبة الأردن في القاهرة، 22 نيسان 1959.


لبنان و العروبة

حسبما تكون نظرتنا الى مستقبل الاتجاه العربي الثوري نظرة متفائلة او متشائمة، ننظر ايضا الى موضع لبنان من العروبة، والى موقف العروبة من لبنان.

والواقع ان اكثرية الذين يسمون انفسهم ثوريين عربا بهم يأس من لبنان ومن امكانية انفتاحه على العروبة وانسجامه معها.

وسبب هذه النظرة سطحية وانحراف في ثورية هؤلاء الثورين. فالعروبة الحديثة، أي العروبة الثورية، لا يجوز ان تيأس من جزء من اجزاء وطنها وشعبها، لان الثورة العربية ليست الا الانكباب على مواطن الالم واسباب التأخر والفرقة في مجتمعنا، ومعالجتها من الأعماق والجذور، بروح مشبعة بالايمان والتفاؤل، ايمان بمبادئ الثورة، وتفاؤل بقدرة شعبنا على التجاوب مع هذه المبادئ.

وأكثر من ذلك، فالروح الثورية انما هي التي تتخذ من المشاكل المعقدة مناسبات ودوافع لتعميق المبادئ وامتحانها، وتصحيح الأسلوب، واعطاء الرسالة كل معناها ومداها.

وفي وطننا العربي الكبير من المشاكل والأوضاع الشاذة المتراكمة ما يتحدى ثورية القومية العربية واصالتها كل يوم، ويدفعها باستمرار كيما تجعل من واقعها وعاءا شفافا للمبادئ التي نادت بها.

فالمغرب العربي تكوينه التاريخي الخاص الذي يجمع بين العرب والبربر، ثم هجرة اعداد ضخمة اليه من الاوروبيين في ظل الاستعمار الفرنسي… والعراق وأقلياته العنصرية، وخاصة تلك الاقلية الكبيرة من الاكراد… ولبنان وتكوينه الخاص الذي اعطى لفروق المذهب والدين معنى الاختلاف الحضاري، كل هذه الحالات تتطلب حلولا ثورية سليمة، تحفظ للعروبة كل اجزاء ارضها وشعبها، وتتحقق الوحدة الروحية والتفاهم والانسجام بين الجميع، بدلا من الحلول النابعة من اليأس التي تتراوح بين بتر الاجزاء المسببة للمشاكل، او الاحتفاظ بها بالقوة والقسر.

واذا قصرنا الآن كلامنا على لبنان نجد ان مشكلته لم تطرح حتى الساعة بشكل صحيح ونزيه، وأول ما يتوجب تصحيحه هو الاعتقاد بأن لبنان يكون مشكلة فريدة في الوطن العربي، مع انه احدى المشاكل الرئيسية وقد لا يكون اكثرها صعوبة.

ولكن الاهم من ذلك هو التخلي نهائيا عن الحكم على عروبة لبنان بمقاييس هذه الدولة العربية او تلك، والرجوع بدلاُ من ذلك الى مقاييس العقيدة القومية الثورية التي لم تتجسد بعد بصورة كاملة في اية دولة عربية، وان كان بعض الدول يقترب منها اكثر من بعضها الآخر.

في ضوء هذه الحقيقة يبدو لبنان اقل ابتعادا عن العروبة من عدد من الأقطار الاخرى. وعندما نتخلص من هذا الالتباس نكون في الوقت نفسه قد وضعنا حدا في لبنان للاعتقاد الخاطئ الذي يعتبر كل نقص او خطأ في تصرفات بعض الدول العربية نقصا في القومية العربية ذاتها. كما اننا، بالمنطق نفسه، نرفض تقسيم الشعب في داخل لبنان الى قسمين، قسم مع العروبة وقسم ضدها، ذلك ان الجميع في نظر المقاييس القومية الثورية، بعيدون عنها، ولو باشكال ونسب مختلفة. اذ انه لو صح التقسيم الاصطلاحي وكان نصف سكان لبنان “عروبيين” اي عربا ثوريين، لما بقي فيه مخاصما للعروبة غير القلة من الرجعيين، بل لما كان فيه تقدمي الا هو نصير لها مؤمن بها، لان مشكلة لبنان مع العروبة ليست الا مشكلة تقدمية العروبة.

وبهذا المعنى يصبح للبنان دور اساسي في تصحيح وتعميق وتكامل الحركة العربية الثورية، حتى لو كان الذين يخاصمون العروبة فيه لا يقصدون التصحيح من موقفهم السلبي العدائي، اذ المفروض في العروبة الحديثة ان تكون قادرة على قبول هذا التحدي والاجابة عليه بمزيد من توضيح تقدميتها وتعميق ايمانها بالحرية والانسانية.

عام 1960


في سبيل البعث الجزء الأول – في القومية العربية

القومية حب قبل كل شيء


اخشى ان تسف القومية عندنا الى المعرفة الذهنية والبحث الكلامي فتفقد بذلك قوة العصب وحرارة العاطفة. كثيرا ما اسمع من الطلاب اسئلة عن تعريف هذه القومية التي ننادي بها: أهي عنصرية تقوم على الدم، أم روحية تستمد من التاريخ والثقافة المشتركة؟ وهل هي تنفي الدين أم تفسح له مكانا؟ !
وكأني بهم يعلقون ايمانهم بالقومية على درجة التعريف من الصحة والقوة. مع ان الايمان يجب ان يسبق كل معرفة ويهزأ بأي تعريف، بل انه هو الذي يبعث على المعرفة ويضيء طريقها.


القومية التي ننادي بها هي حب قبل كل شيء. هي نفس العاطفة التي تربط الفرد بأهل بيته، لان الوطن بيت كبير والأمة أسرة واسعة. والقومية ككل حب، تفعم القلب فرحاً وتشيع الأمل في جوانب النفس، ويود من يشعر بها لو ان الناس يشاركونه في الغبطة التي تسمو فوق انانيته الضيقة وتقربه من افق الخير والكمال، وهي لذلك غريبة عن ارادة الشر وأبعد ما تكون عن البغضاء. اذ ان الذي يشعر بقدسيتها ينقاد في الوقت نفسه الى تقديسها عند سائر الشعوب فتكون هكذا خير طريق الى الانسانية الصحيحة… وكما ان الحب لايوجد الا مقرونا بالتضحية فكذلك القومية، والتضحية فى سبيلها تقود الى البطولة. اذ ان الذي يضحي من اجل أمته دفاعا عن مجدها الغابر وسعادة مستقبلها، لأرفع نفساً واخصب حياة من الذي يحصر تضحيته في شخص واحد.


ان الذي يحب لا يسأل عن اسباب حبه. واذا سأل فليس بواجد له سبباً واضحا. والذي لا يستطيع الحب الا لسبب واضح يدل على ان الحب في نفسه قد فتر او مات.


فكيف يجوز لبعض الشباب ان يتساءلوا عن الحجة الدامغة التي تقنعهم بان حبهم لامتهم العربية يجب ان يغلب حبهم لاي شعب اخر، ويرجح على كل ميل لهم نحو طائفة او عشيرة او اقليم؟ وكيف يجوز لهم ان يتساءلوا فيما اذا كان للعرب فضائل جديرة بالحب؟ ان الذي لايحب امته الا اذا كانت خالية من العيوب لا يعرف الحب الحقيقي. وفي رأيي ان السؤال الوحيد الذي يجوز للشباب ان يطرحوه على انفسهم وعلى اساتذتهم هو هذا: ما دمنا نحب امتنا بخيرها وشرها ففي اي طريق نستطيع ان نحول هذا الحب الى خدمة نافعة وعلى اي اسلوب؟


الحب، ايها الشباب، قبل كل شيء. الحب اولا والتعريف يأتي بعده. اذا كان الحب هو التربة التي تتغذى قوميتكم منها، فلا يبقى مجال للاختلاف على تعريفها وتحديدها. فتكون روحية سمحة بمعنى انها تفتح صدرها وتظلل بجناحيها كل الذين شاركوا العرب في تاريخهم وعاشوا في جو لغتهم وثقافتهم اجيالا فاصبحوا عربا في الفكرة والعاطفة. ولا خوف ان تصطدم القومية بالدين فهي مثله تنبع من معين القلب وتصدر عن ارادة الله، وهما يسيران متآزرين متعانقين، خاصة اذا كان الدين يمثل عبقرية القومية وينسجم مع طبيعتها .


ميشيل عفلق
عام 1940


 

القومية قدر محبب

 

قلما يفكر المرء بالاشياء البسيطة مع ان في بساطتها سرا يفوق الاسرار. من ذا يفكر باسمه ووجهه؟ انهما قدر يلازمه طوال ثواني حياته. القومية كالاسم الذي يلصق بنا منذ ساعة ولادتنا ومثل قسمات الوجه المقدر علينا حتى من قبل ان نولد في وراثة أبوينا واجدادنا. إننا نألف اسماً ولا نجيب الا اذا نودينا به ولو كنا نفضل عليه اسماء احسن وقعا. كما نقبل بوجهنا ونستشف به خفايا نفسنا وصورة شخصيتنا ولو انه لا يحقق دوما كل شروط الجمال.

متى انتبه الانسان الى قدره يخرج من حالة الحياة السطحية ويدخل في جريان الحياة الحارة القوية، فاذا رافق عنده هذا الانتباه الى القدر، القبول به، اتخذت حياته اتجاها واتسمت بالرجولة.

القومية  للشعب كالاسم للشخص والملامح للوجه، هي قدر قاهر يسير مجموعة من البشر في مجرى من الحوادث والظروف فريد، وينسج عليه غلافاً من الصفات متميز الشكل. وكما ان من العبث ان يضيع المرء عمره في اللهف والاسف -لو ولدت في غير هذا البيت ووجدت على غير هذه الصورة- فان من الجهد الضائع ايضا ان يحاول الانسان التحلل من رباط قوميته التي احكمت شدها به اصابع القرون، ولكان اجدى به ان يقول: ما دامت طريقي معينة، ومسرح نشاطي محددا، فلاملأ كل خطوة من خطوات الطريق بأقصى جهودي، ولأظهر على هذا المسرح كل بطولتي، هذا هو قدري فلأكن به خليقا.

هبوا امرءاً تستيقظ فيه قوميته، ولم تتضح له ارادة هذا القدر فيقبل بها ويريدها، اي رجل هو؟ الى اي تاريخ ينتمي؟ ماذا يهبه الماضي من فخار ويرتب عليه الحاضر من مسؤولية؟ اية اماني تجتذبه الى المستقبل وتعلو به فوق حدود فرديته وانانيته؟ هل له مميزات تبين له في الحياة اتجاهه وتضيء له سبيله؟ او بتعبير آخر، هل له اسم، هل له ملامح؟

انني كلما فكرت في حالة امرىء كهذا ترتعد فرائصي ذعرا من صورة الشقاء الذي يضمه وصقيع العزلة التي تنأى به… اي ضيق في أفقه واي فقر في روحه، وأية تفاهة وشحوب في حياته؟ يعيش عمره وهو لايدري انه فرع من نبتة تغور اصولها في احشاء الماضي، و تمتد اغصانها على امتداد العصور، ولا يعلم انه واحد من الملايين الذين تعاقبوا خلال القرون والاجيال فحرثوا الارض وشادوا العمران واعملوا الفكر وأذابوا الارواح وحاربوا وسقطوا صرعى الحروب، كل ذلك ليكتبوا تاريخ امتهم سطراً سطراً، وليرفعوا بنيانها حجراً حجراً، وليوضحوا عبقريتها ويتابعوا رسالتها. وكل هذه الملايين جاهدت  وجالدت وصارعت العواصف وصمدت للنكبات لكي تخرجه من ظلمة العدم الى نور الحياة، لكي تلده هو، هذا الغافل الناسي، لتغني حياته بحياة الملايين، وتدعم نشاطه بجهود مئات الاجيال ولتحمله مسؤولية الماضي وشرف هذه المسؤولية، لتوجد له اسماً ينادى به وملامح تعرفه بين الامم، كي لا يبقى زيدا او بكرا من الناس، بل ليستطيع القول اذا تفاخرت الشعوب: انا عربي. قد يكون قاسياً هذا القدر الذي القى بنا في عصر الضعف والمذلة والتأخر والتفرقة،  بدلا من ان يوجدنا في عصر الوليد او الرشيد، فنستند الى دولة عزيزة منيعة، وشعب ناشط موحد الكلمة، وحضارة ساطعة الضياء. وقد يكون القدر احيانا قاسيا ولكنه عادل ابدا، فهو لا يوزع البطولة الا بنسبة الصعوبة، ولا يورث المجد الا بقدر الجهد. فلن تكون في نظره بطولة الذين يجاهدون اليوم ليحرروا بلادهم من استعمار الاجنبي وخطر التجزئة وينشلوها من هوة الجهل والفقر، بأقل من بطولة قتيبة وابن نصير. واذا كان عصر الرشيد والمأمون قد اتسع لانتاج الفلسفات والآداب، فسيكون كل واحد من ابطال اليوم في نظر الجيل الآتي موضوع ملحمة خالدة وتكون تضحيته منشأ فلسفة جديدة.

1940 

ميشيل عفلق


في القومية العربية


إذا كان في اهتمام الشباب ببحث القومية ما يدعو إلى الاستبشار فان في طريقة بحثهم لها ما يدعو إلى كثير من الحذر والقلق. فلقد أصبحت القومية عندهم نظرية من النظريات، يمكن الأخذ بها كما يمكن رفضها، إن لم أقل موضوعا من موضوعات الإنشاء وبابا من أبواب الصحف والمجلات.


إن إقبالا شديدا كالذي نراه على هذا الموضوع ليخيف أكثر مما يطمئن، لأنه كثير الشبه بالإقبال على زي جديد من أزياء اللباس واللهو. والزي الجديد سرعان ما يصبح قديما ويهجر بمثل الشدة التي قبل بها.


كل ذلك لأن “قوميتنا” أيضا تأتينا من الخارج بدلا من ان تنبعث من أعماقنا. إن الشجرة التي تفصل عن الأرض -مهما عظم حجمها- لا تلبث أن تجف وتخف حتى تبددها الرياح وتستحيل هباء.. بينما البذرة التي تولد في الخفاء، ما تزال تنمو وتشتد حتى تزدهر ويملأ أريجها الفضاء… أنجعل قوميتنا وهي أساس حياتنا نظرية من النظريات فنتركها عرضة لتقلبات المنطق والذوق والهوى فننادي بها اليوم ونؤثر عليها الأممية والشيوعية غدا، ونعتنق الدعوة الدينية بعد غد؟ أنفهمها فهما ضيقا فنساويها بأجزائها وعناصرها ونخير بين أن نسخر لها الفكر والفن ونضحي من أجلها بالحرية وبين أن نستعظم التضحية فنقدمها ذبيحة لكل هذه الأشياء ؟.


أنحصرها في ساحة محدودة من الوعي ونسجنها في تعريف كما فعل علماء الكلام بالدين قديما، فنحكم عليها بالهزال والفقر، والنضوب والعقم، ونقضي على جذورها المستترة في ظلام الأرض، وبراعمها الخبيئة في وهج النور؟

ان هذه القومية التي تأتينا من أوروبا مع الكتب والمجلات تهددنا بخطر مزدوج، فهي من جهة تنسينا شخصيتنا وتشوهها، ومن جهة أخرى تسلبنا واقعنا الحي وتعطينا بدلا منه ألفاظا فارغة ورموزا مجردة. فبحث القومية على الأسلوب الأوروبي يعللنا بآمال كاذبة، فيوهمنا أننا نبلغ ما بلغته الأمم الأوروبية العظمى بأخذنا بعض مظاهرها -أي بضرب من السحر- كما أنه يورثنا أمراضا ومشاكل وهمية فنشعر بنفس الأمراض والمشاكل التي تعانيها تلك الأمم.


ان الخطر الأكبر هو الايغال في التفكير المجرد. التفكير المجرد يوهمنا ان الواقع جامد ساكن عام في مادته الأولى، نستطيع أن نحلله ونشرّحه الى عناصر مستقلة، نعيد تركيبها ونبدل بعضها من بعض كما يحلو لنا، مع ان الواقع الحي كل متماسك منسجم، حي بتماسكه ووحدته، سابق لكل تحليل ذو فردية كاملة بذاتها. التفكير المجرد يعرّي الأشياء من لحمها ودمها ويفقدها لونها وطعمها، ويبعدها عن الدقة والضبط، فالأضداد تتشابه، والمتفاوتات تتعادل، لأنها أصبحت كلها ألفاظا واللفظة تساوي لفظة مثلها.


أية آلة دقيقة محكمة الصنع هي هذه القومية التي تحتم، كلما عرضت مسألتها في مكان، أن تنتج عنها نفس النتائج وتجابه ذات المعضلات؟ إن الذين يدخلون القومية في هذا الجو المجرد المفرغ من الهواء، لا يخطر ببالهم أنهم بنقلهم لفظة من موضع إلى آخر يزعزعون الجبال ويزلزلون الأرض، وأنهم بإهمالهم لفظة أخرى يقطعون أوصال الحياة ويحزون في شرايينها، ويحلون في ساعة ما نسجه الزمن في دماء أجيال. وإن في مقارنة القومية بالدين والتقاليد والفن مثلا ما ينم عن إخلال بدقة التفكير وفهم جزئي للقومية كأنها شيء مستقل عن الدين والتقاليد والفن، مع أنها التربة التي تنمو فيها مواهب أمة ما في كل الميادين. وعلى هذا لا يعود جائزا أن تختلق خصومة بينها وبين أحد أجزائها الأصلية المنبعثة منها، ولا ان نساويها به. أن التفكير المجرد منطقي مع نفسه اذ يقرر أن القومية لا بد ان تصطدم بالدين مثلا لأنهما يختلفان في المنبع والمظاهر.


ولكن لنهجر اللفظ قليلا ولنسم الأشياء بأسمائها وصفاتها المميزة، فنستبدل بالقومية (العروبة) وبالدين (الإسلام) تظهر لنا المسألة تحت ضوء جديد، فالإسلام في حقيقته الصافية نشأ في قلب العروبة وأفصح عن عبقريتها أحسن إفصاح وساير تاريخها وامتزج به في أمجد أدواره، فلا يمكن أن يكون ثمة اصطدام. وبعد فهل القومية محصورة بالأرض كما يظن، بعيدة كل البعد عن السماء، حتى يعتبر الدين شاغلا عنها مبذرا لبعض ثروتها، بدلا من اعتباره جزءا منها مغذيا لها ومفصحا عن أهم نواحيها الروحية والمثالية؟

ان القومية العربية ليست نظرية ولكنها مبعث النظريات، ولا هي وليدة الفكر بل مرضعته، وليست مستعبدة الفن بل نبعه وروحه، وليس بين الحرية وبينها تضاد، لأنها هي الحرية، اذا ما انطلقت في سيرها الطبيعي وتحققت ملء قدرتها.


ثمة فرق جوهري بين الجسم الحي، مهما كان ضئيلا بسيطا وبين الجسم الآلي الذي يريد تقليد الحياة والتشبه بها، مهما أتقن الصانعون صنعه وافرغوا فيه فنهم ومهارتهم. الآلة خارجة عن مجرى الحياة وغير متصلة بالزمان. فلا يحسب الذين يستعيرون النظريات القومية والفلسفية الأجنبية ويكدسونها بعضا فوق بعض ليركبوا منها القومية العربية، انهم بوضعهم الثياب الجميلة على عصا يوهموننا بأنها تحيا. اننا لا نزال نشعر أن هناك جسما حيا اهملوه وتعاموا عنه، انه مازال عاريا. قد يكون هزيلا ولكنه جميل، وجماله لا لشيء، سوى انه حي.


كثيرا ما نسمع: (أأنتم أفضل من هذه الأمة أو تلك! انها مرت على هذه المراحل ونجحت بهذه الأساليب!) لسنا ندعي اننا أفضل من غيرنا، لكننا مختلفون عنهم: وهذا الاختلاف هو الذي يجعلنا عربا ويجعلهم غير عرب. ولسنا نقول بضرر الاطلاع على النظريات الرائجة عندهم بل نعتقد ان فائدة هذا الاطلاع يجب أن تبقى سلبية، أي ان نعرف بواسطته كل الأشياء التي ليست لنا، فإن ذلك يقربنا من فهم حقيقتنا وحاجتنا.


كل تفسير للقومية العربية لا ينبعث من صميمها، انبعاث الغرسة من الأرض والسنبلة من القمحة يكون تفسيرا ضالا جامدا ميتا. وكل نظرية عن العروبة يصح أن تقال على السواء عن فرنسة القرن الثامن عشر وعن اليونان في عهد أفلاطون، نظرية زائفة آلية، لأنها لا تنبىء عن خصائص المكان ولا يستشف منها انسياب الزمن. وليكفوا عن التذرع بالأشياء الخالدة المشتركة اذ لا شيء خالدا ومشتركا بين البشر غير التحول والاختلاف.


لا يصبح العرب قوميين باعتناقهم فكرة القومية فهي ليست فكرة. ولا بعملية حب وإيمان وإرادة، فهي شروط لازمة للقومية ولكنها ليست إياها. جعل القومية فكرة تعتنق يضيف الى طوائف العرب طائفة جديدة ويضع على النفس العربية طلاء فوق القشور الموجودة التي تغشاها، ويزيدنا تفرقة ويباعد ما بين التجانس وبيننا. لا يحتاج العرب إلى تعلم شيء جديد ليصبحوا قوميين، بل إلى إهمال كثير مما تعلموه حتى تعود إليهم صلتهم المباشرة بطبعهم الصافي الأصيل. القومية ليست علما بل هي تذكر، تذكر حي.


وهذه المعجزة التي يسعون اليها ويتلوون على ألف شكل لكي يعثروا عليها، ما عسى تكون دهشتهم عندما تظهر فيهم نقية، كاملة، بسيطة بساطة المعجزات، إذا هم تركوا الحياة تستعيد فيهم عفويتها وحريتها وتملأ كل سعتها. عبثا ينشدون قوميتهم بتحليلها من الخارج إلى عناصرها، وتركيبها تركيبا صنعيا مستوحى من الكتب والتفكير المجرد ومثال الأمم الأجنبية، انهم لن يجدوها الا في داخلهم مركبة وواحدة معا كما هي في الواقع وككل شيء حي متداخل الأجزاء، لا يفصل عنها جزء الا ويفقدها الحياة. هي في أعمالنا الماضية وآلامنا الحاضرة، في فضائلنا وعيوبنا، في تاريخنا المسطور في الكتب وتاريخنا المحفور على حنايا الضلوع، الذي يقرر أكثر اتجاهاتنا ويغذي معظم أحلامنا.

عام 1941


 

ذكرى الرسول العربي

الشخصية العربية بين الماضي والحاضر(1 )– في مثل هذه الحفلات يخطر لي دوماً سؤال: ما هي قيمة الكلام؟ لم نعرف في تاريخنا زمناً كثر فيه الكلام وطغى على كل شيء مثل هذا الزمن الذي نعيش فيه، ومع ذلك فهو أقل العهود حيوية وإنتاجاً، فهل يكون الكلام إذا مساعداً على الشلل والعقم، بدلا من أن يكون دافعاً إلى العمل وخصب النفس؟ هناك فرق جوهري بين الكلام المرتبط بقائله الذي يعبر عن حاصل شخصية حية وعن موقفها الكلي من الحياة، وبين الكلام المنفصل عن الشخصية الذي لا يعني غير ذهن يلهو ولسان  يهذر. كان العرب شديدي التأثر باللفظ، لأن الألفاظ كانت عندهم حقائق نابضة مترعة بالحياة، فكان يسمعها القلب لا الأذن، و تجيب عليها الشخصية كلها لا اللسان وحده، لذلك كان للفظة قدسية وكانت بمثابة تعهد، تربط الحياة وتتصرف بها، سواء حياة الفرد أم حياة الجماعة.

فاللفظة التي كانت كالورقة النقدية تمثل قيمة معينة من الذهب، غدت اليوم مجرد قصاصة من الورق ليس وراءها ما يضمنها، فنحن نرى نفسا فقيرة إلى حد العدم تستطيع أن تغرق ما حولها ببحر من الكلام، وليس من يطالب بأن يكون وراء الكلام عمل يضمنه، فلا غرابة في أن تفقد الثقة وتلتبس الأمور ويكثر الغش والتلاعب وبالنتيجة الإفلاس والفضيحة.

نحن أمام حقيقة راهنة هي الانقطاع بل التناقض بين ماضينا المجيد وحاضرنا المعيب. كانت الشخصية العربية كلاً موحداً، لا فرق بين روحها وفكرها، بين عملها وقولها، أخلاقها الخاصة وأخلاقها العامة، وكانت الحياة العربية تامة ريانة مترعة يتضافر  فيها الفكر والروح والعمل وكل الغرائز القوية. أما نحن فلا نعرف غير الشخصية المنقسمة المجزأة، ولا نعرف إلا حياة فقيرة جزئية، إذا أهلها العقل فإن الروح تجفوها، وان داخلتها العاطفة فالفكر ينبو عنها : إنها فكرية جديبة، أو عملية هوجاء، فهي أبداً محرومة من بعض القوى  الجوهرية، وقد آن لنا أن نزيل هذا التناقض فنعيد للشخصية العربية وحدتها، وللحياة العربية تمامها. يجب أن تتحد الصلاة مع العقل النير مع الساعد المفتول، لتؤدي كلها إلى العمل العفوي الطلق الغني القوي المحكم الصائب..

كان انتسابنا لأجدادنا الأبطال انتسابا رسمياً لا أكثر، واتصال تاريخنا الحديث بتاريخنا  المجيد اتصالاً طفيلياً  لا عضوياً. اليوم يجب أن نبعث فينا الخصال ونقوم بالأعمال التي تبرر نسبنا الرسمي وتجعله حقيقياً مشروعا. يجب أن نزيل ما استطعنا من حواجز الجمود والانحطاط حتى يعود الدم الأصيل المجيد فيتسرب إلينا. يجب أن ننقي أرضنا وسماءنا حتى تستأنس أرواح الجدود الأبطال فتهبط إلينا وتستطيب الهيمنة  فوقنا.

ظللنا زمناً طويلاً نعيش في جو ثقيل خانق لانه كاذب : طلاق بين الفكر والعمل، بين اللسان والقلب، كل لفظة نقولها تحدث جلبة الوعاء الفارغ، ووقرا في الاذن والنفس، لأنها مفرغة من معناها. كل كلمة نقرؤها  تحدث ارتعاشاً في بصرنا والماً، لأنها تتراءى لنا كالشبح والظل تذكرنا بشيء انقطع عهدنا به، وهي تحزننا كمرأى طلل هجره ساكنوه. فيجب ان نعيد الى الالفاظ معناها وقوتها، مقامها وحرمتها ان نجعل لكل لفظة موقفاً في الحياة يقابلها. ان تجعل اللفظة مخبرة عن عمل قمنا به بعد ان كانت مذكرة بعمل عجزنا عنه، علينا الا نقول الا ما نقدر على تحقيقه، حتى يأتي يوم نقدر فيه ان نحقق كل ما نقوله.

الاسلام تجربة واستعداد دائم – ايها السادة : ان حركة الاسلام المتمثلة فى حياة الرسول الكريم ليست بالنسبة الى العرب حادثاً تاريخياً فحسب، تفسر بالزمان والمكان، وبالاسباب والنتائج، بل انها لعمقها وعنفها واتساعها ترتبط ارتباطاً مباشراً بحياة العرب المطلقة، اي انها صورة صادقة ورمز كامل خالد لطبيعة النفس العربية وممكناتها الغنية واتجاهها الأصيل فيصح لذلك اعتبارها ممكنة التجدد دوماً في روحها. لا في شكلها وحروفها. فالاسلام هو الهزة الحيوية التي تحرك كامن القوى في الامة العربية فتجيش بالحياة الحارة، جارفة سدود التقليد وقيود الإصطلاح. مرجعة اتصالها مرة جديدة بمعاني الكون العميقة، ويأخذها العجب والحماسة  فتنشئ تعبر عن  اعجابها وحماستها بالفاظ جديدة واعمال مجيدة، ولا تعود من نشوتها قادرة على التزام حدودها الذاتية، فتفيض على الأمم الأخرى فكراً وعملاً، وتبلغ هكذا الشمول. فالعرب عرفوا بواسطة هذه التجربة الأخلاقية العصيبة كيف يتمردون على واقعهم وينقسمون على أنفسهم، في سبيل تجاوزها الى مرحلة يحققون بها وحدة عليا، وبلوا فيها نفوسهم ليستكشفوا ا ممكناتها ويعززوا فضائلها. وكل ما أثمر الاسلام فيما بعد من فتوح وحضارات انما كان فى حالة البذور فى السنوات العشرين الاولى من البعثة، فقبل ان يفتح العرب الأرض فتحوا أنفسهم وسبروا اغوارها وخبروا دخائلها، وقبل ان يحكموا الامم حكموا ذواتهم وسيطروا على شهواتهم وملكوا ارادتهم. ولم تكن العلوم التى انشأوها والفنون التي أبدعوها والعمران الذي رفعوه، الا تحقيقا ماديا جزئيا قاصرا لحلم قوي كلي عاشوه فى تلك السنوات بكل جوارحهم والا رجعا خافتا لصدى ذلك الصوت السماوي الذى سمعوه وظلا باهتا لتلك الرؤى الساحرة التي لمحوها يوم كانت الملائكة تحارب في صفوفهم، والجنة تلمع من بين سيوفهم.

هذه التجربة ليست حادثا تاريخيا يذكر للعبرة والفخر، بل هي استعداد دائم في الامة العربية – اذا فهم الاسلام على حقيقته- لكي تهب في كل وقت تسيطر فيه المادة على الروح، والمظهر على الجوهر، فتنقسم  على نفسها لتصل الى الوحدة العليا والانسجام السليم، وهى تجربة لتقوية اخلاقها كلما لانت وتعميق  نفوسها كلما طفت  على السطح، تتكرر فها ملحمة الاسلام البطولية بكل فصولها من تبشير واضطهاد وهجرة وحرب، ونصر وفشل، الى ان تختم  بالظفر النهائي للحق والإيمان.

حياة الرسول خلاصه لحياة العرب –ان حياة الرسول وهي ممثلة للنفس العربية في حقيقتها المطلقة لا يمكن ان تعرف بالذهن، بل بالتجربة الحية لذلك لا يمكن ان تكون هذه المعرفة بدءا بل هي نتيجة. فالعرب منذ ضمور الحيوية فيهم، اي منذ مئات السنين يقرأون السيرة ويترنمون بها ولكنهم لا يفهمونها لان فهمها يتطلب درجة من غليان النفس قصوى، وحدا من عمق الشعور وصدقه لم يتوفر لهم بعد، وموقفا وجوديا يضع الانسان امام قدره وجهاً لوجه، وهم أبعد ما يكونون عن ذلك.

إن أرواح أبطالنا لتجفونا وتهجرنا منذ زمن طويل، لأن البطولة لم تعد من مزايا العرب المألوفة، ويخشى أن يكون هذا التعظيم العامي للرسول الكريم معبراً عن القصور والعجز اكثر منه تقديراً للعظمة، فقد بعد عهدنا بالبطولة حتى أمسينا ننظر اليها نظرة خوف ورهبة واستغراب كأنها من عالم غير عالمنا، في حين ان التعظيم الحقيقي للبطولة انما يصدر عن المشاركة فيها وتقديرها بعد المعاناة والتجربة، فلا يقدر البطل الا الذي يحقق ولو جزءا يسيرا من البطولة في حياته.

حتى الآن كان ينظر الى حياة الرسول من الخارج كصورة رائعة وجدت لنعجب بها ونقدسها، فعلينا ان نبدأ بالنظر اليها من الداخل، لنحياها. كل عربي في الوقت الحاضر يستطيع ان يحيا حياة الرسول العربي، ولو بنسبة الحصاة الى الجبل والقطرة الى البحر. طبيعي ان يعجز اي رجل مهما بلغت عظمته ان يعمل ما عمل محمد. ولكن من الطبيعي ايضاً ان يستطيع اي رجل مهما ضاقت قدرته ان يكون مصغراً ضئيلا لمحمد، ما دام ينتمي الى الأمة التي حشدت كل قواها فأنجبت محمدا، او بالاحرى ما دام هذا الرجل فردا من افراد الامة التي حشد محمد كل قواه فأنجبها. في وقت مضى تلخصت في رجل واحد حياة امته كلها، واليوم يجب ان تصبح كل حياة هذه الامة في نهضتها الجديدة تفصيلاً لحياة رجلها العظيم. كان محمد كل العرب، فليكن كل العرب اليوم محمدا.

الاسلام تجدد العروبة وتكاملها رجل من العرب بلغ رسالة سماوية فراح يدعو اليها البشر، ولم يكن البشرحوله الا عربا فاستجاب للدعوة نفر قليل وقاومها اكثرهم، فهاجر مع المؤمنين وحاربه المشركون الى أن انتصر الحق فآمن به الجميع. فملحمة الاسلام لا تنفصل عن مسرحها الطبيعي الذي هو ارض العرب، وعن ابطالها والعاملين فيها وهم كل العرب. مشركو قريش ضروريون لتحقق الاسلام ضرورة المؤمنين له، والذين حاربوا الرسرل ساهموا في ظفر الاسلام كالذين ايدوه ونصروه. ان الله قادر ان ينزل القرآن على نبيه في يوم واحد، ولكن ذلك اقتضى أكثر من عشرين عاما، وهو قادر ان ينصر دينه ويهدي اليه كل الناس في يوم واحد، ولكن ذلك لم يتم في اقل من عشرين عام، وهو قادر ان يظهر الاسلام قبل ظهوره بعشرات القرون وفي أية أمة من خلقه، ولكنه اظهره في وقت معين وفي حينه، واختار لذلك الأمة العربية وبطلها الرسول العربي. وفي كل ذلك حكمة، فالحقيقة الباهرة التي لاينكرها الا مكابر، هي اذن، ان اختيار العرب لتبليغ رسالة الاسلام كان بسبب مزايا وفضائل اساسية فيهم، وان اختيار العصر الذي ظهر فيه الاسلام كان لان العرب قد نضجوا وتكاملوا لقبول مثل هذه الرسالة وحملها الى البشر، وأن تأجيل ظفرالإسلام طوال تلك السنين، كان بقصد ان يصل العرب الى الحقيقة بجهدهم الخاص وبنتيجة اختبارهم لأنفسهم وللعالم وبعد مشاق وآلام، ويأس وأمل، وفشل وظفر. اي ان يخرج الايمان وينبعث من اعماق نفوسهم، فيكون الايمان الحقيقي الممتزج مع التجربة، المتصل بصميم الحياة.

 فالاسلام اذن كان حركة عربية، وكان معناه : تجدد العروبة وتكاملها. فاللغة التي نزل بها كانت اللغة العربية، وفهمه للاشياء كان بمنظار العقل العربي، والفضائل التي عززها كانت فضائل عربية ظاهرة أو كامنة، والعيوب التي حاربها كانت عيوبا عربية سائرة  في طريق الزوال. والمسلم في ذلك الحين لم يكن سوى العربي، ولكن العربي الجديد، المتطور، المتكامل. وكما نطلق اليوم على عدد من افراد الامة اسم “وطني” أو “قومي” مع ان المفروض ان يكون مجموع الأمة قومياً، ولكننا نخص بهذا الاسم الفئة  التي آمنت بقضية بلادها لانها استجمعت الشروط والفضائل اللازمة كيما تعي انتسابها العميق الى أمتها وتتحمل مسؤولية هذا الانتساب، كان المسلم هو العربي الذي آمن بالدين الجديد لانه استحضر الشروط والفضائل اللازمة ليفهم ان هذا الدين يمثل وثبة العروبة الى الوحدة والقوة والرقي.

انسانية الاسلام ولكن هل يعني هذا ان الاسلام وجد ليكون مقصوراً على العرب؟. اذا قلنا ذلك أبتعدنا عن الحق وخالفنا الواقع. فكل أمة عظيمة، عميقة الاتصال بمعاني الكون الأزلية، تنزع في أصل تكوينها الى القيم الخالدة الشاملة. والاسلام خير مفصح عن نزوع الامة العربية الى الخلود والشمول فهو اذن في واقعه عربي وفي مراميه المثالية انساني. فرسالة الاسلام انما هي خلق انسانية عربية. ان العرب ينفردون دون سائر الأمم بهذه الخاصة : ان يقظتهم القومية إقترنت برسالة دينية، او بالاحرى كانت هذه الرسالة مفصحة عن تلك اليقظة القومية. فلم يتوسعوا بغية التوسع ولا فتحوا البلاد وحكموا استناداً الى حاجة اقتصادية مجردة، أو ذريعة عنصرية، او شهوة للسيطرة والاستعباد.. بل ليؤدوا واجباً دينياً كله حق وهداية ورحمة وعدل وبذل. أراقوا من اجله دماءهم، واقبلوا عليه خفافاً متهللين لوجه الله. وما دام الارتباط وثيقاً بين العروبة والاسلام، وما دمنا نرى في العروبة جسماً روحه الاسلام، فلا مجال اذن للخوف من ان يشتط العرب في قوميتهم. انها لن تبلغ عصبية البغي والاستعمار… وطبيعي  ان العرب لا يستطيعون اداء هذا الواجب الا اذا كانوا أمة قوية ناهضة، لان الإسلام لا يمكن ان يتمثل الا في الامة العربية، وفي فضائلها واخلاقها ومواهبها. فأول واجب تفرضه انسانية الاسلام اذن هوان يكون العرب اقوياء  سادة في بلادهم. الاسلام كائن حي متميز بملامح وحدود ظاهرة بارزة، والكائن الحي المتميز الراقي في مراتب الحياة يكون هذا الشيء ولا يكون ذاك الشيء، هو يعنى هذا المعنى ويناقض ذلك المعنى ويعاديه: الاسلام عام وخالد ولكن عموميته لا تعني انه يتسع في وقت واحد لشتى المعاني والاتجاهات بل انه في كل حقبة خطيرة من حقب التاريخ وكل مرحلة حاسمة من مراحل التطور يفصح عن واحد من المعاني اللامتناهية الكامنة فيه منذ البدء، وخلوده لا يعني انه جامد لا يطرأ عليه تغير او تبدل، وتمر من فوقه الحياة دون ان تلامسه، بل انه بالرغم من تغيره المستمر، ومن استهلاكه لكثير من الاثواب، وافنائه لعديد من القشور واللباب، تبقى جذوره واحدة، وقدرتها على النماء والتوليد والابداع واحدة لا تنقص ولا تفنى، هو نسبي لزمان ومكان معينين، مطلق  المعنى والفعل  في حدود هذا الزمان وهذا المكان.

فهل يدري اولئك الغيورون الذين يريدون ان يجعلوا من الاسلام جرابا يسع كل شيء، ومعملا ينتج شتى المركبات والادوية، انهم بدلاً من ان يبرهنوا على قوته ويحفظوا فكرته من كل تغير طارئ، يقضون بذلك على روحه وشخصيته ويفقدونه مميزاته الحية واستقلاله وتعيينه، وانهم من جهة اخرى يفسحون المجال لدعاة الظلم وأرباب الحكم الجائر، كي يستمدوا من الاسلام اسلحة يطعنون بها مادة الاسلام نفسه، اي الامة العربية ؟.

 اذن فالمعنى الذي يفصح عنه الاسلام في هذه الحقبة التاريخية الخطيرة، وفي هذه المرحلة الحاسمة بين مراحل التطور، هو ان توجه كل الجهود الى تقوية العرب وانهاضهم وان تحصر هذه الجهود في نطاق القومية العربية.

العرب والغرب – منذ قرن ونصف قرن عاد اتصال الغرب بالعرب بواسطة حملة بونابرت على مصر، وقد رمز هذا الداهية الى ذلك الاتصال بأن علق لوحات كتبت فيها آيات القرآن الى جانب حقوق الانسان. ومنذ ذلك الحين ما برح العرب (أو الرؤساء الدخلاء على العروبة) يدفعون نهضتهم الحديثة في هذا الاتجاه الأشوه، فهم يجهدون انفسهم ويرهقون نصوص تاريخهم وقرآنهم ليظهروا ان مبادىء حضارتهم وعقيدتهم لا تختلف عن مبادئ الحضارة الغربية، وانهم كانوا اسبق من الغربيين الى اعلانها وتطبيقها. وهذا لا يعني الا شيئاً واحداً: وهو انهم يقفون امام الغرب وقفة المتهم مقرين له بصحة قيمه وأفضليتها. ان الواقع الذي لا محيد عن الاعتراف به هو ان غزو الحضارة الغربية للعقل العربي في وقت جف فيه هذا العقل حتى أمسى قوالب فارغة، يسر لتلك الحضارة ان تملأ بمفاهيمها ومعانيها فراغ هذه القوالب. ولم تمض فترة من الزمن حتى انتبه العرب الى ان ما يخاصمون الاوروبيين عليه هو نفس ما يقول به هؤلاء، وانهم لايفرقون عن الاوروبيين الا بالكم، كما يفرق القليل عن الكثير، والمقصر عن السابق، ولن يتأخر الوقت الذي يعترفون فيه بالغاية المنطقية لهذا الاتجاه، اي ان في الحضارة الاوروبية ما يغني عن حضارتهم. فحيلة الاستعمار الاوروبي لم تكن في انه قاد العقلية العربية الى الاعتراف بالمبادئ والمفاهيم الخالدة، اذ ان هذه العقلية معترفة بها وقائمة عليها منذ نشأتها. ولكن هي في اغتنامه فرصة جمود العقلية العربية وعجزها عن الابداع ليضطرها الى تبني المضمون الاوروبي الخاص لهذه المفاهيم. فنحن لسنا نخالف الاوروبيين في مبدأ الحرية، بل في ان الحرية تعني الذي يفهمونه منها. ان أوروبا اليوم، كما كانت في الماضي، تخاف على نفسها من الاسلام. ولكنها تعلم الآن ان قوة الاسلام (التي كانت في الماضي معبرة عن قوة العرب) قد بعثت وظهرت بمظهر جديد هو القومية العربية. لذلك فهي توجه على هذه القوة الجديدة كل اسلحتها، بينما نراها تصادق الشكل العتيق للاسلام وتعاضده. فالاسلام الاممي الذي يقتصر على العبادة السطحية والمعاني العامة الباهتة آخذ في التفرنج، ولسوف يجيء يوم يجد فيه القوميون أنفسهم المدافعين الوحيدين عن الاسلام ويضطرون لأن يبعثوا فيه معنى خاصا اذا أرادوا ان يبقى للامة العربية سبب وجيه للبقاء.

شرف العروبة من هذه المفاهيم الاوروبية التي غزت العقل العربي الحديث فكرتان عن القومية والانسانية فيهما خطأ وخطر كبير.

فالفكرة القومية المجردة في الغرب منطقية اذ تقرر انفصال القومية عن الدين. لان الدين دخل على اوروبا من الخارج فهو اجنبي عن طبيعتها وتاريخها، وهو خلاصة من العقيدة الاخروية والاخلاق، لم ينزل بلغاتهم القومية، ولا أفصح عن حاجات بيئتهم، ولا امتزج بتاريخهم، في حين ان الإسلام بالنسبة الى العرب  ليس عقيدة اخروية فحسب، ولا هو أخلاق مجردة، بل هو اجلى مفصح عن شعورهم الكوني  ونظرتهم الى الحياة، واقوى تعبير عن وحدة شخصيتهم التي يندمج فيها اللفظ بالشعور والفكر، والتأمل بالعمل، والنفس بالقدر. وهو فوق ذلك كله اروع صورة للغتهم  وآدابهم، أضخم قطعة من تاريخهم القومي، فلا نستطيع  ان نتغنى ببطل من ابطالنا الخالدين بصفته عربيا ونهمله او ننفر منه بصفته مسلما. قوميتنا كائن حي متشابك الاعضاء، وكل تشريح لجسمها وفصل بين اعضائها يهددها بالقتل  فعلاقة الاسلام بالعروبة ليست اذا كعلاقة اي دين بأية قومية. وسوف يعرف المسيحيون العرب، عندما تستيقظ فيهم قوميتهم يقظتها التامة ويسترجعون طبعهم الاصيل، ان الاسلام هو لهم ثقافة قومية يجب ان يتشبعوا بها حتى يفهموها ويحبوها فيحرصوا على الاسلام حرصهم  على اثمن  شيء في عروبتهم. واذا كان الواقع لا يزال بعيدا عن هذه الامنية، فان على الجيل  الجديد من المسيحيين العرب مهمة تحقيقها بجرأة وتجرد، مضحين في سبيل ذلك  بالكبرياء والمنافع، اذ لا شيء يعدل العروبة وشرف الانتساب اليها.

الإنسانية المجردة : أما الخطر الثاني وهو خطر الفكرة الانسانية المجردة على النمط الاوروبي، فيؤدي في نتيجته  العميقة الى اعتبار الشعوب كتلا من البشر جامدة متجانسة  ليس  لها جذور في الارض، ولا يؤثر فيها الزمن، فيمكن ان تطبق على واحد منها الإصلاحات والانقلابات التي تنشأ من حاجات واستعدادات شعب غيره. وبعد، فهل يحسب اصحاب النظريات الثورية في الإقتصاد والإجتماع انهم بالصاقهم ثماراً من الشمع على عود جاف ينفخ الروح في هذا العود، ويجعل منه شجرة حية؟ لا يكفي ان تكون النظريات والاصلاحات معقولة في حد ذاتها، بل يجب ان تتفرع تفرعا حيا عن روح اعم هي لها منبع واصل. يظن بعضهم اليوم ان ادخال الاصلاحات المختلفة على وضع العرب يكفي ليبعث الامة. ونحن نرى في هذا مظهرا من مظاهر الانحطاط لانه نظرة معكوسة، ووضع للفرع مكان الاصل، وللنتيجة مكان السبب. فالواقع ان هذه الاصلاحات فروع لابد لها من اصل منتج عنه كما تخرج الازهار من الشجرة، وهذا الاصل نفسي قبل كل شيء  هو ايمان الامة برسالتها، وايمان ابنائها بها. في الاسلام، كان الايمان باله واحد هو الاصل، وعنه تفرعت كل الاصلاحات التي طرأت على المجتمع العربي وقلبته. ولم يكن المسلمون الأولون في مكة يدرون ان موافقتهم على توحيد الله والايمان باليوم الآخر ستقودهم الى الموافقة عن كل التشريع الذي فصله الاسلام فيما بعد ونراهم مع ذلك يطبقون هذا التشريع تطبيقا عفويا، طوعيا منطقيا، لان موافقتهم الثابتة كانت ضمنية في الموافقة الاولى على الإيمان  باله واحد، فكل ما يأمر به هذا الإله هو حق وعدل ومهما قيل في تدخل العوامل السياسية والاقتصادية في مناهضة قريش للإسلام  يبقى العامل الرئيسي عاملا دينيا، أي فكريا. وان الآخذين اليوم بالطريقة المشوهة في تعديل الدين تعديلا ماديا ليخالفون واقع التاريخ والنفس الانسانية من جهة، ويطعنون العرب من جهة اخرى في اثمن مميزاتهم: في مثاليتهم. فلقد رأينا قريشا عندما اضطرتها مصالحها المادية ان تهادن الرسول فى صلح الحديبية، تصر على ان تنكر عليه وحيه ودينه الجديد.

فمما تقدم يتضح سبب  تعليقنا كل الاهتمام على الشعور القومي العميق الواعي، باعتباره اصلا، لانه وحده الضامن للاصلاحات الإجتماعية ان تكون حية فاعلة جريئة، منسجمة مع روح الشعب وحاجاته، يحققها لانه يريدها.

الجيل  العربي الجديد– ايها السادة : اننا نحتفل بذكرى بطل العروبة والاسلام. وما الإسلام الا وليد الآلام، آلام العروبة، وان هذه الآلام قد عادت الى ارض العرب بدرجة من القسوة والعمق لم يعرفها عرب الجاهلية فما احراها بان تبعث فينا اليوم ثورة مطهرة مقومة كالتي حمل الإسلام لواءها. وليس غير الجيل العربي الجديد يستطيع أن يضطلع بها ويقدر ضرورتها، لأن آلام الحاضر قد هيأته  لحمل لواء هذه  الثورة، وحبه لأرضه وتاريخه قد هداه لمعرفة روحها واتجاهها.

نحن الجيل العربي الجديد نحمل رسالة لا سياسة، ايمانا وعقيدة لا نظريات واقوالا. ولا تخيفنا تلك الفئة الشعوبية المدعومة بسلاح الأجنبي، المدفوعة  بالحقد العنصري على العروبة، لأن الله والطبيعة والتاريخ معنا. انها لا تفهمنا  فهي غريبة عنا.  غريبة عن الصدق والعمق والبطولة، زائفة مصطنعة ذليلة. لا يفهمنا الا المجربون والذين يفهمون حياة محمد من الداخل، كتجربة اخلاقية وقدر تاريخي. لا يفهمنا الا الصادقون الذين يصطدمون في كل خطوة بالكذب والنفاق والوشاية والنميمة، ولكنهم مع ذلك يتابعون السير ويضاعفون الهمة. لا يفهمنا الا المتألمون، الذين صاغوا من علقم اتعابهم ودماء جروحهم  صورة الحياة العربية المقبلة التي نريدها سعيدة هانئة، قوية صاعدة، ناصعة تتألق بالصفاء. لا يفهمنا الا المؤمنون، المؤمنون بالله. قد لا نُرى نصلي مع المصلين، او نصوم مع الصائمين، ولكننا نؤمن بالله لاننا في حاجة ملحة وفقر اليه عصيب، فعبئنا ثقيل وطريقنا وعر، وغايتنا بعيدة. ونحن وصلنا الى هذا الإيمان  ولم نبدأ به، وكسبناه بالمشقة والألم، ولم نرثه ارثاً ولا استلمناه تقليداً، فهو لذلك ثمين عندنا لانه ملكنا وثمرة اتعابنا. ولا أحسب ان شابا عربيا يعي المفاسد المتغلغلة في قلب امته، ويقدر الاخطار المحيطة بمستقبل العروبة تهددها من الخارج وخاصة في الداخل، ويؤمن في الوقت نفسه ان الامة العربية يجب ان تستمر في الحياة، وان لها رسالة لم تكمل أداءها بعد، وفيها ممكنات لم تتحقق كلها، وان العرب لم يقولوا بعد كل ما عليهم ان يقولوه، ولم يعملوا كل الذي في قدرتهم ان يعملوه، لا احسب ان شابا كهذا يستطيع الاستغناء عن الايمان بالله، اي الايمان بالحق، وبضرورة ظفر الحق، وبضرورة السعي كيما يظفر الحق.

ميشيل عفلق

5 نيسان 1943

(1 ) خطاب القي على مدرج الجامعة السورية في 5 نيسان عام 1943


التفكير المجرد

في بلادنا عدد غير قليل من المثقفين المشوهين الذين غدت الثقافة في ايديهم اداة ايذاء. واريد أن اخص بحديثي أولئك الذين عاشوا في وسط عائلي واجتماعي فقدت منه الروح العربية، ثم تعلموا في المعاهد الاجنبية أو في ديار الغرب وحرموا من الثقافة العربية حتىّ اذا وضعتهم ثقافاتهم في مراكز توجيهية، اجازوا لانفسهم ابداء الرأي في صميم حياتنا القومية التي عاشوا غرباء عنها جاهلين لها، حاقدين عليها. ومن هؤلاء أخذت الحركة الشيوعية في بلادنا بعض عناصرها المثقفة، ومنهم نشأ ذلك الاتجاه الذي سميناه في بعض الكتابات السابقة بالتقدمية الزائفة المصطنعة، لانه تقدم ليس له جذور في نفوسنا، ولا يلبي حاجاتا الحقيقية، وانما هو من الخارج، يلصق على حياتنا لصقاً.

ففقدان الروح العربية والثقافة العربية يقود الى الثقافة المجردة، فالشخص يكون ضعيفاً مجرداً فتدخل الثقافة الاجنبية عليه دون ان تجد مانعاً او رادعاً اومعدلاً، فيصبح معدوم الشخصية أمامها وتتحكم به في حين ان تثقف الفرد العربي بالثقافة الغربية مفيد له كل الفائدة شرطة أن تكون شخصيته قد تكونت، فالفرد العربي الذي له من ثقافته وروحه ما يكون رادعاً عن الوقوع في خطأ الثقافة الغربية ومصححاً لها وما يكون فيه من القدرة على تمثل تلك الثقافة تمثلاً فكريا يجعله حاكما فيها لا محكوماً لها فتكون اداة في خدمته ونفعه. الثقافة ليست شيئاً جامداً يدخل على الرأس ويستقر وانما هي حركة وحياة تتفاعل مع الشخص وتؤثر فيه، لها حاجات ومطالب ومستلزمات ولها وسط تنبت فيه وتتخذ معناها، فاذا دخلت الثقافة الغربية على عقل عربي غير مسلح بالثقافة العربية فانها تنقله إلى الحياة الغربية.

والثقافة بعد هي تعبير عن حياة حقيقية، فالثقافة الافرنسية تعبر عن حياة افرنسية نشأت في وسط فرنسي، عن حاجاتهم وعقيدتهم، فهي نتيجة لتقاليدهم السياسية الحاضرة والماضية وهي متداخلة في آمالهم واهدافهم. فالذي يتثقف الثقافة الفرنسية دون ان يكون له ذلك الرادع، وذلك الاساس العربي، فانه بطبيعة الحال ينخرط في حركتها وآليتها فهو منقاد دون ارادة الى العيش في تاريخ تلك الثقافة وتقاليدها، وهذا ما نشاهده بين المثقفين بالثقافة الغربية المحرومين من الروح العربية والثقافة العربية، اذ نراهم يعيشون معنا في اجسامهم بينما فكرهم الذي تغذى بالثقافة الغربية منجذب الى وسطه الحي، وتفكيرهم هو في تاريخ الغرب وتقاليده وسياسته. ان في بلادنا عدداً غير قليل يعيشون بأجسامهم بيننا وبافكارهم وارواحهم مع البلاد الاوروبية وهم مع ذلك يدعون لانفسهم حق اعطاء الرأي في مشاكلنا وماضينا وحق التأثير في العمل والتوجيه فيه، إن هؤلاء المثقفين منقادون بطبيعة الأمر للعيش في وسط ثقافتهم وهذا الوسط هو الغرب. وليس من شك في ان هذا هو الشيء الطبيعي وهو المحبب الى نفوسهم، لان العالم الغربي الذي هو منبت ثقافتهم عالم قوي راق صاعد فحوادثه تشغل الارض وتهزها، في حين ان العالم العربي ليس له تلك الدرجة من الاهمية، فكيف يترك هؤلاء المثقفون ذلك الوسط الذي تغذوا من ثقافته وهو قسم فعّال تمثل عليه الاعمال الجسام، ويرضون بالعيش لهذه البلاد التي ليس لها بعد من شيء يذكر في كل نواحي الحياة.. فانتقالهم بالفكر والروح الى العالم الغربي طبيعي لسببين:

أولاً: ان ذلك اشهى اليهم، يغريهم بالاطلاع على الحياة التي تثقفوا منها ومعرفة مصير التاريخ الذي لم يدرسوا غيره ونتيجة الحضارة التي لم يطلعوا الا عليها. ثم انهم يجدون امر استخدام الثقافة الغربية لاصلاح الواقع العربي امراً صعباً جداً، ولا يمكن ان يفهموا المجتمع العربي، وكل منهم قد رسم حوله دائرة غربية. فتعلقهم بالغرب، ولو انهم كانوا في شعورهم وطنيين، هذا التعلق ناتج عن ان هذه الثقافة تحتاج الى وسطها الحي الذي نشأت فيه، وعلى الاخص لأنهم يختارون الطريق السهل .

ولا يحتاج المثقف بالثقافة الغربية للابداع لفهم حياة الغرب لان هنالك من يقوم بذلك بدلاً منه، فهو يلتقط اتعاب الغربيين انفسهم، ولو طلب من نفسه ان يفكر في حياته هنا وطرق معالجتها، لاقتضى ذلك منه ابداعاً وتفكيراً شخصياً. هل هؤلاء هم في الواقع مجردون؟ كلا لانه ليس في الحياة انسان مجرد فذلك محض افتراض. ان للبشر عدا العقل والذهن، الغرائز والعواطف والارتباطات المادية والمعنوية بتاريخ ونمط من العيش ونوع من التفكير والفن.

فهؤلاء المجردون ليسوا مجردين من العواطف والتقاليد والروح العربية فقط ولكنهم قد تبنوا العواطف والتفكير والارتباطات المعنوية الغربية. اذن لا يمكن ان يوجد في الواقع تفكير مجرد وانما تفكير مشوه. فهؤلاء مشوهون باستبدالهم بعواطفهم عواطف غيرهم.

ثانياً: إن الثقافة الغربية تكون مفيدة لفرد عربي تكونت شخصيته، مثقف بالثقافة العربية ومشبع بالروح العربية وله اساس لا يستغني عنه انسان، فالأغذية لا تدخل اليه وتظل كما هي وتفرض نفسها عليه، بل تتحول الى الشكل الملائم لتنفع هذا الجسم، فالفرد العربي المثقف بالثقافة العربية عندما تدخله الثقافة الغربية تكون له طاقة وطريقاً وحافزا عاما في شخصيته، لانها ثقافة نشيطة راقية، فيستخدمها لمعالجة حياته العربية، ولا يعود شاقاً عليه ان ينظر الى ما حوله وواقعه ويسعى الى تفهم هذا الواقع والتأثير فيه بالفكر والعمل لانه يبقى عربيا ويتثقف بالثقافة الغربية. انه يتسلح باسلحة جديدة تمكنه من معرفة ذاته وفهم حاجاته وبالنتيجة التأثير في الواقع والعمل على اصلاحه. فالعملية شاقة ولا تحدث الا بوجود شخصية عربية مستقلة، فتكوّن الشخصية والحصول على الاساس الروحي والفكري ضرورى لكي تصبح الثقافة الغربية نافعة. أما المثقفون ثقافة غربية فهم فاقدون لهذه الشروط، فحكمهم مشوه مغلوط مؤذ اذا لم نقل انه مغرض يتعمد الغرض، فهؤلاء لن نستطيع ان نقول عنهم بأنهم ضحوا بشخصيتهم العربية واكتسبوا غيرها لان الثقافة ككل شي حي مرتبطة بوسط حي وتاريخ وروح وزمان ومجتمع، الثقافة الغربية مرتبطة بحياة الغرب ولها جذور عميقة في حياته، وهؤلاء لهم جذور في واقعهم العربي ولكن جذورهم في تاريخ الغرب وحياته. لقد اهملوا العناية بثقافتهم فانقرضت فيهم لانه لم يتكون لهم هذا ألاساس من روح البلاد التي يعيشون فيها، فهل يمكن ان يتفاعلوا مع تلك الثقافة الحية؟ هؤلاء المثقفون لا يمكن ان يفهموا الثقافة الغربية فهما صحيحا حياً لان هذه الثقافة لا تجد فيهم ارضاً خصبة، فهم ارض جدباء، وقد يلتذون بها ويسخرونها لنفع شخصي.. ولكن هل يتوصلون بها الى الابداع ؟ كلا.. لاننا لانجد الابداع يصدر الا من اهل الثقافة الاصليين، واولئك ليس لهم جذور واتصالهم بالثقافة الغربية اتصال مصطنع، لايخصب النفس ولا يدفعها الى التوليد والابداع. فالثقافة الغربية لاتجعل من هؤلاء غربيين اصليين لذلك لايمكنهم ان يحملوا رسالتها على الاطلاق، فلن يحملوا الرسالة العربية ولن يستطيعوا حمل الرسالة الغربية، فهم ينقمون خفية على كل من تصدى لمثل هذا العمل وخاصة على الذين يقولون بأن للامة العربية رسالة. وسنأخذ نماذج من تفكير هؤلاد ونبين أغلاطهم ومغالطاتهم. إن ثقافة هؤلاء افرنسية مثلاً، فهم يرون في التفكير الذي تغذوا منه وفي الكتب التي قرأوها تلك النزعة البارزة وهي التفكير الانساني فينقادون الى تقليدها. فعندهم المسألة بالنسبة للعرب هي ان يهملوا الواقع بكل ثرائه وخصائصه، ولا يأخذوا الا الفكرة المجردة او اللفطة، فهناك الفكرة الانسانية وهناك الفكرة القومية ويقارنون بينهما مقارنة “نزيهة ” و “مجردة” وهم مستعدون لان يقبلوا الفكرة الراجحة حجتها وفائدتها، فيرون ان القومية هي مبدأ محصور في امة، والانسانية مبدأ شامل لجميع الامم، فيستنتجون ان فكرة الانسانية افضل من القومية ويأخذون بها. او ان الفكرة الانسانية هي الاصل والقومية هي الفرع، فنسبة القومية في عرفهم للانسانية كنسبة الفرع الى الاصل، ثم يعلنون سخطهم على القومية كأنهم يعيشون هناك. ومن المعلوم ان الحياة الغربية في هذا الزمن تشكو من التعصب القومي لا من القومية، من الغلو والافراط في هذا التعصب القومي. فشكوى الثقافة الفرنسية من هذا التعصب الذي كان داعية للحروب يتبناه المثقفون في بلاد تشكو من فقدان القومية لا من افراطها، من ضعفها لا من الغلو فيها. انهم يخشون أن يطغى التعصب القومي ويقود الى حرب على أمة اخرى وهم يعيشون في بلاد مجزأة مستعمرة لا يمكن ان يكون منها خطر على غيرها الى زمن بعيد. هنا يظهر فساد التفكير المجرد متجاهلاً الفروق الاساسية الواقعية. لقد قرأوا في ثقافتهم ان القومية تؤدي الى اضطهاد البشرية والى الاستعمار، وانها تسخر لأصحاب رؤوس الاموال، وهذا كله واقع في بلاد الغرب وليس شئ منه في بلادنا . فخطؤهم انهم يتدخلون في أمور بلادهم والتأثير في اتجاهها في حين يعيشون في غيرها، فهل يعقل ان تكون القومية العربية اليوم سبباً لطغيان العرب على غيرهم؟ ان العرب لايطمحون الآن الا لجمع شملهم وتوحيد اقطارهم ورفع نير الاجنبي عنهم .

واذا سلكت بعض القوميات طريق التعصب والطغيان فهل من الضروري ان نسلك هذا الطريق؟ كلا. . ان قوميتنا لها ضمانة من الماضي لانها مقرونة برسالة انسانية، وهذا شيء ينفرد به العرب وحدهم. انها رسالة روحية، فالعرب يتصورون قوميتهم وسيلة لتحقيق رسالتهم.

والضمانة في الحاضر هي ان الشعب الذي يعاني الظلم والضعف والتجزئة والحكم الاجنبي، تكون له هذه المعاناة وحدها فكرة واقية، لانه يستطيع بالقياس المنطقي وبالمشاركة الروحية ان يفهم ما هو وقع الظلم على غيره. فبناؤنا قوميتنا اليوم تدخل فيه هذه التجربة الاليمة التي جربناها، تجربة الضعف والانحطاط وتدخل في بناء دولتنا المقبلة، وتكون وازعاً ورادعاً عن كل فكرة تبغي السيطرة والتعدي على الاخرين. وليس في قوميتنا ما يسمح لأحد بأن يفكر في دفع خطر العرب ووضع حواجز لتوسعهم وطغيانهم، بينما هم يشكون اليوم من حكم الامم الاخرى لهم.

وقد كان الاحرى بهؤلاء لو انهم نظروا الى الامم التي اخذوا ثقافتهم عنها وتساءلوا، هل تخلت عن قوميتها؟ وهل تتنازل وتضحي بقوميتها في سبيل الانسانية؟ أم أنها متمسكة بقوميتها، وهي في كل مرة تنادي فيها بالانسانية تكون لها وراءها مطامع استعمارية للتوسع. فالتفكير الانساني الفرنسي الذي ظهر اثناء الثورة كان ممهداً للتوسع، وكذلك الحالة في اميركا اليوم، التي تنادي بفكرة الانسانية .

فكل هذه الدول الغربية لاتزال تحتفظ بقوميتها ولا تضحي بها في سبيل انسانيتها. بل لها تقاليد تصطبغ بالصباغ الانساني هي ذريعة للتوسع. وحالتها وأوضاعها مختلفة عن اوضاعنا، فهي بحالة قوة ونحن بحالة ضعف، وهي بحالة توسع ونحن بحالة تجزئة، فلا يعقل ان نفكر تفكيرها.

انهم يتركون الامم الكبيرة التي يجب ان تخفف من غلواء القومية ويأتون الى أمة لا تزال فيها الروح القومية في أول ظهورها فيقضون على هذه الروح باسم الانسانية .

فما هو تفكيرنا من الناحية الانسانية؟

نحن العرب اليوم بحالتنا الراهنة لاننكر اننا نعيش بين أمم وان لنا صلة بالانسانية، وهذا أمر واقع. ولكن هل من خير الانسانية ان يبقى العرب على ما هم عليه من ضعف وتأخر، أم أنه من خيرها يقظة العرب ووحدتهم حتى لا يكونوا عبئاً عليها كما هم الآن؟

ان العرب الان يؤذون الانسانية بضعفهم، لانهم لا يحتلون مكاناً فعالأ بين الأمم، فهم بحالتهم هذه يؤذون أنفسهم وغيرهم، لانهم مجال تناحر الاطماع والاستعمار الذي دخل بلاد العرب .

فأكبر خدمة يقدمها العرب للانسانية هي ان ينهضوا بقوميتهم الى مستوى الانسانية.

عام 1943  


واجب العمل القومي

كيف يجب أن يكون موقف الشباب الواعي من قضيته القومية؟ كل سؤال إذا أحسن وضعه يتضمن في باطنه الجواب، اذن فلنحاول ان نضع سؤالنا بغاية ما يمكن من الدقة والضبط فنقول: كيف يجب ان يكون موقف الشباب العربي الواعي من قضيته القومية في مرحلتها الحاضرة؟

ونعتقد بأننا على هذه الصورة قد حددنا السؤال او المسألة بأكثر ما يمكن من الدقة، ومن وضعها على هذا الشكل نستخلص جملة نتائج. نحن سمينا هذا الشباب فقلنا عنه الشباب العربي، ووصفناه بالوعي، وطلبنا أن يكون له موقف من قضيته القومية، لا من شيء مجرد عام مبهم هو القضية القومية. لم نطلب منه موقفا تجاه مسألة فلسفية هي القومية بل طلبنا منه موقفا من أمر حيوي ذي اتصال مباشر بحياته وقلنا من قضيته القومية. ولم نترك المسألة عرضة للإبهام والتناقض، فحددناها بقولنا من قضيته القومية في مرحلتها الحاضرة.

فالنقطة الأولى، أي ما استنتجناه من قولنا الشباب العربي، هذه النقطة تبين لنا وضع الأمة العربية الخاص، اذ نحن لا نبحث في الشباب بصورة عامة، في شباب أية أمة من الأمم في أي زمن من الأزمان، بل نبحث عن شباب أمة معينة في وقت معين. وهذا يعني أننا نعرف الوضع الخاص لهذا الشباب بالنسبة لوضع امته الخاص أيضا، أي للفارق بينها وبين غيرها من الأمم. فلو أردنا ان نصف هذه الأمة وصفا مجملا لقلنا انها أمة عظيمة الماضي وهزيلة الحاضر ومجزأة في داخلها تخضع لحكم الأجنبي في أكثر أقطارها، ونتج من ذلك ان هذه الأمة تريد ان تتحرر من الأجنبي وان توحد أجزاءها وتنهض من تأخرها لتستطيع تحقيق إمكاناتها كلها وتسترجع هكذا رسالتها الخالدة بين الأمم.


هذه الأمة، الأمة العربية التي نبحث الآن عن فئة منها، الشباب، تنظر من جهة الى ماضيها ومن جهة أخرى الى حاضر غيرها، فماضيها مجيد عظيم وحاضر غيرها كذلك. وكما أنها لا تستطيع تجاهل ماضيها وصم سمعها عن ندائه، فهي كذلك لا تستطيع التعامي عن حاضر غيرها من الأمم التي تحيط بها وتؤثر في مصيرها بشتى الطرق.

وكما ان البون شاسع بين هذه الامة وماضيها فكذلك البون شاسع بينها وبين حاضر غيرها من الأمم. وهي انما تطلب غاية واحدة تبدو للنظرة الأولى مزدوجة. تطلب ان ترتقي الى ما يساويها بماضيها المجيد وبحاضر الأمم الأخرى.. هكذا يكون تذكرها لماضيها ووعيها لحاضر غيرها حافزا مزدوجا لها للنهوض. أو نقول: يكون لها من هذا الوعي لحاضر غيرها والتذكر لماضيها حافز وضرورة قاهرة. تذكر الماضي يحفزها، ووعي حاضر الأمم الأخرى يريها الضرورة القاهرة الى النهضة ويشعرها بها. وهذا الارتقاء إلى مستوى ماضيها وحاضر غيرها هو بالنسبة لذلك البون الكبير لا يكون بالنمو أو بالتطور الطبيعي، فالشقة واسعة وبعيدة ولا بد من الانقلاب حتى يتحقق الارتقاء العسير.

فشباب هذه الأمة إذا اعترفوا بصفتهم الأولى وميزتهم الأولى أي الصفة العربية، أي انتمائهم لهذه الأمة يجابهون بمجرد اعترافهم بهذه الصفة كل المشاكل التي تنتج عن تعريفنا لحاضر الأمة العربية وعن وصفنا المجمل لحياتها. فلنأخذ النتيجة التي استخلصناها من الصفة الأولى وهي أن للأمة العربية وضعا خاصا يفرقها عن غيرها من الأمم الحديثة. ماذا نرى؟

نرى أن الأمم الراقية القوية في العالم الحاضر تتقدم دون حاجة إلى الانقلاب، فحسبها بين حين وآخر أن تصلح بعض نواحي حياتها، بأن تستبدل بقوانين وأنظمة عتيقة قوانين أخرى أكثر ملاءمة للزمان، وان تستبدل بأشخاص قصرت كفاءتهم او تلوثت نزاهتهم أشخاصا أكثر جدارة وأنصع صفحة.


هذا ما يجري في الأمم الراقية القوية وهذا ما نلمسه ونسمع به يوميا، فإن رقي تلك الأمم يجعلها في غنى عن الانقلابات العنيفة. والجسم السليم هو محافظ بطبيعته لا يرجو غير النمو الطبيعي لان فيه تكاملا لصحته وسعادته، اما الجسم المريض، فالنمو الطبيعي بالنسبة اليه هو استفحال المرض وتفاقم الخطر.

فالملاحظة الهامة في هذا البحث هي أن لا يؤخذ الشباب العربي بوهم أمكان مسايرته للأمم الراقية، أو أن لا يؤخذ بوهم إمكان معيشته كما يعيش الشباب في تلك الأمم الراقية، فثمة اختلاف جوهري بين الحالتين. قد يكون الحياد السياسي أو الانقطاع إلى شؤون العمل الفردي الخاص أمرا جائزا بل واجبا عند تلك الأمم ولكنه بالنسبة إلينا وإلى حالتنا، إذا نحن أخذنا بوهم الشبه الظاهري وسولت لنا أنفسنا أن نعيش كما يعيش أهل الأمم الراقية، نكون قد جهلنا معنى الطور التاريخي الذي نجتازه. فكون أمم مختلفة تعيش في عصر واحد لا يعني أنها في نفس الحالة وأن لها نفس الحاجات وأعود واكرر بأن الأمم الراقية في الغرب تستطيع التقدم دون حاجة للانقلاب، والتفكير الانقلابي فيها يكون شذوذا مستهجنا ومخالفا لطبيعة الأشياء، وتبذيرا للقوى في غير طائل، وانحرافا عن الطريق السوي المنتج، في حين أن التفكير التطوري بالنسبة لحاجتنا، وعندنا، هو الشذوذ المرضي، هو التبذير للقوى، هو الانحراف عن الطريق السوي. فنحن بالنسبة لحالتنا لا نستطيع إلا أن نكون انقلابيين نفكر تفكيرا انقلابيا، لأن في ذلك وحده محاولة لمداواة المرض وإيقافه عند حده، ومحاولة لتغيير كل وضع الجسم المريض وهزه هزا عنيفا حتى تتكون لديه حالة جديدة يظفر بها على المرض. فإذا أخذ الشباب بنتيجة ما يطلعون عليه وما يقرأونه من أخبار العالم الراقي، وإذا توهموا أن غاية الحياة عندهم هي أن ينصرفوا للشؤون الخاصة والنجاح الفردي وإلى التفكير الحر المجرد كما هو شأن الشباب في تلك الأمم، يكونون قد خانوا أمتهم وخانوا أنفسهم في آن واحد لأنهم لن يستطيعوا تحقيق ذلك النجاح الفردي والثقافة الحرة والإبداع الخاص في امة هذه حالها، وهم علاوة على ذلك يتنكبون عن حمل أعظم مسؤولية وأشرفها، مسؤولية جيل قدر عليه أن يحقق هذا الانقلاب التاريخي.

ينتج عن كل ذلك نتيجة أردنا الوصول إليها من الصفة الثانية لتعريف الشباب الواعي، فصفة الوعي هي التي تسمح للشباب بأن يكتشف حقيقة منزلته في أمته وفي تاريخها، فاذا قدر الوعي للشباب، عرفوا أن هذه المرحلة التي تجتازها الأمة العربية مرحلة ثورية نضالية بمعنى انها تهيئة للرقي، وليست بمرحلة رقي. وهنا يظهر الفرق مرة ثانية بين شباب امتنا وشباب الأمم الأخرى.

فشباب هذه الأمم الأخرى مكلفون بالرقي لا بتهيئته، بمتابعته لا بتوفير شروط ظهوره. وأما الشباب في امتنا، الأمة التي تشكو من التأخر ومن التجزئة ومن فقدان الحرية والسيادة، هذا الشباب لم يقدر له أن يستمتع بالرقي وأن يعيش عيشة استقرار ومدنية، ولكن قدره هو قدر جيل محارب، جيل مناضل يهيئ بنضاله الحرية والاستقرار والرقي للأجيال القادمة. والشيء الهام في حياة كل جيل هو: أولا – أن يعي مهمته التاريخية الحقيقية في أمته. ثانيا – ان يقوم بها. ولا يفضل جيل جيلا آخر بنوع المهمة التي قدرت له، بل يفضل الجيل الآخر بقدر وعيه لمهمته، وبقدر تحقيقه لها. ولا يفكر احد منا بأن يفضل جيل العلماء والكتاب والمتفننين الذين ظهروا في عصر المأمون مثلا بنتيجة ازدهار الحضارة واستقرار الحياة على جيل العرب المجاهدين الذين لم تتوفر لهم الثقافة ولا الإبداع الفني والفلسفي والعلمي لكنهم قاموا حق القيام بمهمتهم التاريخية بالنسبة لحياة أمتهم، فكانوا بناة مستقبل طويل لها. اذن فليست القيمة في نوع المهمة بل في وعيها وفي حسن تحقيقها والاضطلاع بها. فاذا تبين لنا أن مهمة جيلنا اليوم هي انقلابية نضالية ووعيناها وهيأنا في أنفسنا وتفكيرنا وفي شروط حياتنا كل ما يمكن ان يساعدها على التحقق نكون قد ملأنا مكاننا وقمنا بواجبنا. وليس يطلب منا ما هو مطلوب من أبنائنا بعدنا، أي ما يطلب من جيل الإبداع في الحياة المتمدنة المستقرة. وكل ما يمكن أن نحلم به وأن نقوم به هو في الحقيقة الإبداع في النضال، لان النضال لا يعني شيئا سلبيا جافا بل هو حياة بكل معنى الكلمة، متسع لتحقيق المواهب ولتكامل الفضائل ونمو الحيويات على أوسع شكل.

قلنا ان الامم الراقية تتقدم دون حاجة لانقلاب، ويكفيها بين حين وآخر اصلاح بعض نواحي حياتها، كما يكفي الجسم السليم أن ينتبه بين حين وآخر لمعالجات جزئية وبسيطة ولوقاية نفسه من خطر الأمراض، يكفي هذه الأمم لتتقدم ان تبدل بين حين وآخر بعض الأنظمة والأشخاص، وهذا هو التطور، ولكن حالة كحالتنا لا يكفيها التطور بل يؤذيها وتستدعي الانقلاب. ليست المعضلة فيها معضلة أنظمة وقوانين أمست عتيقة بالية ولا معضلة أشخاص قصرت كفاءاتهم او اشتبه في أخلاقهم، بل المعضلة جوهرية وعامة وأعمق بكثير من كل تلك المظاهر أي مظاهر القوانين والأنظمة والأشخاص. فعندما نقول انقلاب نعني تغيير العقلية والخلق. وهذا لا يتم من نفسه ولا يتم بالتطور الطبيعي. وقد قلنا ان الزمن يزيد الصحيح صحة كما يزيد المرض استفحالا: فاذا كنا نشكو من تشويه قد انتاب جوهر امتنا أو على الاقل انتاب التفكير من اساسه، والخلق في صميمه، فليس تبديل الأنظمة والقوانين والأشخاص بمبدل شيئا في جوهر الحياة.

خلاصة القول في هذا الموضوع هو ان الشباب يجب أولا ان يتذكر صفته الأساسية، وهي انتماؤه لأمة معينة معروفة، وان يعرف صفته الثانية التي اهلته لها ثقافته وهي صفة الوعي، فبالصفة الأولى يدرك الفارق بينه وبين القسم الآخر من العالم، بينه وبين الأمم التي يطمح لبلوغ مستواها، ولن يبلغ مستواها بتقليدها… فلا بد لنا من جيل يناضل حتى تتهيأ شروط الرقي التي نماثل بها الأمم الأخرى.

وبصفة الوعي ندرك ان التاريخ أهلنا لهذه المهمة النضالية واننا لم نخلق لنعيش عيشة فردية حرة انعزالية منطوية على النفس، وانما عيشة اعتراف واضح مكين بالصلة التي تربطنا بأمتنا، واعتراف بهذا الدور الذي يقدره علينا التاريخ، فنرضى به طائعين بل فرحين مبتهجين لان قيمة العمل ليست في نوعه بل في إتقانه.

والصفة الثالثة التي بيناها في تعريفنا للشباب بقولنا: كيف يجب ان يكون موقفه من قضيته القومية، الصفة الثالثة هي هذا الموقف النفسي الذي لا يجيز للشباب النظر لأمتهم كنظرهم لأية أمة أخرى، فكونهم منها يرتب عليهم موقفا نفسيا شعوريا وفكريا، يختلف كل الاختلاف عن الموقف الذي يمكن أن يقفوه من تاريخ الأمم الاخرى وحاضر هذه الامم. فموقفهم من تاريخ أمتهم متصل بحياتهم مباشرة فلا يجوز لهم الحياد ولا التفرج ولا الاستخفاف لأنهم مسؤولون عن هذه الصلة التي تربطهم بأمتهم اذ هي الشيء الوحيد الذي يبرر وجودهم ويجعل له معنى.


والصفة الرابعة في تعريفنا هي ان يدركوا قضيتهم القومية في مرحلتها الحاضرة وعندما ينتبهون لذلك ينقذون أنفسهم من التخبط في الأفكار المتناقضة، والآراء المتباينة، ومن نشدان الأعذار المختلفة لتجنب العمل. فنحن لا نطلب من الشباب أن يحددوا موقفا نظريا من قضيتهم القومية في كليتها بدون اعتبار للوقت الحاضر الذي نجتازه، إذ لو سمحنا بهذا الإبهام في تحديد الموقف وصرفنا النظر عن أمر الزمان، الزمان الحاضر، لأجاز كل فرد لنفسه ان يتذرع بشتى الآراء فيفسر هذه القضية القومية بتفسيرات مختلفة وبالنتيجة يتعذر الحصول على موقف جدي… يجمع أفراد الأمة.

اما اذا وضعناه على شكل القضية القومية في الحالة الحاضرة لنحول دون هذه المحاذير، فلا يمكن ان نبحث الانسانية في مرحلتنا القومية الحاضرة، ولا يمكن أن نبحث في تقدم العلوم والمخترعات، ولا في أمور غيبية لاهوتية ولا في كل هذه الأشياء التي قد يجوز بحثها لأمم تخلصت وانتهت من دور النضال وتهيئة الرقي، وغدت في مرحلة الترف الفكري وتخمة السلطان والقوة، فيمكنها أن تبحث في شؤون الإنسانية وعالم الغد والسلام والنظام وما إلى ذلك. في هذا خطر كبير على الشباب إذا أجازوا لأنفسهم هذا الانفلات والتيه في التفكير، ولم يحصروا تفكيرهم وشعورهم بما تقتضيه القومية في المرحلة الحاضرة، فهي مرحلة استجماع للقوى في الداخل، مرحلة تقلص وحصر وتركيز لا مرحلة إشعاع وفيضان، وهي مرحلة اهتمام بالنفس لا مرحلة غيرة على الآخرين.

عام 1943


الجيل العربي الجديد


في حالة رقي الأمة وقوتها تخف مسؤولية الفرد، إذ يكون قادرا على نفعها عاجزا عن الإضرار بها، ولا يكون ثمة تناقض أو اختلاف كبير بين نفعه لها وانتفاعه منها، بل تنسجم المنفعتان في أكثر الأحيان. وبتحقيق الفرد شخصيته تتحقق شخصية أمته، وبقيامه بعمله الخاص يخدم الحياة العامة، وعندما يساهم في أوقات معينة ومناسبات محدودة في العمل العام، يعرف ان مساهمته اذ تضاف الى مساهمة الآخرين تؤدي بصورة أكيدة إلى النتيجة العامة المطلوبة أو ما يقاربها.

ذلك ان الأمة في هذه الحالة تسيطر على مصيرها وظروفها الى حد كبير، فحياتها ايجابية، دافقة، وهي تصعد وكأنها من قوة اندفاعها في نزول. والفرد محمول على تيارها في هذا الصعود يخدمها بلا عناء ولا تكلف.

أما في حالة التأخر والضعف فتتضخم مسؤولية الفرد، إذ يرى كل حركة من حركاته قادرة على الاضرار بأمته، في حين تصبح خدمتها شاقة متعذرة، فاهتمامه بحياته الخاصة ونفعه الخاص لا يكون اهمالا للخدمة العامة فحسب، بل في أكثر الاحيان موجها ضدها. ولا يعود الفرد خلية في جسم الأمة، اذا تغذى غذاها في الوقت نفسه، بل خصما لهذا الجسم لا يقوى الا من ضعفه ولا يسمن الا من جوعه.


واذا أراد أن يدخل الحياة العامة رأى بعد حين أنه بالرغم من رغبته الخالصة في الخدمة، منقاد بمنطق قاهر خفي لان يسخرها لنفسه ومصلحته، ويعيش منها وعليها بعد ان كان ينوي تسخير نفسه وعيشه لنفعها ولخدمتها، ويتضح له أن مساهمته في العمل العام بغية إيصاله إلى هدف مشترك واحد للأمة، لن تؤدي عندما تضاف إلى مساهمة الآخرين، إلا إلى وصول بعض الأفراد إلى أهداف خاصة مختلفة، أي إلى إبعاد الأمة عن هدفها المطلوب.


ذلك أن الأمة في هذه الحالة مسيّرة منفعلة، خاضعة لسلسلة من العوامل والظروف البعيدة والقريبة، الداخلية والخارجية. فبين ظروف الأمة ومصلحتها، بين قدرتها وإرادتها تضارب وتناقض. أي أن عملها عكس نفعها، وواقعها نقيض حقيقتها. وانما تقدر ما لا تريد وتريد ما لا تقدر عليه، فحياتها سلبية وتيارها غائر، اذا تصدى له الفرد شد اليه وغار معه. في مثل هذه الحالة لا يجدي علم بعض الأفراد وكفاءتهم وإخلاص بعضهم الآخر ونزاهته، وغيرة الغيورين وتضحيات المضحين، لأن الآلة الكبرى قادرة أن تتحمل مثل هذا الشذوذ لتتمثله وتهضمه وتطبعه بحركتها وتحوله إلى غذاء لها بعد حين، كما يقدر المجتمع الراقي السليم على تحمل بعض الفاسدين وحتى على الإفادة من فسادهم.


وكل علم يبقى ضمن إطار هذه الآلة هو ناقص، وكل إخلاض مشوب، وكل نزاهة مشتبهة. ولو كان العلم صحيحا لفك صاحبه من هذه الآلة وأخرجه من سجنها ووضعه في موضع حر مجرد يشرف منه عليها ليحيطها بنظرته ويفهم سر تركيبها، ليعرف كيف يهدمها. ولو كان الإخلاص تاما لدفع صاحبه إلى الانفصال عنها والتمرد عليها بدلا من تدعيم قوة الفاسدين. ولو كانت النزاهة حقيقية لحرص صاحبها على نظافة أمته أكثر من حرصه على نظافة سمعته.


ان حالة كهذه تجرف وتشل وتقنط العدد الأكبر. ولكنها قد تخلق أفرادا قلائل وحيدين يصمدون ويعاكسون سيرها، فعندما يتخلى العدد الأكبر عن مسؤوليته يظهر هنا وهناك الفرد الذي يتحمل كل المسؤولية، أي مسؤولية الكل، وهذه خطوة أولى ومربية لأولئك الأفراد يجب أن يعقبها تعارفهم وتوحيد جهودهم، حتى يكونوا القوة التي تحدث في نفوس الآخرين الثقة والاطمئنان إلى أن كل جهد ينصب في هذه القوة مثمر، وانها القوة الوحيدة التي تثمر فيها الجهود. فالعمل ليس عاديا آنيا، بل تاريخيا، وليس سياسة بل رسالة لأنه مكلف بتصحيح انحراف عصور عديدة ماضية وتهيئة انبعاث للأمة يؤتي أكله في عصور عديدة مقبلة، وليس ينجح فيه جهد افرادي وأسلوب سطحي وإعداد مرتجل، فلا بد اذن من جبل بكامله مهيأ لان يبدع في النضال ويستمر فيه الى نهايته.


اننا اذ نذكر الجيل العربي الجديد نعني به جيلا لم يتحقق بعد وان تكن له في واقعنا ممكنات، ومن العبث أن ننتظر ظهور هذا الجيل اذا لم تظهر فكرته. فالصفة المميزة له انه فكرة كله، وان عمله اشعاع لفكرته، فاذا لم تكن لم يكن. ثمة عمل يترسب منه ما يشبه الفكرة فهي من بقايا العمل وكدره وتفسخه، كعذر وتبرير. لذلك هي اسوء ما فيه وهي دوما دونه، ليس العمل اشعاعا لها بل هي تقطير لظلمته.

ولا يفهم من الجيل الجديد أنه جيل الشباب إذ ليس الشباب فكرة بل هو شرط مناسب لنموها، وقد يكون من الشباب من هم أشد من الشيوخ عداوة ومناقضة للجيل الجديد، لذلك لن تتحقق الفكرة العربية الجديدة الا في نوع معين من الشباب. واهمال هذا الفرق أدى الى فشل كل محاولات البعث التي قامت منذ سنين وما تزال لأنها اكتفت من الشباب برابطة السن وبرابطة أخرى لا تقل عنها خداعا: الثقافة الاصطلاحية. فالجيل الجديد يشترط أيضا وجود فهم معين للثقافة ونوع معين من المثقفين.


ان الوهم الذي ينسب الى السن الشابة قوة خارقة في حد ذاتها هو نفسه الذي ينتظر انتهاء الجيل القديم وموت آخر ممثل له. في حين ان هذا الجيل ليس مجرد أجسام مسنة، بل هو روح وتقاليد قادرة ان تتجسد في الأجيال الشابة الى ما شاء الله. قكما ان الجيل الجديد لا يوجد الا متى وجدت فكرته، كذلك الجيل القديم لا يموت ما لم تمت روحه وتقاليده، او بالاحرى ما لم تقتل بظهور الروح التي تنفيها. وهذا يعني ان كل اصلاح لا يتناول الفكرة الأساسية لحياة الامة هو سطحي فاشل وبالتالي ضار، وكل معالجة تهمل الجذر لتتلهى بالفروع هي اضاعة وقت. ومن هذا القبيل اهتمامنا الذهني (بالأخلاق) وفشلنا العملي فيها، فنحن نحسبها سببا وهي نتيجة، وما الفضائل المتعددة والمتنافرة أحيانا التي نطيل في ذكرها كلما كتبنا او خطبنا الا نتيجة طبيعية لموقف حيوي يجب أن يهيئه الفكر. وان هذه النظرة المعكوسة لتظهر في فهمنا لماضينا المجيد او لحياة أبطالنا، فنحن ننظر الى الأبطال من خلال ضعفنا وانحطاطنا، لذلك نحملهم احمالا من الفضائل لا يتناسب ثقلها مع ما كان لحياتهم من عفوية وطلاقة وتدفق، ولا يتفق تعددها مع ما كان لشخصيتهم من وحدة رائعة.

اذن فنحن لا نطلب جيلا مؤمنا مخلصا جريئا صبورا مضحيا فعالا بل نطلب جيلا جديدا، أي ان يكون له موقف حيوي جديد يستنبع هو نفسه الفضائل التي يتضمنها ويحتاج إليها. ان هذا الموقف لن يكون الا موقفا فكريا يمكن تحديده هكذا:


1- لا نهضة الا من الداخل، من داخل الانحطاط، تنبعث منه لتنفيه، وتستكشف اتجاهه لتعكسه، والجيل الجديد سيخرج من الواقع الفاسد ولكنه سيكون نقيضه، سيولد منه وينفصل عنه، وهو نتيجة للألم، ولا يشعر بألم الفساد إلا من عاش فيه لا منه.


2- ولكن الفساد لا يؤلم دوما ولا يؤلم أيا كان: فالألم قد يخلق ويوضح ويرهف ويجسم ويملأ بالمعنى ويعطي اتجاها. فلا بد من ألم شديد فيه معنى وله اتجاه.


3- ان معنى الألم واتجاهه متوقفان على نوع الاحكام التي يصدرها الجيل الجديد. وحياة هذا الجيل متوقفة على حكمه، لذلك وجب أن يكون حكمه حيا.


من صفات الجيل المنحط انه يحكم على الحاضر حكم مؤرخ، انه مفسر لا مؤثر، يحول الاسباب الى أعذار وقد يحول الاعذار الى مبادئ فلسفية وقواعد اخلاقية. ليس من ضرر في ان يكون حكمنا اليوم على الجاهلية حكما تفسيريا فنستكشف فيها فضائل ونجد لعيوبها اعذارا، ولكن الإسلام حكم عليها حكما حيا وهكذا أدى مهمته. فالذين يحكمون على الجيل القديم هذا الحكم التفسيري هم منه وان كانوا شبابا يافعين، لا بل هم دونه لان القصور الذين اضطر اليه الجيل القديم اضطرارا تعمده جيل الشباب تعمدا. وبما ان التحقيق هو دون المثال دوما، فالجيل الذي يتخذ من النتائج التي وصل اليها الجيل السابق مثلا وغايات سيكون حتما دونه في الخلق والعمل معا.


فالغيرة على الجيل الجديد أي على المستقبل تفرض اسلوبا معينا في وضع المسائل وعرضها ومعالجتها لان ثمة فرقا كبيرا بين وضع المسألة بشكل يوصل الى إيجاد أعذار ومسوغات أو فضائل وحسنات للجيل القديم وبين وضعها بشكل يوصل الى تكوين عقيدة ومثل ومفاهيم تمكن الجيل الجديد من القيام بمهمته التاريخية.


4- ولا يكون حكم الجيل الجديد حيا الا اذا كان له في فكره ونفسه مجتمع مثالي يستمد منه قيمه ويسأله الحكم على تفكيره وعمله. فالمجتمع الواقعي يهدد الشباب بأكبر الخطر اذ هو من جهة يرشحهم لمهام الابطال ومن جهة اخرى يرضى منهم بأبسط الاعمال. فلا بد من الترفع والتغاضي عن المقاييس الواقعية ومن استلهام مقايس المهمة التاريخية، أي المقاييس الخالدة. فالخلود ليس سير الحاضر الى المستقبل بل نقل المستقبل الى الحاضر. وان ابطال العروبة في الماضي المجيد لم يخلدوا لانهم قاموا بالاعمال العظيمة بل قاموا بالاعمال العظيمة لانهم كانوا في حياتهم يعيشون في نطاق الخلود.


5- كل ما تقدم يوصل الى هذه النتيجة: بأن الجيل الجديد لن يكون الا بانفصاله عن الجيل القديم لا في الزمن الاصطلاحي، بل في الزمن النفسي والجوهر، أي في أصل الفكرة ونظام تكونها وصلتها العضوية بمعتنقيها. هكذا نعتبر أصغر تلميذ قابل لان تتجسد فيه الفكرة العربية الجديدة أثمن وأنفع لأمته من أكبر سياسي حافل العمر بالحوادث والتجارب والخدمات. عند ظهور الاسلام كانت قيمة المسلم في كونه مسلما لان فكرة الاسلام كانت كفيلة برفعة الى مستواها، وكان فساد المشرك في كونه مشركا بصرف النظر عن مواهبه وفضائله لأن فكرة الشرك كفيلة بخفضه الى دركها وبتهديم هذه الفضائل وتبديد تلك المواهب. ذلك هو الفرق بين فكرة خلافة وفكرة عقيمة.


الانفصال هو النظرة الصحيحة الى الاتحاد الصحيح، لأن الاتحاد لا يكون في الكم بل في الجوهر والدم، واذا كان الاتحاد الكمي في حالة سلامة الجوهر قوة، فانه يعني الضعف والفوضى عندما يكون الجوهر مفقودا او مشوبا. ففي حالة الازمات الخطيرة التي تتناول جوهر الحياة ينشأ بين الكم والكيف تناقض وتضاد ويتميز العنصر الصالح بخلوه من العناصر الاخرى، وبخوفه ونفوره منها وتخويفه وتنفيره لها، أكثر من تميزه بجمعها واجتذابها. في وقت من الأوقات، وقبل البعثة، كانت الأمة العربية مجرد فكرة ومثال لا يقابلها في عالم الواقع شيء ولا يحققها شخص حي لذلك كانت قوية لانها رفضت ان تتساهل وتقبل بواقع لا يلائمها وانتظرت حتى ابدعت واقعا من فكرها ودمها واحشائها.


وفي وقت آخر عند البعثة كانت الامة العربية رجلا واحدا، وكان هذا الواحد كافيا ليمثلها في ذلك الحين والى ألوف السنين.


فالأمة ليست مجموعا عدديا بل فكرة تتجسد في هذا المجموع كله او بعضه، والأمم لا تنقرض بتناقص عدد افرادها، بل بنقص الفكرة من بينهم. وليس المجموع العددي مقدسا في حد ذاته باعتباره عددا بل باعتباره مجسدا لفكرة الأمة أو قابلا لأن يجسدها في المستقبل، لان الفكرة موجودة في حالة البذور في كل فرد من أفراد الأمة، لذلك يحق للذي تتمثل فيه ان يتكلم باسم المجموع. والزعيم في حالات ضعف الفكرة وتقلصها ليس هو الذي يحظى بالاكثرية أو الاجماع، بل بالمعارضة والخصومة، وليس هو الذي يستعيض عن الفكرة بالعدد بل يحول العدد الى فكرة، وليس هو المجمّع بل الموحّد، أي صاحب الفكرة الواحدة الذي يفرق عنها ويطرح منها كل ما يخالفها ويناقضها.


الجيل الجديد يؤمن بنفسه لانه يؤمن بأمته الخالدة، ويؤمن بأمته الخالدة وبقدرتها على أن تغلب انحطاطها، لأنه يؤمن بنفسه: ما دام هو قد خرج منها، فهي قادرة ان تخرج من نفسها، وما دام هو قد ارتفع فوقها فهي قادرة أن ترتفع فوق نفسها، وما دام هو قد انفصل عنها فهي تستطيع بعمله وتأثيره أن تنفصل عن نفسها، نفسها المنحطة الفاسدة لتعود الى ذاتها الأصلية، لتعود الأمة العربية الخالدة. ولكن كل ذلك يشترط أن يكون ثمة جيل عربي جديد.

عام 1944


العرب بين ماضيهم ومستقبلهم


ان علاقة الدين بالدولة التي تثار الآن في سوريا بمناسبة وضع الدستور الجديد هي من أهم القضايا القومية، لا كما يريد البعض ان يصورها بأنها مسألة تافهة. فهذه القضية تشمل شيئا اوسع من علاقة الدين بالدولة، وهو علاقة الأمة بماضيها وموقفها من مستقبلها، كما أنها تعني الأسس الروحية والحقوقية التي تقوم عليها القومية العربية في المستقبل.


أما الذين يقللون من شأن هذه القضية فالمرجح أنهم يقصدون فساد الأسس التي يبني عليها دعاة مزج الدين بالدولة نظريتهم وفساد الأساليب التي يلجأون إليها لدعم هذه النظرية، وسوء النوايا والأغراض السياسية والاجتماعية التي تحرك بعض المتزعمين لهذا الموقف أو بعض المناوئين له، لذلك وجب أن نتناول كل نقطة من نقاط الموضوع ونوضح حقيقتها الفكرية ونتائجها العملية، القريبة والبعيدة، في حياة الأمة العربية.


لماذا ظهرت هذه المشكلة في سوريا، وماذا يعني ذلك؟ لا شك أن قيام جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد كان المناسبة لظهور هذه المشكلة، ولا شك ايضا ان في وضع سوريا السياسي الشاذ وما يلابسه من أغراض حزبية ومداخلات أجنبية، عاملا كبيرا في اثارة هذه المشكلة وتوسيعها. ولكن الى جانب ذلك توجد عوامل أخرى تعطي للأزمة القائمة معنى أوسع وأعم وأعمق من معنى الازمات الحزبية والسياسية الطارئة، وهذه العوامل منها ما يتعلق بوضع سوريا التاريخي أي بكونها تضم عدة طوائف ومذاهب، ومنها ما يتعلق بوضع سوريا القومي بالنسبة الى النهضة العربية الحديثة، أي باعتبار سوريا أكثر الأقطار العربية اتصالا بفكرة القومية العربية وبحركة انبعاثها، وأكثرها تهيؤا لوضع الأسس الشاملة لهذه الفكرة ورسم الخطوط الواضحة لمستقبل الأمة العربية.


والحق أن لسوريا وضعا قوميا ممتازا تضافرت على خلقه عوامل عدة، تاريخية واجتماعية وسياسية. فسوريا قطر عربي صغير ليس فيه من الإمكانات ما لمصر مثلا، وهي أيضا رغم تقدمها النسبي في الثقافة والأوضاع الاجتماعية، إذا قيست ببعض الأقطار العربية المتأخرة في هذا المضمار، فأنها تقصر عن مصر ولبنان ولا تفوق العراق.


يمكن القول ان سوريا تمثل النقطة الوسط بين التيارات التي تتجاذب العرب في هذا العصر. فصدرها منفتح لتأثيرات الحضارة الغربية، وقلبها زاخر بالعواطف والذكريات العربية. لذلك كان كل تفاعل بينها وبين حضارة العصر الحديث يهز فيها وجدانها العربي، ويؤدي إلى تعبير جديد عن هذا الوجدان المستيقظ على شروط جديدة في الحياة. في حين نرى الأقطار العربية الأخرى موزعة بين طرفين متطرفين، فهي اما شديدة البعد عن تأثير الحضارة الحديثة، بعدا يترك الوجدان القومي فيها هاجعا متبلدا، وأما شديد القرب من تأثير هذا الحضارة، بشكل يطغى على هذا الوجدان فيجعل يقظته أشبه بيقظة المحموم تذهله عن شخصيته وهويته وتسبب له انحرافا عن الطريق الطبيعي السوي.


العرب بين الماضي والمستقبل – والأصح أن نقول أن المشكلة القائمة هي بين حاضر العرب ومستقبلهم، اذ لا يوجد في البلاد العربية نزعة فكرية خالصة يصح بأن تسمى رجعية، أي انها تقول بالرجوع الى الماضي، واعادة بناء المجتمع العربي على أساسه. ولكن النزعتين الراهنتين اللتين تتوزعان العرب في هذا العصر وتتجاذبانهم هما: نزعة محافظة تحاول الاحتفاظ بالأوضاع الراهنة وما يلابسها من تقاليد ومصالح، ونزعة قومية تقدمية تضيق بهذه الأوضاع وتسعى لتحطيمها والانفلات منها الى حياة تكون أصدق تعبيرا عن امكانيات الشعب العربي وحاجاته. فالمحافظون هم جميع الذين لهم مصلحة في بقاء الأوضاع الراهنة، سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم فكرية. وهم بحكم هذا التعريف أقلية بالنسبة الى مجموع الأمة تجمعهم على اختلافهم صفة الاستغلال. اما التقدميون فيمثلون الكثرة الساحقة التي تتوقف حياتها على التخلص من تلك الأوضاع. وكما ان نقص الوعي عند بعض المحافظين يقودهم الى التناقض وتأييد ناحية من نواحي التحرر، فكذلك نقص الوعي عند جمهور الشعب ما زال يدفعه الى معاكسة ناحية او أكثر من نواحي قضيته القومية التقدمية.


أما المشكلة النظرية التي تقوم في أذهان البعض على الإختلاف بين الإستمساك بالماضي والتحرر منه، فهي مشكلة وهمية يكفي لتبديدها ان توضح. فالماضي الذي تحنّ اليه الأمة وتجد فيه ثروة لها قوة، هو الزمن الذي تحققت فيه روحها، والمستقبل الذي يناضل التقدميون في سبيل بلوغه ليس الا ذلك المستقبل الذي تستطيع فيه الروح العربية أن تتحقق من جديد. ولكن بينما يحسب البعض ان هذا السير نحو تحقق الروح العربية يجب أن يكون رجوعا وهبوطا أي ايغالا في الجمود والشكليات، يرى التقدميون انه يجب أن يكون سيرا حرا صاعدا وبتعبير آخر، يريد الفريق الأول ان يصل الى الروح عن طريق الأشكال الميتة، بينما يسلك الفريق الثاني، الطريق الطبيعي الصادق، وذلك بالانعتاق من كل ما هو جامد ميت، وباستثارة كوامن الحيوية وروح الحرية والمسؤولية في نفوس العرب. وبينما يعتبر الأولون الماضي منحة وهبة تكافأ بها العبودية والجمود، يرى الآخرون في الماضي استحقاقا لا يبرره الا النضال الصاعد والمواهب المنطلقة، فالروح لا ترجع ولا تهبط ولكننا نحن الذين نتقدم نحوها ونرتقي اليها لنلتقي بها.


الهدم والبناء – يظهر مما تقدم ان الموقف الذي يتبناه البعث العربي هو الموقف الروحي الايجابي البناء. ولكن في الحالة التي وصلت اليها الأمة العربية نتيجة قرون من الانحطاط وفقدان الشخصية والعجز عن الابداع، أصبح من العسير ان نطمئن الى القيم والمفاهيم الاصطلاحية، ولم نعد بد مع من اعادة النظر فيها للكشف عن ينابيع الروح وعناصر الخلق والبناء. وان النظرة الفاحصة المتعمقة لتوصل الى رؤية الروح في المظاهر المتنكرة لها، كما توصل الى رؤية المادة والزيف والنضوب، في المظاهر المقنعة بقناع الروح، تلك هي حالة التناقص التي تؤذن بالثورة. فالتدين الرائج الذى ينطوي على الشيء الكثير من النفاق والنفعية والجهل، والاخلاق السائدة التي تقوم أيضا على النفاق والنفعية والاعتبارات الرخيصة السطحية والتقاليد الموروثة التي نضبت منها الحياة وفقدت كل تجاوب مع الحاجات الجديدة، كل هذا لم يعد صالحا ولا قادرا على امداد الأمة بالحيوية ودفعها الى السمو. وليس يمنع ذلك من ظهور بعض تفتحات للروح وسط هذه البيثة المشوهة الناضبة، الا ان هذه التفتحات لا تلبث ان تختنق وتخمد بسبب افتقارها الى التربة الندية والهواء الطلق فإذا لم تصحح القيم وتغير التسميات فستظل هذه البيئة الروحية في عنوانها، المادية في حقيقتها قبرا مفتوحا يبتلع كل محاولة للإنبعاث، ويقضي باسم الدين والاخلاق والتقاليد، على كل ارتعاشة روحية ووقفة اخلاقية صادقة، وكل يقظة للشخصية القومية.


وفي طلائع الحياة الجديدة تكمن القوى الروحية الحقة مختلطة ببعض الزيف والسطحية والشر، ويفرض عليها هذا الاختلاط فرضا لاستمرار الإلتباس في القيم والمفاهيم، ويسبب لها ارتباكا في السير وقلقا في الإتجاه، وخللا في التجانس. واذا لم تصحح التسميات وتصبح الفروق والحدود واضحة حاسمة بين مفهوم الرجعية ومفهوم الثورة فسيظل قسم غير ضئيل من قوى التحرر ضائعا مهدورا. ان التصحيح الذي نطلبه هو الذي يختصر مرحلة الهدم ويفسح المجال واسعا للبناء القومي المحكم، لان الهدم ليس هو، كما تدعي الفئات المحافظة المستغلة، في وثبات التحرر، ولكنه في التضليل الذي يؤخر انطلاق العناصر الحية من سجن البيئة المحافظة، كما يؤخر خلاص القوى التحررية من العناصر المزيفة والسطحية والمنحلة.


القيم الروحية والاقتصاد – لعل أهم ما يميز هذا العصر اكتشافه لحقيقة كبرى هي أهمية الاقتصاد وتداخله في مختلف نواحي الحياة الاجتماعية والفردية. وقد كان اكتشاف هذه الحقيقة مصحوبا بالغلو والجموح فاضطرت -لكي تعلن عن نفسها وتحتل مكانتها المشروعة بين الحقائق الانسانية- ان تظهر بمظهر الاستئثار والتعسف، وقدمت نفسها على انها الحقيقة الأولى والاخيرة، والحقيقة الوحيدة. ونتج عن ذلك تشويه وتضليل كبيران. ولا يحارب التشويه والتضليل بالتجاهل والعناد بل بروح الانصاف والتجرد، أي بالاعتراف لهذه الحقيقة بنصيبها العادل الراهن من الوجود.

والعوامل الاقتصادية ان لم تكن كل شيء في حياة البشر فهي شيء كبير وخطير، وان لم تكن المؤثر الأول فان لها على كل حال تأثيرا متبادلا وفي بعض الأحيان حاسما مع العوامل الأخرى. وان كل تعريف للروح وقيمها لا يحتوي في صلبه اثرا للعوامل الاقتصادية وتقديرا لأهميتها وتوقعا لنتائجها، انما هو تعريف ناقص وزائف. والخطر على الروح لا يأتي من الذين ينكرونها ويتحدونها بل من الذين يزيفونها ويسترون بعض جوانبها الأساسية. وكل توكيد للقيم الروحية يقف عند حدود الألفاظ والمبادىء المجردة، ويجبن عن مجابهة الحقائق الواقعية والسير بالمبادئ الى آخر طريق التحقيق، انما هو في الواقع خيانة وانكار للروح وستار لتوكيد نقيضها أي ستار للمادة الغاشمة. وعندما تتشوه القيم الى حد التناقض، وتفسد الأوضاع حتى تؤدي الى عكس الغاية التي وجدت من أجلها، في مثل هذه الحالة تصبح الدعوة الروحية الأصيلة هي التي تتحرر من نفسها، أي من الزيف الذي وقعت فيه الروح، ومن المصطلحات التي باعدت بينها وبين وظيفتها الحيوية، وتصبح الدعوة الروحية وعاءا رقيقا شفافا للمشاكل الإجتماعية والمادية، فتعطي لهذه المشاكل المقام الأول من الإهتمام وتصعد منها في ارتقاء شاق بطيء لتعلن في نهاية هذا الصعود -بظفرها على مشاكل المادة- عن حقيقتها.


الدين في البعث العربي – لقد ظهر البعث العربي في حياة العرب الحديثة وفي وسط الجمود والجحود والنفعية والانحلال حركة إيمان عميق تستقطب النفوس النقية السليمة، وتجتذب الإرادات القوية الصادقة وتجمع حولها الأفراد المشبعين بحب الأمة العربية، المؤمنين بعظمتها، الذين لم يعمهم ما طرأ على هذه الأمة من فساد عن رؤية جوهرها وامكانيات مستقبلها، ولم تستطع مغريات الواقع ومصاعبه أن تغلب فيهم ارادة العمل للكشف عن هذا الجوهر وبعث تلك الامكانيات. فنشوء البعث العربي إنما هو دليل ساطع على الإيمان، وتوكيد للقيم الروحية التي ينبع منها الدين.

ولكن هذه الصفة نفسها، صفة الإيمان المميزة للبعث العربي هي التي فرضت عليه الاصطدام بجميع الحركات التي تنكر الإيمان أو تتستر بإيمان سطحي زائف. وقد كان ظهور البعث العربي منذ عشر سنوات إيذانا بحرب صريحة على الجانب المادي السلبي الحاقد من الحركات التحررية، وعلى القومية اللفظية الرائجة التي تمثل الجفاف والنضوب والعجز عن الخلق، وترى في الواقع الفاسد الحقيقة النهائية فتفقد كل سيطرة عليه، كما انه لم يكن بد من التعرض للتدين الرائج الذي تتمثل فيه أيضا هذه الشوائب وقد تحدى البعث العربي منذ ظهوره هذه المظاهر المريضة وأرجعها كلها الى سبب واحد هو فقدان الثقة بالنفس. ففي الشيوعية في بلادنا يقظة مصطنعة للذين فقدوا الاتصال بروح أمتهم ويئسوا من كل خلاص يأتي من داخلها، فارتضوا خلاصا خارجيا مصطنعا. والقومية الرائجة ارتضت بالمرض حالا عادية سوية، وأقرت النفعية والعبودية والكذب قيما ثابتة للمجتمع لان الثورة على هذه المفاسد كانت تقتضي منها ثقة بقدرة الأمة على التغلب عليها. والتدين الرائج فقد كل صلة بالروح والحوافز التي كانت مصدر الدين بالماضي والتي جعلت منه حركة احياء وتجديد ويناء فآل الى حالة من الجمود والمحافظة والجهل، فسحت أرحب المجال للرياء والاستغلال.


وقد دعا البعث العربي الى مفهوم جديد للحياة القومية والحياة بصورة عامة، قوامه الإيمان بالقيم الروحية الإنسانية، وبقيمة الروح العربية الاصيلة، ومظهره الانفصال الحاسم عن مفاسد الواقع ومكافحتها في طريق صاعدة شاقة تسير فيها الأمة ببطء وجهد نحو الاتصال بروحها من خلال هذا الصراع الدامي بينها وبين واقعها. لذلك لم يبق في مفهوم البعث العربي مجال لأي تدين لا يحمل آثار هذا الإيمان المثالي. والبعث العربي الذي هو حركة روحية ايجابية لا يمكن أن يفترق عن الدين او يصطدم معه ولكنه يفترق عن الجمود والنفعية والنفاق.


البعث العربي حركة قومية تتوجه الى العرب كافة على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، وتقدس حرية الاعتقاد وتنظر الى الأديان نظرة مساواة في التقديس والاحترام. ولكنها ترى الى جانب ذلك في الإسلام ناحية قومية لها مكانتها الخطيرة في تكوين التاريخ العربي والقومية العربية، وتعتبر هذه الناحية ذات صلة وثيقة بتراث العرب الروحي وبمميزات عبقريتهم. لقد كان البعث العربي أول حركة أوضحت هذه الصلة ووضعتها في صيغتها السليمة فحلّت بذلك أزمة مزمنة وأنقذت القومية العربية من مفهومين منحرفين: مفهوم القومية المجردة الذي يفرض عليها الاصطناع والفقر، ومفهوم القومية الدينية الذي يقضي عليها بالتناقض والتلاشي.


فالاسلام من حيث هو دين صرف مساو لغيره من الأديان في الدولة العربية التي تساوي بين جميع مواطنيها وتحترم حرية معتقدهم. والاسلام من حيث هو حركة روحية امتزجت بتاريخ العرب واصطبغت بعبقريتهم وأتاحت ظهور نهضتهم الكبرى له مكانة خاصة في روح القومية العربية وثقافتها وحركة انبعاثها، الا ان هذه المكانة لا تفرض فرضا بل تولد من الحرية وتستمد من قوة الروح ومن مدى اتصال العرب بروحهم وتجاوبهم الحر العميق معها. وبهذا المعنى تستلهم حركة البعث العربي من الإسلام تجدده وثورته على القيم الاصطلاحية. تستقي من نبعه فضائل الإيمان والمثالية والتجرد عن المنافع الشخصية والمغريات الدنيوية في سبيل نشر المبادئ التي تنقذ العرب في هذا العصر من ضعفهم وتفككهم وانخفاض مستواهم الروحي والاجتماعي. والبعث العربي اخيرا يستمد من حركة الاسلام الخالدة قوة الصبر والمقاومة لتيار الواقع المريض، ويجد فيها قدوة رائعة تحتذى في الغيرة الصادقة على مصلحة الأمة وفي معالجة أمراضها بجرأة وصدق دون تملق رخيص للعواطف السطحية، ودون استناد الى قوى الجهل والحقد وعبودية النفس والفكر، وهو مؤمن بأن هذا الاسلوب المنسجم مع سمو المبادئ التي ينادي بها هو الأسلوب الذي يكتب له النجاح آخر الامر كما كان ذلك في الماضي، وكما سيكون دوما.


الدولة في البعث العربي – ان الدولة العربية التي يعمل لها البعث العربي هي التي تتيح لجميع المواطنين أن يعملوا متعاونين على تحقيق امكانيات الأمة العربية في مجال الروح والمادة، وذلك بتحقيق امكانيات كل فرد من افرادها دونما عائق مصطنع. وبذلك تبعث القوى الكامنة في الأمة وتصحح القيم البالية ويستعيد كل مواطن حقه المقدس كاملا في الحرية والمسؤولية. فالدولة اذن تقوم على أساس اجتماعي هو القومية، وأساس أخلاقي هو الحرية. وافرادها يكونون مرتبطين بقوميتهم مسؤولين عن اداء واجباتهم نحوها بقدر ما يكونون احرارا فيها. وعندما نفهم الدولة على هذا الشكل ونرى فيها مجالا لبعث الأمة وبعث قوى افرادها ولتصحيح القيم وإزالة الكذب والزيف والضغط من حياة المجتمع، ودفع هذا المجتمع في طريق ايجابية مبدعة لاداء رسالة الأمة إلى الإنسانية فمعنى ذلك ان هذه الدولة هي نقيض الإلحاد والفساد وكل ما هو سلبي هدام. وعلمانية الدولة بهذا المعنى ليست إلا إمعانا في الحرص على اتجاهها الروحي والأخلاقي، لانها ليست إلا إنقاذا للروح من شوائب الضغط والقسر ووضع العراقيل المصطنعة أمام يقظة الروح واستقلال الخلق وانطلاق النشاط في نفس كل عربي.


وما دام الدين منبعا فياضا للروح، فالعلمانية التي نطلبها للدولة هي التي بتحريرها الدين من ظروف السياسة وملابساتها، تسمح له بأن ينطلق في مجاله الحر في حياة الأفراد والمجتمع وبأن تبعث فيه روحه العميقة الأصيلة التي هي شرط من شروط بعث الأمة.

عام 1950


قوميتنا المتحررة أمام التفرقة الدينية والعنصرية

(افتتح هذا الحديث، الذي ألقي في اجتماع لطلبة المغرب العربي، بسؤال من أحد الطلاب طرح عن الاقلية البربرية بالمغرب ومحاولة فرنسا تقوية هذه العنصرية وكيف يمكن التوفيق بينها وبين الفكرة العربية التي ندعو لها ونعمل من أجلها).

يجب التساؤل أولا: هل نحن سنعمل كالسياسيين الموجودين بأسلوب مرتجل لتمشية الحال دون أن يكون هناك نظرة شاملة وبعيدة للمستقبل، أو أن الوقت حان لوجود جيل عربي في كل مكان من أقطار العروبة ينظم تفكيره وعمله على أساس هذا التفكير الشامل.

فأسلوب السياسيين الموجودين في البلاد العربية هو أسلوب مرتجل كما هو معروف لا يقوم على نظرة علمية مدروسة شاملة تعتمد في المستقبل على إمكانيات الشعب العربي وتسعى الى تحقيق أهدافه وفق مراحل مدروسة.

فالسياسيون يصدرون من هذه النظرة، ولأن مصالحهم أيضا لا تسمح لهم بالعمل الطويل ولا تسمح لهم بالتجرد والنضال المستمر لذلك نراهم يرتجلون. فالعلل الموجودة في المجتمع العربي من رأسمالية وإقطاعية يضخمها الاستعمار باستمرار الى جانب عصبيات عنصرية وطائفية ومذهبية. ومعالجة السياسيين لهذه العلل معالجة مرتجلة وسطحية، تارة يكذبون على الشعب وتارة على أنفسهم ويتجاهلون هذه الامراض ويخضعون لها الخضوع التام فنرى من السياسيين من يماشي النعرات الطائفية المذهبية، وآخرين لكي يتحاشوا الاصطدام بالفروق العنصرية يلجأون الى الشعارات التي في عرفهم تجمع المجتمع. ففي المغرب مثلا يظن أن الإسلام يجمع الجميع لذلك لا يعود مجال للاختلاف العنصري. كما يوجد في الشرق العربي من يقول بهذا الرأي مع أنه أصبح ضعيفا.

اني أذكر بأن في سورية قبل خمس وعشرين سنة قلما كان الزعماء يذكرون كلمة عرب وعروبة. كانوا يجدون في كلمة سورية والسوريين مخرجا من مآزق كثيرة ولم يكونوا يستعملون تعابير قومية وانما وطنية بقصد أن يلتقي الجميع مسلمين ومسيحيين وعربا وأقليات غير عربية كلها باسم الوطنية لمقاومة الاجنبي المحتل. وبقي هذا لما قبل عشر سنوات. وقد اضطرتهم حركتنا في آخر الامر أن يتبنوا شعارات العروبة ولكن حتى الآن يظهر في تعابيرهم من حين لآخر بقايا الأسلوب القديم فيقولون بأمة سورية.

فالمشكلة ما زالت مطروحة ولكن في الشرق العربي خفت حدتها مع انها لا زالت باقية في لبنان، اما سوريا فقد سبقت غيرها من الأقطار واعتمدت الوضوح والصراحة. اما في العراق فما يزال هذا المفهوم موجودا نظرا لوجود أقلية كردية. أذكر مثلا منذ سنتين جاء وفد عراقي لزيارة سورية ولبنان -وكان الشيشكلي ما يزال موجودا- وتحدثوا لي عن خلاف عنيف وقع بينهم عندما دخلوا سورية وقبيل دخول دمشق، على رفع العلم العربي، فهناك قسم من الطلاب لم يوافق على ذلك، منهم الشيوعيون، والشيوعيون يستغلون هذه التفرقة العنصرية فيجدون أرضا خصبة بين الاكراد في العراق. أما في مصر فالمشكلة من نوع آخر، ليست هناك عناصر مختلفة وانما مر على مصر زمن طويل وهي في ظل الحكم الأجنبي من اتراك وانجليز أضعفوا فيها هذه الصفة العربية وغذوا فيها الشعور الإقليمي وأوجدوا شيئا من الاعتزاز المصري ونبشوا الحضارة المصرية القديمة من الآثار وكادوا يوهمون المصريين بأنهم غير غرب. ولكن هذه المحاولات فشلت. والآن لم يعد يجرؤ أحد أن يطالب جديا بقومية مصرية فرعونية. وفي لبنان ينظر الى العروبة نظرة الاسلام لانها رافقته، لذلك فالعناصر المسيحية المتعصبة المستغلة للتفريق الطائفي تكافح الفكرة العربية بحجة ان العروبة معناها سيادة وسيطرة الاسلام كدين وتشريع وتقاليد وحضارة. فكل هذه الافكار كانت معروفة لدينا حين بدأت حركتنا قبل خمسة عشر عاما. فنحن لم نخف منها لأننا مؤمنون بأنها أشياء مصطنعة في أكثرها تتلاشى وتذوب مع التوجيه واكتشاف الشعب تدريجيا لمصلحته في الوحدة، والوحدة مصيره، واكتشاف بطلان ما يختبئ وراء مكافحة الفكرة العربية من مصالح خاصة، من رجال الدين أو من زعماء بعض الاقليات العنصرية أو من اقطاعيين، والاستعمار وراء الجميع. فلو أردنا أن نمشي على غرار السياسيين والزعماء التقليديين في البلاد العربية كان علينا ان نكتم دعوتنا والشيء الكثير من أفكارنا ان لم يكن في كل الاقطار على الاقل في بعضها، ولكن لمعرفتنا بحقيقة شعبنا وبحقيقة هذه الامراض ومن أين تأتي ومن يغذيها واعتبارنا لهذه الأمراض سطحية وقابلة للكشف، فان التصريح بعقيدتنا وفكرتنا يساعد على شفاء هذه الامراض مثل الطبيب الذي يعتمد ارادة المريض في شفائه. فالطبيب الذى يكتم عن المريض مرضه يفقد عنصرا أساسيا في الشفاء. ومعنى ذلك انه لا يشرك المريض في عملية الشفاء في حين ان الطبيب الواعي يشارك المريض. لماذا كانت لنا هذه الثقة بفكرتنا وبأنفسنا؟ لأن فهمنا للعروبة يختلف كثيرا عن المفاهيم التقليدية. لقد اعتبرنا انتشار هذا المفهوم الجديد في أوساط الشعب يكفل تأييد الشعب له وبالتالي التغلب على الأوهام والمفاهيم البالية والاعتبارات القديمة. فهناك جملة مفاهيم للعروبة أو للقومية تخلق مشاكل ليس لها آخر فتمزق وحدة الشعب وخاصة وضع الشعب العربي في هذه المرحلة بعد قرون من التأخر، فنحن أحوج ما نكون الى مفهوم صحيح للعروبة نقدمه للعالم وللحضارة وللتفكير الإنساني. القومية المغلقة المتعصبة أكبر خطر علينا لانها تغذي الفروق بدلا من القضاء عليها. ولقد وجد دوما في البلاد العربية مئات من الناس كانوا يتبنون النظرة النازية حتى قبل ظهور النازية نتيجة للجهل، ووجد دوما من صوّر العروبة بأنها مقتصرة على نوع معين وعدد معين من الناس وانها تفاخر واستعلاء على الآخرين. وطبيعي ان يُحدث هذا رد فعل، وان تشعر الأقليات العنصرية بأنها مهددة بوجودها أمام مثل هذه القومية، لذلك كان هناك رد فعل على القومية المتعصبة من الأكراد والآشوريين والأرمن ورد فعل ديني ومذهبي. إن القومية الإسلامية والدعوات الطائفية الاخرى كان مصيرها الفشل كما كان مصير القومية الطاغية المتعصبة. اذا كيف عرفنا نحن العروبة منذ البدء وكيف وجدنا لها ضمانات قوية جدا لكي لا تصطدم بأي عقبة من هذا النوع ولكي لا تتحجر، بل تكون دوما منفتحة ومتطورة وانسانية؟ ليس تعريف العروبة وحده كافيا ولكن الشيء الاساسي في الموضوع هو أننا فسرنا قوميتنا بالاشتراكية وبفكرة الحرية. هذه هي الضمانات الحقيقية في الواقع عندما تكون القومية ملازمة للاشتراكية او الاشتراكية ملازمة للقومية.

فنحن عندما ننادي بالمساواة الاقتصادية وبتكافؤ الفرص نعني اننا سلمنا قضية البلاد لأصحابها الحقيقيين وهم أفراد الشعب. وهم في حقيقتهم شيء واحد لا فرق بين مسلم ومسيحي وعربي وكردي وبربري… الخ..

فلا يعقل مطلقا أن تكون القومية اشتراكية وفي نفس الوقت متعصبة لان الاشتراكية في فلسفتها هي محو لكل تمايز واستغلال وسيطرة من فئة لأخرى. فاذن نحن صدرنا من البدء عن فكرة وليست نظرية، اذ انها مستمدة من صميم هذا الشعب العربي الممتد على هذه الرقعة الممتدة في الشرق والغرب، والذي تجمعه أواصر في الماضي ومصالح وأواصر روحية في الحاضر والذي يجب أن يكون له اسم. فالاسم الذي هو أقرب ما يكون الى الواقع والى الماضي والى المستقبل هو العروبة. فاذا قلنا الاسلام فسنختلط مع عالم آخر نصطدم معه بالمصالح. فالفروق القائمة في وسط مجتمعنا العربي تظهر أنها لا شيء أمام الفروق في وسط العالم الاسلامي. اذا أخذنا الاقليات العنصرية ما بين العالم العربي والاسلامي نجدها كثيرة فالدولة الدينية كانت تجربة في القرون الوسطى وتجربة انتهت بالفشل وكلفت البشرية كثيرا من الجهد ومن الدماء ومن المشاكل وحدثت تقريبا في أوقات متقاربة في البلاد الاسلامية وفي أوروبا المسيحية. في أوروبا كان هذا الحلم عند الباباوات والأباطرة الجرمان من ألف سنة. لقد حاولوا أن يجعلوا من أوروبا دولة مسيحية واحدة باسم النصرانية، وكانت من نتائجها حروب مستمرة وتورط للسلطة الدينية في مغامرات سياسية بشعة لا تليق بالدين، حتى أصبح رجال الدين في أوروبا وزعماء الكنيسة أكثر شرا وفسادا من الملوك. كذلك أباطرة الجرمان ظلوا يعيشون وراء هذا الخيال مئات السنين وكانت النتيجة فشل المحاولة لظهور القوميات منذ القرن السادس عشر. فقد تبلورت فكرة القوميات في أوروبا وقضت نهائيا على هذا الحلم. أما في الشرق الاسلامي فقد فشلت المحاولة ايضا ونتائجها معروفة كذلك، بين حروب وثورات عديدة مستمرة انفصلت على أثرها الشعوب غير العربية وشكلت كيانات مستقلة مثل ايران وتركيا.

وانني أورد هذه الامثلة والتفصيلات لكي لا نقع في تجارب فاشلة. أعود الى الفكرة التي ابتدأنا منها: هل نريد أن نعمل دون خطة ودون نظرة بعيدة ودون أسس مدروسة متينة أم نعتبر أنفسنا مسؤولين عن مصير أمتنا وأن نختار لها أمتن الأسس وأحسن الاشكال التي تضمن ازدهارها وسعادتها ووحدتها؟ فالجواب هو ان نفرق بين العمل الماضي المرتجل وان نعتمد على المستقبل وان نتحمل في الحاضر كثيرا من الجهود والتضحية ريثما تتوضح فكرتنا للجميع وتحقق المصير الذي اخترناه لأمتنا.

وهذا لا يحدث في يوم ولا في سنة بل يحتاج الى زمن حتى يلمس جميع العرب بأن هذا هو الحل الوحيد لتطويرهم وازدهارهم. لا يجوز لنا ان نضحي بفكرتنا التي نؤمن بها أمام عقبات مؤقتة. فلمجرد وجود مسيحيين في لبنان يغذيهم الاستعمار بأفكار خاطئة، هل نساير لبنان ونقول له انه غير عربي!.. كلا لا يمكن ان نضحي بفكرتنا. وواجبنا أن نشرح للبنانيين الانعزاليين بأن العروبة التي نعمل لها تمنع الضغط الديني وسيطرة طائفة دينية على أخرى، انهم يتهربون من العروبة -وهي مرادفة في نظرهم للاسلام- لأنها في نظرهم لا تسمح بتكوين مجتمع يحفظ حرية الفرد ويساير التطور الحديث في العالم. فاللبنانيون الانعزاليون بحكم موقع القطر اللبناني، وبحكم الاتصالات بينهم وبين الغرب ووجود ارساليات أجنبية، تذوقوا مظاهر الحضارة الغربية اكثر من أي قطر عربي آخر، وتعلقوا بالحرية الفردية، فهم يخشون بعد ان حصلوا على شيء من هذه الحرية، اقول يخشون اذا ما اندمجوا في الجسم العربي أن يفقدوا حريتهم. واذا أخذنا الاقليات العنصرية مثل الاكراد مثلا.. نتساءل.. لماذا يتخوف الأكراد أو قسم منهم من العروبة؟ ان هذا التخوف أكثره ناتج عن دعاية استعمارية حديثة ترجع الى خمسين سنة، يوم دخل الانكليز والفرنسيون الشرق العربي. فالأكراد ظلوا مئات السنين يعيشون مع العرب ويحاربون ويستبسلون في الدفاع عن الأراضي العربية. فأفراد الشعب من الأكراد ماذا يريدون وأي شيء يطمحون اليه أكثر من ان يعيشوا حياة كريمة سعيدة، وأن يكون لهم ما للجميع وعليهم ما على الجميع باستثناء بعض الزعماء الذين لهم مصالح اقطاعية؟ أفراد الشعب هؤلاء لا يريدون أكثر مما يريده العرب أنفسهم.

والآن ليس هناك اقليات مضطهَدة وطوائف مضطهَدة وانما هناك اكثرية شعب مضطهَد هو الشعب العربي، وهناك اقلية مضطهِدة من المتآمرين مع الاستعمار. العربي والكردي والبربري والاشوري والمسلم والمسيحي والدرزي الخ.. افراد الشعب الذين يشكلون 90 بالمائة من افراد الأمة العربية مضطهدون محرومون من قبل أقلية تستغل الأوضاع الفاسدة وتستفيد من وجود الأجنبي.

فعندما تطرح المشكلة على هذا الشكل، أي ان الاشتراكية تطرحها على هذا الشكل، وقوميتنا اشتراكية، هناك طبقات مستغلة متآمرة على حساب الشعب، فعلينا ان نقضي على هذا الاستغلال عندها لا يعود هناك فرق بين المواطنين. واذا رجعنا الى تعريف العروبة كما نفهمها نحن وكما نريد ان تتحقق بأنها هي العنوان والاسم والروح التي تجمع بين هذا الشعب الواحد وتشعره بشخصيته ورسالته في الحياة فليس فيها أي جمود أو تحجر أو استعلاء.

لا أحد يمنع الأكراد ان يتعلموا لغتهم شريطة ان يكونوا خاضعين لقوانين الدولة ولا يشكلون خطرا على الدولة، والطوائف المسيحية مثلا لا يوجد من يمنعها من ممارسة شعائرها الدينية ومن الثقافة المسيحية ضمن هذه الثقافة العربية العامة. فمفهومنا بعيد جدا عن مفهوم القومية النازية التي تؤمن بأن هناك عرقا مفضلا وله مميزات خاصة يجب أن يتطهر من كل شيء وبالتالي ان يضطهد كل من لا تتوفر له الشروط من حيث النسب والعادات المعينة… فالعروبة هي انسانية ونحن نفهم من قوميتنا العربية بأنها الإنسانية الصحيحة وبأنها تقديس لقوميات الآخرين، فنقدس هذا الشعور عند كل شعب آخر.

ولكننا لا نقول بالاممية التي يقول بها ادعياء الماركسية بل نعتبرها مصطنعة لانها محاولة لأفقاد كل شعب شخصيته وربط الشعب بروابط طبقية بحتة، وهي محاولة فشلت كما فشلت محاولة الدولة الدينية في القرون الوسطى على ما في ذلك من مفارقة. فالشعب في حاجة الى من ينبهه الى أن الاممية التي تجاهلت الحقيقة القومية تتحول يوما بعد يوم الى طريق الفشل. وهكذا نرى أن نظرتنا الى الإنسانية هي النظرة العلمية لأننا نعتبر ان الإنسانية الصحيحة هي في القومية الصحيحة.

فلنعد الى المشكلة المطروحة ونضيق البحث ونعين الحل العملي على ضوء هذا التوضيح. هناك في المغرب عنصر يسمى العنصر البربري وهذا العنصر يمتزج مع العرب امتزاجا كليا، كما اعتقد، من الفتح العربي على الأقل لأن هناك بعض النظريات التي توجد صلات بينهما قبل الفتح، ولكن منذ الفتح العربي الى اليوم أصبحت أرضا واحدة ودينا واحدا وثقافة واحدة ولغة واحدة ومصلحة حاضرة واحدة.

ونغمة التفريق هذه قد اصطنعها الاستعمار وغذاها، اذن هل نقول اننا نريد ان نتحرر من الاستعمار اولا تحت الشعارات الملائمة التي تجمع ولا تفرق بعد ذلك نسعى أن نزيل هذه الفروق، أو أن نظهر للبربر الذين يتحفظون تجاه القومية العربية بأنها عين ما يطمحون اليه وانها حريتهم وحياتهم وازدهارهم وانها القوة الحقيقية؟ ثم بأنهم لن يكونوا فئة قليلة وبأنهم سيكونون جزءا من امة واسعة منتشرة في الشرق والغرب وهذا اضمن لقوتهم وسعادتهم؟  فالواقع ان المستقبل هو ابن الحاضر وان ما نتساهل فيه اليوم لن نستطيع تلافيه غدا. اننا لا نريد ان نكرر الاخطاء في المغرب فنحن لا يهمنا رجال الحكم والزعماء التقليديون الموجودون هنالك. فالاعتماد على الجيل الجديد، ولا يجوز له ان يساوم على فكرته وعقيدته لانه يبني للمستقبل وعليه اذن ان يبشر بهذه الفكرة: الفكرة الإنسانية الحرة الاشتراكية التي لا تبقي أي مجال للاستغلال بين عنصر وآخر وطبقة وأخرى. اذا لم نزرع هذه الفكرة من الآن فسنجد من الصعب جدا زرعها عندما تتحرر البلاد لان التحرر سيرافقه ايضا يقظة للمصالح الخاصة وحرص من الزعماء على أن يقتطعوا لانفسهم مناطق نفوذ، وهكذا فيجب أن نوجد الخميرة عند الشعب منذ الآن. فعلينا أن نوضحها ونقويها لأن لهذه البلاد في شرقها وغربها اسما واحدا ولغة واحدة وقومية واحدة. انكم ستجدون مقاومة لهذه الفكرة من قبل السياسيين، هذا منتظر ولكن هذا سيقوي فكرتكم وانتشارها وسيضغط على رجال السياسة بالذات ليراقبوا نفسهم ويبدلوا من اتجاهاتهم وارتجالاتهم كما حدث هنا. فنحن بهذا التيار الشعبي الذي أوجدناه منذ خمسة عشر عاما حتى الان اضطررنا الزعماء انفسهم بأن يخففوا من انتهازيتهم فيما يخص مصلحة البلاد وأن يعدلوا من ارتجالهم. انكم بتمسككم بهذا الاتجاه شريطة ان يكون مفهوما لديكم حق الفهم -إن ما نفهمه بالعروبة، هو هذه الرابطة الانسانية السمحة وهذه الفكرة الواقعية التي تضمن قيام مجتمع عادل- فبعض السياسيين القائلين بعروبة هوجاء متعصبة غامضة ومتسلطة سيضطرون للتراجع عن هذه النظرة الهوجاء وبذلك يخف رد فعل العنصر البربري. وانا لست مؤمنا بأن ما تتصورنه موجود الى هذا الحد. على كل حال مهما يكن من امر فدعوتكم أنتم من جهة ستعدل كثيرا من النظرة القومية الهوجاء… وهناك فئة اخرى تحمل أفكارا تتهرب بها من المشكلة فتقول نحن مسلمون ونحن مغاربة الى غير ذلك.. هؤلاء ايضا نتيجة لدعوتكم سيخرجون من المعركة وهم مؤمنون ولو بمقدار بسيط بهذه الفكرة العربية السمحة وعندها تكون الخميرة وجدت. العهد الاستقلالي لا يكون صحيحا وغير معرض لهزات ولانقسامات الا اذا طرحت المشكلة على الشكل الذي سردناه سابقا.

سؤال: ان حزب البعث تجنب الشيوعية لانها ستفقده شخصيته اذا انخرط فيها فالبرابرة يقولون بفكرة تشابه هذا القول ويقولون المغرب كوحدة يحقق الشخصية البربرية لانه ليس كله عربيا ولا بربريا.

جواب: ليس المقصود بالاحتفاظ بالشخصية التمايز بل المقصود شيء ايجابي، نحن نرفض الاممية الشيوعية لاننا نجد فيها شيئا سلبيا يحاول محو شخصية الأمة العربية. والشيوعيون انفسهم بدأوا يرفضونها عمليا وان كانوا لم يصرحوا بذلك بعد. وروسيا نفسها سائرة في فكرة القومية، وظهر ذلك اثناء الحرب عندما اخذوا يستندون الى بعث الروح القومية حتى ينتصروا.

نحن قلنا في تعريفنا لقوميتنا العربية بأنها ستسمح بالحرية للجميع. فلا شك ان المغرب عندما يكون جزءا من الوطن العربي الكبير سيكون امنع استقلالا وحرية واخصب ازدهارا مما لو كان وحده معرضا دوما للعدوان والمطامع واستغلال الدول القوية الاستعمارية. وأنتم تعرفون ان المعقل الاخير للاستعمار هو افريقيا، والدول الاستعمارية وأميركا خصوصا تتوجه بنظرها نحو المغرب. والاحتفاظ بنفوذ في المغرب من قبل الدول الكبرى غايته تركيز دعائم الاستعمار في هذه البقعة الباقية من افريقيا. ففي الوقت الذي يثبت فيه الاستعمار شعور الانقسام والفرقة والتمايز والكره للاكثرية نجده نفسه يبث عند عملائه من السياسيين بأن الاكثرية تحاول فرض سلطانها على الاقلية، وبنفس الوقت الذي يغذون الشعور بالاقلية عند البربر يخلقون عند الاكثرية زعماء متعصبين يسلكون سلوكا يثير نقمة الاقليات. فالقومية المتعصبة هي ايضا من النتاج الاستعماري في بلادنا والدعوات الطائفية كذلك لتدعيم الاستعمار. فلا الشخصية البربرية يحافظ عليها اذا استقلت لان البربر يصبحون عبيدا للمستعمر ولا يحافظ عليها اذا انعزل المغرب عن المشرق العربي لان المغرب بدون المشرق العربي سيبقى ضعيفا امام الاستعمار لان اوروبا متسلطة ومشرفة اشرافا مباشرا عليه.

عام 1955


القومية العربية والنظرية القومية

ان اصطلاح “القومية العربية” في استعماله الشائع اليوم، هو خليط من افكار واتجاهات سياسية وعواطف، ومن رواسب وانحرافات سلبية وايجابية جعلته بعيدا عن المعنى الصادق الخلاق الذي يوحي به، بحيث نرى القومية تارة مرادفة للتعصب والتوسع، وتارة اخرى مقيدة في اغلال من العنصر او الدين او التاريخ، او مساوية للوحدة ورفض التجزئة او لوحدة النضال الشعبي مع ان هذه المعاني كلها، السلبية والايجابية، عارضة متبدلة جزئية، والقومية هي وحدها الخالدة الثابتة الشاملة.

ان القومية العربية لدى البعث، هي واقع بديهي يفرض نفسه، دون حاجة الى نقاش او نضال، اما مجال الاختلاف وضرورة النضال فهما في محتوى هذه القومية، هذا المحتوى المتطور الذي يحتاج في كل مرحلة من مراحله الى نظرية قومية تلائمه. ولهذا لا موجب لأن نناقش في اننا عرب ام لا، ولكن يجب ان نختار وان نحدد مضمون العروبة في المرحلة الحاضرة: أتكون رجعية ام تقدمية؟ أتستقيم مع الاستعمار والاستبداد ام شرطها الحرية؟ وهل تبقى مع التجزئة ام ان الوحدة شرط اساسي لها؟

ولذلك فرق الحزب منذ تأسيسه بين “الفكرة العربية” وعنينا بها القومية العربية، وبين “النظرية القومية”، فقال ان الفكرة العربية هي بديهية خالدة، وهي قدر محبب، وانها حب قبل كل شيء، اما النظرية القومية فهي التعبير المتطور عن هذه الفكرة الخالدة حسب الزمان والظروف، وان هذه النظرية تتمثل اليوم -حسب اعتقادنا- في الحرية والاشتراكية والوحدة. وبهذا التفريق تتسع القومية العربية لكل هذا الواقع الغني الممتد عبر عصور التاريخ في جميع اقطارنا، فهي تحتضن هذا التاريخ وتتغذى به، وتؤلف من عناصره المختلفة تجربة واحدة موحدة. فهي بذلك الصفة المشتركة التي تجمع عناصر وحقبا تاريخية متعددة تشملها جميعا، ولا تصطدم بأي منها.

ولذلك نقول ان القومية العربية هي قومية وعربية، قومية بمعنى ان فيها الشروط الابتدائية لكل قومية، عربية بمعنى ان فيها التطور الخاص بالامة العربية عبر مختلف العناصر والحضارات والازمنة. وان الصفة العربية المشتركة التي وحدت بين هذه العناصر جميعا هي التي استمرت دون انقطاع، وكانت اللغة العربية ابرز عنوان لهذا الاستمرار بما تتضمنه اللغة عادة من وحدة في التفكير وفي المبادئ والمثل.

وبهذا المعنى فقط، يأخذ التاريخ قيمة في قوميتنا، تاريخنا بالدرجة الاولى، والتاريخ العام بالدرجة الثانية، فنحن لا ندخل التاريخ في قوميتنا ليكون صورة وقدوة بل لانه التربة الحية التي نما فيها وعينا وتصحح وتكامل، حتى بلغ هذه المرحلة الحاضرة التي نعبر فيها عن قوميتنا الايجابية بكليتها، والتي لا مكان فيها للتمييز او التفوق او السيطرة او العزلة.

وليس المهم ان تكون شتى المعاني السلبية والايجابية، كالعنصر والدين والتراث التاريخي، قد أسهمت، في الماضي، في صنع هذه القومية وتداخلت فيها. ولكن المهم هو المعنى الذي نستخرجه من ذلك في مرحلتنا الحاضرة، مرحلة انبعاث وخلق المستقبل العربي، المهم ان نعرف ان هذه القومية -التي وصفناها بالخلود وبأنها تفترق عن المضامين المختلفة التي تعبر بها عن نفسها خلال الزمن وبالتفاعل مع الحوادث والظروف- لا يعني الخلود فيها جمودا، وانما يعني ثباتا واستمرارا للحد الادنى من المقومات تبنى عليها وتنسج حولها تعبيرات متنوعة متجددة، فهي خلق دائم، ولكنها ليست خلقا مجردا ولا خلقا من العدم، بل نابتا من التجارب الحية، لان هذا هو الذي يعطيه قوته ويضمن استمرار حيوته وتكامله. ولذلك فنحن نعتبر ان التجربة الحاضرة للامة العربية هي القيمة الأولى والكبرى لهذه القومية، لأنها أغنى وأثمن من جميع المراحل التي عاشتها أمتنا في الماضي وبالتالي فان مجال التجدد والخلق مفتوح أمامها الآن بكل اتساعه، لتعطي لقوميتها المعاني الحرة الاصيلة التي توحي بها تجربتها الحاضرة بكل عمقها وعنفها، وتخلع بالتالي على تجاربها الماضية معنى جديدا. فهي بهذا المعنى تخلق المستقبل وتخلق الماضي نفسه، وهي بالتالي -أي هذه التجربة- تترك في الصف الثاني اكثر المعاني السلبية او الايجابية التي تدخل عادة في بناء القومية، وترفعنا فوق النظرة التاريخية، كما تجنبنا النظرة الاممية المجردة.

فالعرب اليوم لا يريدون ان تكون قوميتهم عنصرية، وارادتهم هذه نابعة من تجربتهم، فقد جربوا ما معنى العنصرية، وجربوا ما معنى الظلم.

والعرب اليوم لا يريدون ان تكون قوميتهم دينية، لان الدين له مجال آخر وليس هو الرابط للأمة، بل هو على العكس قد يفرق بين القوم الواحد، وقد يورث -حتى ولو لم يكن هناك فروق اساسية بين الاديان- نظرة متعصبة وغير واقعية.

والعرب اليوم لا يريدون ان تكون قوميتهم تاريخية. ان القومية العربية لا تنفي التراث التاريخي غير العربي، أي هي لا تتعارض معه، فالامة العربية اليوم وارثة لتراث حضاري غني وواسع، يشمل شتى الحضارات التي دخلتها وتفاعلت معها، من مصرية وآشورية وبابلية وفينيقية وغير ذلك. فالقول بالقومية العربية لا يعني مطلقا ان نتنكر لتراث الفراعنة مثلا أو نتبرأ منه، فهذا فهم سطحي ومضلل جدا، وكذلك فان القومية العربية لا تعني الانغلاق امام الحضارة الإنسانية، بل هي، على العكس، في تفاعل مستمر معها.

على أن قوميتنا، برغم هذه المرونة وهذا الشمول، تبقى قومية ذات شخصية، فهي لكي تستوعب التراث القديم العديد المتنوع، ولكي تتفاعل مع الحضارة الإنسانية، يجب ان تكون لها شخصية. فنحن نسمي عربا هذه المجموعة من البشر التي استلمت من الماضي تلك المقومات والشروط الابتدائية والضرورية للشعور المشترك، وللمصلحة المشتركة، لا لتقف عند هذا الحد، بل كنقطة انطلاق تبدأ منها حياة جديدة تملؤها بكل المثل الانسانية التي توحي بها او تدفع اليها تجربتها الحاضرة.

والقومية بمفهومها الحديث هي التي -بمنعها القفز الى عالمية مائعة ومجردة- تقي من الانتكاس والرجوع الى العصبيات الصغيرة، فهي اذن تحفظ شخصية الإنسان من التميع ومن التضاؤل. ان مفهوما للماركسية يدعو الى العالمية ويعتبر القومية انتكاسا، مع أنها في الواقع حركة تقدمية، لأنها حررت الإنسان من العصبيات الصغيرة وارتفعت به الى روابط اوسع، لها من نضجها ومن قيامها على اسس انسانية ما يجعلها خيرا من ان تهدم القومية لتدفع الانسان الى العالمية دفعا مصطنعا وسطحيا، فيصبح ضائعا في هذا العالم، ويحتاج الى قوة تجريد جبارة ليحفظ على نفسه ايمانها بصفة “المواطن العالمي” هذه، وهو وضع سيعود بالإنسان حتما الى نوع من العصبيات الصغيرة.

ان القومية في مفهومنا، هي محررة من خطر الانغماس والاستسلام لعوامل البيئة والظروف الاجتماعية المحلية، ومحررة ايضا من خطر الانقلاب من جو الحياة بكاملها، ومن الوقوع في التجريد، ذلك ان في القومية الحد المعقول من التجريد الذي يجعل المصري والسوري واليمني عربا، وهذا لا يمنع ان يشعر العربي بأنه إنسان، وبأن له رسالة مشتركة مع بقية البشر، ولكن ضمن كونه عربيا، فصلته بالآخرين وتعاونه معهم انما يتمان من خلال شخصيته العربية.

واخيرا، فان قوميتنا لا تزول باردتنا، ولكنها في الوقت نفسه لا تستمر ولا تتحقق تحققا كاملا بدون هذه الارادة، أي ان فيها امكانيات التفسخ والتناثر، كما أن فيها امكانيات الوحدة والانسجام والنضج. فالقومية العربية ليست مرحلة نضال مشترك، او شعارا لهذه المرحلة تنتهي بانتهاء النضال او بانتهاء دواعيه، ليعود كل قطر بعد ذلك الى شخصيته الخاصة. ان البعض ينظر الى نجاح النضال كنهاية للقومية العربية ولمبررات وجودها، اما نحن فنجد نهايتها في فشل هذا النضال، اذا كانت لها نهاية، والاصح ان نقول: ان في هذا الفشل انتكاسا وتقهقرا لها، وما دمنا نؤمن بأن الاقطار العربية هي في حالة ثورة وتقدم وتفتح، فنضالها متزايد، ووضوح شخصيتها العربية الموحدة متزايد ايضا بنسبة نجاح نضالها. ان النضال المشترك هو اليوم في الواقع الشعار للقومية العربية المتفتحة المنبعثة من جديد، فهي التي خلقت هذا النضال، وهي التي تغذيه.

القاهرة، عام 1957


معالم القومية التقدمية

ايها الاخوة الاحباء(1)

يصعب علي ان اصف لكم فرحتي بزيارة هذا البلد العظيم الذي رأيت فيه من علائم النهضة والتحفز ما يبعث الامل، ويبشر بمستقبل عظيم لهذا القطر وللوطن العربي الكبير.

اسمحوا لي ايها الاخوة، ان احدثكم قليلا عن تجربة اخوتكم في المشرق العربي، عن تجربة جيل بدأ نشاطه وتحمل المسؤوليات القومية منذ الحرب العالمية الاخيرة وأوجد تيارا فكريا شعبيا عظيما، جيل ساهم في النضال في اقطار المشرق، وساهم إلى حد غير قليل في صنع الاحداث في هذه السنين. وقد جاءت الاحداث مصداقة لنظرته في جملتها وإن كان الواقع احيانا يظهر بعض الاخطاء في التفصيل، هذه الحركة التي اريد ان احدثكم عنها والتي قد تكونون سمعتم بها هي حركة قومية عربية تنادي بأمة عربية واحدة وتؤمن بأن العرب لا بد ان يتوحدوا في وطن واحد، وتؤمن بأن للامة العربية رسالة في هذه الحياة تؤديها للانسانية كما سبق لها في ماضيها العريق ان فعلت. هذه الحركة تنظر الى القومية العربية نظرة جديدة مستوحاة من روح العصر وحاجات الامة وماضيها الاصيل.

فأثناء الحرب العالمية الاخيرة وجد العرب انفسهم حائرين وسط دول كبرى تستعمر اجزاء وطنهم وتنتقص من سيادتهم وتقول بمذاهب اجتماعية واقتصادية، بينما كان النضال العربي دون مستوى التفكير بالمذاهب، ودون مستوى الشمول. فقد كان محصورا لا في النطاق العربي فحسب، بل في نطاق القطر الواحد، في النطاق الاقليمي. ولقد كان النضال مقتصراً على مكافحة الاجنبي دون ان تكون له مادة ايجابية يستند اليها لبناء المستقبل بعد التحرر. وكانت جماهير الشعب لا تتحمس الحماس الكافي، ولا تضع جميع امكانات النضال في المعركة، لان قيادة هذا النضال لم تكن شعبية ولم تأخذ بعين الاعتبار مصلحة الشعب ومطالبه الاجتماعية، فكان يسود العلاقة بين الجماهير والزعماء فتور وشك.. شك في المقاصد وشك في الكفاءة والجدارة.

في تلك الظروف كان الجيل العربي الشاب الواعي مطالبا بان يخرج قضية أمته من ذلك التبعثر والفراغ وان ينقلها إلى صميم الواقع الحار ليلهب حماس الجماهير ويربط بين مصلحتها ومصلحة الوطن، وليرتفع بنضاله الى ما يتناسب مع روح العصر وليرتفع بالروح القومية الى الجو العالي الذي يتكافأ مع ماضي أمة عظيمة كالامة العربية.

في ذلك الحين كان الشيوعيون العرب ينشرون بين الشباب افكارا تنادي بالاممية وتنكر قيمة القومية، او تدعي بأن القومية مرحلة مؤقتة كمرحلة دنيا لا بد ان ترتقي فوقها المجتمعات لتصل الى الاممية، وان القومية مرحلة رجعية وانها مشوبة بالتعصب وان وراءها المصالمح البورجوازية والرأسمالية، وانها تدفع إلى التوسع وإلى الحروب فكانت هذه الاوصاف التي تصح على القومية في أوربا في القرنين التاسع عشر والعشرين، تناقض حالة قومية كقوميتنا مظلومة خاضعة لعدوان اجنبي ليس فيها إلا الحرص على مقومات الامة والا الحب للشعب ولجميع الشعوب. فكان يصعب علينا ان نصدق بأن القومية هي ضد الانسانية طالما اننا نشعر ان كفاحنا القومي في سبيل الاستقلال كان بدافع انساني. لقد كنا نشعر ان كفاحنا القومي كان بدوافع انسانية خيرة لذلك بدأت الفكرة الجديدة تتبلور واخذنا نفرق ما بين النظرية القومية الرائجة في الغرب، والتي ثارت عليها التقدمية الاشتراكية، وبين قومية الشعوب المغلوبة في آسيا وافريقيا ومنها القومية العربية التي تحمل في طياتها بذور الخير والانبعاث للقيم الانسانية.

وكان ثمة مفهوم آخر رائج، مفهوم مجرد مستعار هو أيضا من الخارج يحصر القومية في اتفاق المصلحة وفي الذكريات الماضية والآلام والآمال.. فكان هذا جواباً جافاً لا يروي ظمأ الشعب العربي إلى ما يحرك فيه طاقات دفينة، فكانت الخطوط التي رسمناها لقوميتنا العربية لا تكتفي بالروابط الحقوقية بين الافراد، وانما تجعل في وجود الامة رسالة تاريخية وأمانة في عنقها تحيا حياتها وتجربتها بصدق وتخلص للقيم والعقل وتقدم للانسانية خير ما عندها. وهذا ما جعلنا نرجع إلى تراثنا الحضاري التاريخي وننظر اليه نظرة جديدة.. ففي حياة العرب تجربة ضخمة ورسالة سامية.

وكان التفكير السطحي قبل ظهور حركتنا يوحي او يوهم بوجود التضاد بين القومية وبين هذا التراث الروحي بحجة الحرص على العلمانية، ولكن وجدنا ان لا تعارض بين العلمانية وبين الاعتراف بما يغذي روح حضارتنا من تجارب ماضي شعبنا الغنية. فكانت هذه النظرة الجديدة إلى تراثنا القومي نظرة حية واقعية عميقة ارجعت إلى نفوس الشباب الاستقرار الذي فقدوه زمناً، وصالحتهم مع ماضي امتهم دون ان تجمدهم في هذا الماضي.

ايها الاخوة،

الفكر في حد ذاته قوة تاريخية، قوة ثورية لا تقدر. فمجرد وضع القضية العربية القومية في صيغة فكرية شاملة كان اول مساهمة في تركيز الحركة الثورية العربية على اسس صلبة، اذ ان هذه الصيغة الفكرية هي التي جاءت تلبية لحاجة الشباب العربي في كل قطر لكي يرى ما تعني قضية امته واين هو موضعها بين قضايا العالم، فكانت هذه المحاولة التي لا شك انها تحتاج إلى مزيد من الجهود الا انها استطاعت ان تسد فراغاً في حياة الشعب العربي في عدد من اقطاره. والقومية التي كان الاقطاعيون قبل عشرين او ثلاثين سنة يتلفظون بها دون المام شامل، ودون معنى الا الرد على الاجنبي ليعينوا الاسم والهوية بأننا عرب لا اكثر، هذا التعريف الفارغ كان لا بد ان يأخذ معنى حياً مستمداً من الواقع فقلنا بأن القومية العربية تساوي وتعادل حياة الجماهير ومصلحة الجماهير وقضية الجماهير.

انها ليست عنوانا فحسب وليست ترفاً يدعيه ويزدان به الوجهاء والزعماء. انها من صميم الآلام، الآلام المادية والمعنوية، آلام الشعب المستغل وآلام الشعب المقهور في سيادته، وهكذا اتخذت القومية العربية مضمونا واقعيا ثوريا عندما حددت بأنها الوحدة والحرية والاشتراكية العربية: الحرية في الخارج امام الاجنبي المستعمر والحرية في الداخل امام الحكم الاستبدادي.. والاشتراكية للشعب كله، اشتراكية مستقلة لا تتبع مذهبا معينا ولا تكون أداة للتعصب المذهبي والتنازع وانما تستفيد من جميع النظريات والتجارب التي تمر بها الشعوب وتحرص على ان تتلاءم مع روح الامة ومع ظروفها وحاجاتها. هذه هي الاشتراكية العربية… والوحدة العربية هي أيضاً مفهوم ثوري لانها كانت دوماً موضع العدوان والتآمر من الدول الاستعمارية ومن الطبقة الرجعية ومن الصهيونية العالمية فكانت هي الضحية في كل حين، لانها سر انبعاث العرب وقوة العرب. لذلك كانت تتكالب عليها المؤامرات فكان لا بد ان نفضح كل هذا وان نظهر بالدليل الواضح كيف ان الوحدة التي طالما تشدق الزعماء بها وادعتها الحكومات لا يخلص لها ولا تقصد لذاتها وانما هناك تآمر عليها، وحرص على الاقليمية والتواطؤ مع الاستعمار في بعض الاحيان: حتى أن الجامعة العربية بدت لنا عند نشوئها وكأن القصد منها تخدير الحاجة الى الوحدة لا تلبية هذه الحاجة. فبينا حيوية الحاجة الى الوحدة وبينا ان الوحدة هي شرط لازم للنضال الشعبي التحرري ضد الاستعمار وضد الاستغلال، وأنه بدون وحدة يبقى الاستعمار يتلاعب بمصيرنا ويغري قطرا باستغلال محن قطر آخر وتبقى قضية الوحدة موضع شك. فثورة الوحدة ان لم يتبنها الشباب العربي الثوري ويخلقوا فكرتها خلقاً وينمّوا وعيها ويخلصوا لنضالها فانها ستبقى مادة للتضليل، وبالتالي لن ينجح لا النضال التحرري ولا الاشتراكي ما دام الشعب الواحد مجزأ، يقوم التنافر والتعاكس أحياناً بين نضال اقطاره بدلاً من التنسيق والتوحيد. فالذي يخلق الوحدة هو الشعب المستغل، الشعب الذي يحتاج إلى وحدة النضال لكي يضمن الخلاص من الاستغلال وفي الوقت نفسه يكون قد وحد اجزاء وطنه الممزق.

ونظرتنا هذه إلى الوحدة تختلف أيضا عن المفهوم القديم التقليدي الذي يقول: ان الوحدة هي رجوع إلى الحالة الطبيعية، رجوع إلى ما كانت عليه الامة قبل التجزئة، لان هذا كلام ليس فيه جد ولا اخلاص، فالوحدة لا يمكن أن تكون رجوعاً إلى الوراء. انها الوحدة الثورية في هذا العصر، وحدة تنهض على اكتاف الجماهير وتمتزج بالنضال الاشتراكي، بل يمتزج نضالها بتجربة الامة كلها في هذه المرحلة، وهذه التجربة الانسانية العميقة لا يمكن ان تكون عملية آلية وانما عملية خلق جديد للامة، وهذا يجب ان يكون واضحاً. فالتاريخ لا يرجع إلى الوراء والامة الحية تجدد نفسها باستمرار لذلك لا تبتعد الوحدة عن المثل التي تدين بها قوميتنا. ليست الوحدة مجرد جمع ووصل وعملية مادية، الوحدة هي صهر جديد من خلال التجربة الجديدة للعرب. يجب ان تكون الوحدة شفافة ترتسم عليها مثلنا ومبادئنا في الحياة والمجتمع، هذه وحدتنا التي تستطيع أن تحمس جماهير الشعب، وان تدفعها الى التضحية. وفي هذه النظرة الجديدة نظرة الى الانسان أي نظرة إلى اخلاقية العمل وربط الوسيلة بالغاية.

لقد كانت السياسة قبل ذلك أسلوباً واقعياً رخيصاً فقلنا بأن الأمة في مرحلة الانبعاث لا تستطيع ان تحرك فيها القوى الكامنة والتحفز للثورة والنضال وان تخلق وان تبدع اذا لم تكن منسجمة مع نفسها، مع مثلها وتاريخها، اذا لم تكن تطبقها في عملها.. وان الوسيلة لا يمكن ان تنفصل عن الغاية. ان الثورات والنهضات انما تعمل لخلق انسان جديد مستقل الشخصية حر في التفكير قادر على الانتاج والابداع وتحمل المسؤولية، فلا يمكن ان تطبق الميكيافيلية التي تعتمد على الكذب ولا تقيم وزنا للاخلاق.

لذلك كان لا بد ان ننظر الى ما حولنا في العالم وان نعين موضعنا من العالم، لقد كان الصراع بادئاً بين المعسكرين فقلنا بالحياد عقب الحرب العالمية، وكانت حركتنا اول من نادى بالحياد وربطته بفلسفتها، فلسفة القومية، التي ترفض النظام الرأسمالي والديمقراطية الغربية التي أنجبت الرأسمالية وترفض الشيوعية كنظام، وتترك المجال حرا لظهور الثورة الحقيقية التي لا تعسف فيها ولا اصطناع، والتي تنسجم فيها الوسيلة مع الغاية، اذ ان الشيوعية لم تستطع ان تحافظ على حرية الانسان وهي التي باستخفافها بالحرية قد حولت الغاية إلى وسيلة وفقدت الشيء الكثير مما كانت ترمي اليه من انقاذ للانسان من الظلم، فكانت صيغة القومية الجديدة انها لا تفرط بحرية الانسان وانها تغذي انسانية الانسان وانها ثورية تنشد الثورة لنفسها وللعالم، ولكن لا تضحي بالمثل من اجل ثورة مادية فحسب.

لقد أقاموا تناقضاً بين القومية والانسانية كما تعرفون، وهذا كان في نظرنا شيئاً مصطنعاً فلم نصدق ان القومية مرحلة، لاننا حتى الآن لم نر ان القومية كانت مرحلة لشيء فوقها، وانما الصحيح ان بين القومية والانسانية انسجاماً اذا فهمنا القومية فهما صحيحاً، والصحيح ان نقول ان ثمة، قومية انسانية.

القومية التي تخرج من تجربة الشعوب التي عانت الظلم وعانت الاستعمار وتحررت دون ان يستنفد الحقد ألمها وتجربتها، اي التي عانت تجربة الظلم والتأخر وتطالب بتجربة ايجابية متفائلة، هذه القومية هي التي تطبق القيم الانسانية في حدودها. فالقومية هي المسرح الواقعي لتحقق الانسانية، والانسانية التي تقفز من فوق القومية وتكون خيالية لا تجد ارضاً تستقر عليها فهي تكون في الذهن اكثر منها في الواقع، وكثيراً ما توصل الى العصبيات الضيقة والى الاقليمية. فالقومية الانسانية اذن هي تطبيق لنظرية في القومية عامة. اننا نؤمن بأن القومية للبشر عامة هي حالة سوية وحالة ثابتة غير مؤقتة اذا أحسن فهمها واذا خلصت من التعصب وشوائب الطمع والتوسع.

يحق لنا ان نتساءل ماذا استطاعت القومية العربية بمفهومها الحديث ان تحقق حتى الان، وما هو المأمول منها؟ انها قطعت أشواطاً في سبيل التحرر القومي وتوطيد الاستقلال، كما أنها قطعت أشواطاً في سبيل التقدم الاقتصادي والاجتماعي، وقطعت خطوة أولى بقيام الجمهورية العربية المتحدة. ومهما وصفنا أثر هذه الخطوة الاولى نكون مقصرين عن وصف الواقع والحقيقة.. لان المؤامرات العديدة على الوحدة التي كانت تأتي من الاجنبي والرجعية جعلت في اعتقاد العرب جميعاً ان الوطن العربي الموحد خيال غير قابل للتحقيق وانه عندما تتهيأ كل الظروف وتتوافر الرغبة الصادقة كان العرب يجدون ان عملية الوحدة تبتعد حتى كاد الشك يتطرق الى النفوس.. ولا شك ان الاستعمار والصهيونية كان لهما يد كبيرة في اشاعة هذا الشك، لذلك كان مطلوباً من الجيل العربي الثوري أن يضع حداً لهذه الشكوك وان يضحي وان يعطي برهاناً على قابلية الوحدة للتحقق. هذا ما يفسر الجهود والتضحيات الكبيرة التي بذلت حتى تحققت هذه الخطوة المباركة التي يفديها العرب في كل مكان.

ولئن وقعت أخطاء، فالوحدة هي اعمق من كل شيء وهي قادرة على أن تصحح الاخطاء، وما هذا الاصرار والاستعجال في تحقيق خطوة عملية نحو الوحدة الا دليل على حاجة الامة الى أن تشق طريق الوحدة لانه طريق القوة. والوحدة مازالت تحتاج إلى جيل يؤمن بها، يناضل من أجلها، يتابع رسالتها على الاسس الصحيحة، على المبادئ الديمقراطية والاشتراكية لكي يجد فيها الشعب مايطمح اليه. ولكي تكون وحدة متينة الاسس غير معرضة لأية انتكاسة.. مازالت تحتاج إلى جيل يؤمن بها مناضل، يخلق وعيها وينمي نضالها ويكافح عقلية التجزئة ورواسبها والمصالح الآنية للتجزئة. ولا يقال بأن في الوحدة اعباء كثيرة لان فيها مقابل الاعباء فوائد وقوة اذا حرصنا على أن تكون هي الوحدة الثورية، وحدة جماهير الشعب لا وحدة طبقة اقطاعية، وعندما يسعى هذا الجيل ويتابع نضاله من أجلها وينشره في كل قطر فلا شك انها ستصبح بدون أخطاء وتبعد عنها الاخطار وتزال عنها الشبهات، فالوحدة ليست ترفاً للعرب، فلا يمكن ان يصل القطر الواحد إلى استقرار وإلى تقدم ملموس واستقلال متين ما دامت أقطارنا متفرقة، وما دام الاستعمار يستطيع ان يلعب بنا ويستغل فرقتنا. فالوحدة ضرورة حيوية قاهرة، ولولاها ولولا اهميتها لما تكاتف الاستعمار العالمي والصهيونية العالمية وخلقوا عقبة كبيرة في طريقها هي اسرائيل.

ان السبيل إلى جعل الوحدة وحدة شعبية اشتراكية ديمقراطية هو الايمان بها وتبنيها والعمل لها، لا الخوف منها وتركها للصدف والظروف، لان الظروف قد لا تكون ملائمة طالما ان لها في العالم اعداء وهذه هي الامانة الموضوعة في اعناق الجيل العربي الجديد خاصة في المغرب العربي بعد أن قطع المشرق العربي شوطاً في هذا السبيل، فالمطلوب من جيل الشباب المناضل في المغرب ان يتابع الرسالة لكي يلتقي شطرا الوطن العربي ولكي نتفادى تبلور التجزئة في اقليميات مصطنعة.

ولا يتم لنا بعث عربي حقيقي اذا لم تتوحد جميع أقطارنا، ويأتي كل قطر بمساهمته وتجربته ليكمل تجربة الاقطار الاخرى، حتى تأتي التجربة العربية متحدة الجوانب، مكتملة المعاني.

وقد قلت أكثر من مرة بأن المغرب العربي قد عانى في هذا العصر تجربة من اعمق التجارب، تجربة لم يبلغها عرب المشرق، هذه التجربة القاسية الثمينة التي صمد لها شعبنا في المغرب وخرج منها ظافراً مدللاً على حيويته وخرج منها مطهراً من كثير من الاخطاء في المفاهيم والتقاليد، ينظر إلى الحياة نظرة جديدة بعد أن عايش الحضارة الحديثة جنباً إلى جنب. فتجربة المغرب العربي هي شيء اساسي في البعث العربي الحديث.

وهذا ما يجعل للوحدة العربية قيمة خاصة ومسؤولية خاصة عند شباب المغرب لكي تأتي نهضتنا مكتملة الجوانب ولكي نعود مرة أخرى نقدم نصيبنا من الخير الى الانسانية جمعاء.

عام 1960

(1) حديث ألقي في الرباط أثناء زبارة ميشيل عفلق للمغرب لحضور احتفالات العمال بذكرى الأول من أيار.  

في سبيل البعث الجزء الأول – الرسالة العربية الخالدة

حول الرسالة العربية

الرسالة العربية إيمان قبل كل شيء ولا يعيبها هذا او ينقص من قدرها، فالحقيقة العميقة الراهنة هي ان الايمان يسبق المعرفة الواضحة. وان من الاشياء ما هو بديهي لا يحتاج الى براهين ودراسات، انه يدخل القلب ويمتلك العقل دفعة واحدة. فالرسالة شيء ملازم للأمة، ومن حقها، أن تطمح الى بلوغها كما يحق لكل فرد ان يطمح الى المروءة والبطولة. ولكن في الواقع ثمة فرقا هو ان الحق قد يبقى عند الكثيرين نظريا لا يتحقق في العمل، فمن حق كل فرد ان يطمح الى البطولة -كما قلنا- ولكن كل الناس ليسوا ابطالا، فكل امة من حقها أن تطمح في أن تكون لها رسالة، ولكن الامم ليست كلها على السواء ذات رسالات، او ليست رسالاتها متساوية في درجة النضج وفي مدى التحقيق والشمول.

ان علينا ان نفرق بين معنى الحياة وبين الرسالة فلكل فرد مهما صغر شأنه ومهما قلت مواهبه معنى لحياته، ولكل أمة مهما ضاق نشاطها وقلت مواهبها معنى يستخرج من حياتها، غير ان هذا ليس هو المقصود بالرسالة. فالبطولة عند الافراد ليست مجرد معنى الحياة انها الحد المعين الذي يبلغه تكامل شخصية الفرد ونضجها وأشعاعها حتى تصل الى درجة التأثير والتوجيه واثارة الاعجاب، وهي عند الامة أن تخرج من نطاق النشاط المادي والانانية الضيقة وترتفع الى مستوى التوجيه الانساني والاشعاع على غيرها من الامم.

وشعار البعث العربي لا يرمز الى أشياء مقبلة بعيدة عن الواقع، بل يهدف في الدرجة الاولى الى تلبية حاجات الحاضر وضروراته، وهو يعني ان الامة العربية واحدة، فلا نعترف بهذه التجزئة المصطنعة العارضة. واننا نسعى الى تحقيق هذه الوحدة ليس في الارض فحسب بل ايضا في الروح والاتجاه.

اما الرسالة الخالدة فالقصد منها ان هذه الامة لا تعترف بواقعها السيء وموقفها المنفعل ولا تتنازل عن مرتبتها الأصلية بين الأمم، بل تصر على انها لا تزال هي هي في جوهرها، تلك الامة التي بلغت في أزمان متعددة مختلفة من التاريخ درجة تبليغ رسالنها، فهي اذن بصلتها ببعضها وبماضيها لا تزال واحدة ولا تزال فيها الكفاءة لاسترجاع تلك المرتبة التي فقدتها مؤقتا. فهذه الامة التي تستيقظ اليوم وتتحفز للنهوض ليست هي بنت اليوم، بل هي نفسها قبل ألف وقبل ألوف السنين، ميزتها وحدة الاصل والعنصر يوم كانت الوحدة هي الرابط المكينة التي تجمع الأفراد وتطبعهم بطابع واحد وتخلق فيهم نواة واحدة، ثم صقلتها وغذتها وحدة اللغة والروح والتاريخ والثقافة، ولما فقد هذا العنصر مكانه الرئيسي بين العوامل المكونة للأمم فقدت الأمة شيئا من تجانسها الضيق غير انها عوضت عنه بتنوع في المواهب والكفاءات وانطلاق في الفكر وتسام في المعنى الانساني. فهذه الأمة التي افصحت عن نفسها وعن شعورها بالحياة افصاحا متعددا متنوعا في تشريع حمورابي وشعر الجاهلية ودين محمد وثقافة عصر المأمون، فيها شعور واحد يهزها في مختلف الازمان ولها هدف واحد بالرغم من فترات الانقطاع والانحراف.

ولكن هل يستتبع تبنينا لماضي الأمة واعتبارنا انه يؤلف وحدة حية مع حاضرها ومستقبلها، اننا نوافق عليه وعلى كل ما جاء فيه؟ وهل حياة الامة مسيرة بقدر خارج عن ارادتنا، وان كل مرحلة هي نتيجة حتمية للمراحل التي سبقتها؟ ام ان على الأمة ان تساهم الى حد بعيد في خلق مصيرها فاذا انحرفت عنه وتلاشت مساهمتها في صنع قدرها، فانما ذلك لمرض طارئ تجب معالجته. فهذا الماضي كان يمكن لبعضه ان يكون خلاف ما كان ولبعضه الآخر ان يكون أقوى وأكمل مما كان! نحن سادة مصيرنا وصانعو قدرنا ندرك ادراكا عميقا ان الأمة الحية هي التي تحيا الآن والتي ينفسح امامها مجال الحياة للمستقبل، وانها الامة التي تخدم ماضيها باستخدامها اياه لا باستسلامها له، والأمة الحية تنمو وتتكامل ويكون ماضيها مهما سما دون حاضرها ويكون مستقبلها أمامها لا وراءها.

وفكرة الرسالة تقود حتما الى تكوين نظرة الى الماضي وعلاقته بالحاضر والمستقبل، فالاتجاه الشيوعي ينكر كل ماض، بمعنى انه لا يقر بصلاح أي ماضي فهو يدعو الى بناء جديد من أساسه عند مختلف الامم، وهناك اتجاه آخر ينكر الماضي عامة في مظاهره فقط وفي الواقع ينكر الماضي العربي، وهذا الاتجاه هو الاتجاه المعجب بالغرب وحضارته، والذي يدعو الى اهمال الماضي وتناسيه واخذ الحضارة الغربية بكليتها، فهو يعتقد أن فساد الحاضر في المجتمع العربي ليس نتيجة انحراف ومرض أصاب الأمة، بل هو نتيجة منطقية لبذور من الفساد كانت منذ البدء في حياة العرب، او لامكانيات من الخطأ والانحراف تضخمت ونمت مع الزمن حتى وصلت الى هذا الحاضر، وهناك اتجاه ثالث هو اتجاه البعث العربي الذي لا يتعصب لنظرية معينة ولا يقول بالاخذ المصطنع، بل يعتبر حياة الامة كجسم حي كان صحيحا ثم اعتل، ويعتبر ان التقدم يعني معالجة المرض والعودة بالأمة الى الوضع السوي السليم.

هذا الموقف الأخير يعترف بالماضي دون أن يرى فيه الكمال ويعتبره مرحلة لا يمكن أن تسترجع ولكنها تستطيع أن تؤثر، وأن لها في الحاضر صلات ووشائج حية، وهي ان كان تجاوزها واجبا، فليس بترها واستئصالها ممكنا ولا مفيدا. فنحن ننظر الى الماضي لنفيد منه لا لنفيده، لانه بغنى عنا، ولنعين الأسس التي يجب أن نبني عليها مستقبلنا هذا منذ الحاضر، فهذه الأسس يجب أن تكون مطلقة ثابتة فلا خير في أساس يتبدل مع الزمن ويصلح لقسم من المواطنين أو لنوع من التفكير، كما انها يجب أنه تكون أسسا حية، معجونة بدم الواقع منسوجة بنسيج التجارب.

لقد أفصح الدين في الماضي عن الرسالة العربية التي تقوم على مبادئ انسانية فهل معنى ذلك بانه يتعذر على هذه الرسالة ان تكون قومية؟ واذا اعتبرناها قومية فكيف فهمها غير العرب فوسعتهم وطبعتهم بطابعها، وهل الرسالة شيء ينتهي في وقت ما ام انها تتجدد وتتكامل مع الحياة؟ واذا افترضنا ان مضمونها واحد فما معنى خلود الرسالة، هل هو جمودها أي انها تحوي أشياء لا تزيد ولا تنقص أم يعني انها فوق الاشياء وانها نزوع ومهمة؟

هذه كلها أسئلة تطرح بصدد الرسالة العربية، ويمكننا أن نجيب بأن الرسالة يجب ان تفهم على انها نزوع واستعداد اكثر من كونها أهدافا معينة محدودة. ولا بد لنا ونحن في معرض الكلام عن الرسالة العربية في الماضي من ان نرسم صورة موجزة سريعة للفترات الرئيسية الممثلة لحياة الامة العربية والمفصحة عنها حتى الان.

ان الجاهلية متمثلة بالشاعر الجاهلي، فهو لسان حال القبيلة متصل بها قلما ينفصل عنها أو يستقل بالكلام لانه يتكلم اكثر الاحيان بلسان الجمع. فالجاهلية تمثل تجانس المجموع الى حد بعيد وضيق هذا المجموع ايضا، فليس للفرد في الجاهلية مكان، انها طغيان المجموع على الفرد، فالقيم تستمد من هذا المجموع والفرد متقيد بها، والجاهلية تمثل أيضا تجاهلا للقدر كأنه لم يكن بينها وبينه أي صلة او أي تعارف واضح على الاقل. والجاهلي في شعره وتفكيره وسلوكه يعيش في عزلة المكان ووحشة الزمان، لا يتصل بالماضي ولا يتعرف على المستقبل او يتوقع منه شيئا، كما لا يتصل بالعالم المأهول النائي ولا يدرك سر الكون الواسع المحيط به. في حياته نقطة مضيئة واحدة هي سلسلة الحاضر، انها مسرح نشاطه وبطولته ولا يمكننا أن نتصور بطلا جاهليا بدون جمع يشاهدون بطولته ويصفقون له.

ثم يظهر الاسلام فيحدث انقلابا في حياة العرب وفي أنفسهم. فالقيم لم تعد تستمد من المجموع، كما ان الفرد ليس هو الذى يفرضها. انها تصدر من مكان هو فوق المجموع والفرد معا، وفي هذا ضمان لحرية الفرد وانسجامه مع المجموع في آن واحد. أما صدر الاسلام فانه من ناحية اخرى يمثل اتحاد النفس العربية مع القدر بعد ان كانت متجاهلة له، فتصبح ارادة القدر هي ارادتها بعد عزلة المكان ووحشة الزمان، ويصبح العالم كله، لا بل الكون وكل ما هو منظور وغير منظور مسرحا لنشاطه ولتطبيق هذه القيم الجديدة التي ظهرت في الحياة العربية.

والحاضر الذي كان النقطة الوحيدة التي ينمسك بها الجاهلي وينقذ بها نفسه من النسيان والعدم، أصبحت في نظر العربي الجديد المسلم هي النقطة المظلمة وحدها وكل ما عداها مضيئ، لانها هي مكان التجربة والامتحان، والهوة السحيقة التي لا تجتاز الا على جسر من الجهاد والتقوى. لقد تبدل القلق الخارجي في نفس العربي الجديد وحل محله القلق الداخلي، كما تبدلت عزلة المكان ووحشة الزمان بعزلة الفكر ووحشة في النفس والضمير فلم يعد الرجل يطمئن بسهولة الى قيمة أعماله، ويقتنع بموافقة المجموع او القبيلة، بل لم يعد يقتنع بتلك القيم التقليدية، بل لم يعد يقنعه شيء غير رضا ذلك الضمير الصعب الممعن في التشدد.

هذه الفتره التي انتقل فيها العربي من الجاهلية الى الاسلام، من حياة سجينة في قيم المجموع وتقاليده الى حياة تتحقق فيها الحرية الفردية والمساواة بين الأفراد كانت قصيرة جدا لم يلبث العرب بعدها ان غرقوا في بحر لا نهاية له من الشعوب الغريبة المختلفة. ومنذ ان فقدوا بعد سنوات معدودة شعورهم بوحدتهم القومية وغرقوا في تلك اللجة المتباينة المتماوجة من الشعوب، عادوا الى عصبيتهم الجاهلية والى صراع القبائل وتنافسها، فعندما لا تتوافر الحياة القومية على شكلها الصحيح تعود الأنانية الضيقة والنظرة المحدودة. ولقد تلت هذا عصور الضعف، وتبدأ منذ ان فقد العرب هذا التجانس القومي وخير من يمثل هذه العصور هو المتنبي. قد يرى في هذا مفارقة لان المتنبي شاعر القوة غير انه في الحقيقة رد فعل لعصر الضعف، لذلك فهو يمثله تمثيلا صادقا.

في هذا العصر تنعكس الآية، فالقيم لا تستمد من المجموع لانه تفكك وانهار وقام على أنقاضه أفراد يمثلونه، والفرد يستعد القيمة من نفسه ولا ينشد الا البطولة والقوة للقوة، وهكذا لم تعد القيم فوق الفرد والمجموع معا بل أصبحت قيما فردية يخلقها الفرد لنفسه، بعد ان كانت المساواة في الجاهلية على حساب الحرية، أصبحت الحرية في عصر الضعف على حساب المساواة، فالفرد يرفض التساوي مع غيره لأنه لا بجد مجموعا حيا ينتسب إليه، وهو وحيد لذلك يقول بمبدأ التفاوت ويتخذ لنفسه مثلا أعلى يعلو بنسبة افتراقه مثل الآخرين واختلافه عنهم واحتقاره لهم، وللمتنبي في التعبير عن هذا أقوال كثيرة.

ان غايتنا من هذا العرض هي ان نعبر عن روح العربي، فنرى في أي وسط وضمن أية شروط تطمئن الروح العربية وتأخذ مداها وحريتها وتنطلق على سجيتها.

الجاهلية تمثل وسطا عربيا صرفا غير أنه ضيق محدود، فقد كثرت التقاليد وبولغ بالاستسلام للماضي وللقيم الموروثة حتى تعذر وجود الفرد الذي هو وحده يحيي المجموع ويجدده. فالجاهلية تمثل جسما حيا قويا ولكنه سجين تعوقه العوائق فكان لا بد له من ان يتخطاها ويفلت من القيود. ثم أعقبت ذلك فترة قصيرة تحققت فيها مطالب الروح العربية في الحرية والمساواة وفي انطلاق النفس العربية والفكر العربي الى ما هو أثبت وأوسع من القيم النسبية الواهية، فارتبطت بقيم مطلقة ثابتة شعر العربي بالارتياح إليها والاطمئنان فأعطى كل ما عنده. ولما فقد الكيان القومي عاد الفرد الى الوحشة واليأس.

قد يكون هناك بعض الشبه بين نفسية المتنبي مثلا وبين الجاهليين ولكنه شبه ظاهري خدّاع. ففي الجاهلية ضيق ينبئ عن امل واسع وثورة تتهيأ، في حين ان ثورة الفرد التي يمثلها المتنبي ثورة يائسة الى أبعد حدود اليأس، لأن العلاقة الحية التي لا يمكن للفرد ان يعيش بدونها وهي الارتباط بمجموع حي، قد فقدت في عصر الضعف وطغيان العناصر الأجنبية وتفكك الكيان العربي.

ان غايتنا من عرض هذه الصورة البسيطة لفترات رئيسية من حياة الامة العربية -كما قلنا- ان نستخلص منها ما يفيدنا في حاضرنا فكيف يكون حاضر البعث الجديد؟

انه لا يزال مترددا حائرا فيه ميل الى سيطرة قيم المجموع كما في الجاهلية. فالبعث الجديد مهدد بأن يخنق نفسه ويغل نشاطه اذا تبنى هذا الطغيان للمجموع على الفرد والمجموع لا ينتج غير قيم نسبية، لذلك يكون البعث مهددا بأن يقوم على أسس متقلقلة لا تصمد للزمن ولا تصلح لكل الحالات. ويبدو هذا جليا عندما نرى البعض يقولون مثلا بأن العروبة فوق الجميع، فهم يقصدون بالعروبة ما يقرره المجموع. وفي مثل هذا القول خطر. فنحن نؤمن بأن العروبة فوق الجميع بمعنى انها فوق المصالح والأنانيات والاعتبارات الزائفة الزائلة، و لكن شيئا واحدا نؤمن بأنه فوق العروبة، ألا وهو الحق. فالعروبة يجب ان ترتبط بمبدأ ثابت يكون هو الضامن الوحيد لتجدد ولتكامل ولاستمرار حياتها نحو النمو والاتساع، فيجب أن يكون شعارنا: الحق فوق العروبة الى ان يتحقق اتحاد العروبة بالحق.

ان الرسالة العربية اليوم هي في ان يتطلع العرب الى بعث أمتهم، فهذا خير ما يقدمونه للإنسان لأن القيم الانسانية لا يمكن ان تخصب و تثمر الا في أمة سليمة. فعلى العرب ان يحيوا حاضرهم حتى يستطيعوا ضمان حياة مستقبلهم لان المستقبل لن يأتي ما لم نتوصل الى ان نحيا حاضرنا بآلامه ومآسيه.

ان الرسالة العربية الخالدة هي في فهم هذا الحاضر وتلبية ندائه استجابة لضروراته. والخلود ليس شيئا بعيدا في الأفق او خارج نطاق الزمن. انه ينبعث من أعماق الحاضر، فاذا فهمه العرب بصدق وعاشوه بإخلاص فانهم سيؤدون رسالتهم الخالدة. انهم اذا عرفوا هذه التجربة ومروا بها حتى نهايتها، وتغلبوا على ضعفهم وتقاعسهم ونفسيتهم السطحية الزائفة، لا يكونون قد بتوا أمتهم فحسب وانشأوا كيانا قوميا بل يكونون قد قدموا للإنسانية كلها بنتيجة هذه التجربة أدوات صالحة أيما صلاح ومهيأة أيما تهيئة لحمل أعظم الرسالات وأصدقها.

عام 1946


معنى الرسالة الخالدة

طالما وجه إلي أعضاء الحركة وأصدقاؤها السؤال عما نعني بالرسالة الخالدة. وكنت دوماً أجيب جواباً بسيطاً لهؤلاء الذين يظن أكثرهم أن الرسالة العربية الخالدة هي حضارة وقيم معينة يستطيع العرب في المستقبل عندما يبلغون المستوى الراقي السليم المبدع أن يحققوها وينشروها بين البشر، واعتبرت هذه النظرة بعيدة عن الحياة وعن التجربة، ورأيت أنهم يحسبون الرسالة شيئاً جامداً منفصلاً عن نفوس أبناء الأمة وحياتها وتجاربها. فكنت أجيب دوماً بأن رسالة العرب الخالدة ليست للمستقبل وإنما هي الآن في طور التحقيق. إنها هذا الإقبال من العرب على معالجة مصيرهم وحاضرهم معالجة جدية جريئة وهذا القبول بان تكون نهضتهم نتيجة التعب والألم، هذا التحسس بالآفات والمفاسد التي انتابت حياتهم ومجتمعهم، هذه الصراحة في رؤية عيوبهم، هذه الجرأة في الاعتراف بها، وهذا التصميم الرجولي على أن ينقذوا أنفسهم بقواهم الذاتية غير معتمدين على قوى أجنبية أو على سحر، هذه التجربة المرة المملوءة بالكوارث… هذا الحاضر الذي يحياه العرب الآن هو بدء الرسالة الخالدة، لأنهم في هذه التجربة سيعرفون من جديد ما معنى العمل والتضحية، ما معنى التفكير السليم المستقل الذي لا يخاف ضغط الغوغاء، ما معنى الخلق الحر الذي لا يستسيغ التقليد. في هذا الحاضر الذي يبدو أسود قاتماً بشعاً فقيراً، تكمن الكنوز الوفيرة، الكنوز الروحية والخلقية والفكرية للنوع السليم من العرب، ففي كل عربي بذور السلامة والصحة.

إن القيم التي نتغنى بها والتي نعرف معرفة سطحية جامدة أن جدودنا الأبطال قد مثلوها، ثم نعجز عن تحقيق جزء بسيط منها في حياتنا، علينا أن نستكشفها من جديد، وهذا هو معنى التقدمية التي تظهر للعقول القاصرة بأنها تنكر التراث القومي والأخلاق القويمة، بينما هي في الحقيقة وصول صحيح إلى القيم الحقيقية الكامنة في النفس العربية والتي لا يمكن أن ترجع إلينا من نفسها دون أن نتعب ونصعد إليها، وأن نشعر بأننا ولدنا بها ولادة جديدة واكتشفناها اكتشافاً جديداً.

أيها الاخوان، في الوقت الذي تكثر فيه موجات التشاؤم والتخاذل، وتتكاثر فيه الكوارث والنكبات، يشعر العرب الصادقون بأن يوم الخلاص قد قرب، لأن الطريق قد فتح لتهتز النفس العربية أخيراً، لتهتز اهتزازاً عميقاً، لتتذكر ذاتها ومهمتها وتنتفض بانطلاق وحيوية وإيمان مستعذبة كل ألم أو تضحية في سبيل تحقيق رسالتها في الوجود. في هذه الأوقات التي تكثر فيها المصائب ويكثر المتشائمون يجب أن يظهر المؤمنون الحقيقيون، ولا يأتي الإيمان الحقيقي إلا بنتيجة التجربة والمعاناة، ونتيجة الامتزاج الفعلي بين الأفراد وبين مصير أمتهم. عندما يتم هذا الامتزاج نستطيع أن نثق بأن العرب يسيرون إلى ظفر محقق في آخر هذه التجربة، وأنهم سيحملون ثماراً روحية وخلقية وفكرية لا تغذي مستقبلهم فحسب وإنما بمقدورها أن تنقذ الإنسانية مما ينتابها من اضطراب في القيم، ومن تشويه فيها لأن هذه التجربة التي يمر العرب بها اليوم لا أعتقد بأن امة غير العرب قد عانتها، فإذا كان ابتلاؤها بهذه المصائب أليماً موجعاً، فعلينا أن ننظر أيضاً إلى حكمة القدر الذي يوصل الأمة العربية للعظمة والمجد حتى في أوقات محنتها وتأخرها، فارتقاؤها يكون عظيماً وقيمتها أيضاً عظيمة، ولا تكون الآلام عميقة إلى هذا الحد إلا لكي نستكشف كنوزاً عجزت عن الوصول إليها أمم غيرنا. وما هذه التجارب التي يفرضها القدر علينا إلا في سبيل أن نخرج من بعد طول القعود والسبات بتجديد وإكمال للرسالة وللقيم وللحضارة العربية التي إنما قدر لها أن تتغذى دوماً بالآلام والأتعاب.

 ( عام 1950 )


الرسالة الخالدة

يحسب البعض أن الرسالة الخالدة شيء جامد وأنها عبارة عن أهداف منفصلة عن الحياة، وينتظرون يوماً من الأيام أن تستطيع الأمة العربية بلوغ المستوى الذي يؤهلها لحمل هذه الرسالة.

إن الرسالة العربية الخالدة بادئة منذ الآن، فهي ليست شيئاً منفصلاً عن العرب في هذه المرحلة القاسية المملوءة بالأمراض. الرسالة العربية بدأت منذ أن بدأ العرب، وخاصة منذ أن بدأ الجيل الجديد يدرك بجرأة ووعي أن حياة الأمة العربية لا يمكن أن تستمر في هذا الطريق المعوج المنحدر، وأنه لابد من حركة إنقاذ، أي لابد من الانقلاب الشامل.

عندما بدأ العرب يواجهون مشكلاتهم بجرأة وصدق وصراحة ووثقوا بأن حل هذه المشكلات سوف يأتي من داخلهم، لا من معجزة أو من دولة خارجية وإنما بتعبهم وثباتهم، عندها بدأت الرسالة الخالدة تتحقق على الأرض العربية.

فنحن لا نفهم من الرسالة أنها الحضارة التي لا نستطيع الآن تحقيقها بل ونكاد لا نحسن فهم حضارة الآخرين. الرسالة شيء أعمق وأصدق من ذلك. انها تجربة حية، تجربة أخلاقية ونفسية تقوم بها أمة عظيمة وتضع في هذه التجربة كل حياتها.

إنها تدخل هذه التجربة بإيمان، وتسعى للتغلب على كل المفاسد بنفسها وقواها الذاتية، دون مواربة أو خداع أو أنصاف حلول أو حلول سطحية.

إن هذا الطريق سيوصل العرب إلى تغذية الروح الإنسانية بكاملها لأنهم يكونوا قد جربوا أعظم تجربة، ولأن آلام العرب لم تمر على أحد من البشر أو أمة من الأمم.

فمن هذه المشاكل القاسية والمعقدة ومن مواجهتها بالصدق والصراحة، ومن الاتكال على قوى الأمة وحدها، من كل هذا سيخرج العرب في النهاية وهم أرفع روحاً، وأعمق حساً وشعوراً، وأوسع وعياً وأكثر واقعية، من أكبر أمة على وجه الأرض.

عندها يستطيعون أن يقدموا للإنسانية ثمرة جديدة هي نتيجة  هذا التوحيد بين النظرة المثالية والواقعية، هي أن يغذوا الروح بقوة العمل، وأن يرفعوها إلى مستواها الرفيع العالي، وهي أن لا تؤمن بمبدأ إلا إذا كانت تستطيع تحقيقه. عندها لا تكون الرسالة حضارة فحسب، وإنما كنز روحي.

( عام 1950 )


نظرتنا إلى الدين 
 

قبل ان نتحدث عن موقف الدولة العربية المقبلة من الدين. وعن مركز الدين في حياة الأمم والشعوب بصورة عامة، وعن مركزه في حياة الامة العربية، أحثكم في هذه المرحلة، مرحلة التحرر والانبعاث، على ان تجعلوا ثقافتكم ثقافة متينة، وان تستزيدوا دوما من الثقافة والفكر وان تتسلحوا بحرية التفكير قبل كل شيء، فبدون حرية التفكير لا يمكن ان تصلوا إلى الحقيقة.. إلى الحل الناجع لكم ولامتكم.

الدين كما يظهر لنا من استعراض تاريخ البشر منذ أقدم العصور إلى اليوم، هو شيء أساسي في حياة البشر. فإذن بهذه الكلمة نطرح جانبا ذلك الاستخفاف الرخيص بالدين الذي يظهر عند بعض الشباب السطحيين. فموضوع الدين هو موضوع جدي ولا يمكن ان نحله بكلمة او بحكم سطحي عابر، ولكن يجب ان نفرق بين الدين في حقيقته ومرماه، وبين الدين كما يتجسد او يظهر في مفاهيم وتقاليد وعادات ومصالح، في ظرف ومكان معينين.

المشكلة إذن هي في الفرق بين حقيقة الدين وظاهر الدين، لان له حقيقة وله ظاهر، والمشكلة تنشأ عندما يكون الفرق بين حقيقة الدين وبين مظهره فرقا واسعا جدا، يبلغ أحيانا حد التناقض، يكون المظهر أحيانا مخالفا كل المخالفة لمرامي الدين الأصيلة ولحقيقته، وحينئذ تتكون الأزمة عند الشعوب والأفراد. والأزمة تتمثل بأشكال مختلفة عند الناس، حسب مستويات الناس الفكرية وحسب تجردهم عن المصالح، أو عبوديتهم للمصالح الخاصة. فالمسألة معقدة يدخل فيها الفكر والعلم، ويدخل فيها الهوى والعاطفة وتدخل فيها المصلحة والمنفعة، وعلى الشباب العربي اليوم ان ينظر بكل ترو وهدوء، ونزاهة في الحكم وصفاء في الذهن.. ينظر إلى هذه المشكلة، ويعرف ما هو نصيب الهوى فيها وما هو نصيب المصلحة الخاصة. عندها يستطيع ان يصل إلى حكم قريب من الصحة والفائدة العامة.

في حياتنا القومية حادث خطير وهو حادث ظهور الإسلام.. حادث قومي، وإنساني عالمي. ولا أجد ان الشباب العرب يعطون هذا الحادث حقه من الاهتمام. لا أجد أنهم يدرسونه ويحيطون بكل ظروفه وتفاصيله وملابساته، لان فيه عظة بالغة، فيه تجربة هائلة من تجارب الإنسانية يمكن ان تغنيهم وتغني ثقافتهم العملية والسياسية وكل شيء.

هل يفكر الشباب ان الإسلام عند ظهوره هو حركة ثورية، ثائرة على أشياء كانت موجودة: معتقدات وتقاليد.. ومصالح؟.. وبالتالي هل يفكرون بأنه لا يفهم الإسلام حق الفهم الا الثوريون؟. وهذا شيء طبيعي لان حالة الثورة هي حالة واحدة لا تتجزأ، وهي حالة خالدة لا تتبدل، فالثورة قبل ألف سنة وقبل ألفي سنة وقبل خمسة آلاف سنة، والآن وبعد ألوف السنين: الثورة واحدة، لها نفس الشروط النفسية، ولها نفس الشروط الموضوعية أيضا إلى حد كبير. فمن الغريب العجيب، وهذا ما يجدر بكم ان تفكروا فيه وتتأملوه، ان المدافعين الظاهرين عن الإسلام الذين يتظاهرون بالغيرة أكثر من غيرهم وبالدفاع عن الإسلام، هم ابعد العناصر عن الثورة في مرحلتنا الحاضرة، لذلك لا يعقل ان يكونوا فهموا الإسلام. ولذلك من الطبيعي جدا ان يكون اقرب الناس إلى الإسلام فهما وتحسسا وتجاوبا هو الجيل الثوري، الجيل الثائر على القديم الفاسد طبعا. وهذا ما لا نراه، أي ان الجيل الثائر ليس كله ولا اكثره معترفا بهذه الصلة بينه وبين الإسلام، في حين ان الذين يدعون هذه الصلة ويتشبثون بها هم أعداء الثورة، هم ممثلو الاوضاع القديمة التي يجب ان تزول لكي تنهض الامة العربية.

إنكم بلا شك تعرفون بعض الأشياء الأولية عن الإسلام، وارجوا ان تكونوا عارفين لكل الأشياء. أول ما تعرفونه عن الإسلام ان هذه الحركة التي نادى بها فرد واحد في البدء، وآمن بدعوته افراد قلائل، واحدا بعد الآخر، وافراد أكثرهم ضعفاء بالنسبة إلى مجتمعهم، وانهم جاهروا بهذه الدعوة وتحملوا الأذى والضغط وتحملوا الشيء الكثير مدة لا تقل عن ثلاث عشرة سنة في مكة حتى الهجرة، وبعد الهجرة ينتقل الإسلام إلى دور من القوة النسبية: إذ لم يعد المسلمون تلك الفئة المحصورة في بحر من الأعداء، بل كونوا لأنفسهم جماعة كلها مؤمنة. فهل يحق لمن لم يعرف الاضطهاد، ولمن لم يرض ان يكون من الفئة القليلة المجاهرة بالحق في وجه الفئة الكبيرة الضالة.. هل يحق له ان يتكلم باسم الإسلام وان يعتبر الإسلام ملكه الخاص؟.. وانه هو المدافع عنه؟.. انا لا اعتقد ذلك، لا اعتقد ان ذاك الحق يمكن ان يعطى فعلا الا للمضطهدين.. الا لذوي المبدأ والشجاعة الذين يجاهرون بعقيدة يؤمنون بها ويرون فيها الخير للمجموع، وان كان اكثرية الناس حولهم وجملة الاوضاع المحيطة بهم هي ضدهم، تؤذيهم، وتضغط عليهم، وتكافحهم. هؤلاء لهم الحق لان المبادئ والدعوات سواء أكانت دينية او اجتماعية او قومية او فكرية.. المبادئ والدعوات معيارها العمل وليس معيارها الكلام، فالكلام لا يكلف شيئا. الكلام سهل سواء أكان شفهيا او مكتوبا، لا يكلف اكثر من الجهد اللازم لكي نتفوه بهذا الكلام او نكتبه على الورق، ولكن قيمة المبادئ هي عندما تمتحن بالعمل. فاذا قبلنا بهذا المقياس تنقشع من على اعيننا غشاوات كثيرة، ونكتشف زيفا كثيرا وتضليلا كثيرا او جهلا وغرورا عند الذين يتوهمون ويدعون بانهم انصار المبادئ ودعاة المبادئ، ولكنهم لم يختاروا الطريق الصعب بل اختاروا السهولة والسير مع التيار الناجح، وان يكونوا مؤيدين ومدعومين بكل ما في المجتمع من وسائل الراحة والحماية، وان لا تهدد راحتهم او مصالحهم او كبرياؤهم بأي أذى.. نكتشف بان هؤلاء ليسوا هم اجدر من يدعي الدفاع عن المبادئ او الانتصار لها.

فلو تخيلنا ان المسلمين الاولين الذين عرفوا النضال من اجل المبدأ، وذاقوا كل مرارته، واجتازوا امتحانه، ودفعوا ضريبته.. هذه الفئة او بعض افرادها لو جاؤوا اليوم وهبطوا على حياتنا العربية الحاضرة.. تصوروهم بنفسيتهم المناضلة الثائرة، بشعورهم الحاد بالحق، وبان الحق شيء مقدس لا يكفي ان نعرفه، بل نعرّفه للآخرين، وان نستميت في سبيله حتى يظفر ويهتدي به الآخرون، وهذه نفسية المؤمن بدعوة حقة. لو جاؤوا اليوم، أيّ وسط يستطيبونه ويهدأون اليه، ويشعرون اليه بالقرابة؟ هل هو وسط الظلم الاجتماعي، وسط الاغنياء والوجهاء والمستثمرين للشعب والذين ينامون ملء جفونهم بينما تسعون بالمئة من شعبنا العربي يعيش حالة البؤس والمرض والذل؟. هل يستطيعون ان يعيشوا مع هذه الطبقة من المستغلين والمتربعين على الزعامات؟.. او مع حماة هذه الطبقة الذين يدافعون عنها تارة باسم الدين وتارة بأي اسم آخر؟. انا اعتقد بان المسلمين الأولين لو رجعوا اليوم لما استطابوا العيش الا في القرى المظلمة البائسة مع المظلومين والمستعبدين، الا في السجون مع المناضلين، فاصحاب دعوة الحق هم دوما الى جانب الحق.

الشباب مطالبون بان ينظروا هذه النظرة النظيفة، بان لا دين مع الفساد والظلم والاستثمار، وان الدين الحقيقي هو دوما مع المظلومين ومع الثائرين على الفساد. وهذا يعني ان كثيرين شوهوا الدين في بلادنا وفي ارضنا كما شوهه كثيرون في غير بلاد وغير أراض. فالدين المسيحي في اوروبا، حتى اليوم، باكثرية ممثليه الرسميين هو الى جانب الفساد والظلم بحميهما ويعطيهما مبررات البقاء، لذلك فقد نفوذه وطغت موجة الإلحاد في الغرب ليس عبثا بل لهذا الناقض، لان الدين بممثليه وقع في التناقض: لان الدين وجد ليشجع المحبة والإخاء، ليحمي الضعيف، ولكن اصبح بممثليه سياجا لكل هذه المساوئ.

فالازمة اذن ليست بسيطة.. هي ازمة انسانية، أي انها تمس أعماق الضمير الإنساني في الأفراد، ولكن قد يفهمها عدد قليل من الافراد على حقيقتها، بينما اكثر الناس يفهمونها فهما سطحيا. والفهم السطحي هو ان نستنتج بسرعة، بانه ما دام مظهر الدين في هذا الوقت وما دام ممثلو الدين الرسميون هم في صف الواقع الفاسد وليسوا في صف الثورة على الفساد فإذن الدين من أساسه فاسد ولا وجوب له ولا خير فيه، لذلك يجب التخلص من الدين لانه سلاح بيد الظالمين والمفسدين. هذه هي النظرة السطحية والاستنتاج الخاطئ جدا، وهذه هي النظرة التى توقفت عندها الشيوعية. ولذلك فالشيوعية ليست عميقة في كل نواحيها ولو انها في كثير من نواحيها جد عميقة – ولكنها بقت سلبية في كثير من المواقف: لاحظت الماركسية وملاحظتها حقة، بان الدين اصبح في اوروبا سلاحا بيد الظالمين المستثمرين المستعمرين لابقاء الشعب رازحا تحت الاستثمار والاستعباد، وهذا حق هذه الملاحظة صحيحة ومن صميم الواقع فقالت: الدين أفيون الشعوب.. هو المخدر.. السم الذي يمنع الشعب من الثورة، ولذلك اعلنت الإلحاد كعقيدة.. إلحاد بكل شيء خارج عن المحسوس. هذه نظرة عاطفية، فيها الهوى والحقد، وعصارة الالم من الظلم وأوضاعه: بما ان الدين واجبه الحقيقي، ومرماه الاصلي الحقيقي هو اشاعة العدل ورفع الظلم، وبما ان الدين اصبح اداة للظلم، اذن يجب ان يتحرر منه البشر.

هذه النظرة السطحية السلبية نحن لم نتوقف عندها ولم ننخدع بها، بل تجاوزناها منذ بدء حركتنا، ومنذ وضعنا التعابير الاولى البسيطة عن حركتنا. ليس فيها هذه السلبية، بل مشينا الى آخر الطريق، ووجدنا بعد اليأس الأمل والتفاؤل بالانسان، ووجدنا بعد النقمة والحقد.. وجدنا ينبوع المحبة والإخاء. لم نحكم حكما نهائيا على وضع عارض ومؤقت ومشوه، وبالتالي كانت فكرتنا فكرة روحية. الا انه يجب ان نفرق بين تفكيرنا نحن وبين تفكير آخرين اذ بينهما من الفرق ما بين الابيض والاسود. فنحن عرفنا واختبرنا صحة الحملة السلبية على مظهر الدين في هذا العصر، الحملة السلبية الي ذكرناها الآن عرفناها واختبرنا صحتها، ووافقنا على انها مشروعة في حملتها على مظهر الدين، ولكننا تجاوزناها وقلنا: ليس قدرا على الدين ان يبقى متحجرا دوما. الدين قادر على ان يعود الى حقيقته اذا وجد افرادا مؤمنين متجردين يعيدون الى الدين صفاءه الاول. الدين شيء اساسي وسيرجع الى جوهره متغلبا على النقمة.

هناك فرق بين هذه النظرة التى هي نظرتنا، وبين الذين يوافقون على مظاهر الدين دون ان تنشأ في نفوسهم هذه المعركة التي عانيناها، ودون ان ينظروا الى تشويه مظاهر الدين، ودون ان يثوروا وينقموا، ويتغلبوا على هذه النقمة تغلبا ايجابيا. قلنا ان الدين شيء أساسي وسيرجع الى جوهره متغلبا على النقمة. وحاربنا هذه المظاهر الفاسدة، لكي يعود الدين الى صفائه. اما الذين لا يشعرون بان ثمة معركة يجب ان يخوضوها، ولم يتجاوبوا مع هذه النقمة المشروعة التي تنشأ في قلوب المظلومين والذين رأوا في الدين في هذا العصر سلاحا يستند عليه الظالمون.. ان الذين لم يشعروا بهذه النقمة ولم يتجاوبوا معها، ولم يصلوا الى اعماقها لكي يتغلبوا عليها بحل ايجابي متفائل مؤمن بان بعث الدين يكون بازالة هذه المفاسد والمظالم، وان ألف حجة في الدفاع عن الدين لا تغني ولا تساوي حجة عملية واحدة تزيل شيئا من مظالم الحياة، فهم أعداء الدين، لن ينفع الوعظ والترديد بان الدين خير وبركة، وبان فيه الكمال كل الكمال.. ان هذا لا يغني شيئا، وهو يستغل سواء أراد الذين يتكلمون ذلك او لم يريدوا، فان مستغلي الأوضاع الفاسدة سيستغلون هذا الفساد لكي يخدروا الشعب، ولكي يمنعوا الشعب من الثورة على ظالميه ومستعبديه.

هناك نظرة سطحية جدا الى مظاهر الإلحاد في حياة  هذا العصر سواء في الشرق او الغرب، نظرة استنكار واشمئزاز من كل مظهر إلحادي بانه هذا هو الشر العميم دون ان نبحث عن اسباب هذا الإلحاد وهذه المظاهر الالحادية، ولكن متى عرفنا بان الاوضاع الجائرة هي اهم سبب في هذه المظاهر، وان ما جاء في الحديث كما يذكر: (كاد الفقر يكون كفرا) معناه ان الاوضاع الجائرة تخرج الانسان عن دينه، فاذن كيف يسمح بعض الناس لأنفسهم ان يحكموا براحة وبساطة، وبدون ان يتعبوا انفسهم في البحث والتفتيش عن الاسباب، ان يكفّروا فلانا ويرموا آخر بالزندقة، ويثوروا على الالحاد وغير ذلك؟… وهم لم يتنازلوا أن يروا ما هي الاسباب التي تؤدي الى المظاهر الالحادية ولم يتنازلوا ان يتعبوا عقولهم.. لماذا اليوم توجد مظاهر إلحادية وفي الماضي لم تكن موجودة..؟ في الماضي كانت اوضاع سليمة او شبه سليمة لم تكن تستوجب هذه الثورة وهذه النقمة.

ونحن لا نرضى عن الالحاد، ولا نشجع الالحاد، ونعتبره موقفا زائفا في الحياة، موقفا باطلا وضارا وكاذبا. اذ ان الحياة معناها الايمان، والملحد كاذب: انه يقول شيئا ويعتقد شيئا آخر.. انه مؤمن بشيء… مؤمن ببعض القيم. ولكننا ننظر للالحاد كظاهرة مرضية يجب ان تعرف أسبابها لتداوى، ولا ننظر اليه كشر يجب ان يعاقب لان ذلك لا يخفف الالحاد بل يزيده، فعندما نبحث عن الاسباب، نستطيع ان نزيل الالحاد. 

قلت بان الإلحاد موقف كاذب وهذا يعني ان الملحد انسان متناقض يدعي شيئا ويعمل خلافه. فالثورة على الدين في اوروبا هي دين، هي ايمان بمثل وبقيم انسانية رفيعة، وهي اقرب الى الدين في حقيقته الاصيلة. وهذه الثورة حملت بذور الخلق والإصلاح، لأنها هزت المجتمع والأفراد هزا عنيفا، وأرجعتهم الى نفوسهم، وبينت لهم التضليل الذي كان ينطلي عليهم. وحررتهم، حررت إنسانيتهم. حررت شخصيتهم. ولكن هذا موقف ناقص. حينما طلبت منهم ان يرفضوا الدين نبهتهم إلى نصف المشكلة فقط. الدين في الأوضاع الحاضرة هو الذي يخلق المشكلة، هو الذي يساعد على بؤسهم وعبوديتهم، ولكن عندما تستيقظ الشعوب وتسترد حقوقها وكرامتها لا يمكن ان تقنع بالإلحاد، وعندها تخطو الخطوة الجديدة وتكمل النقص بالخطوة الايجابية، وتعود الى دين واضح سليم منطبق تمام الانطباق على مراميه الاولى.

آذار 1956
———–

قضية الدين في البعث العربي

ان أول ما أريد ان أنبه اليه هو ان ثقافة الاعضاء والشباب القومي بصورة عامة لا يجوز ان تبقى ثقافة منفعلة(1)، كأن ينظر الى قضية الأمة العربية على أنها تحتوي مشاكل نظرية وعناوين لمشاكل يمكن ان تحل بجواب يعطى من شخص او من صحيفة أو مجلة كتلك الاسئلة التي توجه عادة الى المجلات والاذاعات، فذلك لا يكون ثقافة… وهذا هو النوع الرائج في وسطنا، ويكتفي به عامة الناس والذين لا يعتبرون القضية قضية جدية تتعلق بمصيرهم بل تتحول في الواقع بالنسبة اليهم الى كلام وتسلية بالكلام والنقاش لتمضية الوقت والاكتفاء بمفاهيم رائجة سطحية جدا وخاطئة من أساسها، والدوران في نطاق هذه المفاهيم العامية السطحية واحتدام الجدل بين وجهات نظر وآراء ليست هي في الواقع لا وجهات نظر ولا آراء. إن الذي يهمنا نحن بالدرجة الأولى هو تكوين الجيل العربي الجديد الذي تلقى عليه مهمة الإنقلاب العربي وإيصال القضية القومية الى الظفر والنجاح، يهمنا أن يكوّن هذا الجيل لنفسه ثقافة حقيقية متميزة تميزاً واضحاً عن العامية المسيطرة على مجتمعنا.

وباختصار: كيف يجب أن نفهم الثقافة؟ هي أولاً مشاركة في الجهد وليست انفعالا وتكيفاً، أي أن الذين عليهم أن يتثقفوا يتوجب عليهم ان يتعبوا وأن يتقاسموا الجهد مع مثقفيهم وان يمشوا بأنفسهم خطوات جديدة في طريق المعرفة والتثقف اذ لا يجدي قضيتنا شيئاً ان نجمع شباباً لا يعملون أكثر من حفظ بعض الشعارات والكليشهات والاجوبة العامة الموجزة التي يمكن أن تفهم على أي شكل أي ان لا تفهم مطلقا. على الشعب العربي ان يفهم ان الثقافة هي نوع من أنوع النضال، النضال مع النفس، النضال مع الفكر لكي يتعب في تحصيل المعرفة ولكي يجرؤ على تبديل الأسس السطحية في التفكير الشائع التي هي في داخله لكونه ابن وسطه، لكي يعيد النظر في كل الامور الأساسية حتى يصل الى النظرة الجديدة، النظرة الإنقلابية التي أوجدها الحزب في المجتمع العربي الجديد، والتي لا يعني وجودها بأن جميع المنضوين تحت لواء الحزب او المناصرين لاتجاهه قد فهموها وحققوها في أنفسهم وعاشوها بعمق. فكل شيء  يمكن ان يستعار وان يقلد الا الفكر: على كل شخص، على كل فرد ان يملكه شخصيا، اي ان يمشي هذا الطريق من أوله بنفسه وبجهده الخاص حتى يصح أن يعتبر هذا الشخص انقلابيا وان تكون نظرته أصيلة نابعة من نفسه لا مجرد تقليد واستعارة.

من المهم جدا أن نعود دوما الى أنفسنا بالنقد الذاتي حذرا وحيطة لكي نهدم بعد كل خطوة نخطوها ما يعلق بنا من اصطناع وتزييف وتقليد اذ ليس أسهل من أن يستسلم الإنسان للتقليد والتزييف لأن فيهما الراحة والكسل. فالحركة الصادقة الحية هي التي تبقى في صراع مستمر مع نفسها كما هي في صراع مستمر مع أعدائها ومع الاوضاع والقيم الفاسدة التي عليها ان تحطمها. لذلك رأيت من الواجب ان ابدأ جوابي على الاسئلة بهذا التنبيه لكي تحتاطوا كثيرا لأنفسكم وترفضوا رفضا باتا وجازما أن تكون فكرتكم وان يكون إيمانكم بالحركة شيئاً غير نابع من نفس كل منكم وشيئاً سهلا يحفظ بالذهن ويلوكه اللسان ولكنه عديم الصلة بالحياة.

1- السؤال الأول: عن موقف الحزب عندما يصل الى الحكم ويحقق أهدافه او يبدأ في تحقيق الانقلاب العربي، وكيف يكون موقفه من الدين بصورة عامة؟

للاجابة على هذا السؤ ال لا بد من ملاحظة أولى وهي ان لا فرق في نظرة حزبنا بين المرحلة التي تسبق وصوله الى الحكم بالشكل الكامل وبين المرحلة الثانية والاخيرة التي هي مرحلة التحقيق الإيجابي، تحقيق الإنقلاب العربي الشامل. فعمل الحزب اذن واحد في المرحلتين ومنطقه واحد ونضاله أيضا واحد. كثيرا ما رددنا خلال نضال الحزب هذه الفكرة بأن حزبنا سيعد أو هو مكلف بأن يعد الانقلاب العربي منذ اليوم الأول الذي ظهر فيه بإعداده أدوات الإنقلاب التي هي نفوس الشباب، اذ لا يمكن التفريق بين الإنقلاب وأدواته. فكما تكون الأدوات يكون الإنقلاب، وقد يكون التعبير غير دقيق، اي ان أعضاء الحزب المناضلين الذين نسميهم أدوات الإنقلاب يطلب من الحزب أن يربيهم في تفكيرهم وفي سلوكهم التربية الإنقلابية الصحيحة حتى يستطيعوا أن يحققوا الانقلاب عندما تتوافر جميع الشروط لهم. للانقلاب شروط على نوعين: شروط ذاتية وشروط موضوعية – شروط ذاتية يجب أن تتحقق في نفوس الإنقلابيين، في نفوس أعضاء الحزب وأنصاره، وشروط موضوعية تتعلق بالظروف الخارجية والظروف الداخلية ونمو المجتمع والثروة وشتى النواحي. فلو أهملنا الشروط الذاتية وتوفرت الشروط الموضوعية فلن يكون ثمة انقلاب لأنه لن يكون ثمة من يؤمن بهذا الانقلاب، ومن يعي أهدافه ومن يتصف بأخلاقه وبالإخلاص له حتى يحققه. لذلك أستطيع أن أعود الى المقدمة عن الثقافة وأقول بأن من أهم عناصر الثقافة التي يجب ان تطلبوها انتم هو النضال نفسه، هو العمل والمشاركة في حمل المسؤوليات والإتصال الحي بالواقع ومواجهة مشاكله وصعوباته والاهتداء بالوعي والإرادة الى ايجاد الحلول المناسبة لها بشكل يقوي التيار الإنقلابي ويوصل الإنقلاب الى أهدافه. هذا عنصر أساسي من عناصر الثقافة الجديدة التي نطلبها للجيل الجديد اذ ان كل ثقافة تنحصر في الذهن والتفكير فقط دون مشاركة فعلية وعملية، ليست ثقافة ناقصة فحسب، بل هي ثقافة مختلة ومنحرفة من أساسها لأن عنصر العمل مفقود فيها.

المشكلة الدينية هي بلا شك من أبرز المشاكل في المجتمع العربي الحديث، لذلك لا يعقل أن يتجاهلها حزبنا وان يتهرب من إيجاد الحلول لها. لهذه المشكلة تعبيرات مختلفة، تعبير فكري يتصل بصميم عقيدتنا الإنقلابية وتعبير أخلاقي عملي يتناول تصرفاتنا وردودنا على المشاكل الواقعية التي نواجهها. مهمة الحزب هي أن يضع للعرب في هذه المرحلة الخطيرة صورة كاملة لمشاكل حياتهم والحل لهذه المشاكل، واجبه ان يضع لهم صورة كاملة للحياة الإنسانية. فهل الدين شيء ثانوي مصطنع في حياة الإنسان والامم؟ هل هو شيء عارض ولو أنه دخل حياتهم منذ ألوف السنين؟ وإذا نظرنا اليه على أنه شيء غير أصيل، غير أساسي ولا يلبي حاجة صادقة وعميقة في النفس فهل يمكن أن ينتهي ويزول مع ما وراءه من تاريخ حافل طويل منذ آلاف السنين؟

إن الحزب لا يرى هذا بل يرى أن الدين تعبير صادق عن إنسانية الإنسان، وانه يمكن ان يتطور ويتبدل في أشكاله، وان يتقدم او يتأخر ولكنه لا يمكن أن يزول.

اذن فالدين في صميم القضية العربية والمواطن العربي الذي نعمل لتكوينه لم نرض له ان يتكون تكوينا ناقصاً أو زائفاً، وأن نكتم عنه جانباً من الحقيقة أو نصف الحقيقة فنعطيه فكرة تخدمه وقتاً من الزمن ثم لا تعود صالحة، عندها نصل الى الشيوعية وفلسفتها، فنحن منذ بدء حركتنا نظرنا الى الشيوعية كشيء خطير وجدي وجدير بأن يعتبر، وبالرغم من كل النواحي الإيجابية الخطيرة التي أتت بها فلسفة ماركس فقد اعتبرناها ناقصة لأنها لم تعبر عن كامل الحقيقة بل أخفت بعض نواحيها، وقد يكون قصدها من وراء ذلك تقوية العمل وتركيز العزم على مجال محدود من الأهداف القريبة لكي يكون مردود العمل أكبر ونزوعه أقوى وأفعل، تاركة للزمن فيما بعد ان يصلح ما أهملته وان يكملها..

فالماركسية تقوم على أساس نفي وانكار كل معتقد يتجاوز الطبيعة والمادة والأشياء المحسوسة كما هو معروف، وليس هذا في الماركسية نتيجة عجز عن الفهم، كلا بل له دافع عملي وهو: ما دام الدين قد استخدم خلال التاريخ، وبصورة خاصة خلال التاريخ الحديث حيث تفاقمت الفروق الطبقية والإستغلال الطبقي، ما دام قد استخدم لإبقاء الاستغلال واستمراره ودعمه واستخدم لمنع التحرر البشري وكان في صف التأخر والعبودية والظلم، لذلك رأت الماركسية ان تنسفه نسفا. فالدافع اذن دافع عملي وليس عجزا عن فهم أهمية الدين وحقيقته. ولكننا نحن لا نقر هذا الدافع على ما فيه من واقعية، اذ أنه ينبىء عن ضعف ثقة بالإنسان بأنه لا يتحمل هضم الحقيقة الكاملة. فنحن مع تبنينا للنظرة السلبية الى الدين، اي رغم معرفتنا الطريقة الرجعية التي استخدم الدين بها ليكون داعما للظلم والتأخر والعبودية، نثق رغم ذلك بأن الإنسان يستطيع أن يثور على هذه الكيفية في استخدام الدين، وعلى هذا النوع من التدين الكاذب والمشوه وأن يعطي في نفس الوقت للدين الحقيقي الصادق حقه.

ونحن لا نجهل بأن نظرتنا هذه تتطلب هن الجهد والحذر أضعاف ما تتطلبه النظرة الشيوعية التي تخلصت من المشكلة بأن رفضتها تماماً وألقتها جانبا. أما نحن فالمشكلة بالنسبة لنا أعقد بكثير لأننا كما قلنا في مرحلة الإنقلاب، الإنقلاب العميق الجذور في كل الأمور الأساسية التي ترتكز عليها حياة العرب والتي يؤلف الدين جزءاً منها. فلو اكتفينا مثلا بالنظرة السطحية وقلنا ان الدين رغم كل انحرافاته وتردياته والاشكال التي يستغل بها ضد مصلحة الشعب وضد التقدم وحرية الإنسان، هو بهذه الصورة المشوهة وضمن هذا الاطار الرجعي، شيء صادق وأساسي لا يستغنى عنه وانه متأصل بأعماق الإنسان، لذلك فنحن نوافق عليه بهذه الصورة ونتبناه! لو مررنا على الدين هذا المرور السريع لأدّى الأمر بنا الى أن نلتقي مع الرجعية وان نقبل كل أمراضنا الإجتماعية والفكرية والأخلاقية وأن نكون قد بقينا في أرضنا لم نغير في حياة العرب، وهذا تزوير كبير للحقيقة، وقتل بل خنق للإنقلاب قبل ان يولد.

فكرتنا إيجابية تنتهي دوماً الى تقرير الحقائق الإيجابية، ولكن يجب أن لا ننسى بأن بين وضعنا الآن وبين هذه الحقائق الإيجابية التي يجب أن نصل اليها عندما يتحقق الإنقلاب العربي، مسافات شاسعة يجب أن يبقى فيها التوتر شديداً بين وضعنا السلبي المريض الذي نعيشه وبين المرامي الأخيرة لفكرتنا، وان تكون لدينا الشجاعة الكافية واليقظة التامة لكي نتبين كل مفاسد أوضاعنا ونحاربها محاربة لا هوادة فيها، وان نشق من خلال هذه المعركة السلبية التي نحارب فيها المفاهيم البالية المشوهة، طريق القيمة الإيجابية التي سنصل اليها آخر الامر. كثيراً ما قيل لنا، خلال السنوات التي مر بها الحزب في نضاله، من جماعات رجعية، متأخرة في عقليتها، استغلالية في سلوكها تمثل المصالح والعقلية والأوضاع التي يتوجب علينا القضاء عليها، كثيراً ما قيل لنا: ما دامت نظرتكم إيجابية وما دمتم تعرفون قيمة الدين فما الفرق بيننا وبينكم؟

الفرق كبير جدا، هو الفرق بين النقيضين. نحن نعتبر أن الرجعية الدينية تؤلف مع الرجعية الإجتماعية معسكراً واحداً يدافع عن مصالح واحدة، وانها أكبر خطر يهدد الدين. ان هذه الرجعية التي تحمل لواء الدين في يومنا هذا وتتاجر به وتستغله وتحارب كل تحرر باسمه وتدخله في كل صغيرة وكبيرة لكي تعيق الإنطلاقة الجديدة، هي أكبر خطرعلى الدين، وهي التي تهدم مجتمعنا وتشوهه، فلولم نكن نحن ولو لم  تكن حركتنا موجودة لتهدد المجتمع العربي بأن يشوهه الإلحاد، اذ أننا بمقاومتنا الرجعية الدينية بدون اعتدال وبدون مسايرة وبمواقفنا الجريئة المؤمنة منها، ننقذ مجتمعنا العربي من تشويه الإلحاد.

ولكن هذا شيء والسلوك والتصرف شيء آخر، او بالأصح يجب علينا أن نعرف كيف نترجم فكرتنا ترجمة عملية وكيف يجب أن يكون تصرفنا العملي مؤدياً الى الغاية المطلوبة: ان جمهور شعبنا ما زال متأخراً وما زال خاضعاً لمؤثرات رجال الدين من شتى المذاهب والطوائف. فلو اننا ذهبنا الى جمهور الشعب، وليس لنا غنى عنه اذ بدونه لا نستطيع أن نحقق أي تبديل أساسي في الحياة العربية، لو ذهبنا اليه بأفكار فجة وبأساليب غير محكمة وتصرفنا تصرفات هي أقرب الى ردود الفعل والنزق والمرض النفسي منها الى الإيمان بحركة منقذة، فأخذنا نطعن بالدين ونتبجح بالكفر ونتحدى شعور الشعب في ما يعتبره هو مقدسا وثمينا، نكون بدون فائدة وبدون أي مقابل أغلقنا أبواب الشعب في وجه الدعوة وأوجدنا ستارا كثيفا بيننا وبينه حتى لا يعود قابلا او مستعدا لأن يسمع منا شيئا أو أن يسايرنا في نضالنا ودعوتنا.

فالمناضل البعثي يجب أن تتوافر فيه شروط صعبة جدا وتكاد تكون متناقضة، فهو حرب على كل تدجيل باسم الدين والتستر وراءه لمنع التطور والتحرر والإبقاء على الأوضاع الفاسدة والتأخر الاجتماعي، ولكنه في الوقت نفسه يعرف حقيقة الدين وحقيقة النفس الإنسانية التي هي ايجابية قائمة على الايمان لا تطيق الانكار والجحود، وان جمهور الشعب ليس هو العدو بل هو الصديق الذي يجب أن نكسب ثقته. صحيح انه مضلل مخدوع ولكننا نحن لا نستطيع أن نكشف له انخداعه إلا إذا فهمناه وتجاوبنا معه وشاركناه في حياته وعواطفه ومفاهيمه، فنحن في كل خطوة نخطوها نحوه نستطيع ان نطمع بخطوة من جانبه يأتي بها إلينا، لذلك يكون المناضل البعثي مهددا دوما بالخطر: فهو ان سلك هذا السلوك مهدد بأن يتزمت وان ترجع اليه عقليته الرجعية التي ثار عليها، وهو ان سلك سلوكا آخر معاكسا، إن شهر السيف على المعتقدات الخاطئة مهدد بأن يصبح سلبيا وان يخون ما في فكرة البعث من ايجابية فيلتقي بهذا مع السلبية الشيوعية التي رفضناها او ان يلتقي مع أي شكل من أشكال التحرر الزائف المقتصر على التظاهر والتبجح. إذن على المناضل البعثي، عندما يحارب الرجعية ويصمد أمام هجماتها وافتراءاتها وتهيجاتها وإثاراتها، ان يتذكر دوما انه مؤمن بالقيم الايجابية والقيم الروحية وانه انما يحارب تزييف القيم من قبل الرجعية ولا يحارب القيم نفسها. وانه عندما يساير جمهور الشعب ويتصرف تصرفا حكيماً معه دون أن يجرح عواطفه لكي ينقله تدريجيا الى مستوى الوعي اللازم، عليه أن يتذكر انه رجل ثائر متحرر لا يقبل لنفسه ولا لأمته مستوى رجعيا رخيصا من الإعتقاد ولا صورة مشوهة للعقيدة الروحية، وان مسايرته للشعب ليست الا وسيلة مؤقتة لكي يهيئه لأن يفهم الامور الصعبة. ان ثقة البعثي بالإنسان عامة وبالإنسان العربي خاصة يجب أن تغريه دوما بالمزيد من الجرأة في مكافحة المعتقدات الخاطئة الجامدة، وان لا يحسب ان الأمة العربية لا تتحمل هذه الكمية من الثورة والتحرر فهي خصبة عميقة، وهي مختزنة لتجارب مئات السنين من الآلام، مئات السنين من التأخر والظلم، لذلك فهي مهيأة كل التهيؤ لان تتفجر وان تبلغ مستوى روحيا فيه كل الجرأة.

نيسان 1956  

( 1 ) حديث ألقي  على الاعضاء والانصار في طرابلس.

في سبيل البعث الجزء الأول – البعث العربي والانقلاب

الزمن والحركة الإنقلابية

الحركة الإنقلابية بتعريفها تعني عدم ترك الزمن يسيطر على مقدرات الأمور. فالإنقلاب معناه أن حالة الأمة بلغت حداً من السوء، أصبح معه تركها للظروف والتطور أمراً يعرضها للهلاك، وأنه لا بد من ظهور الحركة التي تقوم بتبديل الأوضاع قبل ان يفوت الوقت. فهي إذن الحركة التي تعجل سير الزمن.

والحركة الإنقلابية هي نقيض الحركة الاصلاحية، فأكثر السياسيين في بلادنا يقولون بالإصلاح التدريجي، ويرفضون كل تبديل عميق، لأن في التبديل العميق معنى العنف، فالتبديل العميق في الحياة الإقتصادية عندنا يعني مثلا انتزاع الأراضي من يد الإقطاعيين وتوزيعها على الفلاحين، وهذه الفكرة هي مرفوضة من قبل هؤلاء التطوريين، لانهم هم  أصحاب المصالح الذين يحرصون على بقاء مصالحهم، وهم يدعون أن مثل هذا التبدل العميق الحاسم في أوضاعنا الإقتصادية لا يتم بدون ثورات واضطرابات وأخطار لذلك هم يفضلون التطور البطيء.

ففكرة السرعة هي من صميم الحركة الإنقلابية. وهذا يفترض أن تكون هناك حركة تستطيع السيطرة على الزمن وتعجيله، ووجود هذه الحركة يتطلب بحد ذاته بعض الزمن. فإذا قيل لنا بأن الوقت الذي نقضيه في تكوين حركتنا هو إضاعة للوقت وأنه يوصلنا الى يوم نرى فيه الأخطار تداهمنا ولا نستطيع دفعها، عندها نجيب بأننا جربنا كل الاستعدادات التي تستطيع التكتلات والمنظمات الحاضرة التي هي ليست إنقلابية أن تعطيها، فلم تتمكن من دفع الأخطار وحفظ سلامة البلاد. ولمسنا لمس اليد بالتجربة المرة المتكررة أن هذه الإستعدادات كانت واهية جداً وخادعة لأنها لم تقم على أساس الوعي والمسؤولية والجدية والإيمان والتجرد عن المصالح الخاصة، فكانت علاجات مخدرة لا أكثر، وكانت هي التي تأتي بالنكبات والخيانات. وعلى هذا أصبح وجود الحركة الصحيحة امراً وضرورة لا مفر منها ولو اقتضى الأمر أن ننتظر طويلا. فقد علمتنا الحوادث والتجارب أن الإرتجال لا يوصل الى النتائج المحمودة، وان بناء القضية العامة على أساس المصالح الشخصية لا يستطيع أن يحفظ هذه القضية، ويضمن لها النجاح، ولا بد من ان نسلك الطريق الطبيعي الذي سلكته جميع الأمم التي استطاعت أن تحيا حياة راقية متقدمة، وذلك ان تبنى القضية القومية على العقيدة الواعية التي تصهر الأفراد وتخلق منهم نواة صادقة لخدمة القضية العامة، وتخلق فيهم الفكر النير الذي يعرف كيف يسير ويتصرف، وكيف يشعر بجدية واجباته.

والشروط اللازمة للحركة الانقلابية تقوم على الوعي أولاً، وعلى الشعور بالمسؤولية ثانياً،  وعلى الإيمان اخيراً. ولابد أن تتحقق هذه الشروط لكي تخلق الحركة الصحيحة، وكل عمل يستهتر  بهذه الشروط أو ببعضها بحجة الإسراع، هو عمل متناقض وزائف، إذ ما الفائدة من السرعة إذا أوصلتنا الى النتائج القديمة نفسها ألا وهي عدم القدرة على مجابهة الأخطار… فالزمن الذي يصرف في تهيئة الشروط الأساسية ليس هو بالزمن الضائع، وان ما يحسبونه عقبة في الطريق ليس الا الطريق نفسه.

غير أن تحقيق هذه الشروط يجب أن لا يتطلب زمناً طويلاً، لأن كل العناصر موجودة متوافرة لإنماء هذه الإمكانيات في الجيل الجديد، فهو ليس جيلاً تائهاً في الصحراء، وانما هو ابن الوسط الذي يعيش فيه والأمة التي ينتسب اليها. ففي كل عربي تكمن بذور الوعي والخلق والمسؤولية والإيمان، وكل المحاولات التي قمنا بها كانت بمثابة تجارب، ولم يبق علينا إلا أن نخطو الخطوة الأخيرة ونستفيد من الماضي. فعندما نقول بأننا نريد ان نخلق جيلا جديدا لا نقصد باننا سنعلمه كل شيء بل نعني تنظيم ثقافته وتوجيهه توجيها صحيحا. فنحن لن نخلق فيه الأخلاق بل سننميها ونقويها، ولن نخلق فيه الإيمان لأنه مؤمن الإيمان الرائج البسيط، بل نسعى الى ان نقوي فيه هذا الإيمان ونجعله أعمق من الفورات الآنية. فعمل الحركة الإنقلابية ليس هو بالعمل التطوري البطيء، ويجب أن يزول الوهم القائم في أذهان البعض عن البعث العربي بأنه حركة بطيئة تشبه مدرسة.

إن زمن الحركة الانقلابية يرجع آخر الأمر الى نشاطها والى صدقها وجديتها، فإذا كانت مقدرة لمسؤوليتها فإنها لن تضيع أية لحظة، فعملها في السطح أو العمق يتطلب تحقيقاً مادياً مستمراً، وتثبيتا للمبادئ في النفوس وترسيخا لها. أما إذا ضعفت في الحركة صفتها الجدية فانها تصبح عندئذ بطيئة، فتحسب أن مجرد البطء يساعد على ترسيخ الافكار والمبادئ في نفوس الاعضاء. فالإكتفاء بالإنتساب الى الحزب والإيمان السطحي بمبادئه، لا يعني ان هؤلاء الأفراد قد أنقذوا أنفسهم من هذا الواقع الفاسد وأصبحوا في عداد الفئة الواعية المؤمنة، دون أن تترتب عليهم أية واجبات ودون أن يبذلوا جهداً في هذا الإنتساب. فإذا لم يتسغل الزمن لإنماء كفاءات الحزبيين أصبح مضيعة للجهد وقتلاً للكفاءات نفسها. فالحركة الانقلاية هي وحدها الحركة السريعة.

30 نيسان 1950

 


 

الصلة بين العروبة والحركة الإنقلابية

صلتنا بالماضي : هناك نفر يكاد يفهم من البعث العربي الذي هو حركة إنقلابية متجهة بقوة وعنف نحو المستقبل، انها حركة فاقدة الصلة بالماضي، وانها تعتبر أن كل التفاتة إليه تضيع جهداً يجب ان يبذل في بناء المستقبل… إن في هذا تشويهاً لفكرة البعث العربي التي تميز بين الماضي كروح والماضي كشكل.

كان يوجه للبعث العربي منذ نشوئه تهمة الرجعية، فقد فهم الكثيرون من البعث أنه إرجاع للماضي. فهموا من تعلقنا بماضينا وشخصيتنا أننا رجعيون ومحافظون، ثم انقلبت التهمة الى نقيضها.

أهمية التراث القومي: ان التشبع بالتراث القومي لا يعني مطلقاً العبودية للماضي والتقاليد، ولا يعني فتور روح الإبتكار والتجديد بل يعني العكس تماماً. والواقع ان الذين يفقدون روح التجديد وروح الإبتكار هم الذين لا يفهمون ماضي الأمة وروحها، ولا يفهمون من ذلك الماضي وتلك الروح الا القشور والمظاهر الجامدة.

إن اتصالنا بروح الأمة وتراثها يزيد في اندفاعنا ويقوي انطلاقنا، فلا نكون حائرين لأننا نكون واثقين أن كل شيء فينا سيأتي ملائماً لروح أمتنا. إننا عندما ننطلق من أساس متين هو التشبع بروح أمتنا، ومعرفة واضحة لأنفسنا ولواقعنا، وإحساس صادق بحاجاتنا، لن نكون عرضة لأخذ الأفكار المصطنعة وتقليد الآخرين، وانما تأتي افكارنا طبيعية ومبتكرة لأنها نتيجة لشعورنا الصادق وحاجاتنا الصادقة. إن شعورنا بهذه الصلة القومية العميقة بأمتنا هو الذي يفتح عيوننا على حاضرنا الأليم وهو الذي يرينا التناقض بين واقعنا وحقيقتنا، وهو الذي يحملنا مسؤولية إنقاذ الأمة وبالتالي هو الذي يوصلنا الى الإنقلاب.

الصلة القومية تقود الى الإنقلاب وتساعد على تحقيقه : إن الصلة القومية التي توصل الطليعة والأمة الى التفكير الإنقلابي هي نفسها التي تساعد أكبر مساعدة على تحقيق هذا الإنقلاب. لأننا بانقلابيتنا نمثل إرادة الأمة كلها، وهذه الارادة التي لم تتوضح بعد إلا عند القليل، والتي لا تزال مبهمة عند الكثيرين نعرف انها متمثلة قي حركتنا، ونعرف ان كل خطوة نخطوها ستلاقي صدى في النفوس وستحرك وتراًًً ًحساساً، وان كل يوم يمر علينا في نضالنا سيفتح عقولاً جديدة ويوقظ نفوساً جديدة. وبما اننا بنينا انقلابيتنا على صفتنا العربية، وانطلقنا الى المستقبل بنسبتنا الى أصلنا، فاننا حتماً سنتكلم اللغة التي يفهمها الشعب وحتما سنجد سبيلا الى سمعه وقلبه.

الإنقلابيون صورة سباقة لمجموع الأمة : إننا نعرف بأن هذه الفئة القليلة من الإنقلابين الذين تضمهم حركة البعث العربى هم قلة في الظاهر، قلة في البدء، ولكن صفتهم القومية الصادقة تجعلهم صورة مصغرة وسباقة لمجموع الأمة. نحن نمثل مجموع الأمة الذي لا يزال غافيا منكراً لحقيقته ناسياً لهويته، غير مطلع على حاجاته، نحن سبقناه فنحن نمثله، لذلك بيننا وبينه تجاوب عميق، حتى عندما نتصارع، حتى عندما يبطش بنا، هو منسجم معنا لأن طريقه هو طريقنا الآن، وإن لم يدر في الوقت الحاضر فسيعلم ذلك في المستقبل. إنما إيماننا مختلف عن الإيمان السحري لأنه مبني على أرسخ قواعد العلم، على الوقائع. هذه العقيدة هي اننا نمثل مصلحة الأمة وإرادتها، إذن نعتمد على تأييدها، وهذا التأييد الذي هو في حالة الكمون سينتقل الى حالة الظهور والفعل.

فقوانا ليست هي هذه القوى المنظورة المحدودة، قوانا لا حد لها في غزارتها. وأضيف أننا نعتمد على قوة أخرى هي أن حركتنا في اتجاه التقدم الإنساني. فهدفها ان ترتفع بالأمة من حالة التأخر الى حالة العمل والجد والإبداع، والتاريخ هو في هذا الإتجاه ونحن نمشي باتجاهه ومنطق التاريخ يقضي بأن تنهض الأمة العربية وأن تحتل مكاناً خلاقاً ايجابياً، وأن تقوم بدورها وتنشىء، فالتاريخ ايضاً يساعدنا.

هناك عدد كبير في أمتنا اصبح فاقد السيطرة على نفسه وعلى رأيه ونضارة شعوره، استعبدته المصالح وجمدته الإعتبارات الإصطلاحية، ففقد الحركة الحيوية اللازمة لكي يتمرد على المصالح الخاصة، لكي يتمرد على الإعتبارات الإجتماعية الكاذبة، لأن كل تمرد من هذا النوع يهدده في مصالحه ونفوذه ووجاهته، وهو يستمد وجوده من هذه الأوضاع والإعتبارات الزائفة لأنه لا يؤنس في نفسه القدرة على التحرر من مصالحه، فهو ينظر الى الأمة بمنظار نفسيته، ويرى الأمة على شاكلته عاجزة عن التحرر والتمرد على واقعها كما هو عاجز على التمرد على واقعه. فأعداء الفكرة الإنقلابية في بلادنا أو الذين يتمنون ولا يستطيعون السير في طريقها، هم أنفسهم أعداء القومية العربية. فلو كانت هذه الصلة حية لانتفضوا وشعروا بألم الواقع وبعار الحاضر، ولشعروا بالمسؤولية المترتبة  عليهم من ضرورة تبديل هذا الحاضر بصفتهم جزءاً من هذه الأمة، ولاستطاعوا بالتالي ان يبدلوا نفوسهم وواقعهم ويتمردوا على مصالحهم.

صراع بين معسكرين، والظفر للإنقلابيين : عندما تتصارع فكرتان في حياة الأمة، فكرة جامدة بالية وفكرة جديدة حية، عندما ينشطر المجتمع الى معسكرين ،أحدهما يدافع عن القديم والجمود والمصالح الخاصة والثاني يدافع عن القيم الجديدة، عن التجرد والمثالية، التجرد والتضحية، يكون هذا الإنقسام في الأمة شكلياً وموقتاً في الواقع، لأن نفس المعسكر القديم المدافع عن الجمود والمصالح الخاصة فيه بذور إمكانيات نشوء الفكر الجديد، فكأن المعسكر الثاني هو التجسيد والتوضيح لهذه البذور والإمكايات الخيرة والكامنة فيه، وكأن معسكر الجمود والنفعية والمحافظة في صراعه مع المعسكر الثاني انما يصارع نفسه ويغلبها، ويتصارع مع غرائز الخير والحياة فيه لكي تستيقظ هذه الغرائز الخيرة ولكي ينميها الصراع ويقويها ويسمح بتفتحها الكامل. إن الحركة الإنقلابية في حيويتها وعنفها وصبرها وإيمانها، هي التي تتمكن اخيراً من إيقاظ وتحقيق هذه الإمكانيات الموجودة في نفس كل عربي. بهذا المعنى نستطيع أن نثق ونؤمن بأن معركتنا ظافرة لأن كل يوم يمضي عليها يضيف الى جيشها جنوداً أيقظهم صبرها واستمرارها وإشعاعها وأرجعهم الى نفوسهم، أي الى الصف النضالي الإنقلابي.

إن حركتنا إنقلابية عربية وقد بينا العلاقة بين الإنقلابية والصفة القومية وقلنا أن انقلابيتنا  تنبع من صلتنا القومية وشعورنا بفقر الواقع وفساده وضرورة تبديله والقيام بانقلاب يرجع الى الأمة حقيقتها ويظهر كفاءتها الحقيقة وروحها وأخلاقها، والآن نتساءل عن وسيلة الإنقلاب؟ صحيح أن الإنقلاب فكرة ولكن لا بد لهذه الفكرة من أشخاص يفهمونها ويؤمنون بها ويمثلونها ثم يحققونها. إذن للإنقلاب أدوات حية من البشر هم الذين يعتنقون فكرته ويناضلون في سبيل تحقيقها. وبمقدار ما يكون اعتناقهم للفكرة عميقاً ونضالهم في سبيلها صادقاً، يكون الإنقلاب قوياً كاملاً. فالإنقلاب إذن هو صورة للذين يؤمنون به ويعملون له، وليس هو معجزة تهبط من السماء أو حادثة خارجة عن إرادة البشر وعن أعمالهم. وهذا يؤدي الى نتيجة أولى وهي ان الإنقلاب يجب ان يتحقق أولاً في نفوس الفئة القليلة التي تؤمن به وتبشر به العدد الأكبر، وتعمل على تحقيقه في مجموع الأمة، وكل تساهل في صدق تمثل هذه الفضائل في نفوس الإنقلابيين يهدد الحركة بالفشل والزيف. ولا يعقل أن نطلب من الأمة أن ترتفع الى مستوى لا نكون نحن قد بلغناه، ولا نكون قد برهنا للآخرين بأنه قابل البلوغ.

لا انقلاب بدون صراع : لاشك ان الغرض الظاهر للإنقلاب هو إزالة الأوضاع المصطنعة المفروضة على الأمة والتي تشوهها سواء أكانت هذه الأوضاع سياسية أو إجتماعية أو إقتصادية. ولكن الأوضاع تتمثل في أشخاص، وهي عبارة عن عقلية أشخاص ومصالحهم وعاداتهم، يألفون هذه الأوضاع ويحرصون عليها، ويدافعون عنها، فلا يمكن محاربة هذه الأوضاع الا من خلال الذين يتمسكون بها، ويستفيدون منها. إذن حركة الإنقلاب لا بد ان تهز كل الذين يستسلمون للأوضاع الفاسدة، ولا بد أن تعاكسهم، حتى تخلق في الأمة رد فعل للمرض عندما يستيقظ الفكر الحر والخلق القويم وتستيقظ الروح السليمة. فالإنقلاب ليس له الا معنى واحداً واضحاً صريحاً هو الصراع والمعاكسة للعقلية والخلق والمصالح السائدة، والبعث يولد من هذا الصراع.

وان الذين يحسبون أن مجرد تبديل في الأوضاع السياسية يوصل الأمة الى هدفها يخطئون أيما خطأ، فلو فرضنا ان الأوضاع السياسية في البلاد العربية تغيرت فجاة بفعل صدفة من الصدف، فنعتقد أن هذا التغيير لن يتناول الا الظواهر، لأن الأمة لم تقطع بعد مرحلة الصراع الذي يحرر فكرها ويقوم خلقها ويزيل التشويه عن روحها. فالواقع الفاسد ليس شيئاً مادياً متجسماًَ في الأوضاع السياسية أو الإجتماعية فحسب، وإنما هو شيء معنوي يشترك فيه الجميع بنسب مختلفة، ويمكن القول ان كل فرد يحمل اثراً من آثار هذا الواقع. فالفرد الإنقلابي هوالذي يصارع هذا الواقع في نفسه قبل ان يصارعه في المجتمع والأوضاع المادية. وان كل الذين لا يصارعون الواقع، ويحيون حياة طبيعية هادئة مريحة هم ضمن الواقع الفاسد الذي يجب أن نحاربه، إذ لولم يكونوا منه لوجب ان تتحول حياتهم الى ألم ونضال.

وأضيف ملاحظة أخيرة وهي أن مجتمعنا المتأخر المريض يعني وجود أكثرية ضعيفة جاهلة مستعبدة لا تقدر مسؤولياتها ولا تعي وجودها على حقيقته، لذلك تبقى الأقلية هي التي يمكن أن يتوفر فيها الوعي والشعور بالمسؤولية، وهذه الأقلية هي التي تنقسم في الواقع الى معسكرين : المعسكر الإنقلابي، والمعسكر النفعي والمعاكس لكل تجدد ولكل تبديل عميق في حياة المجتمع. فالمشكلة في مجتمعنا إذن هي مشكلة القيادة، مشكلة الأفراد الذين تتوفر فيهم الشروط لقيادة المجتمع. واذا كان مجتمعنا ما زال متأخراً حتى الآن فلأن هؤلاء الأفراد لا يحققون في أنفسهم الشروط الفكرية والأخلاقية والروحية اللازمة لملء مركز القيادة، والصراع هو بين القادة الصادقين والقادة الكاذبين.

10 ايلول 1950


 

من معاني الانقلاب



لن اطرق في هذا الحديث(1) موضوعا شاملا كاملا، بل افضل ان آخذ بعض ما توحيه فكرة الانقلاب التي يقوم البعث العربي عليها.

ايها الاخوان : لنحاول ان نتخلص من افكار اصطلاحية كثيرة ومن نقل العبارات المألوفة، والالفاظ المجردة، ولنحاول ايضا ان نرتفع قليلا فوق المشاكل القريبة العارضة، لنحاول ذلك كله، لكي نقترب من حقيقة مشكلتنا الكبرى، ومن حقيقة قضيتنا كأمة حية تنشد الحياة الصحيحة، وتشق طريقها بنفسها وبجهدها واثقة مؤمنة.

ما هو الانقلاب؟ هل تقف عند حدود التعريفات السياسية؟ هل يبقى فهمنا مقصورا على البرامج السياسية، وما تحويه من مشروعات ومقترحات، لتنظيم الحياة العامة في مختلف نواحيها؟ ام نفهم من الانقلاب شيئا اعمق واصدق؟

اننا نفهم من الانقلاب هذه اليقظة الحقيقية التي لم يعد مجال لانكارها  والتشكك فيها ، يقظة الروح العربية في مرحلة فاصلة من مراحل التاريخ الانساني. الانقلاب في حقيقته هو هذه اليقظة، يقظة الروح التي تراكمت عليها اثقال الاوضاع الجامدة الفاسدة، وحالت زمنا طويلا دون ظهورها ودون انبثاقها واشعاعها. هذه الروح، تشعر اخيرا بالخطر الكبير، بالخطر الحاسم، فتنتفض انتفاضة حاسمة. وانتفاضتها هذه، وسيرها لن يكون الا في تيار معاكس للاوضاع التي عاقت ظهورها، والتي اثقلت عليها الاحمال، وشوهت طريقها، السير في طريق معاكس للاوضاع الراهنة، للاوضاع الفاسدة المريضة الزائفة، هذه المغالبة للتيار بقصد ان تستيقظ بقايا الروح الاصيلة في كل مكان توجد فيه، وتتجمع وتتكتل، لابد من هذا السير المعاكس للمادة، الذي يحيا في كل خطوة من خطاه، الذي ينبه ويوقظ، الذي يرد الى القوى الغافية والكامنة انتعاشها، وجديتها، وصحوها، وشعورها باستقلالها، وقيمتها وتأثيرها. فالانقلاب قبل ان يكون برنامجا سياسيا واجتماعيا هو هذه الحركة الدافعة الاولى، وهذا التيار النفسي القوي، هذه المغالبة الي لابد منها، والتي لا يفهم اي بعث للامة بدونها، ذلك ما نفهمه من الانقلاب.

اذن فنحن لا نحارب الاوضاع الراهنة لانها فاسدة فحسب، بل نحاربها لاننا مضطرون الى ان نحارب، لانه لا بد لنا من ان نحارب، لا بد للامة من ان تستكشف في نفسها بقايا القوى الصادقة، وان تستخرج من اعماقها كنوز الحيوية الكامنة، اننا نناضل ونكافح الاوضاع السياسية والاجتماعية الزائفة، الفاسدة، لا لمجرد ازالتها وتبديلها، بل ايضا لكي تعود للامة وحدتها في هذا النضال. فالامة انكرت ذاتها نتيجة الغفوة الطويلة، ونتيجة التشويه الطارىء عليها حتى لم تعد تعرف ذاتها، ولم يعد يعرف بعضها بعضا، لقد انقسمت ايما انقسام، فتناثرت اجزاؤها وافرادها، وهبطت الى مستوى وضيع والى سجن الانانية، وسجن المصالح الصغيرة، وسجن اعياد الجمود والقعود. وفي مثل هذا المستوى لا تنشأ وحدة بين الامة، ولا توجد الحرارة الكافية للتعارف والتآلف  بين هذه الملايين من العرب. لا بد اذن من غليان  لا بد من مستوى مرتفع، مضطرب، متحرك، لا بد من مشاق نجتازها، لا بد من سير طويل يدخل فيه الفكر مع الخلق مع الايمان، وان نجرب ونخطىء، ونصحح اخطاءنا. هكذا نتعارف، وهكذا يعود بعضنا الى بعض، فتتوحد الامة في طريق النضال والمشاق.

هذا بالنسبة للأمة كمجموع، واما بالنسبة الى افرادها، فالانقلاب الذي عرفناه بانه مغالبة للتيار، هو وحده الذي يكون الشخصية العربية من جديد، هوالذي يلقي على كل فرد تبعة اعماله، وهو الذي يطلق الفكر حرا مستقلا، ويقيم الخلق مسؤولا جديا، وهو الذي يفجر نبع الايمان في الروح، لان مثل هذا السير الطويل الشاق لا يستغني عن الايمان، بل ان مادته ودمه ينبعان من هذا المصدر الروحي.
فالانقلاب اذن طريق، طريق الى الغاية المنشودة، الى المجتمع السليم الذي ننشده. ولكنه ليس طريقا من الطرق، انما هو الطريق الوحيد. لهذا السبب الذي ذكرته -حتى لو ازيلت هذه الاوضاع من امامنا بمعجزة من المعجزات- فلن نكون الأمة المطلوبة ولن نصل الى الأهداف المطلوبة ولن نبني المجتمع المطلوب ولكن  الأمة التي نريدها، والمجتمع الذي نريد ان  نبنيه، متوقف علينا نحن، متوقف على جهودنا، على صدقنا، على وعينا، ولا يهبط من السماء، ولا يخرج بشكل آلي، ولكنه في فكرنا، وخلقنا، اذن لابد ان نمشي في هذا الطريق.

مغالبة التيار هي، في مثل حالتنا، المقياس الوحيد الذي يميز بين الصدق والكذب، بين الجد واللهو. عندما نجد الاستعداد لمغالبة التيار، عندئذ تصبح الاقوال والافعال والبرامج، وكل شيء آخر، ثانوية، ويصبح الشيء الوحيد الملموس الراهن الذي  يمكن ان نطمئن الى وجوده هو ان نجد من يستطيعون تحمل هذه التبعة، ومن يسيرون في طريق معاكس للوضع القائم في البلاد العربية، وعندها تنشأ تباعا، وتنبت الفضائل المطلوبة لإكمال الطريق، وللبناء الجديد في نهاية الطريق. فالانقلاب هو مغالبة الحقيقة للواقع، لان للامة حقيقة رغم تخلفها ورغم تشوهها، وهذه الحقيقة تعلن عن نفسها مهما تكن سيطرة الواقع. والانقلاب هو هذا الاعلان، هذا الاثبات لوجود الحقيقة. الانقلاب هو مغالبة المستقبل للحاضر، لان اهدافنا المستمدة من اعماقنا ومن روحنا شعت وانطلقت تسبقنا، لتغرينا بالسير نحوها والتسابق اليها، هذا هو المستقبل، فالانقلاب هو اذن مغالبة هذا المستقبل، الذي هوحقيقة انفسنا واهدافنا، للحاضر المزيف، للحاضر الغريب عن حقيقتنا.
ايها الاخوان : الماضي شيء حقيقي، وشيء اصيل في حياة امتنا، ومن العبث ومن الخطل ومن العقم في التفكير ان ننكر هذه الحقيقة، اننا نقصد بالماضي ذلك الزمن الذي كانت فيه الروح العربية متحققة. وماذا نقصد نحن بالمستقبل، وما هو هذا المستقبل الذي يغرينا ويدفعنا الى النضال ان لم يكن هو الزمن الذي يجب ان تتحقق فيه روحنا الاصيلة. فماضينا بهذا المعنى الصافي الصادق، ارسلناه امامنا، اشعاعا ينير لنا الطريق ولم نتركه وراءنا نندب عهده ونستصرخ عونه، وننتظر بجمود وخمول ان يأتي هو الينا، وان ينزل الى مستوانا. ليس هذا هو الماضي، الماضي كحقيقة للروح العربية، كحقيقة متحققة للروح العربية لايمكن ان يأتي، ولا يمكن ان يرجع ويهبط وينزل، وانما علينا نحن ان نسير نحوه سيرا تقدميا الى الامام، وان نرتفع اليه ونصعد، وان نسلك طريقا وعرة صعبة حتى ننمي فينا الفضائل والمواهب والقوى التي تؤهلنا اخيرا لان نفهمه، فنمتزج به ونلتقي معه. فالسير التقدمي، والسير الصاعد في طريق الانقلاب هوالسبيل الوحيد لالتقائنا بماضينا. وهذا الالتقاء لايكون الا ارتقاء، ولا يكون هبوطا وانحدارا، او جمودا وامعانا في الجمود والقعود.

الى جانب هذه النظرة نحو الماضي التي نضعه في مستقبل بعيد يستثير فينا الهمم، نرتفع اليه ونبلغه بعد الجهد، ونستحقه استحقاقا كريما، توجد النظرة الاخرى التى تعكس ظلال الحاضر السوداء، البشعة، الثقيلة، على ذلك الماضي، فيفهم من الماضي انه استمساك بالحاضر وتشبث عنيد للاحتفاظ به، والاغراق في اخطائه ومفاسده. فكيف يكون هذا الماضي انطلاقا روحيا، وفكرا مبدعا وخلقا قويما مستقلا، وايمانا حيا فياضا؟ التشبث بالاوضاع الراهنة، المحافظة عليها ،الدفاع عن هذه الاوضاع التي تهدد العرب بالانقراض، ليس هذا هو الماضي، بل انه هو الحاضر، هو الواقع الفاسد، هو النفعية، هوعبودية المصالح. اما الماضي الحقيقي فهو الذي يدعونا حنيننا اليه، الى ان نعي ونجد، ونناضل ونرتفع. هذا هو الماضي الروحي الحر السليم الذي كان للعرب. لقد كان هذا الماضي عهدا تحققت فيه الروح، اي انه كان هو نفسه انقلابا بلغ فيه الفكر حريته واستقلاله، ونضارة احساسه بالحياة وبالعلم فابدع ونظم، وانسجم مع قوانين الحياة والطبيعة، وبلغت فيه الشخصية حريتها وفرديتها وجديتها ومسؤوليتها، فانطلقت تعمل اعمالا حرة، وتقف مواقف بطولية وتتجاوز حدود الانانية الى الانسجام مع الارادة العامة والانسجام مع المجموع وبلغت فيه  الروح ينبوعها الصافي فامتلأت خصبا و تجددا، وعرفت قدرها الازلي، فاشبعت بالايمان.

لقد كان ماضينا انقلابا، ولن نبلغ مستواه، ولن نلتقي به الا عن طريق الانقلاب. فالانقلاب الجديد هو السير الواعي الجاد، المؤمن، نحو هذا المرتفع الذي يحل فيه التناقض وتوحد الاضداد، ويلتقي الماضي بالمستقبل، وتتصالح الامة مع نفسها في الابداع واداة الرسالة.

يسالوننا  ايها الاخوان  ماذا تقصدون بالرسالة، الرسالة العربية الخالدة؟ الرسالة العربية ليست الفاظا نتغنى بها، ليست مبادئ توضع في البرامج، ليست مواد للتشريع، كل هذه اشياء ميتة زائفة، لان بيننا وبين الوقت الذي نستطيع فيه ان نشرع من وحي روحنا ورسالتنا مسافة طويلة، وفاصلا كبيرا. ما هي اذن الرسالة الآن؟

هى حياتنا نفسها، هى ان نقبل بتجربة لهذه الحياة، بتجربة عميقة صادقة ضخمة جسيمة مكافئة مع عظمة الامة العربية، مكافئة مع عمق الآلام التي يعانيها العرب، متكافئة مع جسامة الاخطار الي تهدد بقاء الامة. هذه التجربة الحية الصادقة، التي تردنا اخيرا الى ذواتنا، والى واقعنا الحي، وتحملنا مسؤولياتنا وتضعنا فى طريقنا الصحيح، لكي نكافح هذه الامراض وهذه الحواجز، وهذه الاوضاع الزائفه، نكافح الظلم الاجتماعي والاستثمار الطبقي، وعهود النفعية والرشوة والاستغلال ونكافح الاستبداد، وتزييف الارادة الشعبية وامتهان كرامة الفرد العربي كمواطن وانسان، في سبيل مجتمع حر يسترد فيه كل عربي شعوره بذاته ووجوده وكرامته، بفكره ومسؤولياته.. التجرية التي نكافح فيها تقطيع اوصال الامة العربية الى اقطار ودويلات مصطنعة مزيفة، حتى نصل الى توحيد هذه الاعضاء المتناثرة حتى نصل الى حالة سليمة طبيعية لا يتكلم فيها عضو مبتور باسم الكل، حتى نتخلص من هذا الوضع الغريب الشاذ. عندها يستقيم للعرب ان يجتمعوا كلهم فتستقيم نفوسهم، وتتصحح افكارهم، وتتقوم اخلاقهم، ويتفتح مجال الابداع امام عقولهم، لانهم اصبحوا كائنا طبيعيا سليما، امة واحدة. فهذه التجربة السليمة الصادقة لمكافحة هذه الاوضاع حتى نصل الى الوضع السليم، تلك هي الرسالة العربية. والرسالة هي ما يقدمه جزء من البشر الى مجموعة الانسانية، ولا يعطى معنى الرسالة لشيء ضيق اناني وانما لابد لها من المعنى الانساني الشامل الخالد
فد تتساءلون كيف تكون رسالتنا هذه فى معالجة مشاكلنا، فاقول لكم بان العرب عندما يقدمون على  هذه التجربة، وهم في الواقع قد بدأوا فيها وانغمسوا فيها  ولن يتراجعوا مطلقا، عندما يقومون بكل ذلك، فانه لن يقتصر عمل هذه التجربه على حل مشاكلهم فحسب، بل يخرجون منها بتجربة انسانية عميقة تخلق فيهم شخصية مشبعة بآلام الحياة الانسانية ومعرفة اسرارها، ومداومة امراضها، فيقدمون للعالم وللانسانية كلها ثمرة هذه التجربة الخالدة.

شباط 1950

(1) حديث القي في مكتب البعث العربي في حمص


 

حول الإنقلاب

قلنا ان البعث العربي فكرة مدفوعة الى التحقيق في العمل، والبعث العربي لذلك حركة، حركة انقلابية، وعرفنا الانقلاب بانه هو التغيير الحاسم في مجرى حياة الامة، اي تحول حاسم يختلف عن التطور. وقلنا انه يلزم لتحقيق الانقلاب وجود وسائل، اي خلق جيل واع يبعد الخطر عن امته ويشعر بمسؤوليته لتحويل مجرى حياتها، ومؤمن بتحقيق ونجاح الانقلاب.

اذن اعطينا ثلاث صفات لهذا السبيل : ا – الوعي للشروط التاريخية والاجتماعية، اي انه عارف لماذا. كان هذا التحول ضروريا للامة. 2- الاخلاق، اي ان عليه ان يكون في الطليعة وان يخرج من العدد المنفعل المستسلم للاوضاع. 3- الايمان، اي انه لايكفي ان يكون فاهما لضرورة التحول ومقدرا لمسئوليته بل يؤمن بأن القدر والتاريخ وكل الظروف مهيأة لنجاح هذا الانقلاب. ومنها وصلنا الى القول بان السبيل الجديد هو وسيلة الانقلاب، ويعتمد هذا الجيل على الفرد، لان الوعي والايمان يفتش عنهما في الافراد لا في المجتمع.

بعد ذلك تكلمنا في الحقيقة والمواقع بالنسبة للشعب، فحقيقته شيء وواقعه شيء اخر، لان واقعه مفروض عليه فرضا من قبل الفئات المستثمرة والقوى الاجنبية. ان حقيقته قد طمست ولا زالت، كما ان التفاعل والاصطدام بين حقيقته وواقعه يجلو حقيقته ويهيؤه لتحقيق الانقلاب. ونظرتنا الى الشعب نظرة تفاؤل وايمان، ولمجرد تجسيد الجيل الجديد لفكرة الانقلاب، نجد الشعب يتنبه ويمشي في طريق الانقلاب. و نحن ننفي التشاؤم وسوء الظن بالشعب وباخلاقه لان واقعه الفاسد عارض طارىء، ولأن حقيقته كامنة تتجلى مع التجارب والآلام. فنفسية الانقلابي هي نفسية التفاؤل والايمان اي يؤمن بان الانقلاب قدر تفرضه شروط التاريخ ومواهب الامة نفسها، ويؤمن بان الشعب مستعد لتلبية هذا الانقلاب.

ثم تعرضنا الي مبررات هذا الايمان. هل هو استنادا الى تفسير معين للتاريخ، تفسير جبري، اي ان تطور التاريخ يؤدي حتما الى هذا المصير؟ قلنا ان لا موجب عندنا  لمثل هذا التفسير، فالعربي الواعي المؤمن اليوم، حاجته لايجاد مبرر في الماضي لنهضته، بل يجد من الواقع نفسه مبررا للنهضة. فالسند هو الجيل الجديد الانقلابي، الذي اصبح حقيقة لا يجادل فيها والذي يتكون ويتكاثر ويترابط في مختلف الاقطار. هذا وحده مبرر ودليل على ان الامة قد نضجت وانتجت هذا الجيل، وهذا يدل على انها  سائرة نحو الستقبل. فمبررات الانقلاب هي في الواقع نفسه لا في التاريخ.

ما دام الانقلاب هو من اجل بناء مستقبل جديد يختلف عن الحاضر اختلافا جوهريا فما هي معالم هذا المستقبل؟.. نحن لا نقول ان معالمه محددة منذ البدء ومرسومة منذ الماضي، وعندها يكون الانقلاب رجعة، كلا، نقول ان معالمه وخطوطه تحددها حاجات الامة التي تهتدي اليها بملء الحرية دون ان تكون مقيدة باي قيد. فالامة عندما تعي ذاتها ومكانتها في العالم وفي الزمن وتريد ان تتحرر من المرض والنقص تخلق وسائل تحررها ولا تستمد  هذه الوسائل من اي شيء سابق. وقلنا ان هذه هي الطريقة الوحيدة التي تضمن مجيء هذا الانقلاب وهذا المستقبل منجما هو روح الامة واصالتها. أي بقدر ما تكون الامة حرة بالسعي نحو مستقبلها تكون منسجمة مع نفسها مخلصة لشخصيتها وعبقريتها وبالعكس، اذا وضعت قيودا لنفسها تخون شخصيتها وتبتعد عن روحها، وفي الماضي عندما كانت الروح العربية متجلية بقوة اوجدت لنفسها وسائل تحقيق ملائمة لظروف الزمان والمجتمع. والوسائل ليست من نفس جوهر الروح اي  ليست شيئا اصيلا، اما الاصل فهو المستوى الروحي، فالعرب عندما يسترجعون المستوى الروحي العالي ويتفوقون عليه تكون الوسائل متلائمة مع روحهم بالنسبة للعصر. عندما نمشي بالابداع والحرية وتلبية حاجات صادقة وعميقة في حياتنا الحاضرة  نلتقي بالروح التي كانت مهيمنة على ماضينا.

عام 1950


 

علاقة التنظيم بالعمل الإنقلابي

تعلمون ان مرحلة الإنقلاب في حياة الأمة، هي المرحلة التي يكون التشويه والانحراف قد طرأ على مختلف الاوضاع فيها، ليجعلها متناقضة مع مصلحة الشعب متعارضة مع التقدم والنهضة والإنبعاث القومي. وتمكن الفساد التشويه والإنحراف وانتشاره يحدث هزات في حياة الشعب، ويخلق نوعا من الإضطراب والشعور بالحاجة الى تبديل الأوضاع ومقاومة الفساد. ولكن هذا الشعور لا يتبلور بشكل واضح واع، الا عند اقلية من ابناء هذا الشعب، تدرك واقع امتها وتصمم على تبديله، وتتقدم الصفوف للنضال في سبيل قلب هذه الاوضاع وتغييرها، وتتجه الى الشعب لتنقل اليه وعيها، عاملة على تنبيهه وتثقيفه وتوضيح واقعه له، جاهدة لتسير بالشعب في طريق النضال المنظم.

فمن خصائص المرحلة الإنقلابية اذن، ان تكون قيادة الحركة الشعبية بيد اقلية  اذ لو ان اكثرية الشعب كانت قادرة على وعي مساوىء الاوضاع حق الوعي، ولو انها كانت قادرة على تنظيم صفوفها حق التنظيم، ولو انها كانت تسير من نفسها في طريق  النضال الجدي لتبديل الاوضاع، اذن لما كانت المرحلة انقلابية، ولما كانت الأمة بحاجة لانقلاب في حياتها واوضاعها للنهوض، بل لسارت اليه وتقدمت، عن طريق التطور الطبيعي. ولكن مثل هذا الوعي الشعبي العام، ما زال غير متوافر والحياة السياسية ضمن شروط النظم القائمة، ما زالت قاصرة عن تمثيل ارادة اكثرية الشعب وعن ايصال صوتها، بل تمثل في كثير منها، مصالح اقليات مستغلة ومعادية لمصلحة الشعب الى حد كبير. وفي مثل هذه الحال، يأتي العمل الإنقلابي في كل بلد، وفي كل شعب، وهو من جهد اقلية منه. ولكنها اقلية من نوعية خاصة. اقلية واعية لواقع امتها مؤمنة بقضية بلادها وبحقوق شعبها، متجاوبة كل التجاوب مع حاجات الشعب العميقة وامانيه. هذه الاقلية تتقدم هنا لتمثيل الشعب، قبل ان يفوضها الشعب تفويضا صريحا بهذا التمثيل، وهي التي تبدأ بان تتجه للشعب لتوقظه على واقعه ولتنظم نضاله وتقوده في طريق الإنقلاب.

وقضية التنظيم تطرح منذ البداية في العمل الإنقلابي. والا فكيف تستطيع  هذه الاقلية الصغيرة ان تكون قوة وان تنهض باعباء النضال الفعال، وكيف للعشرات او المئات ان يقفوا في وجه الفساد وان يصارعوا الرجعية والاستعمار ومصالحهما الكبيرة الكثيرة، وكيف يقاومون ما خلفته عصور الانحطاط من جهل وانقسامات ومن فوضى مستعصية على العمل المنظم وحائلة دون تعاون الشعب ومشاركته، وكيف تستطيع هذه القلة بالتالي، ان تضم حولها قوة شعبية متكافئة مع ما تصدت له من صعوبات واخطار، كيف تستطيع كل هذا اذا لم تستنجد بالتنظيم، تستنفد به كل كفاءاتها وامكانياتها، وتعوض عن قلة عددها وفقر وسائلها، وتفتح امام عملها طريق النمو المضطرد. فالحركة الإنقلابية اذا لم تقم على تنظيم متين واع، تبدأ عملها ثم تتبعثر جهودها وتضيع بين شتى  الاعمال الارتجالية، وتمضي دون ان تخلف اثراً في حياة الأمة. فالتنظيم شيء اساسي وحيوي يرافق العمل الإنقلابي بل هو من طبيعة هذا العمل ويستمد من فكرته الإنقلابية.

ويجدر بنا هنا ان نسجل ملاحظة، حتى لا نترك اي مجال للالتباس وسوء الفهم. وهي اننا لا نعتبر للتنظيم قيمة في حد ذاته، اي لا نراه منعزلا عن الفكرة التي يرتبط بها ويستلهم منها قواعده وحدوده. فبتجريد التنظيم عن الفكرة تصبح قيمته فنية بحتة، يمكن ان تستخدم للخير وللشر في آن واحد، فعصابات الاشقياء تستند في اعمالها الى التنظيم. ومعناه وصلاحه متوقف على الفكرة التي توحي به وتشرف عليه وتمده بالروح. فالتنظيم لا يخلق شيئا من العدم، والتنظيم ليس كل شيء في العمل الإنقلابي، وهو لا يعني ان هذه الاقلية الإنقلابية، ترتجل فكرتها وحركتها ارتجالا، او تعود للتنظيم لتخلق بواسطته حركة من العدم.

إن التنظيم، اي تنظيم كان، يعجز عن خلق شيء من العدم، ولكن الحركة الإنقلابية كما ذكرنا، انما تقوم في أساسها على مسلمة، على ان ثمة تجاوبا بين الاقلية الإنقلابية، التي كانت اسبق من غيرها الى وعي الواقع والشعور بالمسؤولية واقدر على ذلك، وبين بقية افراد الشعب، تجاوبا في الروح والحاجات والاماني. الاقلية الإنقلابية لا تبتدع شيئا من نفسها ولا ترتجل، ومهمتها في الواقع ان تترجم حاجات الشعب العميقة، هذه الحاجات التي تكون غامضة ومجزأة بالنسبة للشعب الذي لم يبلغ بعد الحد الكافي من العلم والوعي أو من القدرة على التعبير عن هذه الحاجات، وان عبر بين الحين والحين، بانتفاضات وحركات آنية تنم عن اتجاهه وعن حيويته وطاقته النضالية، كما تعبر بشكل جزئي وغامض بل ومشوه احيانا عن اهدافه التي يسعى اليها. ثم تأتي هذه الاقلية، التي هي من هذا الشعب، والتي يفترض فيها انها شاركت الشعب انتفاضاته ونضاله البدائي (وهذه الاقلية كانت في الاصل موزعة وغير متعاونة، ثم تعارفت وتوحدت بنتيجة التجربة والمراس الطويل والوعي. واصبحت قادرة على قراءة ما يعتلج في قلوب ابناء الشعب)  لتتعرف من خلال آلام الشعب وانتفاضاته الارتجالية، على اهدافه الحقيقية وعلى امكانياته وقدرته على تحقيق هذه الاهداف. فعندما نقول ان الاقلية الإنقلابية لا بد وان تعتمد اعتمادا اساسيا على التنظيم، فلانها تبدأ من اعتمادها على ذلك التجاوب العميق بينها  وبين اكثرية الشعب الساحقة، وتعرف ان طريقها  الى قلوب الشعب مفتوحة، وان التنظيم هو الذي يمكنها من الوصول الى الشعب ومن قيادته، كما يمكنها من اختصار الزمن وتسهيل عقبات الطريق. وما مهمة الإنقلاب الا حشد القوى وتسهيل الطريق وازالة العقبات من طريق الشعب الذي يناضل في سبيل تحقيق اهدافه القومية.

واذا كان التنظيم لا يخلق شيئا من العدم، فان هذا لا يتناقض مع كون التنظيم الإنقلابي ذاته عملا خلاقا. وذلك بمعنى ان هذه القوى والطاقات النضالية الكامنة في نفوس الشعب تبقى غير متحققة بغير هذا التنظيم الإنقلابي. ووجودها هكذا كامنة، مثلها كمثل رجل يحتفظ بمبلغ من المال في صندوقه دون ان يستعمله، فلهذا المال وجود ولكنه غير محقق لقدرته الشرائية وغير مستثمر. وقوة الشعب النضالية يكون وجودها هكذا كامنا او مهدورا، والاقلية الواعية اول من يشعر بهذه القوة النضالية الكامنة في قلب الشعب، ولكنها اذا لم تنقل هذه الطاقة الى حيز التحقق، تبقى وكانها غير موجودة. عمل هذه الاقلية هو الذي ينقل امكانيات الشعب ويجعل منها حقائق راهنة، ويخلق منها عملا ونضالا بناء، ومثل هذا العمل الإنقلابي المنظم عمل خلاق.

لننتقل الآن من التحليل النظري الى الواقع الذي نحياه، لنرى ما هو موضع التنظيم في حياة شعبنا وفي حياة هذه الحركة الإنقلابية. لسنا بحاجة الى تكرار اوصاف هذا الواقع، فهو واضح يفرض نفسه على كل شاهد وبكل ما فيه من عيوب ونقائص. وعلينا ان نقيم قواعد وركائز وقلاعا ضمن هذا الواقع المملوء بالفساد والنقص والتخلف والجهل والميوعة، وعلينا ان نبثها هنا وهناك وفي كل ناحية، لكي تكون منطلقا للحياة الجديدة وللتوجيه الجديد الذي نريد نشره بين ابناء شعبنا، لنجذب الى هذه الركائز ولنكتل في هذه الحصون العناصر الاسلم من غيرها والاقل مرضا وتشويها والاقدر من غيرها على التفاهم والتعاون والاكفأ للعمل المنظم الواعي. وبهذا العمل تتسع وتنمو هذه الركائز والحصون، لتصل بالنتيجة الى تبديل حياة الشعب بكاملها وتغيير اوضاع البلاد كلها، ونصل بالتالي الى خلق حياة جديدة لامتنا.

وهذه الركائز لم نسمها قلاعا وحصونا، الا لما ننشده من ان تكون متينة جدا لكي تصمد لمقاومة الفساد، والاعداء الخارجيين والاخطار المستمرة، وهذه العناصر الإنقلابية لكي تنمو في عملها ونضالها، ولكي تتقدم ولا تكتفي بالصمود  يجب ان تكون من نوع خاص متميز، فلا يكفي ان تكون صالحة سليمة، بل يجب ان يكون النظام الذي تتبعه في عملها، صحيحا وعقلانيا ومتينا ومضمون الاستمرار والنجاح. وهنا لا بد من الاصرار على دور العلم والثقافة، ودور الخبرة والتجربة، وكثيرا ما رددنا ان البعث لا يمكن ان يكون الا على اساس العلم والمعرفة والكفاءات الفنية، اذ كيف يمكن ان نحقق انقلابا في حياة امة تخلفت مئات السنين عن مستوى البناء والابداع واعرضت عن المساهمة في الحضارة الانسانية، بل كيف يمكن ان نرفع امتنا التي كانت سباقة ومجلية، من جديد الى مستوى الابداع وخلق الحضارة، دون ان نعتمد كل الاعتماد على اساس متين من العلم والثقافة والخبرة الفنية وهذا ما يجب ان يقوم عليه التنظيم الإنقلابي ليكون قادرا على خدمة اهداف الإنقلاب وتحقيقها. فنحن هنا بحاجة للكفاءة والعلم وللافادة من خبرة وتجارب الشعوب المناضلة والامم المتحضرة، وهذه التجارب تعطينا قواعد ودلائل نسترشد بها في تنظيمنا ونقتدتي بها في عملنا على ان نلائم بينها وبين اوضاعنا ونعدل منها حسب ظروفنا، وهناك اشياء عامة ومشتركة لايستغنى عنها في اي بلد بالنسبة لاي شعب، وهناك قواعد اساسية خرجت من خبرة وتجارب طويلة للامم التي سبقتنا في مجال الحضارة.

اذن فعملنا يجب ان يقوم على الاختصاص وان يسير في دأب واستمرار. وتنظيمنا يجب ان يكون متناسق الحلقات والاجزاء كالجسم الحي، كل عضو فيه يقوم بمهمته الخاصة ولكن ضمن المخطط العام الذي يضمن الحياة والنمو الكامل لهذا الجسم. والشيء الذي نريد الالحاح عليه هنا، لاننا قلما نوفيه حقه من الاهتمام والتقدير، هو ان التنظيم الإنقلابي الذي نحتاجه ولم نبلغ بعد مستواه، يتطلب انقطاع افراد للعمل الحزبي انقطاعا تاما، ليجعلوا من العمل الحزبي الإنقلابي شاغل حياتهم، منه يعيشون ويكسبون رزقهم، وفيه يضعون جميع امكانياتهم وكفاءاتهم وآمالهم وطموحهم. وبمثل هذا وحده، يمكن ان تنشأ عند هؤلاء الافراد، خبرة قومية نضالية عميقة، نتيجة الاستمرار الطويل والدأب والممارسة ومواجهة المشاكل يوميا، والوقوع في الاخطاء الكثيرة وتصحيح هذه الاخطاء بالتجربة والممارسة والمراقبة، والاتصال اليومي المباشر بحياة الشعب والتعرف الى مشاكله، والصلة الدائمة بحياة الحزب ومعاناة كل مشاكله وقضاياه للخروج من كل هذا بخبرة جديدة في كل يوم وكل سنة. وعلى هذا الاساس يستطيع الحزب ان يخلق افرادا يكونون في البدء آحادا ثم يصبحون عشرات ثم مئات والوفا، ويكون لكل فرد من هؤلاء، بنتيجة هذه الممارسة وهذا الايمان الذي تعزز بالعمل النضالي المتواصل، من الخبرة والكفاءة ما يعدل الفا ويستطيع ان يخلق الحركة والحياة في الف آخرين وان  يكون مصدر اشعاع وتوجيه ووعي وقوة لمجموع الشعب. فالشباب المثقف الذي وعي ان مكانه التاريخي هو في هذه الحركة الإنقلابية، فتقدم اليها و سار في طليعتها، يجب ان يكمل هذا الوعي بالعمل النضالي الشعبي الإنقلابي المنظم. فلا يقف عند هذه المرتبه الاولى من الوعي، بل يرتفع الى مرتبة اخرى، ليعرف كيف تكون مشاركته على اقوى واحسن شكل، وليجعل مشاركته اقوى مردودا واعمق اثرا في حياة الأمة في هذه المرحلة.

ميشيل عفلق تموز 1955

في سبيل البعث الجزء الأول- التنظيم الانقلابي

في سبيل البعث

الجزء الأول

التنظيم الانقلابي


ان الصفة المميزة للبعث العربي هي انقلابيته، اذ قد توجد احزاب تهدف الى تحقيق بعض مبادئ البعث العربي او كلها ولا تكون انقلابية لانها لا تكون صادقة في تبنيها تلك المبادئ ومحاولتها تحقيقها. فالبعث العربي، لا يفترق عن الاحزاب الرجعية فحسب، تلك الاحزاب التي تقاوم عن وعي وتصميم الدولة العربية الموحدة الاشتراكية التقدمية بل يفترق ايضا عن الاحزاب التقدمية الزائفة التي تدعي ان بامكانها تحقيق الوحدة والحرية والاشتراكية، او بعضا من هذه الاهداف عن غير طريق الانقلاب. فالانقلاب في البعث العربي ليس هو الطريق الصحيحة لتحقيق مبادئه فحسب بل هو ايضا محك واختبار لصدق تلك المبادئ واخلاص معتنقيها.

وكما ان الانقلابية تفرض نوعا معينا من العمل في الوسط الخارجي السياسي والاجتماعي فهي تفرض كذلك نوعا معينا من التنظيم والسلوك في داخل الحزب. فالحزب الذي ينبري لمقاومة الاحزاب الرجعية والاحزاب التقدمية الزائفة، لا يستطيع ان يؤدي مهمته الا باتباع اسلوب صارم شديد يضمن له وحدة الاتجاه وتماسك العمل وقوته. ولقد ادت حركة البعث العربي للقضية العربية حتى الآن خدمتين كبيرتين، الاولى توضيح الاهداف العربية الصحيحة وما بينها من ترابط ووحدة، والثانية توضيح الطريق الصحيحة التي تضمن تحقيق هذه الاهداف. وقد  امتلأ الجو العربي بهذه الافكار النظرية والعملية التي نشرها البعث العربي، ولكن بقيت المهمة الثالثة والاكثر خطورة من سابقتيها وهي خلق الاداة الفعالة الصادقة  الملائمة لحمل الاهداف العربية والسير بها في طريق الانقلاب. ويمكن القول بان عمل البعث العربي كان اكثره حتى الآن مقتصرا على التوجيه، اي على تهيئة الجو الخارجي والاستعداد الفكري والنفسي لتقبل الفكرة. ولكن دور العمل الخاص بالبعث العربي كحركة منظمة تضم افرادا مؤمنين منسجمين ما زال ينتظر التنفيذ.

ان تحقيق الانقلاب العربي المنشود رهن بتجسيد الروح الانقلابية في نفوس اعضاء البعث العربي وعقولهم، وان انضمام الافراد الى حزب البعث العربي لا يعني خروجهم من الواقع الفاسد وتهيؤهم لمحاربته والظفر عليه الا اذا تجسدت الروح الإنقلابية في فكرهم وسلوكهم. فاذا لم يتحقق هذا الشرط الاساسي بقي انفصالهم عن الوسط الخارجي شكليا وانتماؤهم الى الحركة الانقلابية سلبياً، اذ لا قيمة لمبادئ يعتنقونها ولا يتحملون تبعاتها ومنطقها العملي الدقيق. وليس البعث العربي مدرسة فكرية حتى يكتفي باعلان حقيقة آمن بها، وانما هو حركة رسالتها النضال في سبيل ظفر هذه الحقيقة.

ان التنظيم الانقلابي هو الذي يضمن تحقيق هذا الانفصال الحاسم بين الواقع الفاسد ونفسيته المنفعلة واخلاقه النفعية وعقليته الرجعية، وبين حركة الانقلاب اي الجيل العربي الجديد المتحرر من كل هذه الامراض. ومهمة هذا التنظيم الاساسية هي التوفيق والتوحيد بين غايتين تبدوان في الظاهر مختلفتين متناقضتين، خلق الفرد العربي الذي هو اساس الجيل الجديد، الفرد الواعي المسؤول المؤمن، ثم جعل هذا الفرد اداة فعالة صادقة في الحركة التي ستغير تاريخ امته. وكما ان كل اهمال لإيقاظ الوعي والمسؤولية الاخلاقية والإيمان الروحي في نفس هذا الفرد ينتقص من انتمائه للحركة الانقلابية وانسجامه معها، فكذلك كل تهاون في ضبط هذا الفرد في منطق القدر التاريخي الذي يرتب عليه ان يكون اداة منفذة لهذه الحركة يجعل منه عنصر عرقلة وهدم وتخريب. هذا التوفيق بين الغايتين هو الذي يجعل الفرد العربي عضوا بعثيا.

الحركة الانقلابية مسؤولة عن تهيئة ادوات صادقة للانقلاب، اي عن انسجام أعضائها مع نظرتها ومبادئها، وبهذا المعنى نقول ان لا فرق بين الغاية والوسيلة وان الوسيلة جزء متصل بالغاية نابع منها، وانها ليست مجرد طريق تختاره للوصول الى الغاية بل اشعاع من الغاية يعين لنا الطريق الموصل اليها. والحركة مسؤولة بالدرجة نفسها عن نجاحها في اداء مهمتها، اي عن ضرورة تماسكها ووحدتها واطراد نموها واتساعها، والتنظيم المطلوب هو الذي يضمن للحركة وحدتها واتساعها مع بقاء العقلية والاخلاق والروح الانقلابية مسيطرة عليها.

للحركة الإنقلابية كما ذكرنا نوعان من الأعداء ، العدو السافر وهو كل الفئات والاحزاب الرجعية (والرجعية تشمل الرجعية السياسية والفكرية والاقتصادية) والعدو المقنع وهو الاحزاب والفئات القومية التقدمية الزائفة، لذلك كان عليها  واجبان : المحافظة على اتجاهها الفكري، والمحافظة على اتجاهها العملي. فكل تساهل او انحراف في المبادئ يوقعها في شراك الرجعية، كما ان كل تساهل او انحراف في اسلوب العمل يهددها بالتجزئة والتناثر. فالتنظيم المطلوب هو الذي يقيها هذين الخطرين فيضمن ثبات الفكرة ووحدة الحركة.

ان التنظيم الملائم للحركة الانقلابية هو الذي يستمد من تعريفها، فهي حركة تاريخية فاصلة يتوقف على نجاحها مصير ملايين العرب وبقاء الامة العربية. ان الحركة الانقلابية لاتزال في بدء تكوينها واولى مراحلها، اي انها نواة صغيرة جدا في كيان الامة الكبير، ومع ذلك فهي مسؤولة عن هذا الكيان كله. لذلك فهي تنظم سيرها لا بالنسبة الى واقعها الحاضر بل بالنسبة الى هدفها البعيد النهائي، وهذا هو معنى مثاليتها. ومثالية البعث العربي ليست من قبيل التصوف الروحي او التحرج الاخلاقي او الفكري النظري، وانما في تقدير المسؤولية القومية التي تجعل كل خطوة من خطى المعركة ذات اثر بعيد في مصير  الامة كلها.

حمص، 23شباط 1950

في سبيل البعث الجزء الأول – البعث العربي هو الانقلاب

في سبيل البعث

الجزء الأول

البعث العربي هو الانقلاب



سأتناول (1) في حديثي معنى من معاني حركتنا، هذا المعنى هو ان البعث العربي يتلخص في كلمة الانقلاب. ولا اعتقد المجال متسعا للإفاضة ولتناول الفكرة من مختلف نواحيها، فاكتفي في هذا الحديث بان القي ضوءا على الروح التي تدفع حركة كحركتنا.  

لكل حركة روح او عاطفة او صورة تسبقها وتحفز على تحقيقها. وراء كل حركة نظرة الى الحياة تكون صميمة راسخة في اذهان الذين يقومون بالحركة، وهي التي تلون حركتهم وترسم لها منطقها. فما هي اذن روح الانقلاب او فلسفة الانقلاب او عاطفته؟


ان مجتمعنا العربي يوحي الى ابنائه الذين يشعرون بصلة صادقة به انه بحاجة الى بعث الروح، لان ما آل اليه من انحراف وتأخر وتشويه ليس مجرد مظهر، بل هو نتيجة لفتور او نضوب شاب الروح العربية في فترة من الزمن بفعل عوامل كثيرة مختلفة. هذه النظرة التي تحدونا الى العمل وترسم لنا منطق عملنا تتلخص هكذا : اننا نشعر بان مجتمعنا العربي بحاجة الى ان يغالب نفسه ويناضل نفسه، بحاجة الى بذل جهد ومشقة كبيرة حتى يسترد ذاته الحقيقية، حتى يصل بالجهد والمشقة الى اصالته، حتى يتحرر من الزيف الذي اصابه. ولا يكون التحرر سهلا ولا بدون ثمن، فنحن نعتقد ان العرب عليهم ان يدفعوا الثمن حتى يصلوا الى حالة جديرة بهم، لائقة بعبقريتهم، لائقة بماضيهم، وكل ما يأتي سهلا رخيصا يكون سطحيا مصطنعا. الانقلاب تعبيره العملي هو النضال، والنضال له معان كثيرة او له معنى واسع لا ينحصر في النضال السياسي وحده. وقد يظن بان النضال اسلوب للعمل وهذا هو الشائع  والمطبق عند الكثيرين، في حين  ان النضال بالنسبة الى العربي ليس   اسلوبا فحسب وانما هو غاية في حد ذاته. النضال الذي هو التعبير العملي عن فكرة الانقلاب، انما يقصد به ان تغالب الامة العربية نفسها بعد تلك الغفوة الطويلة، بعد ذلك الاسترخاء، بعد ذلك الاستسلام للحياة السهلة اللينة، بعد ذلك الابتعاد عن روح الحياة الجدية القاسية، ان يعود اليها الحنين لمصارعة الحياة والقدر، ان تنظر للحياة نظرة عميقة بطولية، وان ترى القيمة في الجهد قبل ان تراها في ثمرة الجهد. ان الآفات التي يشكو منها مجتمعنا ليست بالآفات السهلة، فالفكر مقيد مستعبد فقير هزيل مقلد. والشخصية سطحية ضعيفة الثقة بنفسها لا تقوى على الاستقلال ومجابهة الامور بصراحة. والروح فقيرة وناضبة، آفاقها محدودة، وجوها هابط منخفض. هل تمحي هذه الآفات؟ هل يسترد العرب معنى الحياة الاصيلة بمعجزة من المعجزات، او بتغيير في شكل الحكم او اشخاص الحكام، وهل هذه المظاهر تكفي لكي تتحول الامة العربية من امة تعيش على هامش الحياة والابداع، تتطفل على انتاج غيرها وقلما تحسن استعمال هذا الانتاج، هل تستطيع امتنا ان تنتقل من حالة كهذه الى حالة المساهمة الصادقة في الحضارة والابداع، ان يكون لها اثرها البين الواضح في حضارة العالم وفي تفكير الانسانية، وهل تعود الى نبع الحياة لتستلهم القيم الخالدة وتنشرها وتذيعها على الآخرين؟ وكيف ننتقل من حالة الى نقيضها اذا اكتفينا بتغيير المظاهر والاشكال دون تغيير في الروح؟.. لا نصل الى الروح والاعماق الا عن طريق هذه المشقة، هذا الانقسام الداخلي في نفس الامة ذاتها، هذه الحرب العنيفة التي لا تداني قسوتها قسوة الحروب الخارجية مع الاعداء الالداء.


ايها الاخوان، اننا نعيش في مستوى هابط من الروح، في جو فاتر يجب ان تدب فيه حرارة لاهبة تصهر النفوس وتفتح المواهب وتفجر العبقريات والبطولات وتطلق الايمان من  ينابيعه العميقة. كيف نوحد بين افراد هذه الامة الذين باعدت بينهم الانانية والمصالح الشخصية والاستسلام للحياة الرخيصة النفعية والاستسلام للاوهام والتنافر والخصومات العنيفة الحقيرة؟ كيف نحقق من جديد امة واحدة تتعارف وتتآلف اذا لم يكن ذلك في طريق نضال لاهب وعر شاق يضطر كل فرد من فرد من افراد الأمة العربية الى ان يعود الى نفسه، ان يغوص في اعماقه، ان يستكشف نفسه من جديد بعد التجربة والألم.. عندها توجد الوحدة الحقيقية التي هي نوع جدي مختلف عن الوحدة السياسية، توجد وحدة الروح بين افراد امة كانت في القديم واحدة ثم اصبح كل فرد منها نتيجة العزلة والانانية والنفعية يعيش غريبا عن اخوانه،  وانتصبت بين اجزاء الامة الواحدة حواجز باردة جامدة من هذه الانانية والنظرات السطحية. فلا تعود الوحدة الا في جو النضال الحار.

كيف يعود الينا ماضينا، هذا الماضي الذي نتغنى به ونحن اليه، وكثيرا ما نختلف على تفسيره ومعناه. فمنا من يحسب ان مجرد تقليد اشكاله الجامدة يعيد الينا سر قوته وعبقريته، ومنا من تنفره الاشكال فيعرض حتى عن الروح ويحاول ان يتنكر لهذا الماضي وينكره وينكر كل صلة به.

في ماضينا روح اصيلة، في ماضينا حياة حرة سامية، ولكنني اعتقد ان تلك الروح، تلك الاصالة وذلك السمو لا يمكن ان نفهمه اونتصل به بشكل من الاشكال اذا لم نصعد اليه صعودا شاقا داميا، اذا لم نستحقه استحقاقا كريما لائقا. فكل ما نطمح اليه من اسباب الخلاص، من اسباب التقدم والرقي، يجب ان يعتبر اهدافا بعيدة صعبة لا يليق بالعرب ان يحتالوا عليها احتيالا لينالوها بغير ثمن، وانما ان يمشوا اليها مؤمنين صابرين، وان يعرفوا بان قيمة تلك الاهداف هي في ان يجتازوا كل الطريق الموصل اليها.


اننا ننظر الى امتنا هذه النظرة ونؤمن بانها امة واحدة وهذا الايمان نفسه يدعونا الى اعلان الانقسام فيها، لانها لن تسترد وحدتها، لن تبلغ هذه الوحدة المثالية التي هي الآن نظرية مبدئية، الا اذا انقسمت على نفسها. ولكننا في هذا الصراع نحتفظ بالمحبة للجميع. عندما نقسو على الاخرين نعرف ان قسوتنا عليهم هي في سبيل ارجاعهم الى نفوسهم والى حقيقتهم، وعندما يقسو علينا الاخرون نعرف ان نفوسهم الحقيقية التي يجهلونها، ارادتهم الكامنة التي لم تتضح بعد، هي معنا، وان كانت سيوفهم علينا.

ايها الاخوان: عندما اقول ان النضال بمعناه الواسع العميق هو السبيل الى بعث الروح العربية وتحقيق الانقلاب العربي، وعندما أشترط المشقة الكبيرة سبيلا لصدق هذا النضال، لا اكون متشائما او داعيا الى التشاؤم بل على العكس، لأن هذه الصعوبة نفسها هي التي تمهد الطريق وتسهله.

عندما ينفتح طريق النضال الجدي  امام طليعة الامة العربية، عندها تتوضح الفوارق بين النوع الجدي من المواطنين، النوع الذي حرر نفسه من المصلحة والشهوات، وبين النوع الذي استعبدته المصالح والذي  ضعفت نفسه عن  الايمان بكفاءة امته وبقدرتها على انقاذ نفسها بنفسها. مجرد هذا الانقسام، مجرد هذا التوضيح بين النوعين، ينقذ الامة من الغموض الذي تعيش فيه، ومن الشك، لانها ترى صورة صغيرة عن مستقبلها، لانها تلمس جزءا من حقيقتها التي تشعر بها والتي اصبحت حقيقة واقعة امامها. ان مجرد تقدم الطليعة المناضلة الى الامام يوقظ البذور الخيرة في نفس كل عربي، لان العروبة تعني التفاؤل، تعني الأيمان، ان في كل عربي امكانيات للخير والتجدد، ولان يعود العربي الاصيل الى اصله.

فطريق المناضلين صعب في الظاهر سهل في حقيقته، لانهم يحاربون ليس بقواهم وحدهم، ليس بعددهم المحدود الضئيل، وانما يحاربون ايضا بمصلحة العدد الاكبر من الشعب العربي الذي يوقظه تقدمهم في الطليعة فيتكشف ذاته ومصلحته وطريقه، يحاربون بالارادة الكامنة التي تجيش في صدر الامة جمعاء، هذه الارادة التي يعوزها المثل والقدوة الجريئة حتى تنتقل من حالة السكون والغفوة الى حالة اليقظة والفعل.

واني اتمثل بمعنى آية كريمة وهو ان العرب المسلمين في زمن ظهور الدعوة كانوا ينتصرون بعدد قليل لان الله يمدهم بجنود لا ترى ولا يراها اعداؤهم. اني افهم من هذا المعنى ما يتفق تماما مع حالة الطليعة المناضلة في مرحلتنا الحاضرة فالجنود غير المنظورة التي تحارب مع هذه الطليعة هي مصلحة العدد الاكبر لانها تعني بقاء الامة وحفظ كيانها وتحقيق تقدمها. وهذا التجاوب بين الحركة الانقلابية وبين مصلحة العدد الاكبر من الشعب هو وحده الذي يضمن لهذه الحركة الفوز والنجاح.


ايها الاخوان : اننا نعتقد بان الروح هي الاصل في كل شيء الدافع الروحي  العميق لا يسيطر على المادة والوسائل فحسب، وانما يخلقها ايضا. فالانقلاب يجب ان يتناول الروح مباشرة وان لا ينحصر او يتوقف عند حدود الاشكال والمظاهر. لو فرضنا ان صدفة من الصدف او معجزة من المعجزات حررت العرب في يوم واحد من جميع هذه المظالم والمفاسد التي تقف حجر عثرة في سبيل حياتهم وتقدمهم، وان الحكومات زالت بفعل سحر عجيب من طريقنا وحلت محلها الحكومات النزيهة القومية الغيورة على المصلحة العامة، هل تعتقدون بان الانقلاب العربي يتحقق ؟


انني اعتقد بان شيئا من هذا لا يكون، لان التبديل السطحي الذي لا يمس الروح والذي لا يفتح الفكر والذي لا يهز الخلق ويقومه والذي لا يفجر الايمان نتيجة المصاعب، ان هذا التبديل السطحي لا يلبث ان يتحول الى ما كان عليه في السابق.

المجتمع العربي  المنشود والمستقبل الذي ننشده والذي تتحقق فيه الر وح العربية  ويتحقق فيه العدل وسلامة التركيب  بين افراد الأمة وطبقاتها  يجب ان تهيأ له ادوات حية من البشر تكون من نوعه وجوهره حتى تكون امينة في تطبيقه، واعية لاساليبه وطرقه. ان النضال الذي سميته التعبير العملي عن الانقلاب، هو الذي يخلق الادوات الحية، اي المناضلين، الذي يصبح الانقلاب شيئا حيا في نفوسهم وعقولهم واخلاقهم، او يصبح حياتهم ذاتها، فلا بد اذن من اجتياز هذا الطريق الذي يخلق لنا المناضلين تباعا، والذي يكون امتحانا للنفوس القوية المثالية  التي تتعفف المصلحة الشخصية وتنظر الى الحياة نظرة ابعد وارفع من اللذات والاستمتاع، والتي ترى فيها تحقيقا لعنصر سام سماوي وجد في الانسان لكي  يشع في سلوكه. هذا النضال هو المصنع للادوات الانقلابية الامينة الوفية.

عام 1950
(1) حديث القي في مكتب الحزب في حمص

في سبيل البعث الجزء الأول – حزب الانقلاب

في سبيل البعث

الجزء الأول

حزب الانقلاب


السؤ ال المطروح  للمناقشة الآن يدور حول معنى الحزب، ما هو الحزب وما هي الصورة الصادقة للحزب الذي تحتاجه امتنا. لا اريد ان ابحث في حزب البعث العربي بصورة خاصة ولا اريد ان ادخل في موضوع طويل مفصل عن مبادئ البعث العربي، كل ما  ابغيه من هذا الحديث هو ان احدد بصورة واضحة ومختصرة الفارق الجوهري بين وظيفته في امم اخرى واوضاع مختلفة.

في امم العالم الراقية ينظر الى الحزب على انه نموذج للدولة او تصميم لدولة مقبلة او لاصلاح دولة قائمة، فالحزب يتخذ  في مبادئه وفي تشكيلاته واعماله اوصاف الدولة واهدافها. وغاية ما يطمح اليه الحزب في تلك البلاد ان يعد تمام الاعداد جهازا جديدا يستطيع في الوقت المناسب عندما تتوافر الشروط وتحين الفرصة ان يستلم الحكم ويدير الدولة. فهل هذا هو مبتغانا وهل هذا ما نحتاج اليه وهل هذا هو ما يلبي حاجتنا ويسد النقص الذي نشكو منه؟

عندما تقوم الاحزاب في البلاد ذات الاوضاع السليمة السوية لا يكون النقص الا في الدولة، ولا يكون هذا النقص في الدولة نقصا فادحا جوهريا خطيرا، فيعمل الحزب في وقت قد يطول وقد يقصر على اعداد الرأي العام لتأييد وجهة نظره ورأيه وعلى اعداد أعضائه والصفوة منهم لكي يستطيعوا عندما يتولون الحكم ان يصلحوا ذلك الخطأ الذي يرونه في الدولة في ناحية او أكثر. والدليل على بقاء الامة سليمة في الدول الاخرى هو ان الأحزاب على اختلافها وتناقضها احيانا يكمل بعضها عمل بعض. ولكن الحزب هناك قلما يتعرض للامة لان الخلل في البلاد ذات الأوضاع السليمة لا يتجاوز الدولة ولا يصل الى الامة، فالامة هناك قائمة وهي شيء حقيقي راهن قوي منسجم للحد الكافي واع لذاته ومصلحته، وانما الخلل في من تولوا ادارة تلك الأمة وفي الجهاز الاداري او ناحية من نواحي ذلك الجهاز.

لننظر الان في حالتنا، في حالة الامة العربية، هل النقص والخلل هما في الدولة فحسب، هل كل ما نحتاجه هو ايجاد دولة قوية واعية منظمة؟ ولنتساءل لكي يتوضح الموضوع اكثرمن ذلك، لنتساءل ما هي الدولة؟ الدولة آلة لا اكثر، الدولة جهاز، الدولة جسم لا روح فيه وانما هي آلة مدبرة عاملة لأن المشرفين عليها هم اشخاص أحياء غالبا ما يكونون من ذوي الخبرة والقدرة. وكل ما يطلب من الدولة هو ان تضمن تسيير الافراد وسلامة العلاقات بين الافراد والمواطنين وبين ذلك الشيء المعنوي الذي هو الدولة والممثل في حكومة ومجلس وغير ذلك، فهل اذا تصورنا امكان قيام دولة منظمة في بلادنا نستطيع ان نطمئن الى ان الغاية الكبرى قد بلغت ام هل نستطيع ان نتصور امكان قيام دولة مدبرة ومستقيمة الحالة اذالم يكن ثمة أمة حية منسجمة واعية؟ فالفارق كل الفارق بين حياتنا وحياة الأمم الراقية هو ان ما نحتاج اليه هو معالجة الأمة، وما نقص  الدولة عندنا وكل النواقص الفادحة التي تعتري الدول القائمة في البلاد العربية الا نتيجة لذلك النقص الاساسي الموجود في حياة الأمة. فاذا صح هذا التفكير يكون واجب الحزب ورسالة الحزب الذي ينشا في بلادنا ويعول عليه لتلبية الحاجات العميقة الاساسية ان يعالج الأمة قبل معالجة الدولة، وتكون بالتالي رسالته ان يكون على صورة الأمة المبتغى خلقها او بعثها لا على صورة الدولة، فاذا قامت الاحزاب في بلاد الغرب علي صورة الدولة وكانت تكتفي بالجسم دون الروح فلأن بلادهم لا تتطلب اكثر من ذلك، ولكننا نحن في حالتنا هذه، في وضع الامة العربية الآن، انما نحتاج الى حزب، الى حركة تمثل بالدرجة الاولى عنصر الروح وتخلق عنصر الروح والحياة وتتوفر فيها هذه الروح لتشع منها فيما بعد على المجموع الاكبر، والحزب الحقيقي، الحزب الحي، الذي يمكن ان يؤدي رسالة في العصر الحاضر للامة العربية هو الذي يجعل هدفه خلق امة او بعثها شريطة ان يحقق هذا الوصف في نفسه اولا، اي ان يكون هو أمة مصغرة للامة الصافية السليمة الراقية التي يريد ان يبعثها. ليس غريبا ان نسمع في بلاد العرب من اقصاها الى اقصاها منذ حين وخاصة في الزمن الاخير تتردد كلمة تخرج من افواه البسطاء قبل المثقفين وكانها كلمة السر وكأن فيها العلاج والحل والخلاص هي كلمة الانقلاب.

ليس غريبا ان نسمع  ذلك اذا رجعنا الى الماضي والى التاريخ واستجوبناهما عندها نرى حقيقة لاتكاد تكون موضع خلاف وهي ان العرب في تاريخهم الطويل لم يعرفوا غير نوعين من الحياة، الانقلاب والانحطاط، خلافا لكثير من الامم التي عاشت في الماضي ولكثير من الامم التي تعيش في الحاضر، هذه تكاد تكون ميزة او علامة فارقة حقيقية للامة العربية. اما ان تقوم بانقلاب يحدث نهضة تفيض على بلاد العرب وتبلغ الشمول وتصبح نهضة عالمية انسانية واما ان توغل في النوم والانحطاط. فليس من حل وسط في تاريخ العرب، او ما يصح ان يسمى تطورا، في حين اننا نعرف ان تاريخ الامم الاوروبية منذ مئات السنين عبارة عن تطور في أكثره، والانقلاب هو الاستثناء والشذوذ عن القاعدة. فاذا نظرتم الى ما يقاسيه العرب في هذا العصر من المصائب والكوارث التي تتوالى عليهم، وكل واحدة اثقل وافدح من التي سبقتها، اذا تدبرتم هذا الواقع المر الذي نعيش فيه والذي يكاد يوصل الى اليأس واخذتم بعين الاعتبار تلك النظرة التي المحت اليها، وهي ان الامة العربية بطبيعتها لا تعرف حلا وسطا فهي اما ان تعيش على الانقلاب واما ان تعيش في الانحطاط، واذا نظرتم من جهة الى قسوة الواقع ومرارته، ومن جهة اخرى الى تلك الظاهرة التي هي بمثابة قانون، ادركتم ان ايغال العرب فيما يبدو في الظاهر انه تأخر وانحطاط هو عبارة عن تحفز للانقلاب الذي هم مهيأون له.

اذا كان الجسم جبارا فافضل له العري من لبس ثوب ضيق، واذا كانت النفس عظيمة الاهداف والغاية فالفقر والعدم اشهى اليها من المادة المتواضعة التي لا تروي رغبتها وعظيم حاجتها. فمصيبة العرب في هذا الدور هو ان الطبقة التي فرضت نفسها عليهم تعيش في طريق معاكس تماما لنفسيتهم وامالهم، فهي طبقة شائخة طبقة فاسدة افسدها الترف، افسدها الاستثمار، أفسدها ظلمها للآخرين، ونفسية الظالم و نفسية المستثمر، نفسية الغاصب هي دوما نفسية شائخة هرمة متعبة لذلك تنظر هذه الطبقة الى ابسط الامور وتحسبها غاية ما يطمح اليه ويرغب فيه  تنظر الى مظاهر بسيطة من التقدم فتقول للشعب، للامة العربية جمعاء، هذا اقصى ما يمكن ان تصلي اليه. عندها تفضل هذه الامة التي اعتادت على احد حالين لا ثالث لهما اما ان تلبس الثوب الذي يوافقها او ان تبقى عارية، اما ان تملك الوسائل التي تساعدها على تحقيق رسالتها في الحياة او تكون فقيرة معدمة، عندها تفضل هذه الامة ان يطول اجل خلاصها من ان تقبل بخلاص مزيف، فاذا قلنا ان الحزب الذي تناديه الامة العربية من اعماقها والذي تدعوه الامجاد العربية من ماضي التاريخ العربي السحيق هو الحزب الذي يجعل الامة غاية له لا الدولة، وان يكون هو امة مصغرة تكون نموذجا للامة الشاملة، اذا قلنا ذلك لا نكون قد ابتعدنا عن الحقيقة اذ كلنا نشعر هذا الشعور، نشعر ان احتياجنا ليس الى اصلاح جهاز الدولة او ترميم خلل موضعي وانما هو الى انقلاب عميق شامل. فاذا كان ذلك صحيحا، اذا كانت هذه الحاجة صادقة فكيف يكون الحزب صاحب الرسالة قادرا على حمل رسالته؟


هو كما قلت ان يكون امة الانقلاب قبل ان يحقق انقلاب الامة وهذا يعني ان هوة سحيقة، ان فارقا اساسيا حاسما قد وضع بين الواقع، بين الحياة الواقعة في بلاد العرب، وبين هذا التكوين الجديد الذي هو الحزب، فرقا جوهريا في النوع، فرقا مطلقا لا يقبل النسبية ولا يتعرف عليها. ان يؤلف الحزب من نوع جديد يختلف في كل شيء عن الواقع الذي نثور عليه ونريد التخلص منه. فامة الانقلاب التي هي الحزب يجب ان تبرهن ليس فقط في الاهداف المكتوبة، ليس فقط فيما تضعه على الورق من برامج ومناهج واساليب التنظيم، بل تبرهن على عقلية جديدة، على روح جديدة، على خلق جديد، لا تجمعه بالواقع الفاسد اية رابطة او جامعة، ان لذلك علائم ودلائل وليس من الصعب ان نلمس الدلائل التي تدلنا على ان هذا التركيب الجديد، هذه الامة المصغرة، هذا الحزب، هو فعلا انقلابي ام انه لا يحمل من الانقلاب الا اسمه وعنوانه. وهذه الدلائل هي ان تتحقق في الحزب نفسه، في اخلاق أعضائه واسلوب عملهم وفي طريقتهم نحو تحقيق اهدافه، ان تتحقق كل الفضائل التي يبغون خلقها في المجتمع المقبل. لا يمكن ان يكون الحزب مماثلا  مشابهامتجانسا مع الواقع الفاسد المريض وان يدعي ان باستطاعته خلق مجتمع  صحيح جديد، فكما اننا نريد ان تكون امتنا في مستقبل قريب امة حية منسجمة حرة طليقة من كل الاعتبارات البالية، يحتل فيها المواطن المكانة التي تؤهله اليها كفاءته وخلقه واخلاصه كذلك يجب ان يكون الحزب الانقلابي محققا لهذه الصفات في تشكيله  وفي اثناء طريقه نحو غايته. اذا لم يكن الحزب الانقلابي مجالا لظهور الكفاءات المخبوءة في الامة، اذا لم يكن مجالا لاحتلال كل فرد حسب ما تؤهله اليه قدرته لا اسمه ولا اسم عائلته، اخلاصه لا وجاهته او وسائله المصطنعة الخارجية، اذا لم يكن الحزب منذ بدئه في طريق النضال قادرا على تحقيق هذه الفضائل التي يدعو الشعب اليها ويسعى الى تحقيقها في الامة فكيف يمكنه ان يحققها في ما بعد؟ لنقل باختصار ان مستقبل العرب متوقف على هذه المرحلة من النضال، فاذا لم نقدر خطورتها التاريخية، اذا لم نكن واثقين من اننا نكتب صفحة جديدة في تاريخنا وفي تاريخ الانسانية فلن نقوى على تحقيق شيء. اما ان نأتي بشيء مبدع خطير يقلب حياة العرب من الذل الى المجد ومن الانحطاط الى الرقي، واما ان تفشل محاولتنا فشلا تاما، لن نعرف الحل الوسط، وقديما قلنا في اكثر من مناسبة ان التطور يعني التأخر واننا لا نستطيع ان نعتنق النظرة النسبية، وان نقول ان هذا الحزب رغم كل اخطائه ونواقصه هو خير من كل الاحزاب الاخرى.

هذا لا يمكن ان يسمى مديحا او حسنة اوفضيلة، الفضيلة الحقيقية التي يجوز ان نسميها فضيلة في الحزب هي عندما نقول انه يناقض الاحزاب الاخرى والواقع الفاسد. ان النظرة النسبية تقضي عليه بالعقم، وبالفشل على كل حركة. فنحن اذا وعينا هذه المسؤولية، وهي مسؤولية تاريخية، واذا قمنا بما ترتبه علينا من واجبات نكون اعددنا لمستقبل الامة العربية ليس فقط جنودا محاربين بل افرادا مناضلين، واشخاصا واعين مفكرين. بل اننا نكون اعددنا لمستقبل الامة العربية روحا صادقة اصيلة قوية ذات طاقة تقدر وتستطيع ان تفجر الحضارة تفجيرا، وان تملأ صفحات التاريخ بالابداع في مختلف نواحي الحياة. ولا ننسى ان حضارة العرب في القديم لم تكن ممكنة وما كانت لتتحقق لولا تلك الفترة النضالية التي لم تتجاوز عشرات السنين، ولكنها كانت هي الخميرة الروحية، كانت هي الكنز النفسي الخلقي الذي سمح للعرب فيما بعد ان يتوسعوا وينتشروا ويختلطوا بامم عديدة في جو حضاري مترف ومع ذلك ان يحتفظوا بقوة الابداع وبقوة الخلق.


شباط 1949

في سبيل البعث الجزء الأول – الدور التاريخي لحركة البعث

في سبيل البعث

الجزء الأول

الدور التاريخي لحركة البعث

عندما(1) نريد أن نلقي نظرة على تاريخ حزبنا ونفحص فيه مواطن القوة والضعف بكل موضوعية وتجرد نستطيع ان نقول ان حركة البعث تمثل شيئا جديدا في حياة العرب الحديثة في ناحيتي الفكر والعمل، رغم ما انتابها وما يمكن أن ينتابها من نواقص. انها اول محاولة جدية لتحريك القوى الثورية في الوطن العربي ضمن أهداف عربية وطريق عربي مستقل. ولا يمكن لحركتنا أن تدعي انها خلقت القوى الثورية، فالامة العربية تعيش مرحلة ثورية من قبل ظهور حركتنا. ولكن هذه الحركة حاولت أن تعطي الثورة العربية صيغتها الموحدة المنطقية الشاملة، وان تضعها في وقت واحد، في جو العصر الذي تعيش فيه، عصر المذاهب الاجتماعية والاقتصادية، وفي جو الروح العربية الاصيلة. لقد أعطت حركة البعث للعروبة مفهومها الحديث، ومضمونها الايجابي الثوري بعد ان كانت العروبة لفظة فارغة غامضة، واطارا فاقد الروح والمحتوى. وأصبحت القومية العربية مرادفة لحياة الشعب العربي ومشاكله السياسية والاقتصادية والفكرية، وأصبحت تعني في وقت واحد الثورة على التخلف والظلم الاجتماعي، والثورة على التجزئة وفي سبيل توحيد الوطن العربي، والثورة على أمراض المجتمع وعصبياته وامتهان كرامة الفرد والمجموع وفي سبيل الديمقراطية والقيم الإنسانية.

لقد قدر لحزب البعث الاشتراكي أن ينقذ الاجيال الصاعدة من الضياع بين العصبية الاقليمية والثورة الاممية ووضعها في صميم العمل التاريخي، عندما وضح لها الحقائق التالية:

  1. ثورية المرحلة، وعقم الاعتماد على التطور والاصلاح الجزئي.

  2. واقعية الثورة وطابعها الاقتصادي واعتمادها على جماهير الشعب.

  3. وحدة الاهداف الثورية وتفاعلها، والتأثير المتبادل للنضال التحرري والنضال الاشتراكي والنضال الوحدوي.

  4. شمول القضية، وترابط مصلحة الشعب العربي في جميع اقطاره وضرورة توحيد نضاله.

  5. الحرية كأعمق أساس وأقوى دافع، واعتبار القومية صورة حية عن الانسانية، واعتبار الامة مسرحا لتحقيق القيم الانسانية. 

وبمقدار ما يكون التوضيح العلمي الواقعي للاهداف وللمنطق الذي يربط فيما بينها وللطريق الذي ينبع من هذه الاهداف ويساعد على تحقيقها، بمقدار ما يكون هذا عملية خلق، ويكون حزب البعث قد اسهم في خلق هذا المستوى من التفكير والنضال الثوريين الذي بلغته بعض الاقطار العربية في هذا الوقت.

الا ان المساهمة الكبرى لحزبنا في خلق هذا المستوى الثوري الحديث هي نظرته الجديدة الى الوحدة العربية، هذه النظرة التي تختلف اختلافا جوهريا عن كل ما سبقها والتي أخرجت الوحدة من سجن الافكار العامة والألفاظ الغامضة ونفخت فيها الروح والحياة، وفتحت لها طريق التحقيق عندما ربطتها ربطا عضويا بنضال الشعب العربي من أجل التحرر والديمقراطية والاشتراكية. فلأول مرة يظهر مفهوم ثوري للوحدة العربية يحرج الرجعيين والاقليميين والشيوعيين على السواء، يفضح الفئات الحاكمة الرجعية التي جعلت من الوحدة شعارا خادعا لتبرر به خضوعها للاستعمار ومقاومتها للنضال الاشتراكي، كما يفضح الاحزاب التي تقر الوحدة نظريا وتعمل على أساس استمرار التجزئة، كما يفضح اخيرا شعوبية الأحزاب المناهضة للوحدة التي استمرت في عدائها حتى بعد ان أصبحت الوحدة نضالا جماهيريا ثوريا واضح المعالم.

ولئن كان حزبنا اول من دعا إلى وحدة النضال العربي وعمل على تحقيقها فأنه أيضا اول من دعا الى نضال الوحدة وحققه فعليا. لقد كان حزب البعث منذ تأسيسه اول من تجاوب مع نضال المغرب العربي وحرك جماهير الشعب لدعم هذا النضال وتقدير أهميته وأثره في المصير العربي كله، كما سعى الحزب دوما لايصال صوته، رغم شتى العقبات، إلى الشباب الثوري في أقطار المغرب، من أجل توسيع أفق نظرتهم القومية واطلاعهم على المفهوم الحديث للقومية العربية.

وكان لحزب البعث العربي الاشتراكي دور تاريخي في تحقيق أول خطوة عملية نحو الوحدة العربية أي في تحقيق الوحدة بين سوريا ومصر، هذا الدور تشهد به الوقائع ويشهد به الشعب، ولا تجدي في انكاره والتقليل من شأنه المكابرة ولا المغالطة.

بقي ان القول ان المجال الذي قصر فيه الحزب هو البحث الاشتراكي المنظم ووضع نظرية مفصلة للاشتراكية العربية. فلقد كان يكفي الحزب في السنوات الاولى لتأسيسه ان يعلن عن مبدأ استقلال الطريق العربي الاشتراكي، وان الامة العربية تبني لنفسها اشتراكية مستمدة من روحها وحاجاتها وظروفها. الا انه كان من الواجب ان نتجاوز هذه المرحلة الابتدائية ونطور فكرتنا ونعمقها ونغنيها بتجارب البلدان الاخرى. وهذه احدى مسؤوليات البعثيين الرئيسية في المستقبل القريب.

أما في السياسة الدولية فقد كان حزب البعث اول من دعا إلى سياسة الحياد بين المعسكرين العالميين، منذ عشر سنوات أو أكثر. وكانت سياسة الحياد التي نادى بها الحزب أكثر من سياسة، اذ انها تتصل بمبادئ البعث وفكرته الاساسية. ففكرتنا منذ البداية تدعو الى حل ثوري جديد لمشاكل العالم، ينطلق من نظرة ايجابية الى الانسان ويخلو من سلبية النظرية المادية وتعصبها وكفرها بالحرية.

وحركة البعث تؤمن بالانسانية وبأن للأمة العربية رسالة إنسانية. وهي لا تفصل بين القومية والانسانية، كما انها لا تفصل بين الحاضر والمستقبل، بل تسهر على ان تظهر صورة المستقبل العربي المنشود من خلال الحاضر الذي نبنيه. والمستقبل العربي اما ان يخلص لمبادئ النضال الشعبي فيكون مستقبلا جديدا مبدعا جديرا بحمل الرسالة، واما ان يستخف بهذه المبادئ والمثل ويعتبر انها كانت ضرورية لمرحلة معينة ثم استنفدت أغراضها، فيحمل في طياته بذور نواقص أساسية وانتكاسات جديدة. وفي هذا المجال يظهر الدور التاريخي لحركتنا أكثر من أي وقت مضى. ان فكرة البعث لم توجد لتضع نفسها مقابل الاستعمار وأعوانه وهي ليست جوابا على الاستعمار وأعوانه، بل هي جواب على سؤال تطرحه الامة العربية على نفسها عندما تريد ان تتخذ موقفا تاريخيا من المبادئ والمثل التي تؤمن بها، وعندما تواجه مسؤولية الرسالة التي تنتظرها. ان هذا الجواب الذي أعلنته حركة البعث منذ ظهورها والذي يأخذ في المرحلة الحاضرة أهمية خاصة، هو: اننا نريد ان تكون النهضة العربية عميقة متينة الأسس، غنية الروح، تقدس الحرية وتطبقها وتؤمن بالإنسان وتحترم حريته واستقلاله. نريد أن نجنب النهضة العربية كل أثر ومظهر سلبي يتسرب اليها كعدوى وتقليد للاعداء والامراض التي كنا نحاربها، نريد ان يكون طريق النهضة واضحا مشرقا، ووسائل الثورة نبيلة مثل أهدافها. ونحن لا نستطيع أن نصحح السلبية بسلبية مثلها، بل بمزيد من الاخلاص لمبادئ البعث وباعطاء البراهين الجديدة على ايماننا بالحرية وبجدارة الانسان عامة، والانسان العربي خاصة، بممارسة هذه الحرية.

ان امام حركتنا مستقبلا واسعا ومسؤوليات كبرى، فثمة أقطار عربية ما زالت تنتظر ان تدخلها فكرة البعث لتتفاعل مع نضالها وتغنيه، أمامنا أقطار المغرب العربي والسودان وبلدان الخليج العربي والجنوب. وأمامنا اقطار في المشرق العربي يناضل فيها حزبنا نضالا بطوليا ضد الحكام الرجعيين والانتهازيين، وأمامنا الجمهورية العربية المتحدة التي ساهمنا في بنائها كطليعة تقدمية للوحدة العربية، ومازلنا مسؤولين عن تثبيت دعائمها وتعميق ثورتها وتصحيح بعض مفاهيمها.

7نيسان 1960

(1) نص الحديث الذي ألقي في بيروت في احتفال القيادة القومية بالذكرى الثالثة عشرة لتأسيس الحزب.