شبكة ذي قار
أي بُعدٍ سياسي للردِّ الإيراني؟

أي بُعدٍ سياسي للردِّ الإيراني؟

حسن بيان  

كثُرت القراءات السياسية للعملية العسكرية التي نفذها النظام الإيراني ليل الرابع عشر من نيسان، والتي أدرجها تحت عنوان الرد على العملية الإسرائيلية التي استهدفت القنصلية الإيرانية في دمشق وأودت بحياة عدد من المسؤولين العسكريين والأمنيين الذين يديرون ويشرفون على المليشيات التي ترتبط بمركز التحكم والتوجيه الإيراني وتقوم بالمهام التي تخدم أجندة الأهداف الإيرانية بالدرجة الأولى.  

وكما كثُرت القراءات السياسية لأبعاد هذه العملية، فقد كثُرت التباينات حول تقييم نتائجها. ففيما العدو الصهيوني اعتبر ان دفاعاته وخاصة ما يسمّى بالقبة الحديدية استطاعت أن تبطل مفاعيل المسيّرات والصواريخ التي كانت وجهتها فلسطين المحتلة، فإن النظام الإيراني اعتبر ان العملية حققت كامل أهدافها. ولهذا صوّر الإعلام الصهيوني كما الإعلام الإيراني والمواقف السياسية لكلا الطرفين بأنهما خرجا رابحين من هذه العملية.

  وبعيداً عن البروباغندا الإعلامية التي تعاملت مع هذه العملية من موقعي «التضخيم» و«التقزيم» للنتائج التي ترتبت على ذلك، فإن هذه العملية بمقدماتها وسياقاتها ونتائجها إنما بينّت انها لم تحدث تدميراً ملحوظاً وكبيراً في البنى والمرافق العسكرية الصهيونية، ولم تؤدِّ الى إيقاع خسائر بشرية. وهذا يعود الى أن المسيّرات والصواريخ تم اعتراضها وتدميرها قبل أن تصل الى أهدافها.  

لكن يبقى الأهم من كل ذلك هو البُعد السياسي لهذه العملية. في ضوء النتائج المادية التي تمخضت، يمكن القول ان العملية إنما تندرج تحت عنوان المناورة العسكرية بالذخيرة الحيّة، حيث اختبر العدو الصهيوني من خلالها فعالية دفاعاته وخاصة ما يسمّى بالقبة الحديدية، كما اختبر النظام الإيراني مدى قدرة مسيّراته وصواريخه في الوصول الى فلسطين المحتلة. لكن وبغض النظر عما أحدثته من تلك العملية من نتائج على الأرض، فإن ما يجب التوقف عنده هو حقائق أساسية أميط اللثام عنها من جراء هذه العملية.   الحقيقة الأساسية الأولى،

إن هذه العملية التي كان طرفاها المباشرين الكيان الصهيوني والنظام الإيراني، أدّى دخول أطراف أخرى على سياقاتها العملية وخاصة دول أساسية في حلف شمال الأطلسي، الى إعادة استحضار ثابتة من ثوابت الاستراتيجية الأميركية التي تبلورت بعد الحرب العالمية الثانية والقائمة على ثلاثة ثوابت: أمن النفط وأمن أوروبا وأمن «إسرائيل». وان الحماية الدولية «لإسرائيل» وخاصة الأميركية منها، لا تقتصر على جانبها السياسي وحسب وإنما هي مشمولة بحماية عسكرية. وهذا ما بدا واضحاً من مسارعة أميركا لإرسال سفنها الحربية من مدمرات وحاملات طائرات مع بداية الحرب على غزة ومن ثم المشاركة في اعتراض المسيّرات والصواريخ الإيرانية.

وعلى ضوء هذه الحقيقة، فإن هذه العملية أفضت الى إعادة التعريف بالدور الوظيفي للكيان الصهيوني الذي كان وما زال وسيبقى تحت مظلة الحماية الدولية لمراكز التقرير في النظام الاستعماري الذي تسلس قيادته حالياً للموقع الأميركي. الحقيقة الأساسية الثانية، ان هذه العملية كانت محكومة بضوابط قواعد الاحتواء الأميركي وبضبط إيقاعٍ يحفظ لقوى الإقليم غير العربية، أدواراً محددة السقوف في ترتيبات إعادة تشكيل نظام إقليمي تكون «إسرائيل» وإيران وتركيا وأثيوبيا من بوابة الأمن المائي من قواعده الارتكازية تحت مظلة الراعي الأميركي. وما يؤكد بان هذه العملية نفذت ضمن قواعد التفاهم الأميركي – الإيراني المسبق، انه تم إبلاغ ضابط الإيقاع الأميركي قبل حصولها وتحديد زمانها ومداها. وعلى قاعدة التفاهمات المشتركة الأميركية – الإيرانية كانت النتائج في حدود الاحتواء لعمليات الاشتباك السياسي والعسكري. الحقيقة الأساسية الثالثة، ان الاشتباك الذي حصل ليل 13/14 نيسان، إنما حصل في الفضاء العربي، من حدود العراق شرقاً الى حدود فلسطين غربا، وهذا ما كان ليحصل لولا الانكشاف الحاصل في الواقع العربي بعد الزلزال الذي ضرب البنيان القومي انطلاقاً من فالق العراق بعد العدوان المتعدد الجنسيات عليه وإسقاط نظامه الوطني.  

لكن ثمة تساؤل لا بد من التوقف عنده.. إذا كانت الخسائر المادية التي نتجت عن هذه العملية محدودة، ألم يكن بإمكان الأذرع الإيرانية أن تنفذ مثل هذه العملية، وهي موجودة على الأرض وفي حالة اشتباك مع العدو منذ اليوم التالي لعملية «طوفان الأقصى»، إن على جبهة لبنان – فلسطين، أو على «جبهة البحر الأحمر» وقد أصيب الكيان الصهيوني بخسائر بشرية ومادية تفوق كثيراً وبشكل لا يقاس بما أحدثته العملية الإيرانية المباشرة.

لقد أعطى النظام الإيراني تبريراً لذلك، انطلاقاً من كون القصف الصهيوني لمقر القنصلية في دمشق، إنما استهدف مكاناً يعتبر بحسب اتفاقية فيينا والمواثيق الدولية، مكاناً يتمتع بحصانة دبلوماسية وسيادية باعتباره يمثل امتداداً لسيادة الدولة الإيرانية. ولذلك فان استهداف القنصلية كان بنظره استهدافاً لموقع سيادي إيراني كاستهداف الأرض الوطنية، وبالتالي كان الرد يجب أن يكون من الأرض الوطنية الإيرانية، وأضاف النظام الإيراني سبباً آخراً، هو انه لم ينصب صواريخه ويطلقها كما المسيّرات من أرض دول عربية محيطة بفلسطين أو قريبة منه، حتى لا يشكّل إحراجاً لهذه الدول، وما يمكن أن يترتب من نتائج إذا ما حصل رد فعل صهيوني.

  إن هذه الحجة الإيرانية، مردودة عليه لسببين: السبب الأول، ان النظام الإيراني ومنذ اندفع الى العمق العربي، لم يقم اعتباراً لمبدأ السيادة الوطنية في كل الدول العربية التي تغوّل بها. بل ان استباحته كانت على مستوى من الشمولية طالت الصعد السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية. فما الذي حدا به لأن يتذكر مبدأ السيادة الوطنية ويبدي حرصاً عليها في لحظة اشتباك إعلامي وسياسي وعسكري مع الكيان الصهيوني بعد نيّفٍ وستة أشهر من الحرب على غزة يا ترى؟ ثانياً، ان الأذرع التي ترتبط بمركز التوجيه والتحكم الإيراني مهمتها الأساسية تنفذ أجندة الأهداف الإيرانية على مستوى الساحات الوطنية وفق ما تقتضيه مصالح إيران ولو تعارضت وتناقضت مع المصالح الوطنية. فلماذا لم يطلب منها الرد على قصف القنصلية في دمشق؟ وهو الذي لم يكتم سراً بأنه يسيطر على أربع عواصم عربية!! في الجواب على هذا التساؤل ورغم كل ادّعاء معاكس فان النظام الإيراني، لم يطلب الى التشكيلات الأمنية والعسكرية المرتبطة به القيام بالرد على عملية القنصلية، وبادر الى تنفيذ ذلك مباشرة، لانه يدرك جيداً ان حضوره من خلال أذرعه، وان كان يحفظ له موقعاً على طاولة ترتيبات الحلول للأزمات البنيوية التي تعصف بأكثر من ساحة عربية، وخاصة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، إلّا ان هذا لا يمكنه من الجلوس على طاولة الترتيبات على مستوى الكل الإقليمي مع بداية التداول بحلول للقضية الفلسطينية ومنها الترويج لحل على أساس «حل الدولتين» بحيث باتت موضوعاً على نار حامية. وبطبيعة الحال فإن من يريد أن يحفظ له موقعاً على طاولة إنتاج هذا النظام الإقليمي لا بد أن يكون على تماس مباشر مع نقاط ارتكازه الأساسية ومنها «إسرائيل» كما على علاقة تفاهم مع مهندسه الأساسي وهو أميركا. ولما كان الحضور على مستوى إنتاج النظام الإقليمي الأشمل، يفرض على أطرافه الأساسية الحضور المباشر للأصيل، وهو ما لا يمكن تحقيقه بواسطة الوكيل الذي يبقى دوره محصوراً في إطار «الخاص الذي يتموضع في نطاقه»،

عمد النظام الإيراني الى توجيه رسالة للمعنيين وخاصة الراعي الأميركي، للاثبات بأنه موجود على خطوط التماس المباشرة مع القضية التي تشكّل جوهر الصراع في المنطقة ولن يقبل بأن يكون دوره مهمّشاً وهو الذي عمل على الاستثمار بهذه القضية خدمة لأجندة مشروعه في تهديد الأمن القومي العربي من الداخل والمداخل. من هنا فإن عملية الرد الإيراني وكذلك الرد الصهيوني على الرد، إنما تم ويتم ضمن قواعد التفاهم والسقوف المرسومة، وإن ما يحصل على جبهة الاشتباك العسكري والسياسي والإعلامي بين النظام الإيراني والكيان الصهيوني، لا يعدو كونه اشتباك محدود في استهدافاته وهو نفّذ ضمن قواعد الاحتواء الأميركي لأدوار قوى النظام الإقليمي الجديد لإثبات أن أطرافه الميدانيين ومنهم النظام الإيراني يستوفون شروط عضويته المطلوبة أميركياً.

يَبقى البَعْثُ حرَكةً مُتجَدِّدةً وأملاً مَفتوحاً على المُستَقبَل

يَبقى البَعْثُ حرَكةً مُتجَدِّدةً وأملاً مَفتوحاً على المُستَقبَل

  د. أحمد شوتري  

الحركات التاريخية في حياة الأمم والشعوب، حركات متجددة على الدوام، وامل ممتد عبر السنين، حتى تتحقق جميع أهدافها المشروعة، التي صيغت في برامج طويلة الأمد.   وتختلف الحركات التاريخية عن الثورات مهما كانت عظمتها، لأن الثورات محكومة بزمن وأهداف محددة، وتأخذ في بعض الأحيان صورة رد الفعل، لذلك وصف مؤسس البعث المرحوم أحمد ميشيل عفلق البعث بالحركة، لأنها تعمل لمئات السنين، وتتفاعل مع الزمن وارهاصاته، وتنتقل عبر الأجيال.  

فالوحدة كهدف أسمى للبعث، رغم أنها ليست ابتداع أو اجتهاد، إنما هي استرجاع لحق الأمة الذي ضاع بفعل الزمن والصراع ما بين الأمم، وفواعل ميزان القوى والتقدم، فالأمة العربية كغيرها من الأمم مرت بعصر الولادة، والنمو والتقدم والقوة. واخذت من الزمن أمداً طويلاً، امتد لقرون، وضعفت وتراجعت لصالح أمم أخرى، واليوم هي تصارع الزمن والأمم المهيمنة بهدف استعادة حقها في الوحدة والحرية والتقدم، كحق تاريخي لها، وترفض أن تكون أمة ثانوية، لأنها أمة الرسالات والعدل والمساواة ما بين الأمم والشعوب، أمة اختارها الله سبحانه كأمة قائدة للتوحيد والقيم الإنسانية وشاهدة على الناس إلى يوم يبعثون.  

لقد جاءت حركة البعث لاستنهاض الأمة وضبط مقدراتها، والارتقاء بها إلى مصافي الأمم الأخرى لاستئناف رسالتها التاريخية، وصاغ البعث مشروع الأمة في النهضة بشعاراته المعروفة: الوحدة والحرية والاشتراكية، والرسالة الخالدة. وتتقدم الوحدة شعاراته الأخرى، لأنه بدونها لا يمكن لأمة أن تنهض وتستأنف دورها، والحرية كشعار لإطلاق العنان لعبقريتها للإبداع، والتعبير عن رسالتها الإنسانية. والاشتراكية كعامل نهضة مادي لتحرير الإنسان العربي من التبعية، والشعارات الثلاثة بمجموعها تشكل عمل متكامل لصياغة مشروع النهضة. في ذكراه السابعة والسبعين لا تجد الأمة العربية مخرجاً لحالتها الراهنة للتحرر والتقدم إلا في مشروع البعث، أمام التحديات الكبرى التي يعيشها العالم اليوم.  والتي يشكل العامل الاقتصادي والتقدم العالمي الهائل عنوانها الرئيسي، فالأمة العربية لا تستطيع أن تجاري العالم وسط هذه الصراعات إلا بعد وحدتها.   فكانت تجربة البعث في العراق المحتل نواة صلبة عبرت عن أهداف البعث بكل أمانة حيث أعطت للأمة العربية نموذجها المتكامل والمطلوب في النهضة، لذلك تكالب عليها الأعداء من كل حدب وصوب، داخلياً قبل الخارج، ورغم تعطيلها فإنها ماتزال تقاوم داخل العراق وتقدم التضحيات.  

فالبعث سيظل دوماً حركة متجددة وأمل مفتوح على المستقبل ولا يمكن وقفه بإرهاصات عارضة مهما كانت شدتها وتداعياتها السلبية. فالبعثيون اليوم كقوة نضالية عربية موحدة موجودون على طول الوطن العربي وخارجه يناضلون ومسلحون بتجاربهم، وكلهم أمل في اعلاء صرح حزبهم، والتطلع إلى المستقبل بثقة، فالبعث في الجزائر مثلاً لم يكن في السنوات السابقة يستطيع أن يقيم حفلاً علنيّاً كبيراً، أو يفكر في المشاركة في الانتخابات، واليوم نحتفل بمثل هذا الزخم ونفكر في المشاركة وكلنا امل في تحقيق مكاسب جديدة لحركتنا النضالية. البعث حركة ثورية لا تقبل السكون ولا بأنصاف الحلول في قضايا الأمة المصيرية، وعليه يرى في معركة طوفان الأقصى في فلسطين المحتلة خير معبر عن تطلعات الأمة في التحرير الكامل لفلسطين المحتلة من النهر إلى البحر، في وقت بدأ الكيان الصهيوني الغاصب يعد العدة لوأد ثورة شعبنا في فلسطين و طي قضيته الوطنية، فالطوفان أعاد احياء القضية الفلسطينية كقضية جوهرية في حياة الأمة كوصف البعث لها، وتعظيم التضحيات الكبيرة التي قدمها شعبنا في فلسطين بفصائله المختلفة عبر أكثر من سبعة عقود، وعليه يحتفل البعث اليوم في ذكراه السابعة و السبعين على وقع ثورة فلسطين، التي وضعت حداً للتآمر الدولي و الرسمي العربي و يفتح الباب أمام ثورة الأمة بأجمعها من أجل تحرير فلسطين ووحدتها.  

تحية اكبار وإجلال لشعبنا الثائر في فلسطين انطلاقاً من غزة الصامدة تحية لكل مناضلي البعث وأحرار الأمة.

تحية للجزائر بروح شعبها الثائر في مساندة شعبنا في فلسطين.

الرحمة على روح القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق.

الرحمة على روح قائد البعث الشهيد صدام حسين ورفاقه.

الرحمة على شهداء الجزائر والأمة العربية.

المساءلة والعدالة: مقصلة سياسية أم جدار لمنع “عودة البعث”

المساءلة والعدالة: مقصلة سياسية أم جدار لمنع “عودة البعث”

  أحمد أبو داود  

منذ صدوره في سنة 2003 بقرار من الحاكم المدني للاحتلال الأمريكي للعراق بول بريمير، وقانون اجتثاث البعث والذي تحول فيما بعد إلى ما يسمى بقانون “المساءلة والعدالة” وهو يُستخدم لاستهداف وإقصاء العناصر الوطنية وخاصة العربية عن المشهد السياسي في العراق.

وبسبب ذلك تطالب القوى الوطنية واغلب شرائح المجتمع العراقي ومنذ سنوات بوقف العمل بهذا القانون المشبوه، وحل ما يسمى بهيئة المساءلة والعدالة، خاصة وانهما يحرمان العراق وشعبه من خيرة خبرات ابنائه والتي هو في أمس الحاجة إليها، وبالتالي يتم تكريس التخلف والفساد والإبقاء على المشاكل المستعصية التي تغرق بها البلاد تحت هذه الذريعة. ولقد تطور استغلال هيئة المساءلة والعدالة بعد عقدين من تشكيلها من استهداف الوطنيين المعارضين،

إلى أداة تستخدمها القوى المتنفذة للإطاحة بخصومها المشاركين معها في الميدان السياسي، ولاسيما خلال مرحلة الانتخابات. لكن القانون ما يزال ساري المفعول بعد مرور 21 سنة على صدوره، إذ تحول إلى وسيلة للانتقام من جهة، ووسيلة للاستهداف السياسي من جهة أخرى.   أداة للثأر والانتقام واستهداف الوطنيين إن ما يسمى بالمساءلة والعدالة قد تحولت إلى أداة للثأر والانتقام والاستهداف الوطني والسياسي. علماً بأن هناك في العالم تجارب تحت اسم “المساءلة والعدالة” في دول أخرى أبرزها جنوب أفريقيا حيث  كان الهدف منها هو تحقيق الإنصاف لذوي الضحايا في الفترات السابقة ، واطلاق حرية التعبير و اشاعة العلاقات الديمقراطية، حيث إن الغرض من التجربة هو تحقيق العدالة الاجتماعية ومحاسبة المتورطين عن طريق القضاء حصرياً والتمهيد للمصالحة المجتمعية، وليس الانتقام المجتمعي لشرائح ومكونات اساسية للشعب او الانتقام السياسي من الخصوم. إن الإنصاف الذي بني على أساسه مفهوم المساءلة والعدالة في العالم يقتضي محاسبة الأشخاص الذين ارتكبوا جرائم فقط ،

حيث تتجه بعد ذلك الدول والمجتمعات إلى المصالحة المجتمعية الحقيقية، كما حصل في جنوب أفريقيا عبر المصالحة بين السكان الأصليين الأفارقة السود والمستوطنين البيض. ولكن ما حصل في العراق بعد 2003 بصدور قانون الاجتثاث سيء الصيت الذي أصدره الحاكم المدني للاحتلال الأمريكي بول بريمر، وتطبيقه بطريقة تعسفية شملت الآلاف من تدريسيي الجامعات ومنتسبي القوات المسلحة وخيرة كوادر العراق والموظفين والخبراء في كل المجالات ممن صرف عليهم العراق لتأهيلهم المال والجهد والزمن لخدمة الوطن وشعبه، حيث تم حرمانهم من الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية وغيرها وتشريدهم وتشتيت عوائلهم. إن التطبيق الثأري للقانون شمل ملايين البشر وهدد أوضاعهم الاقتصادية والمعاشية، مما يشكل خطراً كبيراً على المجتمع العراقي وعلى مستقبل العراق وبالتالي يكرس التخلف فيه ويمنع عنه اية فرصة للاستقرار والازدهار.

التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للحرب ومعالجتها –    الجزء الاول –
التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للحرب ومعالجتها –   
الجزء الاول –
قيادة قطر السودان –
اللجنة الاقتصادية  
مقدمة:
بمرور سنة على حرب التدمير العبثية التي اندلعت في 15 أبريل/ نيسان من العام الماضي، بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، تتناول مساهمة اللجنة الاقتصادية لحزب البعث العربي الاشتراكي، بالرصد والبيانات والمعلومات، ما أمكن، والتحليل وبمنظور اقتصادي اجتماعي والتركيز عليه، تداعيات الحرب وآثارها البنيوية على مجمل الأوضاع في البلاد ومعالجتها، وسوف يتم تناول محورين فيما يلي هما:
1- الجذور والأبعاد التاريخية الكامنة للحرب
2- التأثير والأدوار الإقليمية والدولية في مجرياتها والمعالجة.  
الجذور والأسباب التاريخية الكامنة للحرب موجز تاريخي للتطورات بعد معركة كرري بين جيوش الثورة المهدية في عام “1898م” والقوات البريطانية الغازية والتي حسمها التفوق العسكري الناري الغربي على بسالة وشجاعة وفراسة السودانيين، وقع السودان في براثن الاحتلال مجدداً، وحرص المستعمر البريطاني، انطلاقاً من أهدافه الاستعمارية ومصالح بريطانيا، على إعاقة وإجهاض أي بوادر جنينية لثورة مهدوية أخرى، فقتل واعتقل الكثير من القادة والثوار المهدويين وأبقى على من ضَمِنَ ولائه أو استكانته، وخلق منظومة معقدة لإدارة البلاد من ذوي المصالح المشتركة معه، مركزاً على استمالة قادة الطوائف الدينية وزعماء العشائر والإدارات الأهلية ليخلق منهم طبقة توظف نفوذها الديني والاجتماعي للعمل بالإنابة عن المستعمر البريطاني، وتنفيذ سياساته بالقاعدة التي عمد على إرسائها (فرق تسد) وقوانين المناطق المقفولة.  
ويجب الإشارة إلى أنه ورغم هذه العوائق المصطنعة والهادفة إلى محو كل أثر ثوري ومقاوم لسياسات المستعمر، إلا أن جذور الثورة المتقدة في نفوس السودانيين وجيناتها الباقية في الوعي والإرادة الوطنية قد عبرت عن نفسها بصيغ مستقبلية متعددة في العديد من أنحاء البلاد – في شرق السودان وجنوبه، وفي كردفان ودارفور، وفي الجزيرة ووسط السودان – والتي تنهض شاهداً على عمق وتأثير الوعي الثوري والوطني الذي بذرته الثورة المهدية.  
البرم من الديمقراطية وعدم ربطها بمصالح غالبية الشعب والسلام    بعد جلاء المستعمر عن السودان في مطلع عام “1956م”، واجهت الأحزاب والهيئات السودانية بتنوعها الفكري تحديات كبيرة في التوصل إلى توافق حول نظام الحكم والدستور الذي سيُنظم البلاد في مرحلة ما بعد الاستقلال. أما على المستوى الاقتصادي والاجتماعي فقد عمدت السياسات الاستعمارية البريطانية على إعاقة مسار التطور الاقتصادي المستقل القائم على الاعتماد على الذات والاكتفاء الذاتي وتكامل قطاعاته وتلبية احتياجات الأسواق المحلية والوطنية، بفرض نمط اقتصاديات وسياسات تلبي احتياجات بريطانيا وطلب السوق الرأسمالي، وهو ما أرسى قواعد التطور غير المتوازن – اقتصاديا واجتماعيا وتنمويا – والاقتصاد المرتبط باحتياجات السوق الرأسمالي (للمزيد راجع كتاب البعث وقضايا النضال الوطني في السودان، والمبحث الاقتصادي في تقريري مؤتمري القطر الخامس والسادس) .  
وبسبب تأزم الأوضاع في البلاد، والفشل في حل مشكلة الجنوب؛ حدث انقلاب الفريق ابراهيم عبود في “17” نوفمبر “1958م” – الذي أطلق عليه البعث مسمى مؤامرة “17” نوفمبر – لأنها – أي المؤامرة –  ارتبطت مباشرة بمخططات وصعود الاستعمار الأمريكي الحديث لضرب وتصفية حركة النهوض الوطني والقومي التحرري في الوطن العربي وأفريقيا، وفق مبدأ دوايت ايزانهاور لملء الفراغ.  
 لقد حدث هذا الانقلاب – الذي تم كعملية “تسليم وتسلم” من ناحية أخرى – كدليل على مدى عمق أزمة الحكم في السودان منذ البداية ومبدئية التمسك بالديمقراطية والتعددية، فكان أول ضربة لنظام التعددية الحزبية في البلاد والذي شرعن لاحقا لتدخل الجيش في الحكم والسياسة والاقتصاد.     
أسقطت انتفاضة أكتوبر/ تشرين الأول “1964م” الحكم العسكري الأول، وعادت التعددية الحزبية للمرة الثانية إلى السودان، والتي تميزت بوجود تمثيل للقوى “المناطقية” داخل البرلمان، مثل مؤتمر البجا واتحاد جبال النوبة وجبهة نهضة دارفور، بالإضافة للقوى الجنوبية، ويعد هذا التمثيل مؤشر لتمرد سلمي ديمقراطي على هيمنة الزعامات والقوى التقليدية في مناطق حواضنها الأساسية، وربما كانت امتداداً لخروج إسماعيل الأزهري من عباءة الطائفية والفوز بانتخابات “1955م” تحت اسم الحزب الوطني الاتحادي، وما من شك لاختلف الوضع السياسي في البلاد إذا ما قدر لهذه التعددية الحزبية الاستمرار من خلال ربطها بتحقيق مهام ما بعد الاستقلال السياسي، لولا انقلاب النميري في “25” مايو “1969م” الذي بدأ بشعارات يسارية وانتهى بممارسات يمينية، مستقوياً بقوى الظاهرة السياسية الدينية من الإخوان المسلمين وجماعة أنصار السنة والطرق الصوفية المختلفة. وقد شهدت أواخر فترة نميري حدثان مهمان، هما إصدار “13” قانونا أبرزها قانون العقوبات الذي اشتمل على العقوبات الحدية أو ما عرف بقوانين سبتمبر، والآخر تجدد الحرب في الجنوب سنة “1983م” وإعلان ميلاد الجيش الشعبي والحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة جون قرنق.  
 مما عجل باندلاع انتفاضة مارس/ أبريل “1985م” التي أسقطت الدكتاتورية العسكرية الثانية بعد “16” عاماً. سقطت دكتاتورية النميري والبلاد بلا دستور دائم أو نظام للحكم متوافق عليه، مع وضع اقتصادي متردي (كانت سلطة مايو قد رضخت في العام “1978م”، ولأول مرة في تاريخ السودان، لشروط صندوق النقد الدولي بالموافقة على وصفته التقليدية ومنها ربط قيمة الجنيه السوداني بالدولار الأمريكي، وأجرت أول تخفيض لقيمة الجنيه الذي كان يعادل في وقتها “3.4” دولار أمريكي وقامت بإقرار سياسات تعدد سعر الصرف، مقابل الاستمرار في السلطة بالتسوية السياسية مع المعارضة والتي عرفت بالمصالحة الوطنية التي رعتها أمريكا، وحرب مشتعلة في الجنوب. وفي هذه الظروف تشكلت حكومة انتقالية بمجلس عسكري انتقالي يجمع بين السلطتين التشريعية والتنفيذية برئاسة الفريق أول عبد الرحمن سوار الذهب وحكومة مدنية برئاسة الجزولي دفع الله لمدة عام واحد، تهدف لتحقيق ثلاث أولويات تتمثَّل في “حل سلمي لمشكلة الجنوب” و”كفالة الحريات العامة” و”كَنْس آثار مايو”، إلا أن هناك جملة من العوامل أسهمت في عجز الحكومة الانتقالية عن إنفاذ هذه الأهداف الرئيسية أشار لها أحمد إبراهيم أبو شوك، وصلاح الدين الزين محمد، في التقرير الموسوم الانتقال الديمقراطي في السودان “2019م-2022م” التحديات والآفاق، بثلاثة عوامل (أولها: قصر الفترة الانتقالية؛ لأن الأحزاب السياسية لم تكن مطمئنة لاستمرار العسكر في السلطة بعد أن أعلنوا سيطرتهم على مجلس رأس الدولة، وثانيها: إعلان المجلس العسكري أنه مكون ثانٍ في الحكومة الانتقالية؛ الأمر الذي دفع جون قرنق، رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان آنذاك، إلى وصف  الحكومة الانتقالية بأنها “حكومة مايو الثانية” ولذلك رفض التعاون معها، وثالثها: الجبهة الإسلامية القومية التي وقفت عائقًا أمام إلغاء القوانين القمعية التي أصدرها الرئيس المخلوع جعفر نميري، بعد أن بايعته “إماماً للمسلمين”. وفي نهاية عام الفترة الانتقالية أُجْريت الانتخابات التي تحصل فيها حزب الأمة الجديد بزعامة الصادق المهدي على أعلى عدد من مقاعد البرلمان.     اتسمت فترة الديمقراطية الثالثة بالعجز وعدم الاستقرار ومهادنة بقايا مايو، إذ تم تشكيل خمس حكومات ائتلافية في ظرف ثلاث سنوات، كما شهدت هزائم متلاحقة للجيش في الجنوب أدت إلى تذمر القيادة العامة للجيش التي قدمت مذكرة لرئيس الحكومة الصادق المهدي، مطالبة إياه بالعمل على تزويد الجيش بالعتاد العسكري الضروري، أو وضع حد للحرب الدائرة في الجنوب، وأحدثت المذكرة بلبلة سياسية في البلاد، واعتُبِرَت مؤشراً جديداً لتدخل الجيش في السياسة. تدهورت العلاقة بين الجيش وحكومة الصادق المهدي بعد توجيه الفريق فتحي أحمد علي القائد العام إنذاراً إلى الحكومة، طالبها فيه بالاعتدال في مواقفها السياسية ورفع المعاناة عن كاهل المواطنين، وبالرغم من رفض الصادق المهدي هذا الإنذار إلّا أنه رضخ للضغوط وأعلن قبول اتفاقية السلام التي وقعها الحزب الاتحادي الديمقراطي بزعامة الميرغني مع الحركة الشعبية لتحرير السودان عام “1989م” بزعامة جون قرنق.   من التسليم والتسلم إلى تصعيد فلاسفة اليمين واحتياطي الرجعية       وفي ظل هذا الوضع المأزوم، تآمرت “الجبهة القومية الإسلامية” على النظام الديمقراطي البرلماني، ونفَّذت انقلابًا عسكريًّا في “30” يونيو “1989م”، ظل في سدة الحكم “30” عامًا معتمداً في بقائه على طبيعته الفاشية والمتاجرة بالدين، وعلى دور الأجهزة الأمنية والعسكرية والواجهات الاقتصادية والمالية والإعلامية الخاصة بالتنظيم والموازية لأجهزة الدولة.       إنّ تجربة حكم الجبهة القومية الإسلامية المستبدة – التي تميزت بإحكامها السيطرة على كل مفاصل الحياة في البلاد – ترتبط بشكل مباشر بالحرب الحالية، “فدون إغفال لارتباط قادة طرفي الحرب الحالية بنظام الإنقاذ منذ وقت طويل، واستخدام الإنقاذ للقوات المسلحة في صراعاتها في سبيل السلطة والثروة ثم إضعافها، وتأسيسها لقوات الدعم السريع لحماية مشروعها السلطوي، وتبني العنف لمواجهة التطلعات الشعبية والمطالب المشروعة” وهو النهج الذي أسهم في توسع المليشيات والفصائل المسلحة.    غير ذلك كله فإن النظام الاقتصادي الاستبدادي – الكليبتوقراطي والزبائني – المتسم بسوء إدارة الموارد، والفساد الممنهج، والقائم على الاستدانة الذي انتهجته الإنقاذ، وهو النهج المتماهي حد التبعية (بسياسات التحرير الاقتصادي المطلق ورعاية مصالح الرأسمالية الطفيلية) مع النموذج الغربي الإمبريالي، المستند على فلسفة التمكين الاقتصادي والاجتماعي للموالين لها والردفاء، وتعميق الفوارق الطبقية، وتذكية النعرات ما دون الوطنية وتهديد السلم الأهلي وتمزيق الأواصر الاجتماعية، وتدمير قواعد الإنتاج مع تنمية مصالح الرأسمالية الطفيلية، بزيادة حدة الفقر، وتدهور القوة الشرائية للعملة الوطنية، وتراكم الديون وخدماتها، وتدمير ما هو موجود من مؤسسات مدنية ومن بنى تحتية، وضعف في النمو الاقتصادي، وارتفاع نسب التضخم، وهجرة العقول والسواعد وإساءة استخدام الموارد، كل ذلك بالإضافة لإشعالها الحروب في دارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة، وإنشاءها للميليشيات المسلحة، ومعاداة الحقوق والحريات العامة والتعددية الحزبية، وفصل الجنوب عن الشمال، وتسميم علاقات السودان مع محيطه العربي الأفريقي والمجتمع الدولي.  كل ذلك أدى لمحصلة نهائية عنوانها إنهاك المجتمع، وإضعاف الجيش، وإضعاف مؤسسات الدولة، وتضعضع السلطة المركزية في البلاد، وتدويل شؤونها، وتكبيلها بسلسلة من القرارات والعقوبات الأممية والأمريكية والغربية والديون. وبالتالي فإن نظام الإنقاذ بكل ممارساته القمعية والفاسدة مَثَّل الأرضية الخصبة التي انطلقت منها حرب” 15″ أبريل/ نيسان”.    
يُتبَع لطفاً..
لقاءُ القُوى الوَطَنيّة والقَوميّة التَقدُّميّة الديمُقراطِيّة ضَرورة حَتميّة للخَلاص مِن حالَةِ الضَعفِ العَرَبي

لقاءُ القُوى الوَطَنيّة والقَوميّة التَقدُّميّة الديمُقراطِيّة ضَرورة حَتميّة للخَلاص مِن حالَةِ الضَعفِ العَرَبي

  د. عامر الدليمي

في ظل الاستهداف المنقطع النظير الذي تتعرض له أمتنا العربية في أغلب أقطارها، وفي ظل غياب أية حدود أو سقف للبشاعة التي يتم فيها تنفيذ حلقات المؤامرة، وليس آخرها محرقة رفح، والمجزرة البشعة التي يتعرض لها شعبنا العربي في فلسطين، والتي وصلت إلى إحراق الخيام بقاطنيها حيث تم استهداف النازحين قسرًا شمال غرب رفح. تلك المجزرة التي خلّفت عشرات الشهداء الذين تحولت أجسادهم إلى أشلاء، بالإضافة إلى عشرات الجرحى معظمهم من الأطفال والنساء، مع استهداف الاحتلال الصهيوني للمنظومة الصحية وإخراجها من الخدمة،

كل ذلك على مرأى ومسمع من العالم أجمع العاجز عن كبح جماح جرائم العدو الصهيوني. في ظل هذا الواقع المأساوي، وعجز الأنظمة العربية عن وقف عجلة التدهور وبشاعته، يصبح من أعلى الأولويات والواجبات الحتمية، أن تلتقط القوى السياسية الوطنية والقومية زمام المبادرة، نحو بلورة مشروع يرقى إلى مستوى التحديات الوجودية الجسيمة التي تستهدف الأمة في وجودها. ويتقدم تلك الأولويات فهم الواقع الذي تمرُ به الأمة العربية في هذه الظروف وتحليلها بقدرٍ عالٍ من المسؤولية الوطنية والقومية والوقوف بواقعية وموضوعية على أسباب الانكسارات والتراجعات والاستسلام للقوى المعادية، حيث يتقدم تلك الأسباب الانقسام والتشظي العربي بسبب تناقضات ثانوية تاركين التحديات الأساسية والمصيرية تحرق الأمة وتنهي هويتها ووجودها. وفي مقدمة متطلبات تحقيق ذلك،

والذي يعد من الضرورة القومية الحاسمة أن تكون هناك نظرة وفعل حقيقي جاد لتجديد الخطاب القومي العربي وتحديث مشروعه النهضوي التحرري التقدمي. ومن هنا فإن لقاء القوى السياسية المخلصة للوطن والأمة العربية، والعمل ضمن قواعد عمل مشتركة للتوصل إلى مشروع يمكِّن الأمة من مواجهة التحديات الوجودية الجسيمة التي تتعرض لها، ويعيد لها كرامتها، ويؤكد بأنها أمة جديرة بالحياة، من خلال إيجاد تفاهمات سياسية على قاعدة جماهيرية تكون أساساً لقوتها، وتستطيع من خلال ذلك وغيره التخلص من الضعف والتخلف والتقهقر الذي أصابها. إن ذلك من شأنه أن يرسم الخطوات الأولى التي تخطوها القوى الوطنية والقومية لقيادة الأمة نحو مرحلة جديدة لتكون أمة مجاهدة تسعى نحو التثوير والتنوير والتغيير والتقدم بكل جوانبه. 

كما وتشكِّل أساساً لإطلاق الحريات الفكرية والسياسية التي تعد الدعامة الرئيسية لمجتمع حضاري جديد، وتحقيق نهضة عروبية تقدمية ديمقراطية في الساحة السياسية كما في الساحة الفكرية.

إن كل ذلك يقتضي تجاوز الحالات التي تعرضت لها من مناكفات وخصومات بينية أوصلتها إلى الاحتراب الفعلي فأضعفت نفسها، وجعلت القوى المعادية تتحكم بمصيرها. وليس أدل على ذلك ما وصلت إليه بعض الأنظمة العربية في الاستسلام والضعف أمام العدو الصهيوني، وتمدد استعماري للمشروع الفارسي في أقطار أمتنا العربية بدءاً من المشرق واندفاعاً نحو أقطارها في شمال افريقيا.

إن الضرورة الوجودية والحتمية في تاريخنا الحالي تقتضي عودة التيار القومي العربي التحرري والمنظمات القومية لممارسة دورها الفعلي في الساحة العربية بقوة وثقة عالية، متحصِّنة بالإيمان المطلق بقدرها، وبمسؤوليتها التاريخية في قيادة الأمة لتحقيق أمل الجماهير في خلاصها من الاستعباد والاستبداد والهزيمة والتشظّي.  ومن أولويات هذه المهمة النضالية الكبيرة هي أن ينهض المثقفون والمفكرون والكتاب العرب الذين يؤمنون برسالة الأمة كرسالة إنسانية خالدة لممارسة دورهم الريادي في بلورة الطموحات المأمولة، وتحديد معالم الطريق العملية والواقعية لتحقيقها، بعيداً عن الإنشاء أو العواطف أو التنظير العقيم. على أن مثل هذا التفاعل وتلاقح الأفكار يتطلب من الجميع العمل من أجل هذا المشروع بروح ديمقراطية متجددة، كشرط أساسي لنجاحه كي يعيد للأمة العربية مجدها وكرامتها وحقها في الحياة.

مِنْ فِكْرِ البَعْثِ والقائدِ الشهيد عِزَّة إِبْراهيم: العُروبةُ والإسلامُ جَناحا الأُمَّةِ وسِرُّ بَقائِها

مِنْ فِكْرِ البَعْثِ والقائدِ الشهيد عِزَّة إِبْراهيم: العُروبةُ والإسلامُ جَناحا الأُمَّةِ وسِرُّ بَقائِها

 ناصر الحريري  

في سنوات الاستقلال الأولى للأقطار العربية نجحت الهوية الوطنية القطرية في تهميش الهوية القومية للأمة، وتم التركيز على الهوية الوطنية والقطرية الضيقة ورُفِعَ شعار القطرية هي الحل، واعتبار كل قطر من الأقطار العربية يمتلك خصائص معينة يتم البناء على أساسها. إلا أن هذا التهميش لم يدم طويلاً،

فقد تفجرت الأزمات السياسية والاقتصادية التي كشفت عن ضعف الهوية الوطنية والقطرية، وعاد الحديث عن الهوية الأصلية وهي الهوية القومية عبر القضايا السياسية والثقافية والاقتصادية. وكان من أوائل الأحزاب التي سلطت الضوء وأعادت الهوية القومية إلى الواجهة هو حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي ركز على الهوية القومية للحزب دون إغفال الهوية الوطنية التي تشكل النواة الأولى في بناء القومية العربية. 

تشترك تعريفات الهوية في إبراز عُنْصري التميز والاختلاف، ويمكن القول إن هوية شعب ما مختلفة عن هوية شعب آخر، فهي مجموعة من الخصائص تنفرد بها وتختلف وتتميز مقارنة بغيرها. وهوية أي أمة هي ما يُعَبَّر عنها بالهوية القومية التي هي عبارة عن مجموعة من الصفات العامة التي تمثل الحد الأدنى المشترك بين جميع الذين ينتمون إليها. والتي تجعلهم يتميزون ويُعرفون بتلك الصفات عمن سواهم من أفراد الأمم الأخرى.

فالهوية القومية مختلفة كل الاختلاف عن الهوية القطرية، فالأولى تتعلق بالأمة والثانية تتعلق بالدولة، فالهوية الوطنية قد تعني إيجاد تطابق وتوافق بين ناسٍ يعيشون في بقعة جغرافية محددة.

إن الهوية القومية تؤكد على تمييز الأمة عن غيرها من الأمم، فإذا كانت الأمة مجزأة إلى دول متعددة كالأمة العربية فإن هويتها تبقى ضعيفة ومعرضة للتآكل والضياع والهدم بسبب القطرية والطائفية والعشائرية، وقد يكون السبب الأكثر تأثيراً هو الأطماع الاستعمارية. برغم غياب التعبير عن الهوية القومية للأمة في بعض الأقطار وضعفه في أقطار أخرى إلا أنها تبقى الهوية العامة المشتركة بين هذه الأقطار، فالعلاقة التي تربط الهوية الوطنية بالهوية القومية هي علاقة تكامل وتفاعل وليست علاقة نزاع وصراع وانفصال.

فالعربي ليس وجوداً طارئاً أو جامداً بل هو هوية وجود ومصير، فأن يكون الإنسانُ عربياً هو بالضرورة أن يكون عروبياً تواقاً نحو الوحدة العربية، يحمل على كتفه وفي قلبه هموم الأمة وآلامها ومعاناتها وتطلعاتها، ويجسد إرادة الأمة وعزمها على الثورة على واقعها الفاسد المريض.

لقد اعتبر حزب البعث العربي الاشتراكي القومية العربية “حقٌ مقدس للعرب في كل القوانين والشرائع والمواثيق الأرضية والسماوية، بعروبتهم وقوميتهم يتعارفون وبعروبتهم وبقوميتهم يتحابون ويتوادون ويتراحمون ويتواصلون، وتحت راية عروبتهم وقوميتهم يناضلون ويقاتلون أعداءهم أعداء الله وأعداء الإنسانية لتحقيق أهدافهم.

” فالقومة العربية لم تتشكل حديثاً او نتيجة تمازج قوميات أو أعراق، بل إن القومية العربية متفردة في كينونتها ووحيدة في ديمومتها، فاللغة العربية التي تعتبر الوِثاق الأكثر قوة بين أبناء الأمة هي ليست طارئة ولا مزيج أو خليط كما كثير من اللغات، ولكن اللغة العربية “التي جعلها الله سبحانه لغة أهل الجنة ولغة آدم أبو البشر ولغة رسالته الخالدة الخاتمة القرآن الكريم والدين الاسلامي الحنيف هي حقٌ مقدس باركته وأيدته وحمته كل قوانين وشرائع ومواثيق الأرض والسماء وهي من أقدم وأكرم وأعز اللغات وأغناها وأوسعها على الاطلاق.” ولم يغفل البعثُ عن المكون الأهم من مكونات الهوية القومية العربية وهو الجغرافيا،

فقد اعتبر البعثُ في أهم مبادئه أن الوطن العربي الممتد ما بين جبال طوروس وجبال بشتكويه والخليج العربي والبحر العربي وجبال الحبشة والصحراء الكبرى والمحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط هو حق مقدس للأمة العربية أقرته وباركته كل شرائع وقوانين ومواثيق السماء والأرض، والوطن العربي لدى البعث يمثل وحدةً سياسية واقتصادية وجغرافية وتاريخية وحضارية لا تتجزأ، والوطن العربي عند البعث هو وطن العرب وحدهم ولهم وحدهم حق التصرف بشؤونه وثرواته وإعماره وتطويره وحفظ سيادته واستقلاله وحريته. إن البعث يؤمن أن الأمة العربية التي خصها الله تعالى بخصال ومزايا وصفات خاصة لا تمتلكها أمة أخرى من أمم الأرض قادرةٌ على الإبداع والنهوض والتجدد والانبعاث من جديد،

فقد اختارها الله لتكون الأمة الأفضل والأمثل فقد جعلها الله تعالى خير أمة أخرجت للناس تسعى إلى خير الإنسانية وسعادة الإنسان. فالبعث يجسد كل هذه السمات والقدرات والقيم التي منحها الله للأمة العربية ويجسدها في فكره وعقيدته ومبادئه ومنظومة أخلاقه التي يدعو إليها، فالبعث يمثل كما قال الرفيق الشهيد عزة إبراهيم: “جوهر الأمة العربية وروحها، وهو المرآة التي تُرى فيها الأمة العربية على حقيقتها”. لقد فرَّق البعضُ بين القومية العربية والإسلام، فمنهم من اعتبر القومية العربية دون الإسلامية، وآخر يؤكد على الهوية الإسلامية دون القومية العربية، ولكن الذي يميز البعث في فكره كما في كلمة الرفيق الأمين العام للحزب هو التطابق بين الإسلام والعروبة.

إن القارئ المتابع لفكر البعث ولكلمات الرفيق الشهيد عزة إبراهيم يلاحظ أن القومية العربية على علاقة وطيدة بالإسلام قد تصل درجة التطابق، فالإسلام يمثل رابطة قومية حقيقة لسكان الوطن العربي، لأنه العقيدة بالنسبة إلى العرب المسلمين، وهو يشكل أيضاً ثقافة وتراث وحضارة إلى العرب المسيحيين، وهو ما يؤكده مؤسس البعث الأول الرفيق ميشيل عفلق. لقد أوضح الرفيق الشهيد المجاهد عزة إبراهيم في كل خطبه وكلماته التي وجهها للعرب وللرفاق البعثيين،

وبشكل جلي لا يقبل الشك، عمق البعدين العربي والإسلامي في إطار مفهوم الهوية، والأمة العربية تمر في عصرنا الراهن بمرحلة من التشظي والتفرقة على كافة الصُّعُد القطرية والطائفية والعشائرية فهي أحوج ما تكون للعودة إلى هويتها الأصيلة التي يمثلها البعث التي ركناها العروبة والإسلام. إن وضع الأمة العربية المتردي بعد هذه الفوضى والتدخل الإقليمي والدولي في شؤونها الداخلية واحتلال بعض البلدان العربية يجعلها بحاجة ماسة إلى حق تقرير مصيرها مجدداً، مما يتطلب منها التمسك بهويتها القومية العربية للنهوض والتخلص من قِوى الاحتلال وصد الأطماع الاستعمارية للغرب والشرق، إن التمسك بالقومية العربية لتحقيق النهوض الشامل لا يعني نبذ الفكر الديني، بل علينا التمسك بالقيم الدينية كخطوط عامة لكل التوجهات التحررية القادمة.

إن التنوع الثقافي والديني والقومي والمذهبي الذي يميز الوطن العربي ويميز مجتمعات أقطاره يدعونا إلى تبني فكر البعث في إعادة بعث الأمة ونهوضها من كبوتها لأنه الفكر الذي لا يميز بين الأفراد على أساس ديني أو مذهبي او مناطقي. إن اعتناق فكر البعث هو السبيل الوحيد للتخلص من الصراعات المذهبية التي فُرضت علينا بعد الاحتلال والتدخلات الخارجية والتي ما جلبت إلينا سوى الويلات والمصائب ولننعم بالسلام والأمان أسوة بدول العالم.  

 

* مرجعية المقال: خطاب الرفيق الأمين العام الشهيد المجاهد عزة إبراهيم في الذكرى الثالثة والسبعين لميلاد البعث العظيم.

مثقفو الأمة، واعتناق الفكر المقاوم!
مثقفو الأمة، واعتناق الفكر المقاوم!
ناصر الحريري  
“المقاومة بمفهومها العام هي ردّة فعلٍ واعية تبادر إليها قوى مجتمعية رداً على واقع غير مألوف ومرفوض في الوقت ذاته متمثلاً في الاحتلال المباشر وغير المباشر”. فهي إذاَ ردة فعلٍ مشروعة على فعلٍ غير مشروع مستمر بأوجهه المتعددة طالما لم يتم تغيير وتصحيح الواقع. إن ما تعرضت وتتعرض له أمتنا العربية من ويلات ونكبات واستعمار بكل أشكاله القديمة والحديثة أسهم في إنتاج الفعل المقاوم لكل أشكال الاحتلال والغزو، فكرياً وثقافياً واقتصادياً وعسكرياً. لا يمكن أن تتخيل شعباً من شعوب الأرض مرحباً بمن جاء محتلاً لأرضه وغاصباً لحقه، ولا يمكن أن تتخيل شعباً يستكين ويرضخ لمحتل يقتل ويدمر وطنه، فلا بد لأي محتل وغاصب أن يواجه غضب الشعب والأرض.  فالإيمان بقدرة الشعوب على تجسيد إرادتها أفعالاً، هو أساس الفعل المقاوم وضمانته لتحقيق النتائج على الأرض. وتعتبر الحاجة النابعة من ظروف المجتمع الذاتية وخصائصه المحلية هي العامل الرئيس لنشوء المقاومات الشعبية وليس بقرارات حكومية غير قادرة على تلبية طموحات وآمال الإرادة الشعبية.
إن ما تتعرض له الأمة العربية من استهداف استراتيجي دولي ذو طابع عدواني عزز ورسخ ثقافة المقاومة التي جاءت كضرورة ملحة رداً على هذا الاستهداف. إن تعزيز ثقافة المقاومة من الكلمة إلى الرصاصة مروراً بالأشكال الاقتصادية والثقافية والمجتمعية والفكرية والعسكرية كافة وصولاً حتى انتزاع الحق كاملاً وهزيمة كل أشكال الاحتلال والغزو. إن قدرة المقاومة على النجاح والتغيير يرتبط بدرجة احتضان المجتمع لها، وقدرته على استيعاب أهدافها والحرص على توفير متطلبات النجاح، وكذلك فإن الدعم المادي شرط أساسي لنجاح المقاومة فهي بحاجة للدواء والغذاء وغيرها..
كما لا بد للمقاومة من الارتباط بفكر يتناسب مع أهدافها ومبادئها، ويكون قادراً على قيادة الفعل المقاوم ضد الاحتلال وكل أشكال الغزو. إن الفعل المقاوم يقوم على مجموعة من الأسس الضرورية لنجاحه، فهو يحتاج لثقافة نضالية تبتعد عن العدوان، وتنشر قيم المحبة في المجتمع لا قيم الكراهية ولا تخاصمه أو تتهمه بالخيانة أو العمالة. كما أن هذه الثقافة تفرق بين السلام وبين الاستسلام، السلام الذي يترافق مع الحصول على كامل الحقوق، والتمسك بالثوابت الوطنية والقومية ولا تفرط بها ولا تساوم عليها. ثقافة متجددة خلاقة توسع رقعتها وتنضج عبر مراحل عدة، نفسياً وسياسياً وعسكرياً حتى تكون قادرة على الصمود والتصدي والتفاعل مع الواقع. إن المقاومة لا تبدأ إلا حين يدرك الفرد أو المجموعة للظروف المحيطة والإلمام بكافة تفاصيلها، والمعرفة الجيدة للعدو وطرق عمله وخططه الاستراتيجية القريبة والبعيدة المدى. إن إدراك ومعرفة أهداف العدو وأساليبه في الحرب العسكرية والنفسيَّة من أهم عناصر المقاومة لهذه الحرب، وتعتبر الحرب النفسية من أهم الحروب التي تخوضها أي مقاومة لذلك فإن كل مقاوم مطالب أن يكون واعياً ومدركاً لكثير من الأمور حتى لا يتم تضليله وخداعه. وهذا الوعي يجعل المقاوم مستعدًّا استعدادًا نفسيًّا لمواجهة الحرب النفسية، وعدم الاستجابة لها والتأثر بها، وخاصة إذا كان يتمتع بالمعرفة والوعي والإيمان القوي بقضيته والعقيدة الراسخة التي تمنحه القدرة على الثبات.
إن وعي المقاومة فكرياً وعملياً هو العنصر الأكثر تأثيراً في تحقيق النصر وهو الأساس الذي يبنى عليه مواجهة هذه المشاريع، فصياغة مفهوم موحد وبأساليب متعددة ومتكاملة إضافة للممارسة العملية سواء بالكلمة أو السلاح هو السبيل الوحيد لترسيخ مفهوم وفعل المقاومة وقدرتها على التصدي للمشاريع التي تسعى للنيل من الأمة.  إن المثقف العربي يواجه في خضم دوره في المجتمع تحدياً كبيراً يضعه في الواجهة، ويتطلب منه القدرة على طرح الحقيقة والتعبير عن الرأي الحر وإعلاء الحق في ظل سيادة أوساط مشبوهة. إن المرحلة التي تمر بها الأمة لا مكان فيها للميوعة الثقافية، ولا لأشباه المثقفين فإما التواجد في الصفوف الأولى للمقاومة الثقافية أو عدمه. تتطلب هذه المقاربة إطلاق كامل الطاقات الفكرية والثقافية للدفاع عن الحرية والاستقلال والكرامة الوطنية والقومية، وحماية مقدرات الأمة.
تتطلب ثقافة ترتقي لطموحات الشعب وآماله وأحلامه، وهي الارتقاء بالوعي الجمعي وحماية روح الأمة، وحماية الشعب من الانزلاق في هاوية الضياع والتشويه. فإما أن تكون الثقافة هي ثقافة مقاومة بالمعنى الكلي للكلمة وفي كل ميادين الفعل الاجتماعي أو لا تكون. فالمثقف الحقيقي هو الذي يحمل روحه قبل قلمه ليدافع عن الأمة ويتصدى للقهر والهيمنة، فإن لم يكن كذلك، فليتنحى جانباً وينتقل بكل وضوح للضفة الأخرى.

الإعلام العربي ومسؤولية كشف الحقائق

الإعلام العربي ومسؤولية كشف الحقائق

ناصر الحريري  

 

أصبح الإعلامُ الناقلُ للأخبار والمعلومات والحدث عنصراً مهماً جداً في صناعة الحدث، وذلك من خلال قيامه بدور أساسي في صياغة الصورة الذهنية للمتلقي، والمحرك الأساسي للسياسات العامة، ما يعني أن الإعلام يقوم بدور فعال في صنعة وتشكيل صورة الحدث وتأثيراته على الرأي العام، لأنه تجاوز مرحلة توصيف الحدث إلى مرحلة رصد التحولات والتركيز على تحليلها، ويركزُ على نقد السلبيات، وتحويل الحقائق لتكون ملائمة لتوجهات أصحاب القرار السياسي الذي يعبرُ هذا الإعلام عنه وينطقُ باسمه. في هذه الحالة يُخرجُ الإعلامُ الحدثَ عن الواقع الموضوعي،

ما يجعله شريكاً أساسياً في صناعة الأحداث والتحكم في تطورها من خلال ما يوفره من معلومات تحدث تأثيراً على مجريات الأحداث، خاصة أن أدوات الإعلام المتقدمة جعلت الاهتمام الشعبي يزداد بها نظراً لدورها في بث المعلومات والأحداث التي تتعلق بالشؤون العامة والقضايا السياسية والقرارات ذات التأثير الكبير والحيوي في الحياة اليومية للناس اللذين تكونت لديهم مفاهيم ومواقف ترتبط ارتباطاً مباشراً بالصورة المنقولة عبر الفضائيات، التي تعتبر هي الأداة الأكثر تأثيراً من حيث إنها تقوم بنشر المعلومة والفكرة والخبر والثقافات وما يتعلق بالحضارة،

وكذلك تجعل الصلة وثيقة بين الجهة الناقلة أو الناشر والمتلقي، وتحاول من خلال ذلك تسويق أهدافها السياسية والثقافية والاجتماعية، كما تعمل على تعبئة الجهة المتلقية في الاتجاه الذي يخدم مصالحها، سواء أكانت هذه المصالح إيجابية بالنسبة للجهة المتلقية أم سلبية نظراً لأنها تروج مفاهيمها بشكل مستمر مما يبقى قطاعاً واسعاً من هؤلاء مرتبطاً بها. فحين يتم نشر ثقافة قائمة على القيم الإنسانية والأخلاقية النبيلة فإن النتائج ستكون إيجابية، ويكون الإعلام في هذه الحالة موضوعياً وسليماً وأكثر فعالية، لأنه ينشر ويحقق القواعد الأخلاقية للعمل الإعلامي بعيداً عن التزوير والتحريض والحملات المغرضة المخطط لها والتي تستهدف تشويه الصورة عند الناس.

لننتقل من العموميات إلى التخصيص، أي ما يتعلق بالأحداث التي تجري على الساحة العربية، فإن الإعلام يكون صادقاً وسليماً وموضوعياً حين يُمكِّن العرب من نشر ونقل كل ما يجسد قضايا الأمة في مختلف المجالات، السياسية والروحية والثقافية والقومية والتراثية والحضارية، و يتصدى للإعلام المعادي الذي يشوه صورة العرب وقيمهم الحضارية، ويعمل على بثّ الفرقة والفتنة بين أبناء الشعب الواحد، مثلما يعمل على إيصال صورة مشوهة عن الأحداث التي تجري في الوطن العربي بما يخدم مصالحه، وبكل أسف هناك أيضاً فضائيات عربية وأفلام إعلانية عربية وأقلام تصب في ذات الاتجاه لاسيما أولئك الذين يحرضون بما يسهم في توتير وتسميم الأجواء في هذا القطر العربي أو ذاك مما يعرضه إلى عدم الاستقرار ويصيبه في اقتصاده وقد تصل الأمور إلى سفك دماء أبنائه. فالإعلام العربي بكل وسائله المقروءة والمسموعة والمرئية يتحمل مسؤولية كبرى في توعية المواطن العربي بالمسارات الموضوعية للأحداث العربية والتوجيه السليم للمواطنين العرب عبر وضعهم في الصورة الحقيقية للحدث ونتائجه وانعكاساته، مثلما يتطلب من هذه الوسائل أيضاً نقل صورة الحدث إلى العالم وهذه مهمة أساسية للإعلام العربي، عليه القيام بها، وتتعلق بإيصال قضايا الأمة العادلة إلى الرأي العام الدولي ويأتي في مقدمتها قضايا التحرر الوطني والقومي، وفي مقدمتها قضية الصراع العربي الصهيوني، والاحتلال الإيراني لعدد من الأقطار العربية، وسعيها الحثيث لبث روح لتفرقة ولتجزئة والطائفية، وتهدد الأمن والاستقرار في منطقة هي من أكثر المناطق في العالم حساسية وأهمية، مثلما يتوجب على وسائل الإعلام العربية الدفع باتجاه التحرر من التبعية وبناء الدولة القومية، وهذه مهمة تاريخية يتوجب على الإعلام العربي العمل على تنفيذها، من خلال البث المستمر الذي يتولى التأكيد على مصالح الأمة العربية العليا ويمارس تأثيره التعبوي على الجماهير العربية في هذا الاتجاه، ويتصدى للرد وتفنيد ما يصدر عن وسائل الإعلام المعادية للعرب. قد يقول قائل إن الإعلام الغربي يتفوق بأدواته وإمكاناته، فإن ردنا على ذلك، نعم إن الإعلام الغربي يتفوق على الإعلام العربي،

ولكن يجب أن يكون ذلك حافزاً لتطوير قدرات الإعلام العربي والذي يجب ألَّا ينخرط في ترويج أهداف الإعلام الغربي مثلما يحصل أحياناً، ونحن في هذا الحال لا نظلم ولكن نشير إلى أمور واقعة، بخاصة فيما يتعلق بالأحداث الجارية في العراق وسورية واليمن ولبنان. إننا نؤكد على أن تكون رسالة الإعلام العربي هدفها إبراز الحقيقة، ومخاطبة الرأي العام الوطني والقومي والعالمي بلغة العصر، وإيصال ما هو حقيقي وسليم، كما أن عليه أن يقف لخدمة القضايا العربية العادلة للأمة.

فلسطين… مسيرة نضال البعث
فلسطين… مسيرة نضال البعث
ناصر الحريري  
يتميز حزب البعث العربي الاشتراكي بالثبات المطلق في مواقفه من قضية الصراع مع العدو الصهيوني، منذ فكرة تأسيس حزب البعث وقبل انعقاد المؤتمر الأول، وكانت مواقفه واضحة جلية عبر قرارات مؤتمراته وبياناته وأدبياته على امتداد تاريخه النضالي، وهو متمسك بحق العرب كأمة في استعادة الأرض المحتلة كلها، بما فيها فلسطين، ومتمسك باسترداد الحقوق العربية التي سُلبت، وأقرتها المواثيق والعهود والقرارات الدولية منذ بداية الصراع العربي الصهيوني وحتى يومنا هذا. فمسيرة الحزب التي شارفت على عامها الثامن والسبعين لم تغفل في أدبياتها وبياناتها وممارستها ونضالها القضية الفلسطينية والنضال العربي لأجلها، فكفاح البعث من أجل فلسطين كفاحاً نضالياً مستمراً حتى اللحظة، فتناوله يحتاج منا آلاف الصفحات، ولضيق المساحة في النشر فقد حاولت الاختصار قدر الإمكان،
منذ ما قبل التأسيس حتى ستينيات القرن الماضي. أولاً: القضية الفلسطينية قضية العرب الأولى، (قضية قومية في عقيدة البعث) حزب البعث العربي الاشتراكي ومنذ نشأته في بداية أربعينيات القرن الماضي، وبعد انعقاد مؤتمر الأول في نيسان 1947م، وبعد انتشار الحزب في سوريا والعراق ولبنان والأردن، ركز في ميثاقه على عقيدة عربية شاملة، تستبعد أي انتماء إلى وحدات قبلية أو دينية، وكان من أسباب انتشاره توجهه لجيل الشباب، والدعوة إلى الوحدة العربية. لم تغب قضية الأمة الأولى عن اهتمام الحزب منذ أيامه الأولى، مبيناً خطورة وعدوانية الكيان الصهيوني الجاثم على أرض فلسطين، وأهمية فلسطين في الجغرافية السياسية للمنطقة، فكان الحزب دائماً من يرسل الرسائل ويقود التظاهرات وينشر في صحفه كل ما يتعلق بفلسطين. ففي رسالة مؤرخة بتاريخ 10-4-1944 وجه حزب البعث إلى المعتمد السياسي الأمريكي في سورية انتقاداً لقرار الحزب الديمقراطي الأمريكي بشأن فتح باب الهجرة اليهودية إلى فلسطين، واعتبارها وطناً قومياً لليهود، كما أرسلت قيادة الحزب بتاريخ 23-3-1945 رسالة إلى الوزير الأمريكي المفوض في سورية، استنكرت نية الرئيس روزفلت فتح أبواب الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وذَكَّرت قيادة الحزب بمبادئ ويلسون الأربعة عشر، التي أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية الحرب في سبيلها. وفي 8-5-1946 أصدر الحزب بياناً بعد تحقيق استقلال سوريا، جاء تحت عنوان: (لتكن نصرة فلسطين أول امتحان لاستقلالنا) دعا من خلاله الشعب العربي للإضراب حتى يسمع العالم صوت العرب، وأن الدماء التي تسيل في فلسطين عزيزة، وأن النضال العربي من أجل فلسطين سوف يتسع ويزداد تأججاً. لقد أيقن الحزب ومنذ 1946 أن فلسطين لا تنقذها الحكومات، بل الكفاح المسلح هو الكفيل باستعادتها، لأن القضية الفلسطينية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمعركة القومية العربية ضد الاستعمار وضد مكوناته وعملائه.. وحين صدر قرار التقسيم عن الأمم المتحدة في 29-11-1947 بَيَّنَ الحزب أن الحلم العربي بالوحدة أصبح مهدداً، لأن استقلال الأقطار العربية نفسه مهدداً، وهو ما نلاحظه اليوم فيما يجري في الأقطار العربية، لأن برنامج اليهود في فلسطين هو الجسر الذي يعبرون من خلاله إلى باقي الأقطار، وهو مرتكز لتأسيس وطن يهودي لا يقف عن حدود. وفي بيانه المؤرخ 2-12-1947 المعنون (دقت ساعة الفصل، ولن تنقذ فلسطين إلا بالحديد والنار)، طالب الحزب في بيانه القادرون على حمل السلاح إلى التطوع في كتائب تحرير فلسطين، كما دعا في بيان بتاريخ 21-12-1947 إلى تنظيم الشعب وتسليحه، وتسليح مجاهدي فلسطين، كما دعا إلى إنشاء فرق متطوعين من جميع الأقطار العربية، واتخاذ تدابير تهدد مصالح الغرب الاستعماري في المنطقة العربية. وفي جلسة عقدها الحزب بتاريخ 19-9-1947 قرر وضع نفسه في طليعة كتائب الجهاد لإنقاذ فلسطين، ودعا الهيئات العربية ذات الصفة الشعبية النضالية إلى توحيد الخطط والجهود، وتحملها مسؤولية قيادة هذه المعركة الفاصلة، وإيصالنا إلى النصر، وإنقاذ فلسطين من الخطر الصهيوني. وفي تاريخ 16-1-1948 اتخذ الحزب قراراً بتجنيد جميع أعضائه للاشتراك بالمجهود الحربي، بعد إنشائه ” مكتب فلسطين الدائم”. رغم مرور عام واحد على تأسيس البعث، ونضاله من أجل فلسطين لم يتوقف، ولكنه لا يستطيع التأثير على موازين القوى السياسية العربية تأثيراً فاعلاً، خلال هذه الفترة من عمر تأسيسه، ولكن استطاع أن يكون من منطلق الفكري النضالي الصوتَ العقائدي الوحدوي في وجه المؤامرة، ولم يتوقف الحزب في دعوة الحكومات العربية التي اتهمها في بياناته بالتهاون بشأن الفضية الفلسطينية، دعا إلى تسليح عرب فلسطين، وتجنيد الطاقات العربية كلها من أجل تحريرها. كما طالب الشعب العربي بالضغط على حكوماته، لحشد كل الطاقات المالية والعسكرية والبشرية من أجل فلسطين. وفي 29-12-1950 انبثقت عن الحزب (مركزية فلسطين)، وطالب بالنضال من أجل إبقاء القضية قائمة إلى أن يصل العرب إلى حقوقهم القومية، وأن فلسطين لن تجد حلها النهائي إلا على يد حكم شعبي متحرر قوي، لأن نظام الحكم الرجعي القائم عاجز عن تحرير فلسطين، إن المحاولات الفردية لن تجدي نفعاً، بل تزيد المطامع الصهيونية في البلاد العربية. وفي عام 1956 أصدرت القيادة القومية للحزب بياناً تضمن مجموعة من المشكلات التي تواجه الوطن العربي، وفيما يتعلق بفلسطين جاء ما يلي: -يقرر حزبنا أن الصهيونية حركة استعمارية غازية، تهدد الكيان القومي العربي، وأن “إسرائيل” هي التجسيد السياسي لهذه الحركة، ولذلك فإن الحل الوحيد للقضية الفلسطينية هو في القضاء على “اسرائيل” والصهيونية، واسترداد الوطن السليب. – يقرر الحزب أن الاستعمار الغربي والصهيونية في الوطن العربي متلازمان متشابكان. ثانياً: حزب البعث العربي الاشتراكي والنضال العربي من أجل فلسطين: في بداية الستينات انتقل الحزب من مرحلة ما يمكن تسميته “مرحلة الشعارات” إلى الدعوة لتأليف جبهة شعبية فلسطينية، وبالفعل فقد تبنى ذلك المؤتمر القومي الرابع في آب 1960م وأرسل برقية على مؤتمر وزراء الخارجية العرب بتاريخ 31-1-1961م أكد فيها على ما تبناه الحزب في مؤتمره القومي. ودعا الحزب على عقد مؤتمر في العاصمة اللبنانية بيروت، ضم ممثلين عن الرفاق البعثيين في التنظيمات الفلسطينية داخل وخارج الوطن العربي، لمحاولة توحيد الجهود وبحث سبل مكافحة الكيان الصهيوني. وبعد انفصال الوحدة بين سوريا ومصر، أعاد الحزب نشاطه وبقوة في المسألة الفلسطينية، فوضع الأسس النظرية للتحرك باتجاه إنشاء كيان فلسطيني، كما تضمن التقرير الذي أصدره الحزب تصوراً لاستراتيجية العمل الفلسطيني، كما اقترح إنشاء “حركة تحرير فلسطين”، وإعداد نظام أساسي لها، وحدد فكرة العمل الثوري لتحرير فلسطين ضمن:
–     مرحلة الإعداد النفسي.
–     مرحلة تهيئة ظروف الثورة.
–     مرحلة البدء بالثورة.
 كما استند حزب البعث العربي الاشتراكي إلى المبادئ التالية:
–     تحرير فلسطين، هي جزء من معركة المصير الواحد والمشترك للأمة العربية.
–     شعب فلسطين مسؤول عن معركته.
–     الطريق السليم للنضال من أجل التحرير هو التنظيم الشعبي.
–     عدم الاعتراف بالكيان الصهيوني، ورفض التنازل عن أي حق من حقوق الأمة.

 

شباب ومجاهدو فلسطين إعلان بعث الأمة

شباب ومجاهدو فلسطين إعلان بعث الأمة

ناصر الحريري  

الأمم الحية لا تموت، ولا تنكسر، قد يعتريها بعض الفتور والغفلة، نتيجة تراكمات أصابتها، وأعداء نصبوا لها المكائد فأوقعوها في متاهة آنية لا يمكن أن تدوم لأنها تمتلك القدرة على التجدد والانبعاث، والأمة العربية هي أمة حية متجددة يشهد تاريخها المجيد على قدرتها على الانبعاث من وسط الركام والمواجهة بكل عنفوان وإصرار. شكك الظلاميون كثيراً بقدرة الشباب العربي على مواجهة القوى الاستعمارية المتعددة الألوان التي تحيك المؤامرات ضد الأمة العربية، أحد وسائل الظلاميين للتقليل من أهمية وقدرة الشباب العربي هو تشويه تاريخ الأمة واستلاب البعد القومي من تاريخها المشرف،

فبعد انتهاء الاستعمار المباشر لأقطار الأمة العربية الذي جاء أعقاب اتفاقيتي سايكس بيكو وسان ريمون، أصبحت أقطار الأمة العربية  تابعة بشكل مباشر أو غير مباشر للاستعمار والامبريالية العالمية، ونُصّب على هذه البلدان حكاماً الغاية من وجودهم المحافظة على الولاء للأجنبي، والعمل على تكريس التجزئة القومية، وينمون مفهوم الانتماء القطري، ويحاربون أيَّ تقارب يحمل البعد القومي.

واليوم يقف شباب الأمة العربية وجهاً لوجه في مواجهة الظواهر الاستعمارية المتعددة الوجوه والألوان، بشكلها الإرهابي الجديد، ما يؤشر على أن الأمة حتى الآن في خضم المعركة الكبرى في تاريخها، لتثبت للعالم أنها الأمة الحية المتجددة التي وإن تكالبت عليها كل قُوى الطغيان في العالم ستبقى حية لا ترضى الخنوع للاستعمار مهما تعددت أشكاله. إن الفكر القومي العربي يعي تماماً أن الأمة العربية تواجه منذ قرون عدة ما يمكن تسميته بالظاهرة العدوانية الاستعمارية، وأن صفة هذه الظاهرة هي الاستمرارية والعدائية المفرطة للأمة وشعبها وتاريخها.

لقد أيقنت الأمة العربية أن قدرها هو مواجهة هذه الظاهرة بثبات راسخ لا يحيد عن الثوابت القومية التي آمنت بها جماهير الأمة العربية على مدى تاريخها الطويل. لقد أيقن العرب أن ما حدث لهم بعد 2003 هو حلقة مستمرة من حلقات التآمر على الأمة وكبح جماح نهضتها وقدرتها على النهوض والتقدم، فكان احتلال العراق وتدميره لقطع كل صلات الوصل بين الأمة وقضيتها التي دافع عنها العراق بكل ثبات وقوة وهي قضية فلسطين، القضية الباقية في ضمير ووجدان كل العرب.

إن تعدد الأدوار وتوزيعها بين القُوى الاستعمارية هو صيغة من صيغ التحالف ضد الأمة والتآمر عليها، فالصهيونية العالمية والامبريالية الأمريكية أطلقت يد الصهاينة في فلسطين كما أطلقت يد الفرس المجوس في العراق وبعض الأقطار العربية، لتمهد للقضاء على أي بقعة عربية تقف ضد مصالح ومطامع الغرب والامبريالية العالمية في المنطقة العربية،

فاستبد الطغاةُ وأجرموا بحق الشعب العربي والأمة، فحاولوا بكل وسائلهم من طمس هويتها العربية القومية، وهو ما يشترك به الاحتلالين الصهيوني والفارسي. لقد حاولت الصهيونية على مدى ستة قرون أن تطمس الهوية العربية في فلسطين وتهجر أهلها، كما حاولت الفارسية المجوسية في العراق وسوريا ولبنان واليمن، حيث دمرت المجوسية الكثير من القيم والمبادئ وشوهت الكثير من الأخلاق العربية ودمرت النسيج الاجتماعي العربي العراقي ونشرت طائفيتها المقيتة لتفريغ العراق من القيم والمبادئ والأخلاق وجره في ركب إيران المجوسية. لقد أثبت شباب فلسطين أن كل المحاولات الهادفة إلى تدميره والقضاء عليه ستبوء بالفشل، وأن الأمة العربية ما زالت قادرة على أن تنجب أبطالاً مقاومين ثواراً مناضلين. إن طوفان الأقصى سطرٌ في صفحةٍ من سجل النضال الفلسطيني ضد الاحتلال الصهيوني وما هي دليل لا يقبل الشك أن الأمة العربية حية متجددة لا يمكن أن تسكت على ضيم أو ترضى بظلم. لقد منح شباب ومجاهدو فلسطين الأمةَ العربية الأملَ بغدٍ مشرق عروبي ناصع، كما أثبتوا أن الحق العربي في فلسطين لا يمكن أن يندثر أو يتلاشى على يد حفنة من شذاذ الآفاق الصهاينة المجرمين.

لقد حاولت الامبريالية العالمية ومعها الصهيونية العالمية وتوابعهم أن تطمس الحق العربي المشروع في فلسطين، من خلال مشروعهم الخبيث الذي بدأ أوائل القرن العشرين واستمر حتى تكلل باحتلال العراق مروراً بمعاهدات التطبيع، وصولاً إلى غايتهم الكبرى في الاعتراف بالكيان الصهيوني وإجهاض القضية الفلسطينية.

لقد حاولوا القضاء على كل أشكال الرفض لهذا المخطط اللعين، ولكنهم جوبهوا بثورات عربية امتدت من أقصى الأمة إلى أقصاها، ترفض كل أشكال التدخل والاحتلال وأي مشروع يمس الهوية القومية للأمة أو يحاول القضاء على أي من عوامل وجودها وثباتها.

إن ما يحدث في فلسطين يترجم بصدق وعفوية طموح وتطلعات الشعب العربي وتوقه للحرية والاستقلال وسعيه الدؤوب لاستعادة الكرامة العربية التي صادرتها القُوى الشريرة في العالم. إن ما يخوضه الفلسطينيون من مواجهات وتحديات هو استمرار لمعركة الكرامة والشرف التي تخوضها الأمة العربية بأسرها، يسطّرون من خلالها في صفحات التاريخ أسمى معاني النضال والتضحيات دون تراجع أو انكسار، وكل يوم يحققون الانتصار تلو الانتصار، وأثبتوا أنهم ندّ حقيقي في وجه المخططات الصهيو_أمريكية، ففشلت بالمقابل كل محاولات التهديد والإرهاب لإرغامهم على التراجع؛ بل إن صمود وإصرار الفلسطينيين وثباتهم على مواقفهم ومواجهتهم الاحتلال حركت المياه الراكدة في جماهير الأمة العربية. إن ما يفعله الشعب العربي في فلسطين يعيد لتاريخ الأمة ألقه ولتصبح الأمة أكثر قوة وشكيمة لتستعيد ما فقدته بعد 2003، وما كان هذا ليحدث لولا بسالة وعنفوان شباب ومجاهدي فلسطين، وثبات جماهير الأمة والوقوف خلفهما. هذا الثبات والصمود في فلسطين يعد بمثابة فتح جديد لكل الشعوب المضطهدة لتنهض من عثرتها لمواجهة كل أشكال الخضوع والاستسلام والتسلط على الرقاب وكنسها ورميها في مزبلة التاريخ. ولكل المشككين بقدرة أبطال فلسطين،

ولكل المطبلين للاحتلال الصهيوني للأمة نقول:

أَيُّها المُتَلَوِّنونَ حِقْداً، والنَّافِثُونَ سُمَّاً يَقْطُرُ مِنْ أَفْعَالِكُم قَذارَةً، يَكْفِيكُم تَطَاوُلاً وتَجَاوُزاً عَلَى الُمجَاهِدين المُنَاضِلينَ فِي فِلَسطِين، الَّذينَ يُواجِهُونَ فِي سَاحَاتِ العِزِّ أَعْدَاءَ الأُمَّة. نَعَم أَعْدَاءَ الأُمَّةِ، لِأَنَّهُم يَتَصَدُّونَ بِسِلْمِيَّتِهِم لِلصُّهيونِيَّةِ الَّتي تُنفذُ مُخَطَّطاً خَبِيثاً يَسْتَهْدِفُ كَيْنُونَةَ وَوُجُودَ الأُمَّة. كَفَاكُم تَضْلِيلاً وافتِرَاءً وكَذِباً، فَأَنْتُم لا تَسْتَهْدِفُونَ المُجَاهِدينَ في غزة وعموم فلسطين فَحَسْب، بَلْ تَسْتَهْدِفُونَ الوَطَنَ، وَمَا يُمَثِّلُه مِنْ قِيَمِ الكَرَامَةِ وَالعِزَّةِ والشُّمُوخ. إِنَّ مَا تُوَجِّهُونَ بِهِ تَابِعِيكُم المُضَلَّلِينَ لَا يَمُتُّ إِلَى القِيَمِ الإِنْسَانِيَّةِ وَأَنْمَاطِ السُّلُوكِ البَشَرِي بِصِلَةٍ. تَعْلَمُونَ أَنَّكُم خَدَمٌ أَذِلَّاءَ لِعَدُوٍّ لَا يَرى فِيكُم إِلَّا أَدَاةً لِتَنْفِيذِ مُخَطَّطِهِ الخَبِيث. أَيُّها التَّائِهُونَ فِي بَحْرِ العَمَالَةِ، إِنَّ مَنَافِعَكُم مُلَطَّخَةٌ بِالدَّمِ، مَغْمُوسَةٌ بِتَظَلُّمٍ قَدَّمَتْهُ أُمُّ شَهِيدٍ بَيْنَ يَدَي الله، وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون. هَلْ تَظُنُّونَ حَقّاً أَنَّكُم تَسْتَهْدِفُونَ-بِغَبَائِكُم وطَيْشِكُم وجَبَرُوتِكُم-الشَّبابَ المُجَاهِدِين، إِنَّكُم أَيُّها المُغيَّبُونَ تَسْتَهْدِفُونَ الوَطَنَ، لِأَنَّ مُجَاهِدُو غَزَّةَ مَا خَرَجُوا تَرَفاً ولا بَطَراً، وَإِنَّما خَرَجُوا لاستِعَادَةِ الوَطَنِ وتَحْرِيرِه، واسْتِعَادَةِ الكَرَامَةَ لِكُلِّ عَرَبِيٍّ شَرِيف.