شبكة ذي قار
في سبيل البعث الجزء الأول- طموح البعث

في سبيل البعث

الجزء الأول

طموح البعث

المعرفة لا تكون صحيحة الا اذا امتحنت بالعمل، فالعمل يغنيها ويصححها. ان نضال الأمة العربية نضال طويل لم يبتدئ مع حركة البعث ولن ينتهي معها. وكل ما في الامر ان هذه الحركة خرجت من حاجات امتنا في مرحلة معينة لتستفيد من التجارب السابقة، ولترفع مستوى النضال إلى الحد الذي يتكافأ مع عظم قضيتنا وعظم أهدافها ومع عظم الاخطار المحدقة بها، ومع روح هذا العصر، فكانت محاولة صادقة نرى اليوم أنها أثمرت بعض الثمار.

ان طموحنا كبير، طموحنا هو طموح الانسان وطموح كل شعب اصيل شاعر بشخصيته مقدر لمعنى وجوده الانساني، طموحنا لا يقتصر على دفع الاخطار والتخلص من الاعداء ومن ظلمهم الذي لحق بنا زمنا طويلا. طموحنا لا يقف عند حدود السلبية والرفض والتخلص وانما هو في أعماقه طموح ايجابي بناء في أن نعمل وان نسترجع من جديد تجاوبنا الصادق مع الحياة، وان تساهم في بناء الحضارة ونساهم في اخصاب القيم الانسانية وفي الدفاع عنها وفي تجسيدها تجسيدا صادقا في حياتنا وسلوكنا.

عندما طلع علينا الاستعمار مؤخرا بنظرية الفراغ، قائلا ان بلادنا فيها فراغ يستدعي ان يملأ بالاستعمار والاحتلال، خطر لي -بالمقارنة- ان الفراغ قائم فعلا ولكن ليس في شعبنا وبلادنا، وانما في هذا القسم من العالم الذي مسخ القيم وزيفها ووصل في النفاق الى حد التناقض مع ما يدعيه من مبادئ. ويخطر لي دوما ان ثمة في العالم فراغا مخيفا، ولا يستبعد أن تكون أمتنا من بين الأمم التي ستطالب بأن تملأ هذا الفراغ في وقت أقصر مما نظن. ان حضارة المستعمرين تنذر بالانهيار والفشل طالما انها تتجنى على الشعوب الضعيفة مثل هذا التجني، وتغالط وتكاد لا تعرف أنها تغالط، أي ان الزيف امتزج في نفوسها واذهانها إلى حد انه اصبح طبيعيا فيها ومن صميم مفاهيمها. من يعيد الى هذه القيم التي أفرغت من معناها ومحتواها في الغرب.. من يعيد اليها الحياة والدم الا الشعوب التي عانت الظلم، وعانت تجربة الألم الى الأعماق؟ فكأن القدر يهيؤها لان تحتل مكانها قريبا وان تكافأ على آلامها بأن تظهر هذه المبادئ والقيم الخالدة التي لا غنى للانسان عنها، والتي لا تستقيم بدونها الحياة. لعل القدر يهيئ شعوب افريقيا وآسيا وكل الذين عانوا الظلم الخارجي والداخلي، ان يخرجوا من هذه التجربة بثمرة يانعة لا تقتصر فائدتها عليهم فحسب، وانما تشع على الانسانية كلها. لذلك قلت ان طموحنا لا يقف عند حد اخراج المستعمرين من أرضنا، وايقاف المستغلين في الداخل عند حدودهم، ولا يتوقف عند حد تأمين الحرية والرخاء للشعب، وانما هي كلها وسائل لكي تنطلق عبقرية هذه الامة نحو الابداع، نحو المساهمة الجدية في حمل الاعباء الانسانية.

وهذا في الواقع ما كان ينفرنا من الحركات الوطنية السابقة. وهذا ما أشعرنا بأن ثمة واجبا علينا وان ثمة مهمة جديدة لنا، فأنتم تعرفون في أي مستوى كانت تحيا وتعمل الحركات في مختلف اقطارنا العربية، في أي مستوى مقلد سطحي سلبي.

يأخذون على الاستعمار أشياء كانوا هم أنفسهم يرتكبونها يوميا، ينادون بالحرية لا ايمانا منهم بالحرية ولكن دفعا لتهمة الغرب الموجهة الينا باننا لا نقدر معنى الحرية، ينادون بالمساواة والرقي وغير ذلك لا عن قناعة، ولا عن معاناة وتجربة عميقة لهذه الأشياء، وانما في المظهر والاعلان لدفع التهمة. اذن لم تكن تلك الحركات اصيلة، لم تكن تنبع من الشعب، ولم تكن تعبر عن حقيقته وامكانياته لأنها لم تكن تعتمد عليه ولا تثق به.

ولعلكم سمعتم أكثر من مرة أولئك الزعماء والسياسيين في أحاديثهم الخاصة: “الشعب لا يفهم، لا يعي، لا يقدر”، وفي خطبهم يشيدون به ويمتدحون فضائله ويستغلون غروره.

الثقة الحقيقية بالشعب هي أعمق من تلك، تبدأ بالصدق، أي ان يكون المناضلون صادقين في عملهم وواثقين من أنفسهم، وبعد ذلك لا بد أن يكسبوا ثقة الشعب لان امكانيات شعبنا غزيرة وعميقة، ولكن اكثرها دفين ومغمور.

كنا اذن نشعر بأن مرحلة جديدة يجب ان تبدأ، وان تظهر فيها الامة العربية على مستوى جديد غير المستوى السلبي الذي كانت عليه في الماضي، غير مستوى التشكي والتظلم والمواربة والتستر بعناوين المبادئ لكي ترفع عنها التهم الموجهة اليها من الاعداء. مرحلة جديدة تقف فيها أمتنا لتواجه مصيرها وجها لوجه.. تواجه حقيقتها بصراحة وجرأة، ولا تعبأ باستعمار ولا أجنبي. الأصل انها موجودة، ولكن تريد ان يكون وجودها صادقا وعميقا، و لا تتلكأ عن رؤية أخطائها ونواقصها لأن هذا أول دليل على نضجها وبلوغها سن الرشد. والواقع ان المرحلة الجديدة التي بدأناها لم تغفل قيمة الشعب في خوض المعركة ضد الاستعمار، فقد وجهنا انظار الشعب إلى نفسه وإلى أمراضه. و هذا تشجيع للشعب وثقة فيه لم تكن الحركات السابقة تجرؤ عليها، بل كانت تداريه وتداجيه. لذلك لم يكن يثق بها ولم يكن يمشي وراءها الى آخر الطريق.

أما مرحلتنا فكانت تنظر الى الاستعمار بأنه نتيجة اكثر منه سببا، نتيجة لما يشوب مجتمعنا من نقص ومن تشويه. وأعتقد بأن هذا ما يجب ان نلح عليه وأن نزداد جرأة في المضي فيه، وأن نعتبر اننا دخلنا النطاق العالمي، ونقوم بدورنا الذي تجاوز حدود وطننا وحدود قوميتنا، وانه يجب ان نواجه هذا المستقبل الايجابي بثقة وتفاؤل واقدام. قد يبدو لكم كل ذلك الآن شيئا طبيعيا وسهلا يسيرا، ولكن عندما بدأنا حركتنا قبل خمسة عشر عاما كانت هذه اللغة صعبة الفهم وصعبة التقبل، لان الجو الذي خلقته الحركات السابقة التي قامت على الهواة والمحترفين، وعلى المترفين الذين كانوا يتسلون بالسياسة لا على المناضلين الصادقين، كان جوا مزيفا حجب عن الشعب حقيقة قضيته، فلم يكونوا يريدون أن يسمعوا ان قضيتنا مرتبطة بقضية الانسانية كلها. ولم يكونوا يتقبلون ان تكون مرحلة نضالنا ضد الاستعمار مرتبطة بالنضال الاشتراكي في الداخل، ولم يكونوا يفهمون ويستسيغون أن قضيتنا في كل الاقطار العربية هي قضية واحدة، ويجب توحيد النضال، وأن تنسجم خطوطه، وأن التجزئة التي فرضت على بلادنا هي مصطنعة وعارضة، وأن في أعماق الشعب ما هو كفيل بأن يجلو الصدأ ويزيل الزيف ويظهر حقيقة أمتنا وأنها أمة واحدة. وها نحن بدأنا نشاهد الصدأ يجلى والحقيقة يبرز وجهها ناصعا، عندما اتخذت مصر طريقها السوي إلى العروبة بعد أن كانت مضللة مدة طويلة، وكادت تفقد بذلك حركة النضال العربي اكبر وزن واكبر ثقل. هذا الذي يراه الكثيرون وكان يراه الساسة القدماء كمعجزة ليس لها تفسير، كنا نؤمن بأنه آت لا ريب فيه، وان حقيقة مصر العربية ستظهر في يوم من الأيام.

تسمعون أيضا اصواتا ناشزة تقول: ان ما حصل الآن من ائتلاف وتقارب بين أجزاء الأمة العربية هو شيء حسن ولكنه ليس شيئا اصيلا وليس شيئا محتما وأن ظروفا معينة اقتضته، هي ظروف الكفاح ضد الاستعمار، وانه لا يغير شيئا في حقيقة الاقطار، الاقطار التي تؤلف وطننا الواسع، فلكل قطر تاريخه وماضيه وشخصيته وظروفه، وان القومية العربية شعار لمرحلة!

هذه آراء مستوردة لا تنبع من صميم القضية وفيها تناقض، اذ ان هذه السرعة التي تم فيها الانسجام وانجلاء الوعي العربي بين أقطارنا تدل على أن ثمة حقيقة كانت كامنة ولم تتطلب جهدا كبيرا حتى تظهر وتكشف عن نفسها، في حين أنه لو لم تكن هذه الحقيقة قائمة موجودة، لو لم تكن مقومات الامة موجودة في شعبنا العربي كله، لاستحال ان يظهر هذا الانسجام بين أقطار كانت متباعدة في أكثر الاشياء، وانه كان يكفي ان تزال طبقة من السياسيين المحترفين حتى تعلن هذه الحقيقة عن نفسها وتفرض نفسها فرضا. وهذا التجاوب ما كان يتم لو لم يكن مستندا الى واقع حي.

 آذار 1957

في سبيل البعث الجزء الأول – نظرتنا الحية للحزب

في سبيل البعث

الجزء الأول

نظرتنا الحية للحزب

سمعتم أيها الاخوان رفيقكم يقول:(1) ان حركة البعث العربي الاشتراكي أصبحت في بلاد العرب شيئا لا يمكن نكرانه. وأستطيع ان أقول بأن حركتنا أصبحت قدر العرب في هذا العصر. والحق اننا آمنا بذلك منذ اليوم الاول الذي انطلقت فيه هذه الحركة. ولعل الشباب الذين دخلوا حديثا الى الحزب لا يستطيعون أن يستوعبوا المرحلة التأسيسية وما رافقها من إيمان وثقة واندفاع، وهم قد أتوا الى الحزب بعد أن سجل كثيرا من المواقف وخاض كثيرا من المعارك، لذلك يحسن بهم أن يعرفوا ان كل ما يقوم به الحزب الآن وما يمكن أن يقوم به في المستقبل ليس الا تحقيقا لذلك الايمان الاول، ذلك الايمان الذي لن نستطيع الاستغناء عنه في يوم من الايام حتى بعد ان يسيطر حزبنا على قدر امتنا، فهو الشرط الاساسي وهو الدعامة المتينة لحركتنا. وجدير بالشباب أن يستلهموا دوما هذا النبع الروحي وأن يعرفوا ان الذين استطاعوا أن يسجلوا شيئا في هذه الحياة، أن يسجلوا شيئا في التاريخ، هم الذين كان لهم إيمان الابطال واستطاعوا أن يحفظوا في أنفسهم براءة الأطفال وقوة اندفاعهم نحو المثل دون أن يعيروا للمصاعب ولضغط الوسط اي اهتمام.

لقد جاء حزبنا متجاوبا مع يقظة في الروح العربية، مع حاجة عميقة في روح أمتنا الى الانطلاق وإلى الخلق، فلا يجوز ان ننظر الى الحزب الا نظرة حية: إنه يجب دوما أن ينطلق ويجدد ويخلق وفي انطلاقه وتجدده وخلقه يستطيع أن يصلح نفسه ويطهر ما قد يعلق به من أدران.

اياكم والنظرة الجامدة التي لا تفهم سر الحياة وكنه الحياة، فليس من عمل جدي يؤثر في الواقع ويخلق منه واقعا جديدا الا ويكون هذا العمل عملا فيه ما في البحر الواسع المتحرك من شوائب، فاذا اردتم عمل حزبكم تاريخيا فليكن كالبحر لا كالساقية الصافية، فمن السهل أن تكون حركتنا ساقية صافية ولكنها لن تروي أمة ولن تصنع تاريخا. ففي الحزب كثير من النقص، وبين ما تحقق وبين ما نرجو أن يتحقق فارق  كبير، ولكننا نستطيع أن نقترب من مثالنا اذا نحن تابعنا السير، اذا ضاعفنا الهمة، لا اذا وقفنا وحولنا حيويتنا الى نقد جامد وتفكير نظري، فالحياة لا تعرف التوقف وتيار الحياة تيار مبارك طاهر مهما تكن الشوائب التي تعلق به.

وإذا وجب أن أدعوكم الى المزيد من النشاط والاستبسال والتضحية في سبيل حركتكم التي أصبحت كما قلت، قدر الامة العربية، والتي لا يمكن لأي حركة اخرى أن تنافسها او أن تحتل مكانها، اذا وجب ذلك فيجب ان أنبه الى ناحية أخرى، بأنه بقدر ما تتوسع الحركة، وبقدر ما يتسع نطاقها ويكثر عدد أعضائها يصبح واجب الفرد فيها أكبر من ذي قبل. فكل حركة، وهذه طبيعة الحركات الاجتماعية وطبيعة المجتمعات، معرضة لأن تفقد من عفويتها، من حريتها، من أصالتها، وأن تطغى عليها الشعارات التقليدية، أن تطغى عليها الالفاظ، ان تصبح صنما، فليس الاشخاص هم الذين يصبحون أصناما فحسب، فقد تصبح الحركة صنما وقد تصبح أفكارها أصناما، وهذا شر ما يمكن أن تبتلى به حركة تريد أن تخلق وتبدع.

المجموع له قانون، وكل جمع مدفوع بطبيعته، بغريزته، إلى تمجيد الظواهر والشكليات والعناوين والالفاظ والصفات العامة، لأن الجمع ليس له أرهاف الفرد وحساسيته وقدرته على التعمق. فاذا أردنا أن تتابع حركتنا مراحلها بكل صدق وأمانة دون أن تبتسر أو تختصر، دون أن تتجمد وهي في نصف طريقها، وأن تعطي كل ما فيها من امكانيات الخير، إذا أردنا أن يحصل كل ذلك علينا ان نقدر دور الأفراد. فالأفراد هم الذين لا يستعبدهم الجو الجماعي، هم الذين يحتفظون بحريتهم، باستقلال تفكيرهم، بصفاء نفوسهم حتى ولو كانوا مشاركين في اندفاع المجموع. هم الذين ينشدون المعنى وراء اللفظ يبحثون عن الشيء الحي وراء التعبير العام. هم الذين يرجعون الى الصمت كثيرا ويكون كلامهم وعملهم وليدا لصمت مثمر منتج، هؤلاء هم الرقباء على الحركة، هم الذين يصححون كلما كادت تتردى في السطحية وفي التقليد، هم يخلقون التوتر في الحركة كلما ضعف هذا التوتر الداخلي، لاننا لا نستطيع أن ننكر ان مجتمعنا يحمل أوزارا كثيرة ثقيلة من عصور الانحطاط والتأخر، واننا ان لم نلح كثيرا عليه لكي تكون يقظته أصيلة وانبعاثه انبعاثا عميقا فانه يميل بطبيعته الى أن يختتم هذه المرحلة البطولية قبل أوانها، وان يقول ان امنا بكم وبحركتكم، وان يدين لنا بالطاعة والموافقة قبل أن نكون قد استخرجنا من داخل أمتنا كل الكنوز الروحية.

لا بد من زيادة التوتر والصراع، لا بد من الدفع الدائم ومحاربة كل كسل وكل ميل للراحة وكل محاولة لانهاء النضال أو اختصاره، وهذا كما قلت من عمل الأفراد، لأنهم هم الذين يشعرون بهذا الخلل وهم الذين يثور ضميرهم عندما يرون الحركة قد انساقت وراء الشعارات الاصطلاحية وجعلت كل ايمانها في ترديد الكلام والالفاظ أو تمجيد قيم هي جديدة، ولكننا اذا لم ننفخ الروح فيها يوما بعد يوم فانها ستكون كالقيم القديمة سواء بسواء.

اذكروا دوما ايها البعثيون الاشتراكيون بأن رفاقا لكم قبل عشر سنوات أو اكثر كانوا في سنكم الشابة هذه والتفوا حول رفاق سبقوهم في السن ودعوهم الى عمل تاريخي فلبوا الدعوة، في ذلك الوقت آمن هؤلاء الشباب بأنهم سيصنعون تاريخا للأمة العربية وانهم سيكونون الجنود المحاربين والشهداء لنهضة عربية أصيلة تغذي الانسانية جمعاء. فلا تقبلوا دون هذا الهدف بديلا ولا تقبلوا الا ان تكون النهضة العربية تاريخية تستخرج أعمق ما في النفس العربية من كنوز وانسانية أصيلة.

نحن حزب سياسي، لا جدال في ذلك، ولكن السياسة وسيلة، وقد أردنا أن نقول منذ البدء لشعبنا وللجيل العربي الجديد اذ عرّفنا حركتنا بأنها حزب سياسي أردنا أن نقول لهم هذا هو الواقع فلا تتلهوا بالخيال ولا تنسحبوا من مواجهة الحقائق القاسية، فالسياسة هي أكثر الأمور جدية في المرحلة الحاضرة. ولكننا اذا قصدنا ان نلح على واقعية نظرتنا في مواجهة الواقع في كل معناه ومواجهة المسؤوليات العملية بكل قسوتها، فليس معنى هذا ان السياسة غايتنا. السياسة هي امتحان لمثاليتنا: هل هي مثالية العاجزين الذين يرصفون الاوهام، أم هي المثالية الحية العملية لمن يريد أن يخلق وان يعمل. لذلك جعلنا السياسة امتحانا للايمان والمثالية، ولكنها لم تكن غاية في حال من الاحوال. حركتنا هي حركة بعث بأوسع ما في هذه الكلمة من معنى -بعث في الروح والفكر والاخلاق والانتاج والبناء وفي كل هذه المؤهلات والكفاءات العملية. واذا تذكرنا دوما بأن رسالتنا ليست أقل من ذلك وبأننا قد نتعرض بين الحين والآخر الى أن نركز عملنا على الجزء وننسى الكل، ان نذوب في الفرع ونبتعد عن الاصل، فان الافراد الواعين الحساسين فيكم، هم المسؤولون والمطالبون بأن يعيدوا الدعوة الاولى وان يذكّروا اخوانهم لكي يعود الصراع الداخلي في نفس كل فرد من أعضاء البعث، لكي يأتي هذا البعث بعثا أصيلا، ولكي نكون في مستوى القدر الذي اختارنا لتلبية حاجات أمتنا واختار الأمة العربية لتكون في المواقف الحاسمة في التاريخ منقذا وهاديا.

نيسان 1955

(1) حديث مع وفد البعث من لبنان عند زيارته لمقر الحزب في دمشق.

في سبيل البعث الجزء الأول- البعث العربي إرادة الحياة

في سبيل البعث

الجزء الأول

البعث العربي إرادة الحياة


اننا لسنا الا نتاج امتنا(1)، واننا اذا استطعنا ان نعمل حتى الآن شيئا وأن نقترب من بعض الفضائل وان نطمح الى المزيد من هذه المثالية فليس ذلك العمل خاصا بنا كأفراد، وليس ذلك العمل لتفوق فردي، وانما يرجع الفضل في ذلك كله الى هذه الارادة المستيقظة في امتنا التي تفرض نفسها على طليعة ابنائها. لنؤمن دوما بأن ما نعمله وما نفكر به وما نستطيع تحقيقه في نفوسنا وفي المجتمع ليس الا صدى باهتا، وليس الا حقيقة ناقصة، بالنسبة إلى حقيقة أمتنا الخالدة. لنضع أمتنا المثالية فوق كل اعتبار وفوق كل شخص، ولنضع حزبنا الذي هو صورة الامة المثالية فوق أشخاصه وقادته، فإذا أردتم ان تحيوا أحدا فحيوا حزب البعث العربي الذي استطاع في مثل هذه المرحلة الحرجة القاسية في حياة أمتنا أن يسمو بالفكرة فوق الواقع وفوق الأشخاص. وما قيمة الاشخاص الا بمقدار ما يتمثلون هذه الفكرة وبمقدار ما يكونون صورة قريبة منها وتعبيرا صادقاً منسجما معها، أي بمقدار ما يطيعونها. فالقادة الحقيقيون هم الذين يعرفون ان يطيعوا الفكرة، كما ان الاعضاء المخلصين هم الذين يطيعون الفكرة من خلال توجيه القادة. . .

تتلخص فلسفة البعث العربي في هذه الكلمة: ثقة الأمة العربية بنفسها، واعتمادها على قواها، ومعنى ذلك ان البعث العربي الذي يريد أن يكون طليعة هذه الامة عليه أن لا ينشد أية مساعدة، وأية قوة خارجية عن نفسه وعن ذاته. لقد قام حزبنا على هذا الأساس، على هذا الشعور، على هذا الواقع، على هذه العقيدة. اذا وثقنا بأنفسنا، اذا وثق فرد عربي واحد بنفسه فالأمة كلها ستثق بنفسها.

سرنا بهذه العقيدة، ولم تخيب الحوادث أملنا ولم تخيب أمتنا أملنا. اننا نبني عملنا على عقيدة لا تمت إلى الوهم او السحر بصلة وانما ترتكز على أقوى دعائم الواقعية العلمية والعلم وهي ان مصلحة المجموع العربي هي في اتجاه هذه الحركة ان حياة المجموع العربي هي في اتجاه هذه الحركة، لهذا يكفي أن تنشأ حركة مهما تكن بسيطة حتى يكون مجرد ظهورها ومجرد تقدمها خطوات في الطريق، حافزا وموقظا لهذه المصلحة التي يشعر بها المجموع بهذه الارادة الكامنة، حتى يتم هذا التجاوب وهذا التعاون المستمر بين الحركة الرائدة وبين المجموع الغافي الذي يستيقظ يوما بعد يوم وفي آخر هذا التجاوب الذي لن يكون طويلا، يتحقق البعث العربي.

اننا نمثل الحرية والاشتراكية والوحدة. هذه هي مصلحة الأمة العربية، واقصد بالأمة العدد الأكبر ولا أقصد بها تلك الأقلية المشوهة الشاذة المنكرة لذاتها، المستعبدة لأنانيتها ومصالحها الخاصة، لأنها لم تعد من الأمة. فما دامت هذه الأهداف هي التعبير عن مصلحة العدد الأكبر فلنثق ولنؤمن بأن العدد الأكبر سيأتي الينا. وأقول اكثر من ذلك بأنه يمكننا أن نعتمد ليس فقط على العدد الأكبر من الشعب العربي في هذا الوقت، بل نعتمد على العرب وعلى تاريخ العرب وعلى تلك الارادة التي تشع من العرب الأحياء والأموات، على تلك الروح التي تسري عبر الزمن في الأرض العربية، تلك الروح وان شابتها الشوائب في فترات من الزمن فانها لا تزال ذات إرادة ولا تزال تريد الحياة والانبعاث.

فقوتنا إذن ليست قوة العدد الأكبر من مجموع العرب في هذا الوقت فحسب وانما هي قوة التاريخ العربي أيضا لأننا نسير في إتجاه الروح العربية الأصيلة، لأننا نسير وفق ما يتمنى أجدادنا الابطال ان تسير الامة العربية في كل وقت وزمن.

واننا نعتمد ايضا على قوة اخرى لا يستهان بها، ما دمنا نعتقد بأن القومية الصحيحة هي الانسانية الصحيحة، وأن بعث امتنا هو بعث للانسانية بكاملها، هذه القوة هي قوة التاريخ الانساني. فنحن نسير في اتجاه التقدم والتحرر والعدل ولسنا ندير ظهورنا ونعمي ابصارنا عن هذه الحقيقة الانسانية. فاذن نحن محاطون بقوى ثلاث أساسية تكفى لكي تملأ قلوبنا بالثقة والعزم: قوة مصلحة الشعب العربي في حاضره، والتاريخ العربي في ماضيه، والتاريخ الانساني في تقدمه نحو الحرية والاشتراكية والوحدة.

نيسان 1950

(1) من حديث ألقي في مكتب الحزب في دير الزور.

في سبيل البعث الجزء الثاني- البعث العربي حركة تاريخية

في سبيل البعث

الجزء الثاني

البعث العربي حركة تاريخية

ان ما يجب أن يعرفه كل بعثي هو أن المهمة الملقاة على عاتقنا ثقيلة وشاقة وطريقها شاق، لذلك يجب ان نعمل على تذليل جميع العقبات وننهي مرحلة الاضطراب التي تعوقنا عن تحقيق كل ما يجدر بحزب قومي نضالي كحزبنا ان يقوم به ويحققه من توثيق الصلات بين مختلف فروعه في سائر أقطار العرب، فيكون كالجسم الواحد تجري في عروقه دماء واحدة. وأستطيع أن أطمئن جميع البعثيين فأقول ان حزبنا بعد كل مرحلة من مراحل نضاله، يخرج اقوى مما كان في الماضي.

هناك شيء آخر يجدر بالبعثيين ان يعرفوه وهو أن لحركتهم منطقا خاصا لانها انبثقت من قلب العروبة ومن أعماق التربة العربية ومن صميم مشاكل أمتنا، فهي حركة صادقة أصيلة، لها موقفها الخاص كالكائنات الحية التي تنمو حسب قوانين ثابتة، ولا تستطيع ان تلبس ثيابا مستعارة وأن تؤخذ بالمظاهر والزخارف، ولا تؤثر في أعصابها بأن لها رسالة حقيقية طويلة، ولئن تباطأت في بعض الظروف وأعوزتها بعض الأشياء، فما ذلك الا لأنه من المحتم عليها أن توجد لنفسها التنظيم والوسائل الاصلية المنسجمة مع طبيعتها والمشتقة من لحمها ودمها.

ان حال حركتنا هي حال أمتنا، فالامة العربية في هذا الدور التاريخي تبحث عن الحل الملائم لها المتكافئ مع عظمة قدرها. فتأخرها عن السير في طريق التقدم والوحدة والانسجام مع أجزاء العالم الراقي لا يفهم منه دوما أنه عجز فيها ونقص وجمود، بل يجب أن يفهم منه أيضا أنها ليست كالأمم الثانوية في التاريخ، فهي تذكر بأنها حملت رسالة الى العالم، وتعرف كيف تمزق كل الأثواب الكاذبة التي يحاولون الباسها إياها.

وكذلك حركتنا، كانت مهددة في الماضي بأن تصغي الى ايحاءات الوسط والبيئة وتسري اليها عدوى التقليد، وتنتقل اليها شهوة الاستعجال والتشبه بالحركات الرائجة التي تنشد النجاح الرخيص. غير ان ذلك الجوهر السليم الذي تحتويه، وهو أنها حركة تاريخية، وتلك الثقة بالنفس والعقيدة الداخلية التي قلما يحسن اللسان الافصاح عنها لأن الضمير هو الذي يحتويها، كل هذا هو سر قوة البعث العربي، ومانسميه بالايمان.

في حركة البعث العربي يلتقي الوعي على أحسن أشكاله بالايمان في أعمق صوره. فحركتنا واعية لأنها تتطلع الى المستقبل، الى الامام، الى أعلى مستوى يمكن أن يبلغه خيرة المفكرين والمثقفين من أبناء الشعب العربي، وتقوم على الروح العلمية والتفكير المنظم، وهي تجمع الى جانب هذا ايمانا عميقا خصبا يمدها بالقوة الحيوية التي تجعلها تظفر على شتى المصاعب. وأبسط مقارنة نقيمها بين هذه الحركة ووسائلها المحدودة ونشأتها المتواضعة وبين الاحزاب والفئات التي تحشد الألوف وتقوم على النفوذ الاجتماعي الزائف والوجاهات وكل ما يستطيع الوسط النفعي أن يبتكره من وسائل الاغراء، تجعلنا نرى ان حركتنا قد استغنت عن طوع واختيار عن كل هذه القوى الكاذبة وزهدت فيها وآثرت طريق البساطة، وبهذا كانت قادرة على التغلب على أعدائها.

وانني أكرر ما قلته مراراً بأن الانقلاب هو محور حركتنا الذي يميزها عن سائر الحركات الاخرى، ويجب أن يفهمه البعثيون فهما داخليا عميقا، قبل أن بفهموا منه على أنه مجرد خطة لتنظيم المجتمع في النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فالانقلاب الذي يدعو اليه البعث العربي لا يستطيع أن يدعو اليه أي حزب آخر، انه اوسع من أن يكون برنامجا أو خطة سياسية او اجتماعية، وأكثر من أن يكون اسلوبا او وسيلة لتحقيق مبادئ الحزب. ان الانقلاب هو سر هذه النفسية الجديدة في حياة العرب، وهو يعني بصورة خاصة ان العرب لا يمكن أن يصلوا الى أهدافهم الا اذا ساروا في ذلك مدة طويلة، في طريق طويلة، وفي اتجاه معاكس لهذا الواقع الذي نعيش فيه. فعليهم قبل أن يقدموا أنفسهم كأطباء لهذا الواقع المريض ان يسلكوا الطريق الذي يربي شخصيتهم من جديد.

ان الانقلاب هو قبل كل شيء في هذه الحركة النفسية المكافحة، المعارضة، انه الدأب المشبع بالأيمان الذي يخلق في العرب نفوسا جديدة وأخلاقا جديدة وتفكيرا جديدا.

26 شباط 1950

(1) حديث القي في مكتب الحزب في دمشق بمناسبة زيارة بعض شباب البعث الجامعيين من بيروت.

في سبيل البعث الجزء الثاني- الحركة الفكرية الشاملة

في سبيل البعث

الجزء الثاني

الحركة الفكرية الشاملة

لقد عرّفنا حركتنا في عدة مناسبات سابقة تعريفات متعددة، وأريد الآن أن ألح على ناحية هامة فيها، لذلك أستطيع تعريفها على ضوء هذه الناحية المقصودة بأنها الحركة التي تستطيع أن تسيطر على الظروف، وهذا يعني ان كل ما يجري في بلاد العرب وكل ما ينشأ فيها ويظهر ويعمل من أحزاب وتكتلات وقوى سياسية تتصف بالصفة المعاكسة تماما، وهي انها كلها خاضعة للظروف، لذلك فهي مؤذية فاشلة. ولسنا نقصد بالظروف الظروف السياسية فحسب، من حوادث داخلية وخارجية، ومن حوادث طارئة او مؤقتة تأتي في سنة من السنين او برهة من الزمن. بل نقصد الظروف الراهنة، التي هي نتيجة أجيال وفترات طويلة من الزمن، أي الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والنفسية التي تميز وتطبع الوضع الذي يستدعي الانقلاب. يضاف اليها الظروف السياسية التي هي نتيجة للاوضاع الاقتصادية والاجتماعية.

اذن كل من لا يستطيع أن يجابه هذه الاوضاع مجابهة جدية وان يهدمها او يشق الطريق لتهديمها ينحاز اليها. فالمشكلة بالنسبة للعرب هي ان يتمثل نزوعهم الى الحياة والتخلص من هذه الاوضاع، في حركة تستطيع أن تسيطر على الظروف التي فشلت كل الحركات والجهود الاخرى في السيطرة عليها فأصبحت مقوية للفساد ومدعمة له، لا لأنها كلها في الاصل فاسدة أو ترغب في الفساد، بل لأن بعضها لم يعد العدة الكافية لكي يسيطر على الظروف.

وأول ما يمكن أن يذكر من شروط لهذه الحركة التي تستطيع السيطرة على الظروف هو أن تكون من الناحية الفكرية في مستوى القضية التي تحاول حملها، وهذا يعني ان التفكير الذي تبنى عليه هذه الحركة يجب أن يكون تفكيرا عربيا. وهنا ينتفي كل جهد وكل محاولة محلية او شخصية لا ترتفع الى هذا المستوى والى هذا الشمول. ان هذا المستوى المرتفع الشامل لا يطلب فقط من حيث اتساع الرقعة والعدد، أي أن يضم كل العرب، وانما يطلب منه أن يعالج جميع المشاكل الأساسية التي تتعلق بحياة العرب والشعب العربي، بعيشهم وعملهم وانتاجهم، بحريتهم وكرامتهم. واعتقد ان حركتنا وضعت يدها على أخطر المشاكل في حياة العرب وعينتها عندما حصرتها في هذه النواحي الثلاث: الحرية، الاشتراكية، الوحدة العربية.

والشرط الثاني شرط عملي يتعلق بتنظيم الحركة، وكما انها تقوم على تفكير عربي شامل فان تنظيمها كذلك يجب أن يكون على نطاق عربي شامل، وكما انها تقوم على اساس فكري واقعي حيوي ينصب على المشاكل الأساسية، كذلك يجب أن يكون التنظيم مستندا على الطبقات التي تمثل هذه المشاكل الاساسية حتى تستطيع أن تضمن النجاح. لذلك يقوم التنظيم في البعث العربي على ثلاث دعائم كما ان التفكير في البعث العربي يقوم على ثلاث دعائم ايضا هي الحرية، الاشتراكية، الوحدة العربية، فالتنظيم يقوم على أساس الجيل الجديد الذي يمثل الوعي وقوة النفس والارادة والعقيدة، وعلى أكثرية العرب الذين لهم مصلحة حيوية في الانقلاب، كما يقوم على نطاق عربي شامل لا يتجزأ وبالتالي لا يتناحر وينفي بعضه بعضا.

عندما يقول الخصوم في جملة دعايتهم ضد حركة البعث العربي بأنها خيالية أو شيء من هذا القبيل، انما يتجاهلون هذه الحقائق الواقعية في حياة العرب: حقيقة الوعي والمصلحة الحيوية، حقيقة الوحدة، وحقيقة مصلحة العدد الأكبر، وهم بصورة خاصة يتجاهلون هذه الحقيقة الاخيرة، حقيقة مصلحة العدد الاكبر وما تخفيه من قوة جبارة.

فالاشتراكية وحدها لو وجد أشخاص يؤمنون بها تشكل أكبر خطر على الاوضاع الفاسدة القائمة. نحن اذن في قلب الواقع، وهذا يفترض ان يكون سلوك الحركة منسجما مع مبادئها. اذ نرى ان كثيرا من الذين يدعون الاشتراكية يتبنون الأوضاع الفاسدة، وسرعان ما تنكشف خدعتهم. والايمان بالاشتراكية وحدها يتطلب الانفصال عن الاوضاع الرجعية فكيف اذا دعمناها بجناحين لا يقلان عنها قيمة هما: الحرية والوحدة العربية.

ليس يكفي ان نقول ان حركة البعث العربي تستطيع بهذه المبادىء والشروط ان تسيطر على الظروف وبالتالي تحقق الانقلاب، فهناك جوانب يجب أن توضح ويمكن ان ألخصها في أن حركة البعث العربي لا غنى لها عن فلسفة عامة في الحياة، فهي حركة تقدمية تحررية، وهي بذلك حركة عميقة جدا تتصل بالمفاهيم الانسانية الخالدة. ولا يمكن أن تكون هذه الحركة بمثل هذا التناسق والاحكام والشمول الذي نطلبه، وان تكون في الوقت نفسه فاقدة لنظرة عامة إلى الحياة.

اننا نستمد هذه النظرة من تعريفنا الاول وهو ان تكون الحركة مسيطرة على ما يحيط بها ويتداخل فيها من ظروف. اذن لا بد للبعثيين كمجموع وللبعثي كفرد من نظرة تقويم إلى الحياة، أي لا بد للحركة من نظرة أخلاقية. وأستطيع أن أتوسع أكثر من ذلك لأقول بأن الحركة تحتاج لا إلى نظرة أخلاقية فحسب بل إلى نظرة فلسفية عامة، اي ان يكون لها نظرة في الكون ومظاهره وعلله وفي الانسان ومعنى حياته وفي الاخلاق.

اقتصر الآن على الكلام عن الناحية العملية البارزة في حركتنا. المهم في حركة انقلابية تتصدى لتغيير مجرى الحياة في امة هو ان تقلب القيم، فلا شك ان القيم المألوفة الشائعة منسجمة مع الاوضاع التي تغذيها، لذلك لا يعقل ان تظل هذه القيم سائدة عندنا وان نكون انقلابيين. والناحية الجوهرية في الموضوع هي أي نوع من الحياة نفضل، فلا نحسب ان كل الذين يسايرون الاوضاع الفاسدة ويعيشون في ظلها يطلبون حياة الظلم والافساد والتآمر والخيانة، فهذه الصفات لا تنطبق الا على عدد قليل من الرجال البارزين على المسرح السياسي والذين أصبحوا الآن في يد القوى الرجعية والاستعمارية، ولكن هؤلاء ليسوا كل الذين يجارون الاوضاع الفاسدة. والأصوب ان نقول بأن الأكثرية من هؤلاء الداعمين للاوضاع الراهنة لا يطلبون الا حياة طبيعية معقولة، لا يطلبون الظلم وانما يطلبون ان يحيوا حياة طبيعية اي يطلبون العيش الطبيعي، ولكن العيش الطبيعي في ظروف غير طبيعية وغير سليمة هو عيش غير مشروع. انما نطلب العيش الطبيعي لشعبنا بمجموعه، هذا العيش الذي نناضل في سبيل تحقيقه في مستقبل قريب، فهذا العيش اذا تحقق، قبل حصول الانقلاب، لأفراد وعن طريق غير الطريق الانقلابي انما يكون ظلما وعدوانا على الأكثرية.

فالنظرة الأخلاقية للبعث العربي بشكلها الحاضر تنحصر في الامر الآتي: مادام هذا النوع من العيش الطبيعي الكريم محرما على الاكثرية الساحقة من الشعب، نتيجة للاوضاع الفاسدة، فان المؤمنين بحق الشعب لا يقبلون ان يشاركوا في عيش يعتبرونه الآن غير مشروع، ويرونه ظلما للشعب. لذلك فهم يفضلون عليه حياة المبدأ. فالنضال وقانون الحياة الذي لا هزل فيه، لا يمكن أن يسمح بتحقيق غاية كبرى وتقدم خطير وانقلاب جوهري دون أن يقابل ذلك ثمن كبير هو التضحية هكذا فان في الشروط التي ذكرتها، الفكرية والعملية، ما يكفي موضوعيا لتحديد الطرق الصحيحة الناجحة لحركتنا.

فعندما تبنى الحركة على المبادئ التي ذكرناها، اي عندما تعالج القضايا على أساس عربي وتستند على المصلحة المعنوية والمادية للشعب يفهم من ذلك بأن هذه الحركة ستكون حركة نضالية منفصلة عن كل الفئات والاشخاص الذين يدعمون اوضاع الاستثمار والاستبداد. وبصورة طبيعية يكون المجندون في هذه الحركة بعيدين عن الاستغلال. غير انه لا يجوز أن نجعل من الانسان آلة ونكتفي بالشروط الموضوعية. وانما يجب أن نستخرج كثيرا من الشروط وننقلها إلى الضمير كي يعرف المؤمن بهذه المبادئ لماذا اختارها ولكي يجد من نفسه معينا لتغذية نضاله، لذلك لا بد من وجود فلسفة مبسطة عن الحياة تجسم لهذا الجيل المناضل رسالته في هذه المرحلة التاريخية، أي تجسم له حقيقة مهمته، وتسهل عليه التضحية، في هذا الدور، بالحياة الطبيعية التي يتوق اليها كل انسان سليم، والتي يرفضها هذا الانسان نفسه عندما يجدها عائقا لتحقيق مبادئه، ملطخة بدماء الشعب.

ان هذا المستوى الذي أردناه منذ البدء لحركتنا كما وضعناها منذ نشوئها هو مستوى واقعي لا غلو فيه ولا خيال لانه الوحيد الذي يستطيع أن يتكافأ مع الظروف القاسية. ان الكثيرين يرفضون هذا المستوى عن تصميم او سطحية او جهل، ويرون حركتنا بعيدة عن الواقع وعن التحقيق، وينسبون الجدية إلى حركات ليس فيها أثر للفكر فيرفضون سلوك هذا الطريق ويكتفون بحركات ارتجالية تقوم على زعامات ملفقة، ويسمون هذه الحركات واقعية وهي أبعد ما تكون عن تلبية الحاجات. انهم يقبلون بالحركات المأجورة من الاجانب وينتظرون منها الخلاص، ويسمون خيالا هذا التصوير الصادق لحاجات الامة العربية.

ونحن الذين لا ننخدع بالمظاهر نعلم ان وراء كل رأي عوامل نفسية وعوامل خلقية وعوامل مصلحية. وفي أغلب الاحيان ليس هذا التباين بيننا وبين الآخرين تباينا في الفكر، وانما هو تباين في المصلحة ومقدار التجرد عن المنافع الخاصة. فالذين يجدون ان الامة العربية لم تنضج بعد كي توضع قضيتها في الشكل العلمي كما وضعت قضايا الامم ذات المهام الخطيرة في التاريخ، ان الذين يرون ان أمتنا لم تنضج بعد لا يعبرون في الحقيقة عن رأيهم في الامة وانما عن أنانيتهم ومصالحهم الخاصة.

عام 1950

في سبيل البعث الجزء الثاني- النضال الايجابي سبيل الجيل الجديد الى تحقيق الانقلاب العربي

في سبيل البعث

الجزء الثاني

النضال الايجابي سبيل الجيل الجديد الى تحقيق الانقلاب العربي

منذ ايام ذهب طبيب شاب الى بيروت ليحجز لنفسه مكانا على باخرة تنقله الى فرنسا للتخصص في معاهد باريس الطبية، بعد ان تهيأ لهذه الرحلة منذ أشهر. ولكنه سمع عن الحوادث الاخيرة في فلسطين، ونسف اليهود للابنية العربية في يافا والقدس، مما سبب سقوط العشرات من القتلى والجرحى فعاد أدراجه الى دمشق، وتطوع في صفوف الجهاد لانه قدر ان حاجة فلسطين اليه في هذه الاونة -وهو الطبيب الجراح- أمس من حاجته هو الى الاستزادة من العلم. لقد عاد الى دمشق مساء، وفي صباح اليوم التالي كان في طريقه الى فلسطين.

لقد كنا في ذلك المساء واياه على ميعاد في مكتب البعث العربي لنودعه وداعا اخويا، واذا هو يدخل ويفاجئنا بتصميمه الجديد ويطلب موافقة الحزب عليه. والحق ان احدا منا لم يفاجأ بذلك لأننا نعرف رفيقنا حق المعرفة، ولاننا في قرارة نفوسنا كنا نتوقع منه ان يغير وجهة سفره في اللحظة الاخيرة.

إن الحادثة جديرة بأن تثير الاعجاب، وان يكون فيها لشباب العرب قدوة، خاصة اذا لوحظ انها بالنسبة الى صاحبها لم تكن حادثة بل عملا طبيعيا بسيطا، ولكن الذي يعنينا نحن منها ليس اثارة الاعجاب والحماسة وانما القاء ضوء على تفكيرنا القومي السياسي من خلال سلوك هذا الشاب.

إن الذين يؤمنون بأن الوحدة العربية، والانقلاب العربي، ورسالة الجيل الجديد، ليست ألفاظا يتطرف بها الكتاب والخطباء او عناوين وشعارات تتاجر بها الاحزاب، اوذرائع تتخذ لمحاربة الخصوم ورجال الحكم، بل هي حقائق راهنة، وأهداف واقعية وانها هي الغاية التي من اجلها نكتب ونخطب ونشكل الاحزاب ونحارب الخصوم ونعارض الحكومات، ان الذين يؤمنون بذلك كله يعرفون ان الغاية التي يسعون اليها لن تتحقق بالاقتصار على الكلام والنقد، والانكماش والاستنكاف عن كل عمل، بل ان السبيل الوحيد لتحقيقها هو دخول ساحة العمل، والاقبال على التضحيات، وتحمل أعباء النضال بدرجة من الجد والحيوية تظهر للشعب الفارق الجوهري بين القيادة الجديدة وبين قيادة الزعامات القديمة والحكومات. وهم يعرفون أيضا ان الجهاد في سبيل فلسطين هو أرحب مجال، وانسب فرصة، وأصدق امتحان لكفاءة القيادة الجديدة وقدرتها على فرض احترامها واقامة بنائها على امتن الأسس الشعبية النضالية.

ولئن كان اكثر رجال السياسة والاحزاب يتخلون في وقت الازمات العصيبة عن مبادئهم وأفكارهم، ويستسلمون بحجة التصافي وتوحيد الصفوف، للسياسة الحاكمة، أي سياسة التخدير والتضليل والجمود والفوضى، فيبرهنون بذلك على ان المبادئ، والافكار بالنسبة اليهم لم تكن الا مزاحا يجيزه العرف السياسي والتنافس الحزبي في الاوقات العادية، ويصبح غير جائز ولا معقول في ظروف الجد والخطر، فلسنا نرى نحن خيرا من ظروف الازمات والاخطار لكي تزيدنا استمساكا بمبادئنا العربية الشاملة، واقتناعا بفكرتنا الانقلابية وعزما اكيدا على تحقيقها فالعمل بوحيها.

فالعمل الايجابي في سبيل كل قضية قومية، وفي سبيل قضية فلسطين بوجه خاص، ليس امرا يفرضه الواجب القومي فحسب، بل هو من منطق الفكرة الانقلابية التي يؤمن بها الجيل الجديد، والتي تدعوه ان يشق طريقه بين تخاذل الحكومات وتآمر المصالح الاستعمارية والاقطاعية على مصير الشعب العربي، لكي يقود هذا الشعب ويتيح له ان يقبض على قضيته بيده، وينقذها من نتائج التآمر والفوضى والاستغلال. وبدلا من أن يحسب الجيل الجديد ان اقدامه على الجهاد في سبيل قضية فلسطين يوقعه في شراك الفئات الحاكمة المشرفة على هذه القضية، ويشجعها على التضليل والاستغلال، يجب أن ينظر الى نضاله الايجابي كخير وسيلة لانتزاع الاشراف من يدها، ووقف محاذيره أو التخفيف من شروره. فاذا غابت هذه الحقيقة عن اذهان البعض ودفعها الحذر من الحكومات الى التردد في نصرة فلسطين، فانهم بهذا الاسلوب الخاطئ لا يكونون قد حرموا من نشاطهم أخطر قضية قومية فحسب، بل يكونون أيضا قد حكموا على فكرتهم الانقلابية بالعقم والفشل، لانهم أوصدوا في وجهها باب النضال والعمل.

ان النضال الحقيقي لا يكون في يوم من الايام هدما وسلبية وتنكبا عن العمل، بل هو خلق وبناء وعمل ايجابي مثمر، الا ان صفة الخلق والجدة فيه تظهره في أعين الكثيرين، وخاصة في أعين الذين يوجه ضدهم بمظهر السلبية والهدم، لان مجرد ظهور العمل الصحيح يهدم أعمالهم الفاسدة، ومجرد انتاج السبيل القويم يبدو تحديا لاعوجاج سيرهم ومجرد ارتفاع البناء الجديد يحجب النور عن أبنيتهم الهرمة، ويحد من المكان الذي كانت تستأثر به!

10 كانون الثاني 1948

في سبيل البعث الجزء الثاني- البعث العربي موقف ايجابي

في سبيل البعث

الجزء الثاني

البعث العربي موقف ايجابي

إن الحركات التي تنشأ في مجتمع ما، اما ان تكون سطحية وقتية، واما ان تكون جدية اصيلة، وكلا النوعين لا بد ان يتأثر بظروف المكان والزمان المحيطة به، ولكن نوعية هذا التأثر بظروف الزمان والمكان هو الذي يعين نوع الحركة، فاذا تأثرت الحركة تأثرا منفعلا سلبيا استنفد كل امكانياتها وقواها حتى غرقت في ظروفها، اعتبرناها من الحركات السطحية الآنية العابرة واذا استطاعت الحركة ان تتأثر بالظروف المحيطة بها دون ان تغرق فيها بل احتفظت بالسيطرة عليها لتوجهها، كانت من الحركات الجدية الاصيلة.

اذا نظرنا الى يقظة العرب الحديثة، نجد ان الدور الاول الذي مرت به هذه اليقظة تنطبق عليه صفات التأثر المنفعل السلبي. فكل مظاهر اليقظة، سواء في السياسة او في الاجتماع او في الفكر، انما هي رد فعل لما سبقها من حالة الجمود والانحطاط فكانها تقلد تقليدا حرفيا الحالة التي قامت لتنفيها وتتمرد عليها، وهذا أمر طبيعي، اذ لا بد ان تمر الامة في دور سلبي في بدء يقظتها وانقلابها، ولكن الشيء غير الطبيعي ان تستمر اليقظة في سلبيتها وأن تبقى رد فعل لما سبقها، وانها اذا استمرت على هذا الحال، يغدو من المشروع ان نعتبرها يقظة مخفقة لا تحوي في نفسها بذور الحياة إذ لا حياة مع السلبية.

واذا عددنا مختلف الحركات الوطنية التي قامت في الاقطار العربية جوابا على الاستعمار الاجنبي -والحركات الفكرية والاجتماعية التي قامت كجواب على امراض المجتمع العربي- (كالاقطاعية والطائفية والاقليمية والرجعية الفكرية وغير ذلك) وأمعنا النظر في هذه الحركات جميعا، وجدنا صفة واحدة تجمع بينها على اختلافها وتباينها وهذه الصفة هي: السلبية.

ونقصد بالسلبية أنها لا تختلف في الجوهر عن الحالة التي قامت بها تلك الحركات لنقضها، فالحركات الوطنية تقلد الاستعمار واساليبه، والحركات الفكرية المتمردة الثائرة تقلد حالة الجمود في اطلاقها وفي تعصبها وفي شططها، والحركات الاجتماعبة التي ثارت على الوضع الاجتماعي والاقتصادي المتخلف في البلاد العربية حملت بذور السلبية، إذ خرجت عن نطاق الامة التي تعمل لها، وشطت في أهدافها وغاياتها حتى خانت رسالتها والقصد من وجودها.

إن التأثر بالزمان والمكان واقع لا محالة، إنه شيء لا مفر منه ولا يمكن ان توجد حركة تستطيع التأثير في مجتمع ما دون أن تتأثر بهذا المجتمع نفسه، ولا وجود للحركات النظرية المجردة التي تعيش في الفضاء بين الارض والسماء لا تلامس الواقع ولا تتصل به.

اذن لابد للحركة حتى تكون حية من أن تعيش في جو حي واقعي، وأن تفهم مختلف التيارات التي تعترك في مجتمعنا. ولقد طرقنا مرات عدة في احاديث البعث العربي وكتاباته موضوع التوفيق بين حيوية الحركة وجوهريتها. كيف يمكن أن تكون الحركة جوهرية، أي تعني بالجوهر الثابت من الامور، وتكون في الوقت نفسه حركة متجاوبة مع واقعها متصلة بزمانها.

إن الدور الاول من يقظتنا القومية يمثل هده الناحية السلبية، ولكن لا يجوز أن يستمر هذا الدور، فثمة وضع نفسي فكري للحركة الاصيلة لا يمكن الا ان يكون وضعا ايجابيا. ذلك ان الحركة الاصيلة لا يمكن ان تأتي جوابا على حالة طارئة في الأمة، فالاستعمار حالة طارئة، والاقطاعية التي هي تفرد فئة من الشعب لاستثمار الآخرين والتحكم فيهم حالة طارئة، والطائفية التي هي تغلب روابط سطحية تافهة على روابط أساسية عميقة حالة طارئة، والإقليمية التي هي تغلب الصفات الموضعية الثانوية في الأقاليم والأقطار على الصفات القومية هي حالة طارئة.

وهذه الحالات كلها سلبية ليس فيها شيء من الحياة، وانما هي نتيجة ضعف الحياة وتراخيها، ومتى ضعفت الحياة طفت القشور على السطح فهل يجوز ان تتصف الحركة العربية المنشودة بهذه الصفات العارضة التي لا تمت الى حقيقة امتنا بصلة؟ هل يجوز ان تكون نظرتنا الى القيم ونظرتنا الى المستقبل مستوحاة كلها من هذه الحالة المرضية الطارئة؟ كذلك هل يجوز أن تقوم حركات فكرية اجتماعية على وجود آفات وأمراض في مجتمعنا كالطائفية والاقطاعية وغيرهما؟!.

لذلك كله سميت الحركات التي تنشأ عن الحالات الطارئة، حركات سطحية لأنها لا تعبر عن ارادة الأمة في الحياة الحقة التي تصبو اليها، وانما تعبر عن رد فعل آلي في الأمة، عن اشمئزاز وامتعاض من حالات طارئة، ومثل هذه الحركات لا يكتب لها البقاء.

لو اكتفينا بالنظر الى برامج الحركات والأحزاب القائمة في العالم العربي لخرجنا بنتيجة تشاؤمية لأننا لا بد واجدون فيها كلها هذه الصفة السلبية -ولكن شيئا واحد ينقذنا من التشاؤم: هو أن نلتفت في الوقت نفسه الى الشعب العربي الذي كون المادة لجميع الحركات في نشاطها وأعمالها.

إن بامكان الحركات المختلفة ان تضع لنفسها البرامج التي تريد وان تتبع الخطط والأساليب التي تفضلها، ولكن الشعب نفسه لا يجيب جوابا آليا على تلك البرامج والخطط، انه ليس آلة تستجيب لما يراد بها بل هو في حركاته يمثل شيئا إيجابيا كل الايجابية، فالحركة الوطنية في افكارها وفي عقلية قادتها وفي أهدافها الواقعية وأساليبها المشاهدة لا تحوي الا الاشياء السلبية، وليس فيها أي تطلع الى بناء حياة إيجابية، ولكن الشعب الذي تجاوب مع الحركة الوطنية، ولبى نداءها، لم ينحصر في حدود أهدافها، ولم يتقيد بجدب افكارها ونضوبها، انما كان في مقاومته للاستعمار الاجنبي ونضاله يسعى الى تحقيق شيئ ايجابي وهو: مجتمع عربي ناهض متقدم تسوده المبادئ والمثل العليا من عدل ومساواة وحرية. فثمة فرق واضح بين ما تسطره البرامج وبين الروح التي تتجلى في تصرفات الشعب المتجاوب مع هذه البرامج. وكذا الحال لو تناولنا اية حركة اخرى: فالاحزاب الدينية مثلا انما هي في فكر موجهيها والدافعين اليها حركات تقوم على اشياء سلبية محضة، على الكره الطائفي والخوف والحذر وغير ذلك من العواطف السلبية. ولكن الشعب الذي يتبع في وقت من الاوقات مثل هذه الحركات التي ننعتها بالرجعية الدينية لا يتحرك بدوافع سلبية، انه لا يتحرك بدوافع الخوف والكره والبغضاء. واذا نفذنا الى روحه وضميره، تبينا ان في تبنيه لهذه الحركات نصيبا كبيرا من الايجابية ايا كان لون الحركة ونوعها. وهو في تأييده الحركات الدينية الرجعية في بعض الاحايين انما يرمي الى المحافظة على شخصيته والابقاء على تلك الصلة الحية الروحية بين حاضره وماضيه، ويهدف الى تحقيق الانسجام في حياة المجتمع بربطه بالارض التي يعيش عليها وبالجو الذي يحيط به، عدا عن ان مثل هذه الحركات الدينية تعبر، في ضمير الشعب، عن توقه وحنينه الى تحقيق مثل عليا سامية.

ولكن اذا كنا نتفاءل بروح الشعب ونقول بأن روحه روح إيجابية تطمح الى البناء والخلق، فهذا لا يعني اننا نسطيع أن نستكين ونستسلم للأفكار الخاطئة.

نحن نثق بأن جوهر الشعب سليم متقبل للعمل الايجابي المبدع، ولكن متى انتبهنا الى خطل الافكار الموجهة له، علينا ان نعلن ذلك وان نخاطب الشعب لنفهمه الصواب من الخطأ.

ان الذين تتبعوا حركة البعث العربي في الناحية الفكرية على الاقل، وذلك فيما صدر عنها من كتابات، يستطيعون ان يلاحظوا منذ بدء الحركة اهتمامنا البالغ بأن نجعل من حركة البعث الخطوة الايجابية التي يجب ان تأتي بعد الخطوة السلبية.

ونحن كأبناء هذه الامة وهذا المجتمع نتأثر به ونشعر بتياراته، وقد شعرنا كما شعر الكثيرون ان الحل لم يأت بعد، وان الامة في موقف انتظار، وان طريق الامة لا يمكن ان يكون سلبيا، لان كلمة الامة الاخيرة لا يمكن ان تكون بالنفي، وانه يجب ان تأتي اخيرا الكلمة الايجابية التي تقول لنا كيف يجب ان نعيش وكيف يجب ان نبني حياتنا ومجتمعنا.

لذلك كنا من الناحية السياسية متطلعين الى مرحلة تعلو على الحركات الوطنية السائدة في العالم العربي، وهذه الاشياء قد كتبت مرارا، بأننا لم نرض لانفسنا في وقت من الاوقات ان نكون مجرد رد فعل للخيانة والاستعمار، بل وضعنا نصب أعيننا الحركات الوطنية لكي نعلو عليها ونرتفع الى درجة أعلى، ونصفيها من شوائب العدوى التي لحقت بها من حالة الاستعمار والخيانة.

وكنا نقول في مناسبات عديدة اننا نؤمن بأن الوطنية يمكن ان تجتمع ويجب ان تجتمع مع النزاهة والكفاءة، لا أن تكون متصفة -كما هي عند القيادة القديمة- بصفات بارزة طاغية عليها، هي صفات الاستغلال والجهل.

اما من الناحية الفكرية فكنا أبدا نرى ان الخطوة المنشودة لم تظهر، الخطوة التي تعلو على الخطوتين السابقتين، على الجمود والمحافظة، وعلى التقدم السطحي الذي يخرج المواطن عن قوميته وروحه وتاريخ امته، والذي لا تتوفر فيه شروط الحياة التي ترتبط بروح الامة. واذا كان بعضنا يذكر تلك النشرة الني جاء فيها منذ اربع سنوات اننا نمثل التاريخ العربي الحي ضد الرجعية “الميتة” والتقدم “المصطنع” فإن ذلك كان ينبئ عن موقفنا الايجابي.

اننا نريد ان نجد الحالة التي ترتاح اليها نفس الامة ويطمئن اليها المجتمع والتي تنفي انحرافين: انحراف الجمود والمحافظة البالية وانحراف التقدم المصطنع الذي يعيش في جو غير جونا، ولا يمكن ان يتجاوب معنا ويقدم لنا النفع والخير. كذلك من الناحية الاجتماعية والاقتصادية، وهي من أهم النواحي التي يجب ان تعني بها الحركة القومية، علينا ان نلتفت ونتطلع الى الحل الذي يتفق مع حاجة الأمة الايجابية. فهناك حالة مرضية في مجتمعنا، هي حالة تحكم فئة قليلة بكثرة الشعب، انها حالة الاقطاعية والاستغلال وهناك جواب عليها مصطنع، وهو الاشتراكية اللاقومية التي لم تفهم حاجات المرحلة.

ومنذ سنين شعرنا بهذه الحاجة الملحة الى ايجاد الحل الايجابي، الى الاشتراكية العربية التي تداوي امراض المجتمع العربي من الناحية الاقتصادية ولا تضطره الى انكار قوميته والى الارتباط بذيل غيره من الامم، فيفقد سيادته وتطمس شخصيته. وهنا لابد من ان نذكر ملاحظة لها بعض الخطورة، وهي اننا نرى فيما حولنا كثيرا من الحركات التي لا تتصف بالجد لأنها لا تتصف بالعمق. انها ليست في صميم القضية القومية، لانها لا تحمل المسؤولية التي يفرضها تطلع الأمة، بل تعيش لتستغل الحالات الطارئة، نراها تتبنى كل يوم فكرة أو دعوة وتماشي وتساير، فهي مثلا عندما ترى الجو مشبعا بفكرة سائدة وترى الزي الرائج في وقت من الاوقات، تتبنى الدعوة الاشتراكية وتلحقها بما لها من مبادئ سابقة، وفي هذا خطر كبير على مستقبل حركتنا القومية. الفرق جوهري بين ان نأخذ الاشتراكية كشيء نؤمن به من أعماقنا لأنه يفصح عن حاجات أصيلة جوهرية في أمتنا، وبين أن نأخذها “كرفع عتب” ومسايرة كي لا يقال اننا اقطاعيون أو رجعيون، أو لكي لا تنجح الحركة الشيوعية في أخذ انصارنا ومريدينا.

الموقفان مختلفان لا بل متعاكسان. أما الموقف الايجابي، وهو الموقف الثاني، فهو الا ننادي الا بما نؤمن بحقيقته ونفعه وضرورته، وعند ذاك يكون دفاعنا عنه واخلاصنا له من النوع المبدع، لا من نوع دفع التهمة ودرء الخطر. ومن المؤسف ان تكون حال الفكرة الاشتراكية وغيرها من الافكار التي هي من صميم الفكرة العربية في العالم العربي كله، الى الآن، هذه الحال. أي انها لم توضع عن قناعة ولا ايمان، انما مسايرة ودفعا لتهم الخصوم وتمشيا مع شعارات الوقت، في حين ان ثمة حاجة قاهرة تهيب بالعرب وخاصة بالشباب العربي الذي يكوّن الطليعة في حركتنا العربية بأن ينظر الى قضية أمته نظرة اكثر جدية. فأفكارنا وأهدافنا لا يمكن ان تعيّن بهذا الدافع التافه، دافع المسايرة والتبرؤ من تهمة والرد على تهمة اخرى. يجب ان تعين افكارنا واهدافنا تبعا للحاجات الايجابية التي نشعر بها ونلمسها ونصل اليها بعد الدرس والتدقيق والتجربة.

13 آذار 1947

في سبيل البعث الجزء الأول – خبرة الشيوخ واندفاعات الشباب

في سبيل البعث

الجزء الأول

خبرة الشيوخ واندفاعات الشباب

… لننظر(1) ما هي حقيقة هذه النظرة (خبرة الشيوخ واندفاعات الشباب ) وما نصيبها من الصدق وبالتالي ما هو أثرها في حياتنا وانشاء مستقبلنا؟ ينظرون الى الحياة نظرة سطحية تأخذ بالمظهر، فيرون ان الانسان يبدأ صغيرا في جسمه وفي عقله فيرون ان الصغر هوا لنقص وأن الكبر هوا لكمال. ولكن اذا تعمقنا قليلا فاننا واجدون ان الانسان في سن الشباب يحتوي على أعلى درجة وأكبر طاقة من الفضائل الحية، وأنه ان كان لا يستطيع التعبير عنها باللفظ والكمال وبالحكمة والرصانة فما ذلك الا لأنها فضائل حية متقدة لا تترك لها حيويتها مجالا لان تصاغ في الكلام، الكلام الحكيم والافكار الرصينة، ولا تترك لها مجالا ان تنظر الى الوراء وتراقب وتشاهد بدل أن تندفع وتعمل، بدل ان تقرر، بدل أن تخلق وتبدع. فما يراه الجيل القديم وذوو النفوس الضعيفة نقصا في الشباب ليس الا الكمال ذاته، وما يحسبونه كمالا في الشيخوخة ليس الا نقصا: فالشاب تؤهله الحياة لان يبقى متحررا من شتى المؤثرات النفعية الجبانة الانهزامية لان الحياة تأبى عليه كل ذلك وعندما يبدأ يجتاز سن الشباب ويبدأ الوسط يعمل فيه تأثيرا وتخديرا ليهبط به الى مستوى العجز والخنوع والتشاؤم وليكبله بشتى القيود الاصطلاحية المصطنعة وليجعل منه حيوانا اليفا، عندها يدخلون في روعه انه بدأ يكتمل ويختمر، وانه زاد عما قبل واكتسب شيئا جديدا وهو بالواقع بدأت خسارته وبدأت حيويته ينال منها الضعف وبدأت عفويته تؤسر وبدأ ينبوع نفسه المتدفق تلقى فوقه الاحجار والصخور حتى ينضب ويجف.

فاذا نظرنا أيها الاخوان الى حالة الامة العربية في هذا الظرف الخطير… اذا عرفنا ان شر ما تبتلى به امتنا هوا لنفعية والجبن والتخاذل استطعنا ان نستنتج بسهولة أن صفات الشباب ومميزات الشباب هي وحدها المتلائمة مع حاجات أمتنا المتحفزة للبعث والنهوض.

وبين الشباب وبين أمتنا موعد وتلاق وتوافق وانسجام. وما يسمونه خيالية الشباب وما يسمونه طيشا وقصرا في النظر وعدم تقدير للعواقب، هوالحدس الصافي والحس السليم والفهم العميق لمبادئ حركة الانقاذ في حياة امتنا.

فاذا أضفنا الى سن الشباب صفة الثقافة والوعي اهتدينا الى الشرطين الاساسيين اللذين لا غنى عنهما لحركة الانقاذ والخلاص :

1- شرط الوعي والثقافة.

2- شرط الشباب.

ولكن في مجتمع كمجتمعنا ما زال يتحكم به الاجنبي تارة بصراحة كما في بعض أجزاء أرضنا وتارة بصورة مستورة من وراء الطبقات النفعية المتآمرة على حياة شعبنا، وما دام مجتمعنا مسيرا لمصلحة الاستعمار والطبقات المستثمرة، فمن العبث أن ننتظر منهما لرسالة الشباب ورسالة الثقافة نفعا يصدر عن مؤسسات المجتمع الرسمية وعن المدارس بصورة خاصة. فهذا المجتمع الذي يسيطر على تنشئة اجيالنا يزيف رسالة الشباب ورسالة الثقافة، ويحاول ان يجعل من الشباب شيوخا وهم في ميعة الصبا ويحاول أن يجعل من الثقافة أداة خمول بدل ان تكون أداة ثورية لتعيد الينا الحياة العربية السليمة الصافية…

لذلك لا بد أن يضطلع بهذه المهمة من هم متحررون من آثار المجتمع وسيطرة الحكومات والمؤسسات الرسمية ليعيدوا الى الشباب ثقته بنفسه وليحملوه مسؤوليته بيده. فكانت مهمة الاحزاب الانقلابية والحركات الشعبية، هي أن تنشئ مدرسة صريحة سليمة يسمع فيها الشباب نداء روحهم، ليؤدوا رسالتهم.

أيها الاخوان: في المجتمعات السليمة تكون مهمة التثقيف ان يحافظ الشباب على شباب نفوسهم وعلى نضارتها وعلى حرارة عاطفتهم وعلى عفوية اندفاعاتهم حتى بعد ان يجتازوا سن الشباب. فالمجتمع السليم هو الذي يمد في عمر الشباب، يمد في أجل الشباب. اننا نشاهد آثار ذلك في بعض الامم الراقية وكيف ان الشيوخ والكهول هم من القدرة على التجدد المستمر والابداع المستمر مما هيأ لمجتمعاتهم أن تقوى على الفناء وأن تتكيف مع نواميس الحياة وان تستمر في الصعود.

فميزة المجتمع السليم هي انه يبقي على النزعة المثالية، يبقي على النظرة الحرة المنطلقة، وعلى روح الكفاح، هي انه يقضي على النظرة النفعية… يجدد فتوة النفس بشتى الوسائل، بالفن، والفكر، لكي يبقى الانسان جديرا بهذه التسمية ولكي تبقى انسانيته سليمة.

ولكن المجتمع المتأخر، المجتمع الذي يحتاج الى ثورة وانقلاب هو على العكس، يسعى لجعل شبابه كهولا وشيوخا متخلفين…

هذا ما نشاهده في مجتمعنا الحاضر… هذه المحاولة المجرمة التي تريد أن تقضي على اندفاعات الشباب التي هي أثمن كنز في امكانيات امتنا، فاذا وعى الشباب هذا القدر الجليل الذي يؤهلهم ان يمثلوا انتفاضة امتهم في هذه المرحلة وأن يستغلوا فضائل الحياة أبعد استغلال… أن ينشدوا الثقافة الحرة التي تربطهم بمصير أمتهم…

وأي حرية أوسع وأعظم من أن يربط الانسان نفسه بنهضة امته وثورتها.  

عام 1955

(1) ألقي هذا الحديث في حفلة اقامها الطلاب الثانويون في دمشق للتعارف بتاريخ 7 نيسان 1955  

في سبيل البعث الجزء الأول – المستقبل

في سبيل البعث

الجزء الأول

المستقبل

ليس بيننا وبين المستقبل الذي يتحدث عنه البعث العربي والذي هو موضوع عملنا ونضالنا زمن حسابي يقدر بالاشهر والسنين. انه زمان نفسي نستطيع أن نحققه منذ الآن وان نملكه فنملك به الخلود.

ليس المستقبل هو الزمان الذي سيأتي، بل المستوى النفسي والفكري الذي علينا أن نصل اليه في الوقت الحاضر.

لسنا بحاجة الى سنين ولا الى أشهر، فقد يصل المرء الى هذا المستقبل في ثانية واحدة، عندما يدرك الفرد ذاته المثالية ويعي ويصمم.

فالمستقبل الذي يمثله البعث هو الصورة عن حياة أمتنا عندما يتحقق البعث، أي عندما يتحقق الانقلاب العربي. انه صورة الامة العربية في حياتها السليمة المقبلة، فعلى هذه الصورة ان تتحقق منذ الآن في البعث العربي حتى ينجح.

ان بيدنا أسلحة كبيرة وقوى كبيرة هي قوة المبادئ التي نعمل لها ونحيا من أجلها، وقوة التنظيم، ولكن ثمة قوة تفوق كل القوى الاخرى هي ان نجسم للامة مستقبلها، وأن نحقق هذا المستقبل منذ الآن وان نحياه بيننا.

فلن نقول للعرب انكم ستصلون الى الحياة الموحدة الحرة الاشتراكية، وبكلمة واحدة، للحياة البعثية، في المستقبل عندما يتحقق البعث العربي، وانما نقول لهم : هذه هي صورتها منذ الآن. هذه الحياة التي تزول فيها الفروق الاجتماعية والحواجز الاقليمية والنعرات الطائفية، وكل أثر للعبودية والمصلحة الخاصة والجهل والتقليد. عندها يأتي المستقبل الينا، وينمو فينا ولا يعود شيئا منفصلا وخارجا عنا.

عام 1950  

في سبيل البعث الجزء الأول – الأرض والسماء  

في سبيل البعث

الجزء الأول

الأرض والسماء  

لا مفر من هذا التعبير «الأرض والسماء» حتى بعد أن أفرغ من محتواه الديني. وليس أقرب إلى الحقيقة من هذا التضاد بين عالمين، ما هو وقتي عارض فان، وما هو جوهري دائم. للعالم، للفنان، أرضه وسماؤه. الأرض هي مطالب الجسم ولذات الحياة اليومية ومشاغلها. والسماء هي مطالب العقل والروح، ولذات الحياة العليا وواجباتها. هذه السماء لا تبلغ الا بتضحية الارض، وخسارة الارض على الارض معناها عذاب الجحيم. وفي هذا الجحيم ومن خلال لهيبه ترمق العين وتستشف أفياء الخلود.

لو كان الإفراط في اللذة وطلب الرفاهية وحب متع الحياة هو الذي يبعد السماء عن الإنسان لهان الأمر، لأن المفرطين قليلون، وشروط الإفراط غير سهلة ولكن البلية ان أكبر خطر يعرض سماء الإنسان الى الضياع، وأكبر حائل يقف بينه وبينها هو مطالب حياته المعتدلة وسعادته المشروعة، وكل ما تنزع اليه الطبيعة السليمة ويأمر به العقل وتوافق عليه الأخلاق، النصيب المشروع من الراحة والرفاهية والحرية والحب والصداقة. ذلك لأن السماء غير طبيعية ولا معقولة، ولان لها أخلاقها الخاصة.

للحياة قوانين، بينها وبين القوانين الطبيعية هذا الفرق الجوهري، قوانين الطبيعة تستكشف مرة واحدة، وقوانين الحياة يجب على كل فرد أن يستكشفها في حياته من جديد.

من هذه القوانين: أنه لا ربح بلا خسارة، ولا ربح الا على قدر الخسارة، الى حد ان الذي يقبل بأن يخسر كل شيء يستطيع وحده ان يأمل بالربح الأكبر.

أبعد الناس عن فهم الحياة، هم الذين يعتقدون بإمكان التوفيق بين النقيضين باستطاعة المرء أن يربح من غير خسارة، ان يصعد الى السماء وقدماه لاصقتان بالارض. إذا صح ذلك فلأن هذه السماء التي يقصدونها حقيرة الى حد ان المرء يتناولها وهو قاعد، كاذبة زائفة يربحها بخدع القمار.

وهناك وهمان يجب ان يبددا، الأول ان نحسب السماء تبلغ بلا مشقة، والثاني حسبان المشقة وحدها موصلة الى السماء، أو أنها هي السماء. الوهم الأول أشاعه غرور بعض الفنانين او ذهولهم، فقد كتموا كل العذاب الذي قاسوه حتى امتلكوا قياد فنهم، او ان عذوبة الفن لطفت من مرارة العمل الفني، وجمال القمة انساهم وعورة الطريق الذي سلكوه لبلوغها. صحيح انه لا يبلغ السماء الا من وهب جناحان وقدرت له مواهب أساسية، ولكن ما لا يقل عن ذلك صحة ان هذه المواهب لا تظهر الا اذا أصغى المرء الى ندائها، وصم أذنيه عن جلبة العالم الخارجي ومغرياته وسهولاته، ووزن المسؤولية التي تفرضها وقبل بها، وجرد لها من قوة الإرادة ما تقتضي. الجناحان يطيران بك اذا رميت كثيرا من أحمالك حتى يستطيعا حملك، واذا رضيت بكثير من الضغط او المقاومة اللازمة لحملهما، المصير العظيم لا يعني انك ستكون عظيما الا اذا تحملت عبء العظمة.

والوهم الثاني هو ان نحسب مجرد تحمل المشقة الكبيرة دليلا على المصير الكبير، وفي هذا ما يضل عن الغاية ويغري باتخاذ الوسيلة بدلا منها. فبعد ان كانت وعورة الطريق واسطة لبلوغ القمة تصبح هي الشغل الشاغل، ويستحيل العمل رياضة وبهلوانية، كل النفوس التي تزهد للزهد، وتخاطر حبا بالخطر وتنزوي ارتياحا الى الإنزواء، هي نفوس بهلوانية لا مثالية. كذلك الذين يحاكمون هذه المحاكمة: اذا كانت السماء وعرة الطريق، فكل طريق وعرة توصل اليها. تلك هي العقول القاصرة.

ان المشقة محتومة ولكنها ليست مرغوبة، ومن الواجب التغلب عليها حتى تخف وتختفي. عندئذ يصبح الذي يضحي بالأرض دون أن يشعر بألم التضحية عائشاً في السماء، او ان الارض لديه تستحيل سماء.

عام 1944