شبكة ذي قار
في سبيل البعث الجزء الأول- المثالية الواقعية

في سبيل البعث

الجزء الأول

المثالية الواقعية

المثالي ليس نقيض الواقعي، لأن الواقعي ليس الذي يستسلم للواقع بل الذي يفهمه. وقد يفهمه ليماشيه ويستغله، او ليعلو عليه ويغيره. ولذلك يجوز ان يكون، وفي عرفنا يجب أن يكون، المثالي واقعيا كي يقدر على تحقيق مثله في العمل.

ولكن الواقعية السائدة، ليست سوى الاستسلام للواقع، أما بعامل الخوف والجبن، واما بباعث النفعية والاستغلال والاصح ان تسمى هذه الفئة بفئة المستسلمين والمنتفعين.

عندنا سياسيون، فيهم الشيوخ والكهول والشباب، ولكنهم مستسلمون ومنتفعون او مستسلمون لانهم منتفعون. دخل أكثرهم العمل العام دون فهم كلي للقضية القومية، ودون أن يتصوروها كلا، فضاعوا في الاجزاء، وعجزوا عن نفع القضية، فرأوا عندئذ ان لا بأس من الانتفاع بها.

وعندنا إلى جانب هؤلاء، جيل جديد، مرشح لان يكون قوميا، دفعته أخطاء السياسيين ومغالاتهم الى أن يعتبر ويفكر. وهذا الجيل لا يزال في دور النشوء والتهيؤ، لم يتسلم سلطة ولم يصل بعد الى مرحلة التحقيق، وسيبقى زمنا طويلا. اذا فهم حقيقة مهمته – في دور النضال.

والنضال يسمح له، بل يشترط عليه ان يكون متشددا في مطاليبه، دقيقا في المحافظة على مبادئه، مبتعدا عن كل تساهل تقضي به السياسة ويبرره استعجال النجاح.

عام 1943  

في سبيل البعث الجزء الأول- المثالية الموهومة

في سبيل البعث

الجزء الأول

المثالية الموهومة

كثيرا ما تقرن المثالية باسم البعث العربي وبأعضائه. تارة تقذف على سبيل النقد ويراد فيها ان البعثيين غير واقعيين، وتارة تقال في معرض المدح. ولكن أشك كثيرا في أن الذين يمدحوننا بهذا النعت يدركون تماما ما نفهم نحن من المثالية.

مثاليتنا هي هذه الروح المتفائلة الواثقة من نفسها ومن الأمة والمستقبل. هذه الروح المؤمنة التي تعتقد ان المبادئ السامية لم توجد للتظرف بالكلام عنها، ولم توجد لتكتب على الورق، وانما هي الحياة بعينها، وأنها تحققت في كثير من مراحل التاريخ عندما وجد المؤمنون العاملون الصادقون، وانها يمكن ان تتحقق من جديد. هذه المثالية هي في ان نعيش في صميم هذا الوسط الذي نرى مفاسده في كل ناحية والذي صممنا على محاربته والظفر عليه، دون أن نفقد أملنا بأن يخرج من صميم هذا الوسط الفاسد نور الحياة العربية.

انها في ان نكون على اتصال دائم مع هذا المجتمع، وعلى اتصال أشد وأوثق مع مبادئنا وروح أمتنا، عندها نكون مثاليين وواقعيين في آن واحد.

أين هي المثالية الوهمية التي ينسبونها الينا فما دمنا نثبت يوما بعد يوم بأن هذه المبادئ هي حياة نابضة بالدم وانها تجند جنودا أحياء.

ان هذا الجيل يزداد يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة، فهل هذا وهم أم هو الحقيقة بعينها؟  

عام 1943  

في سبيل البعث الجزء الأول – الإيمان

في سبيل البعث

الجزء الأول

الإيمان

 ان الأساس الخالد لعملنا، الأساس الذي لا يتبدل ولا يستغنى عنه هو (الايمان). والتفاؤل مظهر بسيط من مظاهر الايمان. هذه نظرة قد يعتبرها بعضهم غيبية، ولكن الحياة برمتها تقوم عليها منذ ان وجدت الحياة الانسانية. وإذا طرحت هذه النظرة جانبا لا يبقى تاريخ ولا يبقى إنسان.

ولو أعطونا ملك الارض ولو أعطونا اليوم او في أي وقت الدولة العربية التي تتحقق فيها أهداف البعث وقالوا ان الايمان سيكون مفقودا من حياة البشر الذين يكونون هذه الدولة المثلى، لقلنا اننا نفضل ان نبقى أمة مجزأة وأمة مستعمرة ومستغلة، مظلومة ومستعبدة حتى نصل من خلال الآلام، من خلال الصراع بيننا وبين قدرنا، بيننا وبين أنفسنا، الى اكتشاف حقيقتنا الانسانية.

هذا الايمان لا يستطيع أحد ان يفخر بأنه أوجده وخلقه، هو في أعماق كل انسان، وفي أعماق كل انسان عربي. وقد شاء قدر امتنا وتراثها وقيمها الروحية والانسانية ان يعب وهذا الايمان عن نفسه بين مجموعة من الشباب، كانوا أبعد ما يكونون عن السياسة ورخص السياسة : سموا بالخياليين والمثاليين والاطفال ولكنهم في هذه المرحلة من حياة العرب، مثلوا على بعض أجزاء الارض العربية حقيقة النضال وقدسية النضال، ومثلوا شيئا أعمق من حقيقة وقدسية النضال، مثلوا التفاني والتجرد وإنكار الذات والتواضع أمام الفكرة وأمام صوت الحق وآلام الشعب.

هذا الايمان لم يقلل من شأنه أن تكون تعبيراته لم تبلغ بعد درجة النضج والوضوح اللازمين له، فثمة فرق أساسي بين المبدأ كروح، وبين المبدأ كذهن. فمبادئ الحزب كتعبيرات ذهنية هي بحاجة الى عمل طويل والى دراسة وبحث لكي ترتقي شيئا فشيئا وتفيد من دراسات الأمم الأخرى، ومن نتائج البحث العلمي والتجربة الذاتية وتجربة الآخرين.

ان طريقنا طويلة وسوف يمر عليها أفراد وأجيال لذلك يجب أن يعرف السائرون على هذه الطريق كلمة السر التي تبقي على صحة الطريق واستقامته وأمانته وان ينقلها كل فرد لآخر، وكل جيل لآخر. وكلمة السر هذه ليست نظرية يبرهن عليها وليست دستورا رياضيا، ولكنها هي الميزة التي تميز الانسان في كل عصر وكل قطر… عفويته التي تميز بين الصدق والكذب. فهذه الروح العفوية التي تغذيها التجارب ويصقلها الفكر والبحث، ولكن لا توجدها التجارب ولا العلم ولا الفكر، هذا هو المقياس وكلمة السر.

عام 1943

في سبيل البعث الجزء الأول- ثروة الحياة

في سبيل البعث

الجزء الأول

ثروة الحياة

سأحاول في هذه الكلمة ان أزيل شيئا من سوء التفاهم الذي لا يزال يحول بين الشباب الثوري وبين العدد الاكبر من الشباب العربي. اذا كان الشباب في هذه البلاد لم يأت الينا بعد بالسرعة واللهفة اللتين نريدهما فما الذنب كله يلقى عليه. اننا حتى الآن لم نعرف ان نفصح عن أفكارنا بوضوح ولا أجهدنا أنفسنا الجهد الكافي لكي يكون كلامنا مفهوما لدى الآخرين.

نعم اننا ثوريون ندعو لشكل جديد من أشكال المجتمع، نعتقد فيه الخير وتحقيق السعادة. ولكن ألا يحق للذين لم يهتدوا بعد إلى ما اهتدينا اليه ولا اطلعوا على الذي اطلعنا عليه ان يسألوا: “وما هي فضائل هذا الجديد الذي تقترحونه علينا، اننا مستاؤون من القديم، ولكن أيكفي ذلك أن يورطنا في جديد مجهول؟”

انهم على صواب، وليت هذا الجديد كان مجهولا عندهم، اذن لاكتفينا بتعريفه اليهم، ولكنهم يعرفونه معرفة خاطئة، مشبوهة، وواجبنا يقضي بأن نمحو هذه الشبهات عن وجه الحقيقة. ومن حسن الحظ اننا لسنا رجال سياسة يختارون الشوارع والحفلات لينشروا دعايتهم، ويخاطبون العقل القاصر والشعور السطحي الفائر.

 ان أحلامنا أصعب وأطماعنا أبعد. لذلك اخترنا الكتابة طريقا لبث أفكارنا وهي على عكس الخطابة تتوجه إلى العقل الهادىء الرصين والعاطفة العميقة الصادقة، هذا ما يضمن لنا انتباه الشبيبة المثقفة المتحفزة لفهم الحقيقة واعتناقها، اذا آنستها في جهة ما. ولكننا لم نعمل حتى الآن الا على تخييب ظنها فينا. وهل يروي ظمأ هذه الشبيبة ان نقتصر على لعن المجتمع البرجوازي والاشادة بذكر الفردوس الارضي الذي نحلم به حلم المؤمن بأطياف الجنة؟

لو سئلت عن أسباب ميلي للاشتراكية لأجبت: ان ما أطمع به منها ليس زيادة في ثروة المعامل بل في ثروة الحياة، وليس همي ان يتساوى الناس في توزيع الطعام بقدر ما يهمني ان يتاح لكل فرد اطلاق مواهبه وقواه. وقد لا يرى العامل الرازح تحت بؤسه في الاشتراكية الا وعدا بأن يأخذ ما هو محروم منه، ولكني لا انظر أليها أنا الا كعطاء دائم سخي، بأن نعطي الحياة اضعاف ما بذلته لنا.

حتى اليوم نظر الناس إلى الحياة نظرة الكافر الجاحد لا نظرة المؤمن الواثق. هم يستكثرون منها أقل شيء لأنهم لم ينتظروا منها شيئا. على أنها أغنى مما يظنون.

لست أصدق ان القرن الكامل من السنين يعجز عن انتاج أكثر من فرد او فردين او عشرة افراد يليق ان يمثلوا الانسانية، وان نقول في الواحد منهم هذا هو الانسان.

لقد طال الأمد على الناس وهم يعتقدون الحياة فرنا وحشيا هائلا توقد فيه الملايين منهم لاستخراج حبة من الذهب. وما أحراهم ان ينظروا اليها كحقل واسع مديد تتفتح فيه الورود والازهار من كل جانب بشتى الالوان والاشكال.

كان العرب القدماء يعتقدون ان نفس القتيل الذي لم يؤخذ بثأره تتحول بعد موته إلى طائر يحوم حول القبر صارخا متوجعا من عطشه المحرق. وكأن هذه حال ألوف النفوس توارى كل يوم في التراب قبل ان تشفي من الحياة ظمأها، لأن أوضاع المجتمع حولتها إلى حيوانات ذليلة تقضي العمر خافضة الرأس إلى الارض تبحث عن لقمتها، بدلا من أن تكون مخلوقات بشرية مشرئبة نحو النور تمنح أحسن ما عندها.

انني أفكر لكل الذين يتململون في زوايا القبور من ثقل الآمال التي لم يتح لهم المجتمع تحقيقها في الحياة، ومن كنوز الخير والحب والحماسة التي بقيت كامنة في قلوبهم وما تسنى لهم اظهارها واستخدامها. انهم أشبه بشجرة مورقة نقطعها ونلقيها في النار فتزهر وهي تحترق.

اذا كنت أدعو إلى الاشتراكية فلكي لا تحرم الحياة من مواهب هذه النفوس وقواها الدفينة وجهودها الحرة الخصبة. ما نظرت إلى الاشتراكية في يوم من الايام كواسطة لاشباع الجياع وإلباس العراة فحسب، ولا يهمني الجائع لمجرد كونه جائعا بل للممكنات الموجودة فيه، التي يحول الجوع دون ظهورها، ولا أرى الاكل غاية له، بل سبيلا ليتحرر من الضرورات الحيوانية وينصرف إلى القيام بوظيفته الانسانية.

ان الذي يظن الاشتراكية دينا للشفقة مخطىء أيما خطأ، وما نحن رهبان نلوذ بالرحمة لنطمئن وجدانا أقلقه مرأى البؤس والشقاء حتى نعظم في عيون أنفسنا وننام هادئي البال. اننا في دفاعنا عن الجماهير المحرومة لا نمنحهم صدقة بل نطلب لهم حقا، ولا يهمنا تخفيف البؤس اذا لم يكن ذلك لزيادة ثروة الحياة.

اذا سئلت عن تعريف للاشتراكية فلن أنشده في كتب ماركس ولينين وانما أجيب: «انها دين الحياة، وظفر الحياة على الموت.

فهي بفتحها باب العمل أمام الجميع، وسماحها لكل مواهب البشر وفضائلهم ان تتفتح وتنطلق وتستخدم، تحفظ ملك الحياة للحياة، ولا تبقي للموت الا اللحم الجاف والعظام النخرة.

عام 1936

في سبيل البعث الجزء الأول- عهد البطولة

في سبيل البعث

الجزء الأول

عهد البطولة

الآن تنطوي صفحة من تاريخ نهضتنا العربية وصفحة جديدة تبدأ، تنطوي صفحة الضعفاء الذين يقابلون مصائب الوطن بالبكاء وبأن يقولوا “لا حول ولا قوة إلا بالله”، وصفحة النفعيين الذين ملأوا جيوبهم ثم قالوا” (لا داعي للعجلة، كل شيء يتم بالتطور البطيء)، صفحة الجبناء الذين يعترفون بفساد المجتمع إذا ما خلوا لأنفسهم حتى إذا خرجوا إلى الطريق كانوا أول من يطأطئ رأسه لهذه المفاسد…

وتبدأ صفحة جديدة، صفحة الذين يجابهون المعضلات العامة ببرودة العقل ولهيب الإيمان، ويجاهرون بأفكارهم ولو وقف ضدهم أهل الأرض جميعا، ويسيرون في الحياة عراة النفوس. هؤلاء هم الذين يفتتحون عهد البطولة.

عهد البطولة وأكاد أقول عهد الطفولة، لان النشء الذي يتأهب اليوم لدخول هذه المعركة له صدق الأطفال وصراحتهم، فهو لا يفهم ما يسمونه سياسة، ولا يصدق أن الحق يحتاج إلى براقع، والقضية العادلة إلى تكتم وجمجمة.

حياة هؤلاء ستكون خطا واضحا مستقيما لا فرق بين باطنها وظاهرها ولا تناقض بين يومها وأمسها فلا يقال عن أحدهم “نعم.. سارق ولكنه يخدم وطنه” ولا يقودون في الصباح مظاهرة ويأكلون في المساء على مائدة الظالمين. الصلابة في الرأي صفة من أجل صفاتهم، فلا يقبلون في عقيدتهم هوادة، ولا يعرفون المسايرة. فإذا رأوا الحق في جهة عادوا من أجله كل الجهات الأخرى، وبدلا من أن يسعوا لإرضاء كل الناس اغضبوا كل من يعتقدون بخطئه وفساده. إنهم قساة على أنفسهم، قساة على غيرهم، إذا اكتشفوا في فكرهم خطأ رجعوا عنه غير هيابين ولا خجلين، لان غايتهم الحقيقة لا أنفسهم. وإذا تبينوا الحق في مكان أنكر من أجله الابن أباه وهجر الصديق صديقه.

هؤلاء اليوم قليلون وربما أصبحوا في الغد أقل إذا اصطدموا بالمصاعب التي تنتظرهم، ورأوا الويلات تنزل بهم واللعنات تنصب عليهم. ولكن المستقبل لهم لأنهم يفصحون عن مشاعر ملايين الناس الذين قص الظلم ألسنتهم.

إن الأسلحة التي تهدد هذا النشء، كثيرة مختلفة، وثمة سلاح أمضى من السجن والتعذيب، هو سلاح البرودة التي يقابله بها بعض مواطنيه، والابتسامة الساخرة التي يجيبون بها على ندائه وحماسته. إنهم سيقولون “دعوا هؤلاء الأطفال يلعبون برهة من الزمان ويحاولون تناول القمر بأيديهم القصيرة، إن الواقع كفيل بإرجاعهم إلى العقل”، ولكن واجب هذا النشء، أن تزيده برودة مواطنيه غيرة وإيمانا، وان يذكر ان بقاء بلاده حتى الآن في تأخرها المعيب هو من جراء هذه الابتسامة الساخرة التي يتسلح بها الضعفاء كلما دعاهم الواجب واستيقظ في ضمائرهم صوت الحق.

ليست البطولة دائما في المهاجمة، بل قد تكون كذلك في الصبر والثبات، وليست الشجاعة دائماً في محاربة العدو الظاهري فحسب، بل إنما هي أيضا – وعلى الأخص – محاربة العدو الباطني أي أن يحارب المرء في نفسه اليأس والفتور وحب الراحة.

في هذا العهد الجديد الذي بدأت تباشير صبحه تختلج في الأفق، نريد أن تكون النهضة والاستيقاظ في كل عواطفنا الشريفة ومواهبنا العالية لا ان تنحصر اليقظة في عاطفة واحدة ضيقة. لم يعد يرضينا أن نسمع ان ذلك الشخص وطني إذا لم يكن في الوقت نفسه إنسانيا، عفيف النفس، كريم الخلق، فالعاطفة الوطنية إذا لم تكن مصحوبة بهذه الصفات قد لا تكون غير مجرد كره للأجنبي.

وهذه ليست غايتنا. لسنا نطلب الاستقلال لننعزل عن بقية الشعوب، ونقيم سدا بيننا وبين الحضارة الإنسانية. لسنا نصبو إلى الحرية لنعيش في الفوضى، أو نرجع إلى ظلام القرون الوسطى. إننا نطلب الاستقلال والحرية لأنهما حق وعدل قبل كل شيء ولأنهما وسيلة لإطلاق مواهبنا العالية وقوانا المبدعة، وكيما نحقق على هذه البقعة من الأرض التي هي بلادنا غايتنا وغاية كل إنسان، الإنسانية الكاملة.

تشرين الأول 1935