شبكة ذي قار
فِي إِشْكَالِيَّةِ التَّجْميدِ والتَّجْدِيدِ فِي المَنَاهِجِ المَعْرِفِيَّة العَرَبِيَّة تَبْقَى الحَرَكَة النَّقْدِيَّة الحَكَم الفَيْصَل

 

فِي إِشْكَالِيَّةِ التَّجْميدِ والتَّجْدِيدِ فِي المَنَاهِجِ المَعْرِفِيَّة العَرَبِيَّة تَبْقَى الحَرَكَة النَّقْدِيَّة الحَكَم الفَيْصَل

حسن خليل غريب

 

تمهيد في الانتقال المعرفي الفكري من منهج معرفي جامد إلى منهج معرفي قومي متطور:

على الرغم من أن الإمبراطورية العثمانية دخلت في مراحلها الأخيرة حقل تطوير النظام السياسي، وعلى الرغم من أن الحركة الثقافية العربية دخلت مرحلة النهضة على أيدي مفكرين كبار، انتقلت البيئة المعرفية العربية من مرحلة النظام السياسي الإسلامي العثماني إلى مرحلة النظام السياسي العالمي بخطوة سريعة.  وكان الانتقال في جانب منه نتيجة عمل عسكري اعقب انتهاء الحرب العالمية الاولى وليس نتيجة  تطور معرفي طبيعي. ثم تلاه بلورة فكر نتج من رحم معاناة الامة العربية مع الاستعمار والنفوذ الغربي . ولم تترافق النقلات الناتجة عن التغييرات السياسية بنقلة ثقافية فكرية بنفس المستوى.  فكان الانتقال من عصر إلى عصر آخر سياسياً أكثر منه فكرياً وثقافياً. فالانتقال المعرفي من التجميد إلى التجديد له أسسه وشروطه. ومن أهمها البدء في نقد الثقافة السابقة: استخلاص الإيجابي منها ورفض السلبي وتأسيس للبديل، بحيث تنعكس التغييرات على بنية الثقافة الشعبية. وبغير ذلك ينقطع حبل العلاقة بين الإنتاج الفكري الجديد وميدانه الشعبي.

 كانت الثقافة الشعبية والنخبوية قبل مرحلة التحرر القومي والوطني ذات طابع وجذور دينية وغالباً ما كانت ثقافة المذاهب هي السائدة، لا يميزها التجميد والتقليد فحسب، بل ومنع التجديد أيضاً. وكان إنتاج الثقافة خاضعاً

لسلطتين: سياسية تقود واخرى دينية تُخضع إنتاجها الثقافي لمصلحة السلطة السياسية.

 وقد تزامن مع ذلك وخاصة في الربع الأول من القرن العشرين، ان مهَّدت القوى الغربية لدخولها بتعزيز الإرساليات الأجنبية الى بعض الاقطار العربية ، وكان دورها الثقافي وعاءً ينقل في الكثير منه ثقافة أُعدَّت لمجتمع آخر غير المجتمع العربي. وتواجهت الثقافة القادمة مع الثقافة المقيمة، فلا الثقافة المقيمة نقدت قديمها ولا الثقافة القادمة أخذت الواقع العربي الاجتماعي الثقافي بعين الاهتمام.  وهكذا كان مشهد البيئة الثقافية في تلك الاقطار العربية، في مثل تلك المرحلة، منفعلاً إما بتقليد التراث من دون إغناء وتجديد، أو بنقل الفكر الغربي من دون نقد و تمحيص.

ذلك السبب أدَّى إلى خوض صراعات مريرة بين التيارين. وقلائل هم الذين انخرطوا في التأسيس لورشة بناء معرفي جديد، ينقد التراث ويجدد فيه، ويستفيد من الفكر الغربي بما يتناسب مع خصوصيات وحاجات المجتمع العربي وقيمه. فكانت تلك القلة، ولا تزال، غريبة عن بيئتها لا تجد من يقف إلى جانبها إما خوفاً من التقليديين التجميديين تحت شعار الخوف من خيانة التراث، وإما اتهام من التغريبيين الذين يقيسون التقدمية بمكيال الثقافة المستوردة حصرياً.

ظهور الفكر القومي العربي:

سبقت الحركة القومية العربية ، حركة إصلاح نتجت عن صدمة الوعي بحجم التخلف العلمي والحضاري الذي يعاني منه الوطن العربي بالمقارنة مع الغرب، والذي كان احد اسبابها حملة نابليون على مصر، واتجهت تلك الحركة إلى إنقاذ الإسلام السياسي من التخلف مثل حركة المفكرين العرب الإصلاحيين وكذلك جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده و عبدالرحمن الكواكبي ، حيث رأوا  وجوب إحياء التراث العربي كمقدمة لمشروع النهضة ، كما اشروا الى ان غياب الدولة المستندة إلى الحرية وغياب إحكام العقل كان سببا في هذا التخلف، وكان الاهتمام باللغة العربية في مقدمة الجهود لاستنهاض مفهوم وقيم العروبة.

 وقد أسهمت الأحداث الطائفية في لبنان وسوريا (1860-1861) بتعزيز الوعي الى الحاجة الى المواطنة على أساس القومية العربية بعيداً عن الانتماءات الطائفية. وقد تعزز ذلك بعد ظهور الحركة القومية التركية المتعصبة مثل تركيا الفتاة والنزعة الطورانية فتطور موقف غالبية المثقفين العرب باتجاه بلورة المشروع القومي العربي الذي تميز بكونه غير عنصري،  حيث لم يشترط صلة الدم في الانتماء القومي للامة العربية وانما ركز على اللغة والثقافة والماضي والمصير المشترك . وكان من ابرز مفكريه وروّاده هو القائد المؤسس احمد ميشيل عفلق.

 وفي القرن العشرين تم تكريس الهوية الثقافية والسياسية القومية، ورغم انتشار الفكر القومي والنظم العربية التي تبنته ، الا انه يسجل على الانظمة العربية ثلاثة قضايا رئيسية :

  • فشلها في بناء الدولة القومية
  • اخفاق اغلب التجارب الوحدوية التي حدثت في النصف الثاني من القرن العشرين. ورغم حقيقة محاربة الغرب الاستعماري الشرسة لاي مشروع وحدوي عربي و دور الكيان الصهيوني المتقدم في هذا المجال ، الا ان الأسباب الداخلية لم تكن قليلة بل كانت احيانا هي الطاغية.
  • الاخفاق الخطير في ترسيخ وممارسة الحريات العامة وقيم الديموقراطية وقبول الاخر وعدم بلورة دساتير دائمة وراسخة في هذا المجال.

ان هذا يحتم المواجهة التحليلية الجريئة مع الذات للاجابة على السؤال المهم : لماذا نجح الآخرون وفشل العرب؟

لقد تميزت تلك المرحلة في النصف الثاني من القرن العشرين بغلبة ( السياسي والأمني) في الفكر القومي وقواه ودوله، وبالتالي انعكس ذلك على طبيعة العلاقة بين الانظمة العربية فكان من ابرز اسباب الخلل. فبقي ما تحت السطح الامني – السياسي تتجاذبه تركيبة معينة من المصالح الصغيرة للقوى السياسية والطائفية والتركيبة العشائرية، وليس بنى راسخة للدولة القومية او الوطنية العصرية.

على الرغم من انه على الصعيد الشعبي والجماهيري كان العمل الوحدوي هو امل الجماهير ورغبتها الملحة.

ان كل ذلك افضى الى القناعة بان تجديد المشروع العربي عموماً والفكر القومي بالذات يحتاج إلى ثلاث ركائز هي :

  • تطوير مفهوم وصيغة الدولة وتغليبه على مفهوم السلطة والنظام
  • توسيع نطاق المشاركة السياسية وممارسة الديمقراطية الحقيقية و الحريات العامة والفردية
  • التركيز مجدداً على خطط التنمية واستنهاضها عبر اقتصاد حديث ومعاصر

ونتيجة لغياب او ضعف ذلك فقد غرقت الأكثرية الساحقة من النخب العربية في خطابية الشعار السياسي، لأنها تعتبر أن المهمة الأكثر إلحاحاً هي مهمة النضال من أجل إنجاز مرحلة التحرر الوطني. وفي غمرة هذا الانغماس في إنجازها، تجاهلت التيارات والأحزاب السياسية أهمية العمل الفكري ودوره، فغرقت في السياسة على حساب إنتاج الفكر العربي الجديد وتعميقه. وإذا كنا نعطي أولوية لمعركة التحرر الوطني، فنرى أيضاً أن القيام بالمهمة الفكرية لن يعيق معركة التحرر السياسي على الإطلاق وإنما يزودها بسلاح لا يقل أهمية كي تكون اكثر وتأثيراً وفعالية.

ضرورة اعتماد الحركة القومية بعد مرحلة الانطلاق على معايير التحليل والنقد العلمي

عندما هيمنت الثقافة السياسية على الحركة التحررية، ولا تزال، افتقدت بوصلتها الفكرية وقلَّلت من شأنها، وتحت وطئة الشعارات التي غلبتها السمة العاطفية ، أهملت العناية بمنهجية التحليل والبحث الأكاديمي او العلمي عموماً. وليس ذلك فحسب، بل  نال التحليل والبحث الأكاديمي أيضاً بعض اللوم بسبب صراحته وعقلانيته وايضا تحت حجة أنه خال من “القلب”ومن حرارة النضال!

إن المصالح الحقيقية للامم ومنها الامة العربية واعتماد البحث والتحليل الواقعي العلمي سواء من خلال العمل الأكاديمي او غيره  يجب ان يستند الى العقل والى الواقع فعلاً بعيداً عن العاطفة، لان الاخيرة تمنعه من البحث عن الحقيقة المجردة، فالحقيقة إذا خضعت لمقاييس العاطفة ستظهر بثقل غير حقيقي وبمظاهر متعددة الألوان والأحجام، أما الحقيقة المجردة عن العواطف فهي الحقيقة الأساسية، وهي التي تعبِّر عن الكليات الإنسانية وليس عن الخصوصيات الفئوية. وإذا أغرقت حركة التحرر الوطني بخصوصياتها وأهملت العموميات الإنسانية فلن تجد ما يمنعها من الانحدار نحو التقوقع. لذا نرى أنه يمكننا الاعتماد على البحث العلمي والأكاديمي والوثوق به، وبغيره تكون الحقائق غير مكتملة وغير واضحة، فهي إذا بقيت خاضعة للمصالح المحدودة تبقى عاجزة عن اكتساب أهدافها ووظائفها الإنسانية.

لتلك الأسباب لا ينبغي أن يُفهم من دعوتنا إلى البحث عن الحقيقة الواقعية بطريقة مجردة، خاصة تلك التي لها علاقة بمشروع التطويرالقومي، بأنها دعوة إلى إلغاء قيمة العواطف او الحماس  التي يجب أن تتوفَّر للمناضلين. فإن قضايا الأمة، كي تبقى ذات علاقة وثيقة مع عمقها الإنساني، لا بُدَّ من أن يخضع البحث عنها لمقاييس جادة بالتجريد والتجرد عن الأهواء، ومن بعدها يأتي دور حرارة الإيمان بها.

لم تعط النقلة المفاجئة، التي واجهتها الأمة من حال إلى حال، الفرصة للقيام بما يُسمّى بمرحلة الانتقال الطبيعي في التفتيش عن الحقائق بتجرد، أي للانتقال بالأمة من مرحلة معرفية إلى أخرى، بل وجدت نفسها وجهاً لوجه مع خصم جديد، فراحت تعد نفسها لمواجهته. فكان السلاح المتيسِّر هو سلاح التعبئة الفكرية والسياسية حسب المناهج الإيمانية المكتسبة من عجينة الثقافات السابقة. وإن ما أضاف قوة لتلك المناهج هو فشل التيارات التي استندت إلى نظريات مستوردة جاهزة كانت سبباً لاتهامات نال منها التعقل والعمل العلمي و الأكاديمي نصيبه من الاتهام بالقصور عن فهم طبيعة المرحلة الاستثنائية في حياة الأمة ومتطلبات النضال الاستثنائية.

ولما انتشر تأثير الحركات السياسية والحزبية ذات النظريات الجاهزة، ولما تكاثرت الدعوات المشبوهة لمهادنة الاستعمار الجديد تحت حجة غياب تكافؤ القوى، كانت الدعوات إلى تعبئة الأمة بمناهج الوجدان والضمير قد أخذت تسن أسلحتها المنهجية، فبدا وكأن الأمة قد انقسمت إلى دعاة طوباويين والى دعاة علميين، فكانت أسلحة تلك المعركة تبدو وكأنها قائمة على الاستفزاز من خلال اتهامات يوجهها البعض إلى قصور مناهج الآخر.

فليس إذن، من منطلق التوفيق والمجاملة، أن نقول بأن مناهج المعرفة السياسية تتكامل وتتعاون وتصبح أهدافها أكثر قرباً للتحقق إذا تكافلت تلك المناهج وتعاونت، بدءًا من معرفة الحقائق الواقعية العلمية وصولاً إلى التعبئة والحشد في سبيل تحقيق النجاح لاهداف واقعية تستند الى تلك الحقائق التي ينبغي ان تخدم قضايا الأمة العربية  ومصالحها واهدافها الاستراتيجية.

من بديهيات الأمور أن تستعين الحركات الثورية التقدمية بمختلف الوسائل الثورية شرط ان تنسجم مع ما تدعو اليه من مبادئ تقدمية لتحقيق أهدافها. على أن لا يشكل تحفيز الجماهير بمناهج محددة صفة المناهج الجامدة الثابتة على اساس انها تصلح لكل زمان ومكان.

وهنا من الضرورة بمكان التمييز بين التراث العربي المُلهِم من الحضارة العربية وانجازاتها الانسانية، الذي يشكل  قواعد ودعامات ضرورية نستند عليها في خلق الثقة اللازمة بين ابناء الامة لتحقيق الانطلاق الجديد نحو بعثها ونهضتها المعاصرة ، وبين الثقافة الشعبية التي تستخدم للتعبئة او التحريض، فهما شيئان مختلفان. وفي ثقافة الحزب القومية فان تراث الحضارة العربية وانجازاتها العلمية والانسانية الرائعة التي اغنت بها الحضارة الانسانية،هي حقائق علمية تاريخية راسخة، وهي ليست للتعبئة ، وانما قواعد ثقة للانطلاق في بعث الامة.

نلاحظ، من خلال مراقبة علمية، أن الطبقات المثقفة في الأمة، في المراحل الراهنة، تتحوَّل إلى مزيد من تجذير مستواها الثقافي والاتجاه به نحو المعرفة الأكثر عمقاً من السابق، السبب الذي يوجب على التيارات الثورية فيها أن تعيد صياغة وسائلها في التعبئة لمواصلة النضال. فلا ضير، هنا، من أن نعمل على تعميق المعرفة إلى جانب العمل من أجل تغذية النضال بأكثر ما يمكن من الاندفاع والحماس.

 فدعوة الحب أولاً ثم المعرفة، يجب ان تُعزَّز بالحقائق الواقعية بموجب البيئة الثقافية الجديدة المتطورة . وإن أساليب التخويف من نقد المناهج الفكرية السياسية المستندة الى المناهج الدينية، لم يعد صالحاً، خاصة في هذه المرحلة التي انكشف فيها زيف أكثر التيارات الدينية الإسلامية الأصولية.

 إنكشاف أهداف حركات الإسلام السياسي يساعد على نقد الثقافة التقليدية:

ان البيئة الثقافية الجديدة والمتطورة، وانكشاف الغطاء عن حركات الإسلام السياسي الرسمي وغير الرسمي، تشكل بدايات على الحركة القومية العربية أن تستفيد منها للبدء في تأسيس مرحلة لنقد الفكر المذهبي التفتيتي. على أن تبدأ المرحلة التأسيسية داخل الحركة القومية العربية نفسها على مستوى الإعداد لمشروع نقدي موضوعي يستهدف، في بدايته تعويد العقل الأيديولوجي القومي على أسلوب النقد ومكاشفة الذات والتحليل العلمي الواقعي.

وبالمقابل فان شدة الاستهداف او خطورة المرحلة التي تمر بها الامة العربية منذ قرن من الزمان ومتطلبات النضال التحرري يجب ان لا تكون سبب لإعاقة المراجعة النقدية لتجارب الفكر القومي نفسه وتطبيقاته على ارض الواقع. ولا ان تُستَخدَم كحجة لمصادرة الحريات او اشاعة الاستبداد ، او تكون مدعاة للمزايدة باستخدام اولوية قضايا الامة الملحة، اوتضليل الجماهير بها على اساس ان النضال يقتضي تاجيل القضايا الجوهرية الاخرى .

لان هذه المراجعة التحليلية النقدية تشكل خطوة حيوية لا غنى عنها من اجل ديمومة الفكر القومي وقوَّتَه، كما انها ضرورية لكي تكون الجماهير كما يكون الفكر القومي نفسه، أكثر وثوقاً بمبادئه الفكرية والسياسية والمجتمعية.

مناهج المعرفة الغربية لا تؤخذ بكاملها أو تُرفض بكاملها:

 كان الانتقال المعرفي في بداية القرن العشرين انتقالاً سياسياً، ولهذا انقسمت المناهج المعرفية إلى جزئين متناقضين: إما منبهر بالمنهج الغربي الجديد، وإما متمسك بالمنهج القديم ، فسادت ثنائية «الغربة والتغريب».  وتناسى الطرفان أن مناهج المعرفة الغربية ليست ثنائية «الغزو والإشعاع»، إما أن تُؤخذ بكاملها أو تُرفض بكاملها. بل يمكن اعتبارها تراثاً إنسانياً أصبح ملكاً للإنسانية يمكن الاستفادة من المفيد منه والملائم لواقع امتنا وقيمها ، وترك ما لا يصلح منه.

 لقد طال انتظار البدء بمرحلة نقد المناهج الفكرية والممارسات التطبيقية لها للمرحلة السابقة، وإن ظهرت، حتى في لحظتنا الراهنة، فإنها لا تخرج عن كونها خجولة خوفاً من سيف التقليديين، ورهبة من الاصطدام بعقول العامة السهلة الاستثارة والتحريض. وأصبحت المهمة التحليلية النقدية أكثر صعوبة بعد أن أطلت اصوليتان متوازيتان هما الأصولية الإسلامية حاملة سيف التكفير، واصولية الجمود الفكري المتغطي بشعارات خطورة المرحلة او المتحجج باولوية قضايا الامة المصيرية للحيلولة دون المواجهة والتطوير . وقد تطول المسافة ويمتد الزمن أكثر إذا لم نعمل على ولادة الحركة النقدية اليوم قبل الغد، وتضيع من الأمة فرص الإسراع في التغيير.

 إن خوفنا من ضياع الفرص والوقت ناتج عن أن التغيير الحقيقي، خاصة على الصعيد المعرفي، لا يمكن أن يتم بين ليلة وضحاها، لأن من شروط نجاحه أن يتعمَّق في عقل مجموعات واسعة من الذين نذروا أنفسهم للتغيير، ولا يمكننا أن نتوهَّم بأن التغيير يمكن أن يتم من خلال بحث من هنا أو مقال من هناك أو محاضرة من هنالك، فالتغيير هو عملية تربوية مستمرة تستهلك، أحياناً كثيرة، حياة أجيال تتبعها أجيال.

 فإلى دعاة تأخير المرحلة النقدية تحت ذريعة أن المرحلة غير مناسبة، لارتباطها بمرحلة التحرر الوطني والقومي خوفاً من انعكاس سلبياتها على علاقات القوى المتحالفة في معركة التحرر، نقول إن فكر او حركة بيزنطية تسقط كل يوم ونحن لا ندري، وسقوطها غير مرتبط بالتفرغ لتحديد مسارات جديدة للفكر القومي. وهي غير مرتبطة أيضاً بمسألة الصراع الفكري، والصراع الفكري لا ينتظر وهو بالفعل غير منتظر، لأن الرجعيات التقليدية والأصوليات التقليدية مما اشرنا اليه اعلاه، لا تعطينا أية هدنة بل هي تصارعنا في كل لحظة، فالفكر الأصولي بكل اشكاله ودوافعه يتابع معركته سواءٌ أعملنا على تجنبها أم لم نعمل.

 أما من ناحية أخرى، فيمكننا ونحن نؤدي مهمتنا التحليلية النقدية، أن يكون خطابنا مرناً وموضوعياً ووحدوياً. فانفتاح الخطاب السياسي ومرونته هو من المسائل المطلوبة ولكن ليس على حساب المبادئ. فالمبادئ، بالنسبة لتيارات التغيير هي أكثر من ضرورية، ووضوح المبادئ هو حصانة لها من الانحراف، لأنه على هديها يمكن تصحيح المسار إذا ما حصلت انحرافات، أما في ظلال غيابها فإنه لا يمكن تصويب المسارات هذا إذا لم نضيعها بالكامل.

 الفكر القومي منهج صادق لا يقبل التجميل والتزويق:

 من اجل ان يستعيد الفكر القومي مكانته وريادته ومصداقيته بين الجماهير ، لا بُدَّ له من أن يكون واضحا وحاسماً في خياراته الفكرية وإلاَّ فسوف يدع شتى تياراته السياسية تسير على غير هدى. وسينعكس التردد في حسم الخيارات على مسار  الجماهير العربية ومواقفها. ولن تكون البنى الفكرية لتيارات التطوير بمنأى عن البلبلة.

 ولان الجماهير تكون ، في الواقع، أقرب إلى سلوك الطريق الفكري الذي يتطلَّب عناءً أقل، لذا يكون طريق الفكر الغيبي أكثر قرباً  من عقول الجماهير لأنه لا يتطلَّب منهم سوى التصديق والتسليم. وفي هذا المجال يستطيع دعاة النهج الأصولي ايا كان أن يصل إلى قلوبهم بشكل أسرع وأيسر من السالك لطريق الفكر القومي المتطور.  وهنا يفقد المشروع القومي التوازن في المقدرة على إيصال المعرفة الإيمانية العقلانية  مع الأصولي الذي يتقن فن تفسير الفكر الغيبي او العواطف أكثر بكثير من الذي يقوم منهجه الفكري على المنهج العلماني العلمي والعقلاني.

توضيح مصدر مسؤول في قيادة قطر العراق

 أدلى مصدر مسؤول في قيادة قطر العراق بما يلي:

تتداول بعض وسائل الإعلام المرئية والمقروءة مقابلات وتحليلات منسوبة إلى العلاقة مع البعث من قبل أشخاص أو جهات. كما تتداول بعض وسائل التواصل الاجتماعي، تقريراً يفيد أنه منسوب إلى مصدر في حزب البعث – قطر العراق يبني تقديراته على تصورات افتراضية تتناول الوضع السياسي في العراق وانهيار نظام العملية السياسية التي أفرزها الاحتلال، وتربط هذه التصورات الافتراضية بما تنشره بعض القنوات والصحف من مقالات وتحليلات ومقابلات مع بعض الأشخاص ذات صلة بوضع العراق.

 وهنا يهم قيادة القطر في العراق أن توضح ما يلي:

إن من يعبرّ عن موقف حزب البعث العربي الاشتراكي بما يتعلق بالوضع الداخلي للعراق أو العلاقة مع الخارج هو قيادته، وهي عندما تريد أن تعلن موقفاً أو أن تحدد مساراً، تعلنه بشكل واضح لا لبس فيه ولا التباس حوله ولا تنسبه إلى شخص ما أو مصدر مجهول الهوية بقصد إحداث التشويش على مواقف الحزب وعلاقاته الوطنية ودوره في مقاومة العملية السياسية التي أفرزها الاحتلال.

إن قيادة قطر العراق تهيب بكل الغيورين على العراق وتوقهم لرؤيته حراً عربياً متحرراً من كل أشكال الاحتلال والارتهان للخارج الدولي والإقليمي ألَّا يقعوا في مطب التسريبات الإعلامية المفبركة وترويجات وسائل التواصل الاجتماعي أو وسائل الإعلام بخصوص ما يروجه بعض الأشخاص، وألَّا يبنوا على تقديرات افتراضية بكل ما يتعلق بمعطى الوضع السياسي في القطر.

بيان قيادة قطر سوريا حول دعوة الرفاق للعودة الى سوريا

في بيان لقيادة قطر سوريا لحزب البعث العربي الاشتراكي :

اسقاط النظام السياسي في سوريا ،اسقطه كمنتحل صفة باسم البعث

بناء الدولة المدنية الديموقراطية مهمة وطنية على قاعدة خطاب التطمين الوطني

دعوة البعثيين للعودة الى سوريا والمساهمة في ورشة البناء الوطني لسوريا.

 

اعتبرت قيادة قطر سوريا لحزب البعث العربي الاشتراكي   ، ان اسقاط النظام في لم ينهه كنظام سياسي وحسب وانما اسقطه وبدرجة اولى كمنتحل صفة   لممارسته  للحكم تحت شعار البعث الذي تعرض لا فظع عملية تشويه لاهدافه الثورية  لاكثر من خمسة عقود   وكانت تداعياتها شديدة الوطأة على سوريا والامة العربية.

 جاء ذلك في بيان لقيادة القطر في مايلي نصه.

 

بعد ٥٨ عاما على الردة الشباطية ، سقط النظام السياسي الذي انتحل صفة البعث وحكم باسمه لمدى قارب  الستة عقود كانت شديدة الوطأة على جماهير سوريا وشديدة السلبية على الامة العربية وامنها القومي. إن  اسقاط هذا النظام لم ينهه فقط كنظام سياسي حكم سوريا بالحديد والنار والغى الحياة السياسية بمصادرته للحريات العامة  ، بل انهاه كمنتحلَ صفةٍ  في افظع عملية تزوير لاهداف الامة في الوحدة والحرية والاشتراكية.

لقد عانى مناضلو البعث من عسف النظام وقمعه ،كما لم تعانه اية قوة سياسية اخرى ، حيث قضى المئات من الرفاق ومن مختلف المستويات الحزبية تحت التعذيب في اقبية السجون والمعتقلات ،هذا الى الذين تمت عمليات اغتيالهم  في داخل سوريا وخارجها والمختفين قسراً اضافة الى الذين امضوا عشرات السنين في السجون ، لاتهمة  لهم الا تهمة الانتماء لحزب البعث العربي الاشتراكي.

ان اسقاط هذا النظام الا ستبدادي ، لم يزل كابوساً ثقيلاً عن كاهل شعب سوريا  وحسب ، بل ازال ايضاً كابوساً عن صدر حركة الثورة العربية بكل فصائلها التقدمية وفي الطليعة منها الحزب الذي انطلق من ساحة سوريا الى رحاب الوطن العربي بعد مؤتمره التأسيسي على ضفاف بردى في السابع من نيسان ١٩٤٧. وعليه فإن اسقاط هذا النظام هو خطوة كان لا بد  منها لادخال سوريا معطى مرحلة جديدة لجهة بناء دولتها الوطنية الديموقراطية كما لجهة استعادتها لعروبتها التي تعرضت للتشويه والتجويف منذ تسلط نظام الردة الشباطية على مقدرات البلاد وتحكم بمصير العباد.

ان حزبنا، حزب البعث العربي الاشتراكي ، الذي بقي قابضاً على جمر المواقف المبدأية والذي لم يوفر جهداً لحماية شرعية الحزب الذي جسدته القيادة القومية بكل رموزها التاريخية من القائد المؤسس الاستاذ ميشيل عفلق الذي حكم عليه النظام الاسدي بالاعدام الى القائد الشهيد صدام حسين  وكل قادة الحزب التاريخيين   ، كان شديد اليقين ، بأن اسقاط النظام سيؤدي حكماً الى اسقاط مرتكزاته الامنية وكل الاغلفة التي تغطى بها ومنها تغلفه بشعار الحزب واهدافه. وهذا ماحصل فعلاً . اذ لم تكد تمضي ايام قليلة على اسقاط النظام ، حتى أُعْلِنَ عن حل الحزب الذي كان حزب سلطة بكل ماتعني به الكلمة من معنى ، وبعكس ماتنطوي حقيقة البعث كحزب جماهيري انبثق عن ارادة شعبية.

 فالحزب الذي يتشكل بقرار سلطوي ، يسقط بسقوط السلطة ويغادر الحياة السياسية مع مغادرة رموز النظام لموقعهم في السلطة. وبهذا السقوط للنظام تطوى صفحة التزوير الذي طال البعث اسماً وشعاراً واهدافاً وهو الذي لم تهتز جذوره العميقة  في البنية الشعبية العربية وخاصة بنية المجتمع السوري الذي كان له فضل السبق في احتضان انطلاقة  البعث لسبعة وسبعين عاماً خلت وكانت مسيرته حافلة بالومضات المضيئة   قبل انقضاض المرتدين عليه والحكم باسمه في تآمر موصوف على الحزب وحركة النضال العربي كما على الامة العربية.

ان قيادة قطر سوريا  لحزب البعث العربي الاشتراكي  ،التي تعتبر اسقاط النظام انجازاً هاماً على طريق استرداد سوريا من  اصطفافها مع القوى المعادية للعروبة ، ترى ان تحديات اعادة البناء الوطني تتطلب اطلاق ورشة عمل تشارك فيها كل القوى الحريصة على وحدة سوريا وعروبتها وديموقراطية الحياة السياسية فيها، وخاصة القوى الوطنية والتقدمية والديموقراطية ، لاجل اقامة الدولة المدنية التي يجب ان تأخذ دورها وتحتل موقعها في الخارطة السياسية لاقامة الدولة الوطنية الديموقراطية ، دولة المساواة في المواطنة بكل الحقوق والواجبات .

 وعليه ان تخليص سوريا ، من اعباء التركة الثقيلة التي اثقلت كاهلها على مدى عقود من الزمن والاستجابة للارادة الشعبية التي عبرت عن نفسها في مشهدية رائعة عمت كل المدن والحواضر السورية  في اول يوم جمعة يعقب سقوط النظام  ، هي مهمة وطنية توجب  اطلاق خطاب ينطوي على كل عناصر التطمين الوطني لكل الطيف المجتمعي ، ويحدد الاليات العملية والسياسية لمواجهة التحديات المتعددة الجوانب سواء المتعلق منها بتحديات الخطر الخارجي وعلى رأسه الخطر الصهيوني ، كما التحديات المتعلقة بجانب   البناء السياسي الداخلي لانتاج نظام سياسي جديد تحمكه ديموقراطية وتعددية الحياة  السياسية وتداول السلطة وتطبيق احكام العدالة الانتقالية .

ان القوى الوطنية والقومية  والديموقراطية  وعلى ابواب دخول سوريا الحبيبة  مرحلة الانتقال السياسي ، مدعوة الى توحيد صفوفها ضمن اطار جبهوي على مستوى اطرها التنظيمية ورؤيتها السياسية للتغيير الوطني الديموقراطي . وان حزبنا ، حزب البعث العربي الاشتراكي الذي قدّم مالم يقدمه حزب اخر في مواجهة استبداد النظام وقمعه وشعوبيته  لن يوفر جهداً لتشكيل الاطار الوطني الجامع و يدعو كافة الرفاق الذين سَلِموا من الاغتيال والاخفاء القسري  والاعتقال  و الذين دفعهم استبداد نظام الردة الشباطية  الى الابتعاد طويلاً عن بلدهم وحاضنتهم الشعبية ، العودة الى سوريا والانخراط في ورشة العمل الوطني مع سائر القوى التي ساهمت باسقاط النظام والمعنية ببناء الدولة الوطنية الديموقراطية  واعادة الاعتبار لموقع ودور سوريا القومي.

تحية لشهداء البعث الذين قضوا في اقبية نظام الردة الشباطية

 وتحية لكل المناضلين الذين تحملوا عسف النظام وقمعه واستبداده

عاشت الامة العربية وعاشت سوريا حرة عربية موحدة الارض والشعب والمؤسسات.

قيادة قطر سوريا لحزب البعث العربي الاشتراكي

 في ٢٠٢٤/١٢/١٥

 

العَهد الجَديد والثُلاثيّة المَطلوبَة للبِناءِ الوَطَنيّ للدَولَة

العَهد الجَديد

والثُلاثيّة المَطلوبَة للبِناءِ الوَطَنيّ للدَولَة

بقلم المحامي حسن بيان 

 

بعد سنتين وشهرين وعشرة ايام على الفراغ الرئاسي في لبنان، انتخب المجلس النيابي قائد الجيش العماد جوزيف عون رئيساً للجمهورية باكثرية مريحة في الدورة الثانية من الجلسة الانتخابية التي عقدت في التاسع من كانون الثاني ٢٠٢٥ بحضور كافة اعضاء المجلس كما بحضور دبلوماسي ملفت للنظر.

بعد اداء القسم الدستوري ، وجه  الرئيس المنتخب خطاباً الى المجلس والرأي العام ، حدّد فيه عناوين مايعتبره برنامج حكم ، بعضٌ مما انطوى عليه من بنود سبق وتم تناولها في كل خطابات القسم التي سبقت ، وكان اللبنانيون ينظرون اليها بارتياح لما تنطوي عليه نظرياً من توجهات اصلاحية، لكن الاحباط سرعان ما كان يخيم على الواقع السياسي بعد التربع على كرسي الرئاسة وبدء ادارة الحياة السياسية على قواعد المحاصصة .

 بعد الانتهاء من عملية ملء الشغور في موقع الرئاسة انطلقت عجلة اعادة    الانتظام لعمل مرافق الدولة انطلاقاً  من تشكيل حكومة جديدة وفق ماينص عليه الدستور اللبناني. بعد استشارات  يوم ماراثوني ، اسفر “البونتاج “، عن تسمية رئيس محكمة العدل الدولية القاضي نواف سلام لتكليفه بتشكيل الحكومة الجديدة.

وفي كلمته التي وجهها بعد الاجتماع الثلاثي في قصر بعبدا وتسلمه كتاب التكليف ، لاقى خطاب رئيس الجمهورية في العناوين الاساسية لما يمكن اعتباره خارطة حكم للعهد الجديد ، وموجهاً رسالة لمن اعتبر نفسه “وقع في كمين ”  ، بعكس ماكان سبق وتم التفاهم عليه مع الرئيس المنتخب قبل انطلاق الدورة الثانية من التصويت ، بأن لا اقصاء لاحد وان اليد ممدودة للتعاون مع الجميع تحت سقف الدستور او ما درج على تسميته “بالكتاب “.  وقد دخل الى الاجتماع الثلاثي متأبطاً به وبعد خروجه شاهر  به الى الصحفيين عند توجيه رسالته من على منبر القصر الجمهوري.

 

وبعيداً عن السجالات ووجهات النظر التي اثيرت حول دستورية انتخاب قائد الجيش ، التي ينطلق بعضها  من حسن نيةٍ وتمسكٍ بالنص الدستوري ، وبعض اخر يستبطن خلفيات لاعلاقة لها بالانتظام الدستوري ، فإن ملء الشغور ، حصل على وقع شبه اجماع نيابي ، بحيث لم يعد بالامكان تقديم مراجعة طعن بالعملية ، وبالتالي تصبح النتيجة مبرمة . واستطراداً ، و حتى لو اقتضى الامر البحث في مطابقة دستورية العملية الانتخابية بمقدماتها ونتائجها وتطلب الامر ايضاً تفسيراً لدستوريتها، فان صلاحية تفسير الدستور مناطة بالمجلس ، وهو حكماً لن يعطي تفسيراً يناقض ما قرره   وبما يؤدي الى اعتبار العملية غير دستورية وبالتالي القضاء  ببطلانها ، وهو الذي صوت باكثرية تفوق الثلاثة ارباع لصالح الرئيس المنتخب.

 بغض النظر عن كل هذا، لان لبنان ومنذ نيله استقلاله، لم يكن النص الدستوري هو الناظم الوحيد  لادارة  الشأن العام ، بل كانت تنشأ على جوانبه دائماً ماعرف بالاتفاقات التي ترتقي حد الميثاق  او الاعراف والاخذ بها على قاعدة “المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً” ، او مابات يعرف بالسوابق ، بحيث يبنى اللاحق على السابق وهلم جراً.

  المهم ، ان ملء الشغور في المرافق الدستورية والادراية وكل ماله علاقة بتسيير المرافق العامة، افضل من الفراغ وانفع للعامة التي تعطلت مصالحها من جراء الخلل في بنية الدولة وهو ما ادى الى الغاء وظيفتها الحمائية والرعائية.

 مما لاشك فيه، ان ماورد في خطاب القسم وخطاب التكليف ، ترك ارتياحاً لدى ” العامة ” وان لم يكن الامر كذلك لدى “الخاصة ” ، التي استمرأت ادارتها للسلطة على قواعد المحاصصة ، ومارست الزبائية في الادارة بكل مراتبها ، وانتفخت جيوبها على حساب جيوب الناس وجني عمرهم. وهو ماحوّل الفساد الى سمة من سمات الحكم الاساسية ، بحيث لم تعد السلطة معنية بادارة البلاد على قواعد الشفافية والحوكمة، بل ادارتها على قواعد السمسرة والصفقات والتهريب وتجارة الممنوعات ، واخر موبقاتها السطو على اموال المودِعين.

 هذه السمات الاساسية لمن امسك بمفاصل السلطة على مدى عقود ، جعلت الفساد يعشعش في مفاصل الدولة العميقة ، وان المنتفعين والمستفيدين من ذلك ،  هم ما باتوا يعرفون باطراف المنظومة الحاكمة، وبالتالي فإن هذه الاطراف ستقاوم اية عملية تغييرية في حدها الاقصى او اصلاحية في حدها الادنى ويكون من شأنها ان تمس مصالحهم  وما اعتادوا عليه خلال ممارستهم للحكم وفي مواقعهم الادارية.

 ولهذا، فإن مهمة الرئيسين ليست مهمة سهلة،  وطريقهما ليس مفروشاً بالورود، بل المهمة صعبة والاشواك مغروزة على جوانب مسار الحكم، والمطبات اكثر من ان تحصى على خط السير العام .

 واذا كان يسجل للرئيس المنتخب ، كما الرئيس المكلف ،  انهما لم يأتيا الى الحكم بالاستناد الى كتل نيابية تسعى لحصص في السلطة، بل انهما جاءا من رحم مؤسسات تحكمها قواعد الانضباط والانتظام والعدل والمساواة ، وهما بما انطوى عليه خطابيهما حاكا التوق الشعبي للتغيير، فهذه  ستكون عاملاً مساعداً للتحرر من ضغط الكتل التي تحيط بالموقعين .

 لكن مع التشديد على اهمية المواصفات والمعطيات الشخصية لدى رئيس الجمهورية كما رئيس مجلس الوزراء ، فإنها لن يستطيعا ان يترجما خطابيهما الى مفردات عملية بسلاسة في ظل بنية السلطة القائمة ، لارتباط ذلك بالواقع الفاسد الذي يضرب في بنية الدولة وطريقة الحكم التي ادارت البلاد بالعقلية الميلشياوية .

 وبالتالي ، فإن الاصلاح والذي هو هدف شعبي منشود ، لا تحققه الرغبات الشخصية ، بل لابد من حاضنة شعبية ، كما رافعة سياسية.  واذا كانت  الحاضنة الشعبية  متوفرة ، فإن الرافعة السياسية وضعها ملتبس كون  القوى التي تمتلك قوة تمثيل نيابي ، قادرة على تعطيل ومقاومة اية عملية اصلاحية في ظل غياب تنظيم الحركة الشعبية المعترضة على اداء المنظومة لغياب  تنظيم صفوفها وتقديم نفسها رافعة سياسية للحكم الجديد بالعناوين الاصلاحية التي طرحها.

 من هنا ، فإن على اهمية القضايا التي تم التطرق اليها في الخطابين، خطاب القسم وخطاب التكليف ، إلا أن  المدخل العملي  للاصلاح في ظل تعقيدات الواقع الراهن ، إنما يكمن في مدى القدرة على  اعادة تكوين السلطة والتي نقطة  الارتكاز فيها هو التمثيل الشعبي الصحيح. 

 قد يكون مهماً ، ملء الشواغر في الادارة ، وتطبيق اللامركزية الادارية ، وفتح نافذة امل للمودعين وكشف الحقيقة في جريمة تفجير مرفا بيروت وانصاف الضحايا وغيرها من القضايا الحياتية . لكن الاهم من كل  ذلك هو اعادة تشكيل السلطة  التي تحاكي في اداءها البرنامج الاصلاحي ، وهذا لن يتحقق الا عبر السير على خط “ثلاثية” ،تندرج تحت ثلاثة عناوين. بحيث يكون تحقيقها هو المفتاح لباب الانسداد امام الاصلاح والتغيير في العقلية والاداء. وهذه العناوين هي :

 اولاً ، اقرار قانون استقلالية القضاء ، وثانياً ، اعادة النظر بقانون الانتخاب الحالي ووضع قانون اكثر عدلاً وصدقية للتمثيل الشعبي ، وثالثاً ، تشكيل الهيئة الوطنية لالغاء الطائفية السياسية واسقاط التمثيل الطائفي عن النيابي وتطبيق احكام المادة ٢٢ من الدستور والتي تنص على استحداث مجلس للشيوخ ، تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية. كانتخاب الرئيس واقرار الموازنة واعلان الطوراىء وقضايا الحرب والسلم.

 ان هذه الثلاثية ، هي التي يرى فيه دعاة التغيير والاصلاح ، كما العامة من الناس الذين اكتووا بنيران المحاصصة سبيلاً للخلاص الوطني بعد مرحلة من المعاناة واختبار الصبر والمصابرة.  وهذه لن تتم بين ليلة وضحاها ، بل تتطلب جهداً وعملاً ، والفرصة مؤاتية امام العهد لان يؤسس لنظام جديد تحكمه قواعد العدل والمساواة والاسراع  في ولوج هذا المسار مستفيداً من زخم القاعدة الشعبية العريضة التي تلتف حول العناوين الاصلاحية .

 ولهذا يجب التقاط الفرصة في زمن التحول الداخلي كما على مستوى الاقليم والمبادرة فوراً لاطلاق  ورشة العمل لاعادة بناء الدولة بناء وطنياً.  وقبل ان تتمكن  قوى المنظومة التي “اعادت انتشارها”، من الخروج  من تأثير الصدمة التي اصابتها بالارتجاج النفسي والسياسي وتعاود الهجوم بعد اعادة ترتيب صفوفها ودفاعاتها ووضع العصي في دواليب عجلة الاصلاح.

 

 

 

 

العَدالَة الإنتِقالِيَّة كي تَجِدُ طَريقَها لِلتَّطْبِيقِ فِي سُورْيَا

 

العَدالَة الإنتِقالِيَّة

كي تَجِدُ طَريقَها لِلتَّطْبِيقِ فِي سُورْيَا

بقلم المحامي حسن بيان                 

 

 في كل مرة يحصل فيها انتقال سياسي للسلطة بغير طريق تداولها الدستوري، تطرح مسالة العدالة الانتقالية ووجوب تطبيق احكامها واجراءاتها، خاصة في الحالات التي تشهد اسقاط انظمة سياسية يحفل سجلها بالانتهاكات الخطيرة لحقوق الانسان وتحديداً تلك التي تطال المعارضين للنظام السياسي الحاكم وما اكثرها في الوطن العربي. وابرز نموذجين لها سوريا بعد اسقاط النظام والسودان بعد اسقاط نظام البشير ومن بعدها ردة  البرهان – حميدتي على اتفاق انتقال السلطة في ٢٥ اكتوبر ٢٠٢٢ .

  والعدالة الانتقالية يختلف تعريفها وتطبيقها عن اشكال اخرى من العدالة المتعددة العناوين، نظراً لكون العدالة لاتقتصر على عنوان واحد. وقد تم ادراجها في القانون الدولي الانساني بسبعة عناوين هي العدالة المساواتية والسياسية والاجتماعية والتبادلية والقضائية والجنائية والانتقالية. 

 فالعدالة المساواتية ، تعني المساواة بين البشر دون اي تمييز على اساس او العرق او الدين.

 والعدالة السياسية، تعني حق العمل السياسي على قاعدة المساواة بين الناس، وتمكين الجميع من ممارسة حقوقهم السياسية دون قهرٍ أو ظلمٍ اواستعباد .

والعدالة الاجتماعية، تعني المساواة بين الناس في بيئتهم المجتمعية ، لجهة التوزيع العادل للثروة والاستناد الى مبدأ تكافؤ الفرص في الحياة.

والعدالة التبادلية ، تعني توافر نظام التناسب بين ضررٍ  واقع، وتعويض عن هذا الضرر مادياً كان او معنوياً.

والعدالة القضائية، تعني اقامة نظام التناسب بين سلة الحقوق التي للفرد على المجتمع، وسلة الحقوق التي للمجتمع على الفرد، وايضاً سلة الواجبات المتبادلة. 

والعدالة الجنائية، هي بنيان قضائي متكامل، تتناول الجريمة بكل اشكالها ، وتحدد سبل الردع للجريمة والمعالجة بغية الوصول الى مجتمع آمنٍ تسود فيه قيم العدالة الانسانية والاجتماعية.

 اما العدالة الانتقالية، فتعني مجموعة الاساليب التي يجب استخدامها لمعالجة انتهاك حقوق الانسان، وتستمد مشروعيتها ومضمونها من رغبة المجتمع في بناء ثقة اجتماعية.

 ان استحضار مسألة العدالة الانتقالية في هذا الظرف بالذات ، هو الحدث السوري، الذي نتج عنه اسقاط الحكم الذي امسك بمفاصل السلطة لثمانية وخمسين عاماً كانت شديدة الوطأة على شعب سوريا الذي صودرت حرياته العامة، وحفلت سجلاته بالانتهاكات الصارخة لحقوق الانسان بعضها كان معروفاً ،وبعض تكشفت فظائعه بعد السقوط  ، من الاعتقال لفترات طويلة دون محاكمات، هذا ان كانت عادلة فيما لو حصلت، الى الاختفاء القسري وتدرجاً الى التصفيات الجسدية وهي الاسم الحركي للا عدامات والاغتيالات ، وممارسة كل اشكال القمع المعنوي والمادي التي تندرج  تحت الحالات المحددة حصراً بسلة من الاجراءات العقابية التي يتخذها النظام وفق

 مقتضيات حاجته للامساك برقاب العباد والبلاد على حساب تطبيق احكام العدالة حتى في ادنى معاييرها.

 لفد سقط النظام، وتبين ان السجون ومراكز الفروع الامنية  كانت جحيماً مورست فيه كل اشكال التعذيب، وهذا طبعاً غير الذين كانوا ضحايا البراميل المتفجرة  والغازات السامة والتهجير القسري وانتهاك الحرمات الانسانية والاجتماعية. وانتهاكات النظام المتهاوي لحقوق الانسان لم تقتصر على ابناء سوريا ممن كانوا لايبدون الولاء الاعمى له، بل طالت مواطنين من لبنان وفلسطين والاردن والعراق ومن اقطار عربية اخرى خاصة الطلاب الذين كانوا يدرسون في الجامعات السورية ولم يوالوا النظام السياسي .

 إن اللجوء الى تطبيق اجراءات  العدالة الانتقالية يهدف الى الاعتراف بحقوق الضحايا، وتعزيز ثقة الافراد في مؤسسات الدولة وسيادة القانون  ، وتدعيم احترام حقوق الانسان كخطوة نحو المعالجة ومنع الانتهاكات الجديدة.

 وبالنسبة للامم المتحدة، تغطي العدالة الانتقالية كامل نطاق العمليات والاليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم تركة تجاوزات الماضي الواسعة النطاق بغية كفالة المساءلة واقامة العدالة  وتحقيق المصالحة.

 ونظراً للاهمية التي تنطوي عليها العدالة الانتقالية ، انشئ المركز الدولي للعدالة الانتقالية (I.C.T.J) ومركزه الرئيسي في نيويورك ، اضافة الى مركزه الرديف في لاهاي. والمركز يعمل عبر المجتمع للتصدي لاسباب ومعالجة عواقب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان والتأكيد على كرامة الضحايا ومقاومة الافلات من العقاب وتعزيز دور المؤسسات المستجيبة.

 ان العدالة الانتقالية التي ترتكز على ثلاثة اقانيم، هي المساءلة والعدالة والمصالحة ، تُعْنى بالضحايا اولاً، وتصب اهتمامها عليهم للتعويض عن الاضرار التي لحقت بهم، وهذا لا يتم إلا  بالمحاسبة لكل من ثبت ارتكابه انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان. وهذه المحاسبة تحول دون منتهكي حقوق الانسان من الافلات من العقاب. 

 واما العدالة، فهي مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية التي تنطوي على ملاحقات قضائية ولجان تحقيق وبرامج جبر الضرر واشكال متنوعة من اصلاح المؤسسات وتقوي سيادة القانون والديموقراطية . واذا ماطبقت المحاسبة وفق المعايير الانسانية والقانونية  المطلوبة ، فانها مع العدالة تساهمان بلا ادنى شك في كسر دوامة العنف والجرائم الوحشية، واستعادة سيادة القانون والثقة في المؤسسات وبناء مجتمعات قوية وقادرة على وأد الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان قبل وقوعها او تجنب تكرارها،  وهذا مايشكل اساساً للمصالحة وهي الهدف الثالث للعدالة الانتقالية.

 ان اعتبار المصالحة واحدة من مرتكزات العدالة الانتقالية، كونها ليست معنية فقط بالتصدي للانتهاكات الحاصلة، انما ايضاً بخلق المناخات التي تحول دون اعادة تكرار تلك الانتهاكات. ولهذا يتم التركيز على تعزيز الثقة بالمؤسسات وبسيادة القانون. وعدم التكرار لايستقيم الا اذا توفرت سلة  من الضمانات القانونية والمجتمعية تشكل بمجملها منظومة متكاملة من الاجراءات الوقائية التي تعالج الاسباب الجذرية للانتهاكات بهدف تجنب تكرارها، وهي تتطلب اصلاحاً دستورياً كما اصلاح مجالي العدالة والامن.

 ان المصالحة تؤدي الى تحقيق سلام مجتمعي، وهو ما يساهم في معالجة المظالم والانقسامات المجتمعية الذي  يفضي لان تكون العدالة الانتقالية محددة السياق وذات بُعْدٍ وطني وتركز على احتياجات الضحايا بقدر تركيزها على تجنب التكرار لانتهاكات حقوق الانسان. وهذا يرمي الى ربط

 المجتمعات بعضها مع البعض الاخر وتمكينها من ايجاد بيئة مجتمعية تساهم في تحقيق السلام المجتمعي.

  ان العدالة الانتقالية التي تعود بدايات الاخذ باحكامها واجراءاتها الى الفترة التي اعقبت الحرب العالمية الثانية، تبقى مطلوبة بشدة والحاح في المجتمعات التي تحاول وتسعى لاعادة بناء نفسها من جديد والانتقال من واقع اتسم بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان أُرتُكِبتْ في سياق ممارسة القمع السلطوي  او في سياق نزاع مسلح. وفي حال كتلك التي تمر بها سوريا في مرحلة الانتقال السياسي، فإن تطبيق اجراءات العدالة الانتقالية على واقعها الراهن لايقل اهمية عن اجراءات واليات الانتقال السياسي، نظراً لكون السلم المجتمعي والتصالحي ضرورة للسلم الوطني وتحصينه من الاختراقات والانتهاكات الجسيمة.

  وانه بقدر ما هو مهم اعادة البناء المؤسساتي للدولة  واعادة انتاج نظام سياسي جديد يلبي التطلعات الشعبية في دولة مدنية تحكمها قواعد المساواة في المواطنة وديموقراطية الحياة السياسية، فأنه مهم ايضاً وبموازاة البناء السياسي ، بناء سلام مجتمعي مستدام ، وهذا لن يتحقق الا اخذت اجراءات العدالة الانتقالية سبيلها للتطبيق بدءاً بالاعتراف بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان وانصاف الضحايا عبر السبل المشار اليها اعلاه.

 ان العدالة الانتقالية التي تتصدى لانتهاكات جسيمة، ُتشعر الفرد او الجماعة المنتهَكة حقوقهم التي كفلتها المواثيق ذات الصلة بحقوق الانسان ، بأن مسؤولية انصافهم هي مسؤولية المجتمع.  اي ان حقوقهم هي حق عام ، لان ما اصابهم، وان الحق  ضرراً مادياً ومعنوياً بهم ، فهو الحَقَ في الوقت نفسه ضرراً مادياً ومعنوياً بالحق العام لانتهاكه احكام القانون.

 وان التصدي لهذا الانتهاك يتعلق بالنظام العام الذي يفترض ان  يثار عفواً من المعنيين بتطبيق اجراءات  العدالة الانتقالية. فهل تطبق احكام هذه العدالة على الواقع السوري في سياق العملية الانتقالية التي املاها اسقاط النظام ؟   ننتظر لنرى …

 

الآثَارُ الاجتماعية والاقتصادية لِلنُّزُوحِ والهِجْرَةِ جَرّاءَ الحَرْبِ فِي السُّودَان

الآثَارُ الاجتماعية والاقتصادية لِلنُّزُوحِ والهِجْرَةِ جَرّاءَ الحَرْبِ فِي السُّودَان

تحليل للتحديات والفرص الممكنة على ضوء الرؤية الاقتصادية والاجتماعية لتأثيرات الحرب التي أعدتها بعد عام من اندلاعها

قيادة قطر السودان – اللجنة الاقتصادية

 

المقدمة:

 تُعد الحرب، أسوأ الخيارات البشرية الطارئة، ومن أعنف الأزمات التي يمكن أن تؤدي إلى تحولات عميقة في بنية وهياكل الدول الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.

في السودان، أدت الحرب المدمرة العبثية المستمرة لنحو 21 شهراً، إلى إحداث خسائر فادحة على كافة الأصعدة المختلفة، وهدر غير مسبوق للموارد، منذ نيل البلاد استقلالها السياسي، وضياع الفرص، بالإضافة إلى التدمير الذي طال البنى التحتية، والتخريب والنهب والانتهاكات والتعدي على الممتلكات العامة والخاصة ضمن مجرياتها، والتحديات المصيرية التي واجهها المواطنون.

وفي المقابل فتحت الحرب ومعاناتها، باباً للفرص التي يمكن استغلالها في مرحلة ما بعد الحرب وإعادة الإعمار بوعي جديد وخبرات مكتسبة.

يتناول هذا المبحث تحليل الآثار السلبية والإيجابية للحرب والنزوح والهجرة، مع التركيز على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية التي أفرزتها جراء طبيعة ومجريات  النزاع الحربي المستمر.

 

أولًا: الآثار الاجتماعية للنزوح والهجرة

 (أ) الآثار الاجتماعية السلبية

1/ تفكك الأسرة والمجتمع: أدى النزوح شبه الجماعي الاضطراري بسبب الحرب إلى تشتيت الأسر وتقسيمها في مناطق مختلفة داخل القطر وخارجه. هذا التشتيت أثر بشكل مباشر على نسيج الأسرة السودانية ونظامها الحياتي، حيث تضررت العلاقات الأسرية بسبب التباعد والعوامل الاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن الحرب واستمرارها.

2/ زيادة العنف الاجتماعي: بسبب النزوح والهجرة إلى مناطق لأول مرة وربما غير مألوفة وارتفاع الكثافة السكانية في المناطق المستضيفة، ظهرت التوترات بين النازحين والمجتمعات المحلية، إضافة إلى ظهور عدد من الحوادث الاجتماعية في المناطق المستضيفة للنازحين بسبب الاختلاط المفاجئ واختلاف الأنماط الحياتية.

3/ التهديدات الصحية: مخيمات النزوح هي بيئات ذات كثافة سكانية عالية وتفتقر إلى البنية التحتية الصحية، مما يجعلها عرضة لتفشي الأمراض المعدية. حيث يواجه سكان المخيمات والمناطق المستضيفة مخاطر صحية خطيرة بسبب نقص المياه النظيفة، والرعاية الصحية الأساسية، مما عرضهم لأوبئة مثل الكوليرا والملاريا والحمى النزفية وأمراض الصدر والجلدية.

4/ تفاقم الاضطرابات النفسية: تأثرت الصحة النفسية للنازحين، خصوصًا الأطفال والنساء، بشكل كبير بسبب المعاناة من العنف والنزوح القسري. حسب دراسات متعددة أظهرت النتائج أن الأطفال في مناطق النزوح يعانون من اضطرابات نفسية مثل القلق والاكتئاب، بينما يعاني (40%) من النساء من اضطرابات ما بعد  الصدمة (PTSD).

5/  انعدام الأمن الغذائي: حيث يعاني نحو (25) مليون شخص في السودان من نقص حاد في الأمن الغذائي، بينهم (14) مليون طفل. وحوالي (37%) من السكان، ويقدر بـ (17.7)مليون شخص يعانون من الجوع الحاد. كما أثر النزوح والهجرة على الزراعة، إذ أدى النزوح الجماعي إلى تراجع الإنتاج الزراعي، وتعطل عدد مقدر من المشاريع الزراعية أبرزها مشروع الجزيرة، مما أفقد الملايين مهنهم ومصادر دخلهم، وزاد من الاعتماد على المساعدات الخارجية والواردات.

6/  فقدان الكفاءات وهجرة العقول وتعطل التدريب:

 أدت الحرب إلى نزوح جماعي للكفاءات من الأطباء، المهندسين، والأساتذة الجامعيين، والفنيين والعاملين المهرة، وتعطل مراكز التدريب، مما أدى إلى ضعف التنمية المحلية. كما أدي تعطل التعليم العام والعالي إلى تفاقم مشكلة التعليم وحرمان الطلاب استمرارية العملية التربوية والعلمية وهجرة العقول، مما أضعف فرص التنمية المحلية المستدامة.

7/  ارتفاع معدلات الفقر والتشرد:

فقدان مصادر الدخل أدى إلى ارتفاع مستويات الفقر، وانتشار البطالة في مختلف الفئات العمرية. كما أجبرت الحرب ملايين الأشخاص على النزوح الداخلي والخارجي، والتشرد، مما أدى إلى تفاقم أزمة السكن والخدمات الأساسية وارتفاع أسعارها لمستويات قياسية فاقت قدرة الغالبية الساحقة من النازحين، أجبرتهم على بدائل غير مرضية.

8/ تراجع امدادات الكهرباء : أدى استهداف البنى التحتية لقطاع الكهرباء وتأثر منشآته والعاملين في الحقل إلى تراجع إمدادات الكهرباء وانعدامها بالكامل أو لعدد من الأشهر في غالب الولايات وعدد من المدن الكبرى، إضافة إلى صعوبة توفر المشتقات النفطية وارتفاع أسعارها خاصة غاز الطهي الذي ارتفع سعر أسطوانته (12.5 ك) من 2.500 قبل الحرب إلى 45.000 ألف جنيه بعد الحرب  إلى حملة  جائرة وواسعة على الغابات والغطاء النباتي كبدائل، سيكون لها تأثيراتها السالبة آنيًا ومستقبليًا، سواء زيادة رقعة وحدة الجفاف والتصحر والزحف الصحراوي أو ارتفاع درجات الحرارة.

 

(ب) الآثار الاجتماعية الإيجابية

1/ تنامي روح التضامن الاجتماعي:

رغم المعاناة، شهدت بعض المجتمعات في السودان تعزيز روح التضامن الاجتماعي من خلال مساعدات إنسانية ومشاريع دعم للنازحين. إضافة إلى تعزيز التكافل الاجتماعي بين مختلف فئات المجتمع السوداني، من خلال تبني ثقافة التكايا وبنوك الإطعام والعلاج والنفير ومساهمات ومبادرات السودانيين العاملين فى الخارج، التي أظهرت التلاحم والترابط بين المواطنين، ورفع مستويات التعايش، وقبول البعض بغض النظر عن المناطق التي تم النزوح منها في مقابل البديل الزائف المشبع بخطاب الكراهية والعنصرية والتمييز.

2/ مشاركة أوسع للشباب في العمل المدني والطوعي: الاضطرابات السياسية والاجتماعية التي خلفتها الحرب دفعت الكثير من الشباب، داخل القطر وخارجه، للانخراط في العمل المدني والطوعي بشكل أكبر. حيث شارك العديد منهم في تقديم المساعدات الإنسانية وتنظيم حملات التوعية المجتمعية وإسعاف المصابين والمرضى والإيواء . كما ازدادت الرغبة لدى عدد من الشباب للعمل التطوعي منذ بداية الحرب (بالرغم من المخاطر التي تعرضوا لها، أو التي يُتوقع التعرض لها).

3/ الإندماج الوطني وإعادة تشكيل الهوية الوطنية

أسهم النزاع واستمرار الحرب على بلورة شعور مشترك بالانتماء الوطني والهوية الوطنية الجامعة بين مختلف المكونات السودانية. فقد أدت فترة الحرب إلى بروز وعي وتشكل حركات تطالب بالعدالة والتنمية والسلام والحفاظ على الوحدة الوطنية، وقيمة مضافة بالحلول السلمية، مما يسهم على تشكيل رؤية بثوابت وطنية توافقية جديدة لمستقبل السودان. كما كانت هناك دعوات من قبل العديد من القوى السياسية والاجتماعية لوقف الحرب وإحلال السلام وتشكيل سلطة مدنية ترسي دعائم استدامة نظام ديمقراطي تعددي يوفر المناخ المؤاتي للحلول الوطنية السلمية الديمقراطية لقضايا التطور الوطني وتحقيق التطلعات الشعبية بالإرادة الوطنية .

 

ثانيًا: الآثار الاقتصادية للنزوح والهجرة

 (أ) الآثار الاقتصادية السلبية

1/ الضغط على الموارد الاقتصادية المحلية

 أدى النزوح إلى ضغط هائل على موارد المدن المستضيفة مثل المياه، والغذاء، والطاقة وتزايد مستمر في أسعار المواد الغذائية والسلع الأخرى في غالب المدن التي نزح إليها، مما أثر بشكل مباشر على القدرة الشرائية للسكان. كما أن تدمير قواعد الإنتاج الزراعي والصناعي في المناطق الريفية أدى إلى نقص حاد في الإنتاج المحلي.

2/ تعطيل الإنتاج الزراعي والصناعي

نظرًا لأن الكثير من السكان في المناطق المتأثرة بالحرب يعملون في الزراعة بنحو 65% ، أدى النزوح الجماعي إلى تعطيل الإنتاج الزراعي والصناعي بشكل كبير. بسبب تدمير الأرض الزراعية ونقص الأيدي العاملة وفقدان الأمان نتيجة للنزوح والحرب.

3/ زيادة معدلات البطالة

 أدى النزوح من الحرب في المدن السودانية، إلى زيادة أعداد السكان في المدن التي نزح إليها المواطنون السودانيين، مما أسهم في تضخم سوق العمل وارتفاع معدلات البطالة. حيث تجاوزت معدلات البطالة مستوياتها القياسية ما قبل الحرب، بسبب زيادة الطلب على الوظائف والأعمال وقلة الفرص المتاحة.

4/ ارتفاع الأسعار وتدهور القدرة الشرائية

ارتفاع أسعار السلع الأساسية وتكاليف المعيشة في المناطق التي نزح اليها المواطنون، أثر بشكل كبير على الفئات الفقيرة ومحدودة الدخل، في غالب المناطق المستضيفة للنازحين.

5/ خسائر اقتصادية فادحة

 قدر الخبراء خسائر الاقتصاد السوداني بحوالي 200 مليار دولار منذ اندلاع الحرب. (ALQAHERANEWS.NET). إضافة إلى ما أحدثته الحرب من تدمير البنية التحتية تدميراً واسعاَ، مما تسبب في تعطيل عمليات التنمية بمختلف أنواعها.

6/ نهب وتخريب  القطاع المصرفي ومطابع العملة

تعرض الجهاز المصرفي وفروعه وخدمات المالية، والبنك المركزي ومطابع العملة الوطنية، إلى عمليات نهب وتخريب واسعة سواء فى العاصمة التي تهيمن على نحو 65%  في أفرعه وخدماته، إضافة إلى عدد من الولايات والمدن الأخرى، وحالات النزوح، إلى الاستمرار في إغلاق المصارف في العاصمة والولايات التى طالتها العمليات الحربية، مما أدى إلى شلل في الحركة المصرفية والاقتصادية بارتفاع نسبة المخاطر وتآكل رؤوس الأموال وتناقص الاحتياطيات، وتزايد تراجع الثقة بالنظام المالي، مما أضعف الاستثمارات الداخلية والخارجية.

7/ توقف التجارة الخارجية

تضررت حركة التجارة الخارجية، حيث انخفضت صادرات السودان بشكل حاد، مما أثر سلبًا على توفر السلع الأساسية. (PHAROSTUDIES.COM). كما أن توقف حركة الاستيراد والتصدير وتنامي تهريب الذهب وسلع الصادرات والعملات الحرة، أثر سلباً على الميزان التجاري وعلى التجارة الخارجية وتوفر السلع الأساسية مما أسهم في ندرتها أو ارتفاع أسعارها.

8/ انهيار قيمة العملة المحلية وارتفاع التضخم

 تسببت الحرب في تدهور قيمة الجنيه السوداني، حيث أن تراجع قيمة العملة المحلية بنحو (335%) أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم وتدهور القدرة الشرائية للمواطنين وتآكل المدخرات إضافة إلى العجز عن الوفاء بصرف مرتبات العاملين بالدولة لعدة أشهر وتوجيه سلطة الأمر الواقع بإيقاف صرف مرتبات من يتهم بالتعاون مع قوات الدعم السريع، دون تحقيق أو صدور حكم قضائي، الأمر الذي يتنافى مع التزامات السودان بالقوانين الدولية الصادرة عن منظمة العمل الدولية التي تنص على حماية حقوق العمال وضمان صرف الأجور .

(ب) الآثار الاقتصادية الإيجابية

1/ توزيع القوة العاملة

رغم الضغط على الموارد، ساعد النزوح في إعادة توزيع القوة العاملة وعدد من الصناعات التحويلية على مناطق جديدة، مما أدى إلى نمو بعض الأسواق الجديدة. وتزايد  عدد المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي يديرها النازحون في المناطق الحضرية التي نزحوا إليها أو اقتبستها المجتمعات المحلية.

2/ تعزيز التحويلات المالية

حول العديد من النازحين كل أو جزء من أرصدة ورأسمال أعمالهم إلى مناطقهم الأصلية أو مناطق أخرى، مما ساعد في تعزيز الاقتصاد المحلي، والمساهمة في استدامة بعض الاقتصادات المحلية وتطويرها.

3/ إحياء الأسواق المحلية:

تدفق النازحين إلى المدن الكبرى ساهم في تنشيط بعض الأسواق المحلية، حيث ازداد الطلب على السلع والخدمات، مما ساعد في تحفيز بعض القطاعات الاقتصادية غير الرسمية مثل التجارة الصغيرة والورش والمشاريع الزراعية والمهن الحرفية.

4/ ظهور اقتصاد الحرب والابتكار في الأزمات

 نشوء اقتصاد غير رسمي، فبالرغم من الأوضاع المتدهورة، ازدهرت بعض الأنشطة الاقتصادية غير الرسمية مثل التجارة عبر الحدود والتجارة الإلكترونية الصغيرة، مما وفر فرص عمل محدودة لبعض الفئات. كما أدى تعطل المصارف إلى انتشار حلول مالية غير تقليدية مثل الدفع عبر الهواتف المحمولة وتحويل الأموال عبر قنوات غير رسمية، مما ساهم في إبقاء بعض المعاملات التجارية نشطة.

5/ تعزيز الاعتماد على الموارد المحلية

زيادة الإنتاج المحلي، فنظرًا لصعوبة الاستيراد ومحدودية السوق، توجه بعض المستثمرين إلى تعزيز الإنتاج المحلي في قطاعات مثل الزراعة والصناعات الغذائية، مما يسهم في تحقيق قدر من الاكتفاء الذاتي. إضافة إلى تبني تحفيز الابتكار الزراعي، حيث بدأ بعض المزارعين باستخدام تقنيات أكثر كفاءة في استغلال الموارد والمساحات المتاحة، مما يعزز الإنتاج الزراعي في المستقبل.

6/ زيادة الوعي الاقتصادي والإصلاحات المحتملة

المطالبة بالإصلاحات الاقتصادية، حيث أجبرت الحرب سلطة الأمر الواقع والمجتمع المدني على البحث عن حلول لإعادة هيكلة الاقتصاد، مثل مكافحة الفساد وتحسين بيئة الاستثمار. إضافة إلى التحرك نحو اقتصاد حقيقي أكثر شفافية، انطلاقاً من أن مع الأزمات تأتي فرص جديدة أو بديلة لإعادة النظر في السياسات الاقتصادية وتعزيز الشمول المالي والرقابة المالية.

 

يتبع لطفاً..

بيان طليعة لبنان حول ما يجري في جنين ومخيماتها

طليعة لبنان :

 امام السكوت على مجازر العدو الصهيوني في جنين ومخيماتها

النظام الرسمي العربي يكرر تآمره على القضية الفلسطينية 

اعتبرت القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي ، ان سكوت النظام  الرسمي العربي حيال تمادي  العدو الصهيوني في ارتكاب جرائمه في فلسطين المحتلة    هو وصمة عار على جبين هذا النظام الذي يكرر تآمره على القضية الفلسطينية بعد خمسة وسبعين سنة على اغتصاب فلسطين.

 جاء ذلك في بيان للقيادة القطرية في مايلي نصه  :

 

في ظل سكوت مدوٍ للنظام الرسمي العربي ، يواصل العدو الصهيوني ارتكاب مجازره الواحدة تلو الاخرى  بحق جماهير شعبنا في فلسطين المحتلة . بحيث لم تمض ايام على جريمة احراق  المستوطنين لقرية “رام سعيا”وقبلها “الحوارة”  وبحماية قوات الاحتلال النظامية ، حتى كانت مدينة جنين ومخيماتها مسرحاً لمجازر جديدة اقدم العدو على ارتكابها انتقاماً لخسائره التي منيت به قواته في المواجهات الاولى واسفرت عن تدمير العديد من الياته فضلاً عن الاصابات التي الحقت بعناصره. 

ان المواجهات الدائرة حالياً في جنين ومخيماتها بعد اقدام قوات الاحتلال على اقتحامها ، ما هي الا حلقة من مسار الصراع المفتوح مع الكيان الصهيوني الذي يندفع قدماً لفرض الصهينة على كل معالم الحياة في فلسطين عبر سياسة القضم والهضم انفاذاً لاستراتيجيته الاصلية التي تقوم على اساس التدمير لغزة والتهجير للضفة. وهو اذا يتمادى في ارتكاب جرائمه  والتي هي جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية  ،فلانه يرى نفسه محمياً من المساءلة القضائية امام المحاكم  الجنائية الدولية  ولا يواجه بمصدات لمخططاته الاستيطانية والتوسعية الا من  المقاومة الشعبية في فلسطين التي  تتصدى للعدو بمستو طنيه وقواته العسكرية والامنية باللحم الحي ،فيما النظام الرسمي العربي يغض الطرف عما يجري فلسطين ،ويكرر تآمره  الموصوف على القضية الفلسطينية بعد خمسة وسبعين عاماً على اغتصاب فلسطين. فموقف هذا النظام الرسمي  حيال ما يجري في فلسطين المحتلة هو وصمة عار في جبينه حيث يستمر في توسيع مروحة علاقات التطبيع السياسي والامني والاقتصادي مع العدو الصهيوني رغم المذابح التي ترتكب  في جنين وقبلها في نابلس ورام سعيا وغزة مع انتهاك متواصل  لحرمات الاقصى .

ان القيادة القطرية لحزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي وهي توجه التحية لجنين الصامدة ومخيماتها وهي تسطر ملحمة من ملاحم البطولة العربية في مواجهة عدو غاصب ،تدين مواقف النظام الرسمي العربي  حيث لم يكتف بالوقوف متفرجاً حيال ما تتعرض له جماهير فلسطين  وحسب ، بل يستمر في فرض حصار سياسي ومالي على منظمة التحرير مكملاً بذلك مخطط العدو في اضعاف مناعة الصمود الفلسطيني ودفع شعبه الى الاستسلام الكامل للعدو وشروطه ، وكأن ابناء فلسطين ليسوا من هذه الامة وارض فلسطين ليست جزءاً من الوطن العربي الكبير الذي يدخل مرحلة جديدة  من الاستهداف المعادي الذي تتكامل فيه ادوار قوى التحالف الصهيو – استعماري وقوى الشعوبية الجديدة وكل من يناصب الامة العداء لفرض واقع تقسمي نزولاً تحت ماهو قائم كي تصبح عملية السيطرة على الوطن العربي ومقدراته اكثر سهولة وفي ظل نظام اقليمي جديد تكون اليد الطولى للتحكم  باوضاعه السياسية والامنية والاقتصادية للمواقع  غير العربية من دولية واقليمية.   .

ان القيادة القطرية للحزب ، ترى ان توفير الدعم والاسناد لجماهير فلسطين وهي تقاوم الاحتلال ، بقدر ما هو حق لها على امتها ، هو واجب على الامة العربية وقواها التحررية ، كما هو واجب على قوى المجتمع الدولي التي ادركت ولو متأخرة ان الكيان الصهيوني تديره دولة فصل عنصري “ابارتهايد”  ، وهذا مايفرض اطلاق اوسع حملة شعبية عربية  في مواجهة نظام التطبيع العربي وكل من يعمل على الاستثمار بالقضية الفلسطينة خدمة لاجندة اهدافه ومشاريعه الخاصة.

لقد باتت جماهير فلسطين تمتلك وعياً كاملاً لابعاد المشروع الصهيوني ، وهي عندما ترتقي في مواجهتها حتى الاستشهاد ، فهذا يعني انها قررت خوض معركة الدفاع عن الحياة والارض والتشبث بها   رغم جسامة التضحيات التي تقدم على مساحة ارض فلسطين التاريخية، كما خوض  معركة جعل عمل الاستعصاء الفلسطيني العنصر الاساس في عدم تمكين مشاريع تصفية القضية الفلسطينية بتواطؤ رسمي عربي من النفاذ  ، وما على الجماهير العربية وقواها التحررية الا الارتقاء بدعمها لمقاومة جماهير فلسطين  الى مستوى الموقف  الذي تترجم مفرداته العملية على ارض جنين ومخيماتها والقدس وكل مدن وحواضر فلسطين.

التحية للشهداء ، والشفاء للجرحى ، والحرية للاسرى والمعتقلين ، والخزي والعار لكل الخونة والمتخاذلين والمطبعين.

القيادة القطرية لحزب طليعة لبنان العربي الاشتراكي.

بيروت في ٢٠٢٣/٦/٣  

بيان القيادة القومية في ذكرى حرب حزيران 1967

القيادة القومية:

حرب الخامس من حزيران

هُزِمت الأنظمة ولم تهزم الأمة

أكدت القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي، أن الحرب التي وقعت في الخامس من حزيران سنة ١٩٦٧، أدت إلى هزيمة الأنظمة وليس هزيمة الأمة العربية التي انتفضت عبر مقاومتها المسلحة ضد الاحتلال، ودعت إلى إعادة الاعتبار إلى لاءات الخرطوم الثلاث.

جاء ذلك في بيان للقيادة القومية لمناسبة الذكرى السادسة والخمسين للعدوان الصهيوني، وفيما يلي نص البيان:

تحل الذكرى السادسة والخمسون لحرب الخامس من حزيران سنة ١٩٦٧، والأمة العربية ما زالت تنوء تحت تداعيات تلك الحرب، التي تلقت فيها الأمة ضربة موجعة من جراء تمكن العدو الصهيوني من توسيع رقعة احتلاله لتشمل كل أرض فلسطين التاريخية فضلاً عن صحراء سيناء والجولان وبعض الأراضي اللبنانية التي باتت تعرف بمزارع شبعا وتلال كفر شوبا.

إن هذه الحرب التي دامت لأيام محدودة فاجأت الأمة بنتائجها العسكرية على الأرض، ولم تقتصر آثارها الكارثية على تدمير القدرات العسكرية لثلاث من الدول العربية وحسب، بل أسست لنتائج شديدة الخطورة على الأمن القومي العربي، بعد توقيع اتفاقيات كامب دافيد وأوسلو ووادي عربة، وفي تنكر واضح لقرارات قمة الخرطوم التي انعقدت بعد العدوان وأطلقت ثلاثية شعاراتها.

لقد أدت تلك الاتفاقيات بما انطوت عليه من شروط سياسية واقتصادية وأمنية فرضت على المُوَقِعِين عليها، إلى إخراج دول عربية وخاصة مصر وبما تمثل من ثقل عربي، من مجرى الصراع العربي –  الصهيوني، وتحولها من موقع قائد  للنضال العربي التحرري ببعده الوحدوي ، إلى موقع يلعب دور الوسيط بين العدو وقوى الثورة  الوطنية الفلسطينية التي تستمر في مقاومتها للاحتلال، برغم كل الظروف والتعقيدات التي تحيط بوضعها بعدما أصبحت كل فلسطين تحت الاحتلال، وتتعرض لأشكال مختلفة من تصعيد العدوان  والتضييق والمحاصرة المالية والسياسية من قبل النظام الرسمي العربي الذي يندفع بعضه لتطبيع العلاقات مع العدو وبعض آخر يعمل على تكريس واقع الانشقاق السياسي بين قوى الثورة واسقاط شرعيتها التمثيلية التي تجسدها منظمة التحرير الفلسطينية.

لكن بعد ستة وخمسين سنة على العدوان، فإن العدو الصهيوني الذي ربح معركة الحرب العسكرية مع النظام الرسمي العربي، وإن استطاع أن يفرض توقيع  اتفاقيات إذعان مع بعض الأنظمة العربية ويقيم علاقات ديبلوماسية معها، إلا أنه لم يستطع أن يحقق اختراقاً للبنى المجتمعية العربية ويحقّق  التطبيع معها  لتجذر الوعي الجماهيري العربي الذي رأى  في الصراع مع العدو صراعاً  في مستوى صراع الوجود من ناحية، ولوجود مواقع عربية ارتكازية ترى في هذا الصراع ذات  البعد الذي تنظر  إليه  الجماهير العربية من ناحية أخرى، وهي التي  شكلت حاضنة ورافعة  للمشروع العربي التحرري بكل تعبيراته، وكان الأهم فيها  والأقوى والأفعل العراق في ظل نظامه الوطني. وهذا ما جعل هذه المواقع تدرج ضمن دائرة الاستهداف المعادي، من خلال ما تعرضت له الثورة الفلسطينية قبل اجتياح لبنان العام ١٩٨٢ وبعده، وما تعرض له العراق من عدوان متعدد الأشكال وانتهى باحتلاله الأميركي ومن ثم الإيراني.

إن القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي، وفي مناسبة حلول هذه الذكرى الأليمة على الأمة، ترى أن هزيمة حزيران برغم ما أفرزته من نتائج، بأنها لم تكن   هزيمة للأمة، وإنما للأنظمة التي انخرطت في سياقات تلك الحرب. ولو كانت الأمة هي المنهزمة لكانت رضخت للعدو وقبلت بالتطبيع معه، ولما كانت انتفضت في ثورات ومقاومات تمارس الكفاح المسلح ضد الاحتلال الأجنبي وتنخرط في حراك شعبي من أجل إنتاج أنظمة سياسية وطنية ديموقراطية.

إن الجماهير العربية لم تنهزم في حرب حزيران لأنها كانت مغيبة عن المشاركة في تلك الحرب، كما كان دورها معلباً ومصادراً من قبل الأنظمة التي كانت تدعي وتزعم تمثيل الجماهير، فيما الحقيقة أنها كانت تمارس سياسة التنكيل بالجماهير ومصادرة حرياتها العامة. ولذلك فإن الجماهير التي عبّرت عن موقفها الرافض لسياقات الحرب ونتائجها، ترجمت هذا الرفض باحتضانها وانخراطها بالفعل المقاوم للاحتلال الصهيوني، وهي ما تزال تقبض على جمر هذا الموقف المبدئي لإدراك منها أن الاحتلال لا يطرد إلا بالمقاومة الشعبية.

إن هذا الموقف هو ما أكد عليه البعث في وقت مبكر من انطلاق مسيرته النضالية عندما أطلق القائد المؤسس مقولته الشهيرة، “فلسطين لن تحررها الحكومات وإنما الكفاح الشعبي المسلح”.  وهذا ما أثبته العراق واقعاً محسوساً بعد الاحتلال الأميركي من خلال مقاومته الوطنية وما تحقق في لبنان من تحرير أرضه بفعل المقاومة الشعبية الوطنية، وما أنجزته ثورة الجزائر، ثورة المليون شهيد. 

إن ما تشهده فلسطين حالياً على مساحة كل أرضها الوطنية من نهرها إلى بحرها يؤكد هذه الحقيقة، ويقدم دليلاً حسياً بأن جذوة المقاومة لن تطفئ في هذه الأمة وهي ستبقى متوقدة لأنها السبيل الوحيد لتحرير الأرض من الاحتلال وتمكين الشعب من تقرير مصيره.

من هنا، واستناداً إلى المعطيات التي يفرزها الفعل المقاوم للاحتلال ، فإن  الأعداء المتعددين المشارب إذا كانوا  يعتقدون أنهم استطاعوا  قتل روح المقاومة في هذه الأمة من خلال اتفاقيات التطبيع أو غيرها ، فهم مخطئون في تقديرهم، والجواب أتى من خلال فعاليات المقاومة الشعبية بكل أشكالها في فلسطين المحتلة في القدس والضفة وغزة وعمق الداخل الفلسطيني، ومن مقاومة شعب العراق للاحتلال وما أفرزه من نتائج، كما أتى من مشهدية الجندي المصري الشهيد الذي بفعله البطولي لم يعبر عن مكنونات نفسه فقط، وإنما عبر عن مكنونات الأمة المتجسدة في كل إنسان عربي لا يرى نفسه حراً معززاً ، خارج حرية الأمة وعزتها ، كما أتى من حراك الجماهير العربية التي انتفضت ضد نظم الاستغلال والتأبيد السلطوي وممارسات الدولة الأمنية والارتهان للخارج الدولي والإقليمي.

بعد ستة وخمسين سنة على العدوان ورغم اتفاقيات التطبيع التي وقعها البعض من الأنظمة العربية، فإن الثورة الفلسطينية تستمر في أدائها النضالي، وإن استمرارها هو الذي يفشل مخطط العدو في تدمير غزة وتهجير الضفة وفرض الصهينة عليهما وخاصة القدس، وهو الذي يبقي الحق التاريخي بفلسطين حق قائم لا يسقط بالتقادم. فصمود جماهير فلسطين واستمرار ثورتها يجعل العدو أسير واقع مأزوم سياسياً ومجتمعياً خاصة بعدما صُنِفَتْ “اسرائيل” دولة “آبارتهايد” أي دولة فصل عنصري وقد حفظت المحكمة الجنائية الدولية اختصاصها للنظر بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها العدو في فلسطين المحتلة.

إن المقاومة الشعبية للاحتلال بكل أشكالها وأرقاها الكفاح المسلح، هي الأمل المرتجى الذي يبقي القضية الفلسطينية قضية حية، وهي الوحيدة التي تستطيع أن تضع حداً للاستثمار السياسي بها على حساب دم الشهداء وآلام الجرحى ومعاناة الأسرى والمعتقلين، وهي الوحيدة التي تستطيع أن تحول دون تمرير ما يسمى مشروع الشرق الأوسط الجديد وكل المبادرات التي تطرح تحت عناوين ما يسمى بالسلام الشامل.

في هذه الذكرى التي نوجه فيها التحية لجماهير فلسطين وانتفاضتها المتواصلة، وإلى شهدائها، كما الشهداء الذين سقطوا في سياقات المواجهة المتواصلة مع العدو الصهيوني وسائر أعداء الأمة وآخرهم الجندي المصري على حدود سيناء مع فلسطين وكل شهداء الجيوش العربية في كل الحروب التي خيضت على أرضية الصراع مع العدو، ومنها شهداء حربي حزيران وتشرين، ندعو لوقف إجراءات التطبيع والخروج منها وفك الحصار عن الثورة الفلسطينية والمبادرة إلى تأسيس صندوق قومي لإسناد جماهير فلسطين وتعزيز صمودها.

في هذه الذكرى، لابد من العودة إلى التمسك بالثوابت ثوابت لاءات الخرطوم الثلاث وثوابت العودة للجماهير   لإعادة النبض للشارع العربي وإثبات حضوره في معارك التغيير والتحرير، وفي الطليعة منها احتضان فلسطين وثورتها تنفيذاً لمقولة القائد صدام حسين “إن فلسطين بحاجة إلى الحضن القومي الدافئ” الذي يمكن الثورة من الوقوف على أرضية صلبة وظهرها محمي بعمقها القومي، وكي تبقى فلسطين في عيون الجماهير وقلوبها إذا ما استدارت إلى أي من الجهات الأربع.

المجد والخلود للشهداء، والحرية للأسرى والمعتقلين، والخزي والعار للخونة والمتخاذلين والمطبعين.

القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي

8-6-2023

بيان قيادة قطر العراق لحزب البعث العربي الاشتراكي لمناسبة الذكرى 51 لتأميم النفط  

 

يا أبناء شعبنا العراقي الشجعان

يا جماهير الأمة العربية المجيدة

أيها المناضلون البعثيون في كل أقطار الوطن العربي

في الأول من حزيران/ يونيو من كل عام يستذكر أشقاؤكم العراقيون بفخر واعتزاز، أعظم إنجاز عرفته الأمة العربية في تاريخ علاقاتها مع الاحتكارات النفطية العالمية، التي أقامت لنفسها حصوناً حصينة، من علاقات إنتاج مجحفة بحقوق البلدان المنتجة للنفط، هذه المادة الاستراتيجية التي باتت ومنذ بداية القرن الماضي، أكبر محرك لماكنة الاقتصاد العالمي، ولهذا بات من غير الممكن نظرياً، التقرب من أسوارها بأي شكل من الأشكال، ولكن حزبكم المناضل الذي كان أول قوة سياسية عربية عقائدية وجماهيرية، ترفع شعار(نفط العرب للعرب)، من قناعة راسخة أن هذا الهدف العظيم، يحتاج جهدا منسقاً وعظيماً، ونضالاً باسلاً على كل الجبهات السياسية والاقتصادية وحتى في ميدان الأمن الوطني والقومي من أجل تحقيقه.

 أيها المناضلون البعثيون المضحون

لقد كان لتجربة حكم البعث في القطر العراقي، جدارة حمل الأمانة التي علقتها عليه جماهير أمتنا العربية، وشرف تحقيق هذا الحلم التاريخي الذي ظل يراود جماهير شعبنا العراقي، الذي كان يطفو فوق بحيرة هائلة من النفط، ولكنه كان يعيش فوق أرض جرداء وفقر مدقع وبؤس وحرمان على كل المستويات، فالفقر يضرب أطنابه في كل زاوية من الوطن، والأمة متفشية على طول الساحة العراقية وعرضها، والشعب يعاني من مختلف الأمراض الاجتماعية والصحية، على الرغم من تدفق ملايين الأطنان من ثروته النفطية، لتتحول إلى خزائن الدول المعادية لطموحات العراق والأمة العربية في النهوض من كبوتها الحضارية، التي امتدت لقرون طويلة منذ أن سقطت آخر راية في آخر حصن عربي، نتيجة تحالف الدول التي احتلت بلادنا العربية ودمرت أسس حضارتنا العربية، التي أنارت الطريق للبشرية وفتحت لها أفاقاً من التقدم والازدهار، فراحت تستخدم ثرواتنا الوطنية في مواصلة تركيع شعبنا، ولأن الأمة كانت تفتقد إلى القوى المؤهلة لقيادتها نحو شواطئ السيادة والاستقرار والبناء الحضاري الجديد، فقد ظنت الدول الاستعمارية، أن مصالحها ستبقى خالدة إلى الأبد في قطرنا العراقي وفي سائر أنحاء الوطن العربي.

وعندما تسلم حزبكم حزب البعث العربي الاشتراكي الحكم في ثورة 17ــــ30 تموز 1968، كان قد أعد ملف تحرير الثروة النفطية على رأس اهتماماته وفي أولوياته، ولكن التجارب التي مر بها الآخرون في هذا الميدان كانت حاضرة، كي لا يأتي أي تشريع من جانب واحد، قفزة في الهواء، فشرع من الأيام الأولى لإعداد الخطط لتطوير القطاع الزراعي والقطاع الصناعي، كي يواجه أي حصار يمكن أن تفرضه الدول المالكة للكارتل النفطي الدولي، ثم عكف على إعداد الخطوات المدروسة للاستثمار الوطني للنفط حيث توفرت له الفرصة لذلك، فكانت الخطوة الأولى هي استثمار حقل الرملية الشمالي وطنيا وبالتعاون مع المؤسسات السوفيتية المتخصصة، وهو ما حصل في السابع من نيسان 1972 في ذكرى تأسيس الحزب، كما أسس شركة ناقلات النفط كي لا يبقى أسير الضغوط التي تمارسها الشركات العالمية الناقلة للنفط.

فجاءت خطواته متناسقة من أجل تهيئة الأجواء السياسية والفنية والاقتصادية الكاملة لغرض إنجاح قرار التأميم، الذي تحقق بعد أقل من أربع سنوات من قيام ثورة 17ــــ30 تموز المجيدة، ليشكل مؤشر خط الانتقال من علاقات اقتصادية تبعية مع اقتصادات الدول الكبرى، والانتقال إلى مرحلة جديدة من البناء الحضاري، وليعطي العراق تجربة جاهزة وناجحة، يمكن أن تحذو الدول الأخرى التي كانت تعاني من عقدة الخوف في حال التقرب من أسوار الكارتل النفطي العالمي.

كما أن العراق ومن إغلاق كل أبواب الفشل أمام قرار التأميم فقد أعلن مجلس قيادة الثورة قرار التقشف في كافة أبواب الميزانية استعدادا للأسوأ، فجاء إصدار قانون رقم 69 بتأميم عمليات شركة نفط العراق IPC، والتي كانت تمتلك أكبر حصة من مكونات العراق النفطية، ولعل اختيار طريق تأميم عمليات شركات النفط بمراحل متعددة، ما عجل باستسلام الشركات لموقف العراق الثابت بعد تسعة شهور فقط من يوم التأميم الخالد، في الأول من آذار 1973، أُعلن عن انتصار العراق في معركة التأميم إذ استسلمت الشركات بعد صمود عراقي منقطع النظير قاده حزبكم حزب البعث العربي الاشتراكي.

تحية لقيادة حزبكم التي خططت بجدارة لقرار التأميم، ونفذت خطواته بحكمة عالية، وعهدا على البقاء على طريق النضال حتى نستعيد ثروتنا النفطية التي رهنها عملاء الاحتلال للقوى الدولية التي تسعى لاستعادة هيمنتها على ثروات الشعوب وخاصة الثروة النفطية التي تعتبر عماد أية نهضة اقتصادية لأي مجتمع.

قيادة قطر العراق

لحزب البعث العربي الاشتراكي

بغداد 1 حزيران 2023

 

 

بيان القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي حول القمة العربية

القيادة القومية: قمة جدة” غرقت بالشكليات، وغابت عنها الالتزامات القومية والمبادرات العملية.  

أكدت القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي، أن قمة جدة تجنبت مواجهة التحديات الفعلية التي تواجه الأمة، وأغرقت نفسها في الشكليات والطابع الإحتفائي، فيما مصلحة الأمة تقتضي إطلاق مبادرات جدية لمقاربة الحلول للأزمات البنيوية التي تعصف بالعديد من الأقطار العربية. 

جاء ذلك في بيان للقيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي فيما يلي نصه:

في الوقت الذي كانت فيه الأمة تنتظر من القمة العربية التي انعقدت في جدة مقاربات جدية وعملية للأزمات البنيوية والسياسية الحادة التي تعيش تحت وطأتها أكثر من ساحة عربية، طغت عليها   الأجواء الإحتفائية، وتجنبت مواجهة التحديات الفعلية التي تواجه الأمة   في ظل الاطباق المعادي الذي تنوء تحت وطأته الثقيلة وباتت المشاريع المعادية التي تستهدف الوطن العربي من داخله ومداخله تشكل تهديداً داهماً للوجود القومي والهوية العربية.

إن اعتبار عودة سوريا إلى شغل موقعها في جامعة الدول العربية نجاحاً باهراً للقمة هو تقدير افتراضي شكلي، لا يبنى عليه لتقييم أعمال القمة وما تمخض عنها من مقررات، لأن التقييم يبنى على إطلاق مبادرات فعلية وتحديد الإجابات على التساؤلات السياسية المحددة التي تحتاج إليها جماهير الأمة العربية وهي تخوض صراعاً متعدد الأوجه ضد أعداء الأمة المتعددي والمشارب والمواقع.

إننا بالأساس لم نكن مع تعليق عضوية سوريا في جامعة الدول العربية، لأن العضوية هي للدول وليست للأنظمة والمسؤولين فيها، ولهذا فإن المحاسبة السياسية للنظام على مواقف ارتكبها بحق الأمة والجماهير، يجب ألا تنسحب على عضوية الدول في الهيئات القومية والإقليمية والدولية. وعليه فإن حضور رئيس النظام السوري أعمال القمة لا يعتبر إنجازاً بحد ذاته   إلا إذا كان المطلوب تقديم الشكليات على الجوهر، ويبدو أن هذا ما كان يراد تحقيقه.

لقد انعقدت القمة والمواجهات في فلسطين المحتلة على أشدها حيث جماهير فلسطين تقاوم باللحم الحي قوات الاحتلال الصهيوني وإغارات  المستوطنين على المدن والقرى والمخيمات وآخرها ما سمي بمسيرة الأعلام الصهيونية في القدس في نفس الوقت الذي كان فيه  الملوك والأمراء والرؤساء ملتئمين لأخذ الصور التذكارية ، وبدل أن تُطلق القمة مبادرة لدعم شعب فلسطين بكل الامكانات التي تمكنه من الصمود والمواجهة ، اكتفى “إعلان جدة” على اجترار المواقف السابقة التي  تجاوزها الزمن سياسياً كما على  أرض الواقع حيث العدو  الصهيوني مستمر  في تنفيذ استراتيجيته القائمة على أساس التدمير لغزة والتهجير للقدس والضفة لفرض التهويد الكامل على أرض فلسطين التاريخية والصهينة على كل معالم الحياة فيها.

 وهنا نتساءل، ألا تستحق فلسطين وجماهيرها إطلاق مبادرة عملية لفك الحصار المالي والسياسي عن الثورة الفلسطينية وهذا أضعف الإيمان والبدء   بتأسيس صندوق قومي لدعم القضية الفلسطينية والمساعدة في تلتقي نتائج المواجهات مع العدو وما تدفعه جماهيرنا من تضحيات بشرية ومادية.

    إن فلسطين تستحق أكثر من ذلك، وهذا الموقف القومي لم يتخذ لأن من يسير خط التطبيع مع العدو الصهيوني جهارة وتحت الطاولة مداورة، لن يُقْدِم على اتخاذ مواقف قومية أصيلة تقارب القضية الفلسطينية دعماً واسناداً وتوفيراً لحضن قومي دافئ، لأن مصالحه الخاصة وتحالفاته الإقليمية والدولية وارتهاناته للخارج على حساب مقتضيات الأمن القومي هي التي تحتل الأولوية في تحديد خياراته السياسية.

من هنا فإن القمة العربية الأخيرة وبعيداً عن البروبغندا الإعلامية التي تروج لإنجازاتها الفارغة من المحتوى العملي كما الكثير من سابقاتها، لم تلتزم بالحد الأدنى مما انطوى عليها ميثاق جامعة الدول العربية، بدءاً من تجاوز مفهوم وحدة الأمن القومي العربي، إلى مجاهرة من بعض من حضر القمة ومفاخرته بعلاقات تحالفية مع قوى إقليمية ودولية، كانت وما زالت تستبطن في سلوكها عدائية واضحة ضد الأمة العربية ومصالحها. وهذا ما ينطبق بشكل خاص على النظام السوري الذي استبق حضوره القمة بتوقيعه رزمة اتفاقيات أمنية واقتصادية مع النظام الإيراني لفرضها كأمر واقع على الواقع القومي فضلاً عن أنظمة عربية قطعت شوطاً في تطبيع علاقاتها مع العدو الصهيوني. 

إن قمةً  عربية ، لا تطرح مبادرة جدية لمساعدة السودان  على الخروج من أتون أزمته الخانقة والتي دخلت طوراً خطيراً بعد انفجار الوضع العسكري بعدما  وصل الانسداد السياسي إلى ذروته بسبب تعطيل آليات التحول الديموقراطي ، ولا تتوقف عند الآثار الخطيرة لمخطط التغيير الديموغرافي في الخارطة السكانية العربية من جراء موجات النزوح واللجوء التهجير القسري  الذي يتعرض له مواطنو الدول التي انفجرت أوضاعها السياسية والأمنية ، واستقدام مجموعات من جنسيات غير عربية لتوطينها في الأقطار العربية التي تشهد أزمات بنيوية في مشهديات  تعيد  للأذهان مخطط الاستيطان الصهيوني المتواصل فصولاً لتغيير التركيب الديموغرافي في البنيان المجتمعي  للأمة هي قمة مغرّبة عن الواقع القومي بعدما باتت أوضاع  العراق وسوريا واليمن والسودان وليبيا  وأقطار عربية أخرى على درجة من الخطورة.

وإن قمة عربية ،  تتجاهل ما ترتب على احتلال العراق من نتائج سياسية واقتصادية واجتماعية ، بل أكثر من ذلك ، تتعامل مع العملية السياسية بكل رموزها ورعاتها الإقليميين والدوليين ، بأنها الشرعية التي تمثل العراق ، هو استمرار للنهج التآمري الذي كان بعض من  حضر القمة شريكاً في مؤامرة  ضرب  العراق واحتلاله واسقاط نظامه الوطني، وهو ما ينطبق على مسألة  تجاهل  معاناة شعب سوريا وما تعرض له من تهجير وتدمير لمرافقه الحياتية والحيوية وغياب أية  مبادرة عربية لحل الأزمة  يعيد  لسوريا هويتها العربية  ودورها في صياغة مشروع قومي عربي انطلاقاً من  إعادة توحيدها أرضاً وشعباً ومؤسسات وتحريرها من الجيوش والقواعد  الأجنبية والميليشيات التي تعبث بالأمن الوطني والمجتمعي، وكل هذا يبين أن القمة العربية هي أسيرة تكوينها الرسمي ، وأن مواقفها تعبر عن انفصام في الشخصية السياسية لهذه الهيئة الاعتبارية التي باتت أسيرة الاملاءات التي تملى عليها والإيحاءات التي تحدد سقف مواقفها السياسية. 

لقد درجت العادة أثناء انعقاد القمم السابقة، وبات ما يشبه التقليد هو دعوة هيئات دولية ومنظمات إقليمية لحضور جلسات الافتتاح، لكن لم يشهد أن حصل في قمم سابقة أن تمت استضافة رؤساء لإلقاء كلمات ودولهم في حالة حرب مع دول أخرى تحكمها علاقات صداقة مع العديد من الدول العربية. وعليه فإن دعوة الرئيس الأوكراني لحضور القمة وتجاهل دعوة الرئيس الروسي هي سقطة سياسية لا بل أكثر من ذلك إنها انحياز لطرف دون الآخر في وقت كان يفترض فيه أن يبقى النظام الرسمي العربي طرفاً محايداً كي يتمكن من لعب دور الوسيط الذي يساعد على إنهاء هذه الحرب على قاعدة احترام حق الشعوب في تقرير مصيرها وتحديد خياراتها لكن ضمن الحدود التي تصون حقوق الآخرين وخاصة بما يتعلق بالأمن القومي.

إن القيادة القومية لحزب البعث العربي  الاشتراكي ، التي ما برحت تدعو لإعادة الاعتبار للمركز القومي الجاذب كي يكون باستطاعته  تحقيق الامتلاء السياسي والتعبوي لأمتنا العربية ويضع حداً لحالة الفراغ في الواقع القومي الذي مكّن القوى  الإقليمية والدولية استغلال هذا الفراغ للتغول في العمق القومي ، ترى أن إعادة الحياة لصيغ العمل العربي المشترك هو مطلب شعبي عربي ، شرط أن تكون مضامين هذه الصيغ تصب في مصلحة الأمة  وأمنها القومي ، وليس في مصلحة المشاريع الخاصة التي يسعى أصحابها إلى توفير بيئة آمنة لاستثماراتهم المالية والتجارية والاقتصادية  من خلال ترتيبات أمنية وسياسية ومشاريع اقتصادية مشتركة مع قوى دولية وإقليمية ، وهذا ما ينّظر له تحت عنوان التنمية المستدامة التي تحاكي مصالح الشركات الكبرى وصناديق الاستثمارات الدولية دون مصالح الشرائح العظمى من أبناء الشعب العربي الذي باتت قطاعاته الواسعة تنوء تحت عبء الضغوط المعيشية.

إننا في السابق لم نكن نراهن، على خلاص لهذه الأمة وتحررها في ظل هكذا منظومات حاكمة، وفي ظل لقاءاتها الثنائية أو المتعددة الطرف، ولقاء القمة شكل من أشكالها. واليوم فإننا نؤكد على جوهر هذا الموقف ، وانطلاقاً من ثابتة هذا الموقف ، فإن “إعلان جدة “، هو بيان سياسي سمته الأساسية أنه ينطوي على  إعلان نوايا  واجترار لمواقف سابقة ، وهؤلاء الذين اجتمعوا في جدة إنما اتفقوا  على إعادة إنتاج النظام الرسمي العربي وترميم تصدعاته  ليس ليكون قادراً على تلبية الطموح الشعبي العربي في الوحدة والتقدم والتحرر وإنما في الشكل الذي يخدم أجندة القوى التي تحضر نفسها لتكون من ركائز نظام إقليمي جديد، وهو الذي يتطلب توسيع مروحة التطبيع مع الكيان الصهيوني ومثلها مع النظام الإيراني كما التركي كثلاث مرتكزات إقليمية للنظام الشرق أوسطي الجديد.

فبئس هكذا قمة عربية، لم تقارب الأزمات الفعلية بروح المبادرات الجدية للبحث عن مخرجات حلول لهذه الأزمات بإرادة عربية مستقلة، وبئس هكذا قمة لم تأتِ على ذكر الجزر الثلاث المحتلة من إيران وكذلك ثورة شعب الأحواز ضد الاحتلال الفارسي، وبئس هكذا قمة عربية لم تتخذ خطوات فعلية لدعم المقاومة الفلسطينية وفك الحصار المالي والاقتصادي عن جماهير فلسطين، وبئس هكذا قمة عربية تزين للاحتلال الأمريكي والإيراني للعراق وتتجاهل معاناة شعبه كما معاناة شعب سوريا. 

إن جماهير الأمة  العربية التي تنخرط في حراك شعبي من انتزاع حقوقها السياسية، وتقاوم أنظمة الاستبداد والردة والتسلط والتأبيد السلطوي ، وتدعو إلى اسقاط نهج التطبيع ،ليست بحاجة إلى إعلان نوايا، وهي تدرك أن هكذا لقاء لرؤساء منظومة حاكمة لن تتخذ مواقف وتطلق مبادرات ذات مفاعيل إيجابية على مجرى صراع الأمة  مع أعدائها ، وادراكاً منها بأن فاقد الشيء لا يعطيه ،بل أن   رهانها سيبقى  على القوى الحية في هذه الأمة  التي تخوض صراعها متمسكة بسلاح الموقف وقابضة على جمره وعلى استمرار رفضها ومقاومتها لكل من يسعى للنزول بالتطبيع مع القوى المعادية من دوائر النظام الرسمي إلى القاعدة الجماهيرية العريضة.

تحية لفلسطين وثورتها، وتحية لكل الثوار والمناضلين العرب الذين يقامون الاحتلال ويكافحون من أجل تحولات سياسية ديموقراطية.

المجد والخلود للشهداء والحرية للأسرى والمعتقلين والخزي والعار للخونة والمطبعين والمرتهنين للخارج الدولي والإقليمي.

القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي

٢٠٢٣/٥/٢٢