في سبيل البعث الجزء الأول – في القومية العربية

القومية حب قبل كل شيء


اخشى ان تسف القومية عندنا الى المعرفة الذهنية والبحث الكلامي فتفقد بذلك قوة العصب وحرارة العاطفة. كثيرا ما اسمع من الطلاب اسئلة عن تعريف هذه القومية التي ننادي بها: أهي عنصرية تقوم على الدم، أم روحية تستمد من التاريخ والثقافة المشتركة؟ وهل هي تنفي الدين أم تفسح له مكانا؟ !
وكأني بهم يعلقون ايمانهم بالقومية على درجة التعريف من الصحة والقوة. مع ان الايمان يجب ان يسبق كل معرفة ويهزأ بأي تعريف، بل انه هو الذي يبعث على المعرفة ويضيء طريقها.


القومية التي ننادي بها هي حب قبل كل شيء. هي نفس العاطفة التي تربط الفرد بأهل بيته، لان الوطن بيت كبير والأمة أسرة واسعة. والقومية ككل حب، تفعم القلب فرحاً وتشيع الأمل في جوانب النفس، ويود من يشعر بها لو ان الناس يشاركونه في الغبطة التي تسمو فوق انانيته الضيقة وتقربه من افق الخير والكمال، وهي لذلك غريبة عن ارادة الشر وأبعد ما تكون عن البغضاء. اذ ان الذي يشعر بقدسيتها ينقاد في الوقت نفسه الى تقديسها عند سائر الشعوب فتكون هكذا خير طريق الى الانسانية الصحيحة… وكما ان الحب لايوجد الا مقرونا بالتضحية فكذلك القومية، والتضحية فى سبيلها تقود الى البطولة. اذ ان الذي يضحي من اجل أمته دفاعا عن مجدها الغابر وسعادة مستقبلها، لأرفع نفساً واخصب حياة من الذي يحصر تضحيته في شخص واحد.


ان الذي يحب لا يسأل عن اسباب حبه. واذا سأل فليس بواجد له سبباً واضحا. والذي لا يستطيع الحب الا لسبب واضح يدل على ان الحب في نفسه قد فتر او مات.


فكيف يجوز لبعض الشباب ان يتساءلوا عن الحجة الدامغة التي تقنعهم بان حبهم لامتهم العربية يجب ان يغلب حبهم لاي شعب اخر، ويرجح على كل ميل لهم نحو طائفة او عشيرة او اقليم؟ وكيف يجوز لهم ان يتساءلوا فيما اذا كان للعرب فضائل جديرة بالحب؟ ان الذي لايحب امته الا اذا كانت خالية من العيوب لا يعرف الحب الحقيقي. وفي رأيي ان السؤال الوحيد الذي يجوز للشباب ان يطرحوه على انفسهم وعلى اساتذتهم هو هذا: ما دمنا نحب امتنا بخيرها وشرها ففي اي طريق نستطيع ان نحول هذا الحب الى خدمة نافعة وعلى اي اسلوب؟


الحب، ايها الشباب، قبل كل شيء. الحب اولا والتعريف يأتي بعده. اذا كان الحب هو التربة التي تتغذى قوميتكم منها، فلا يبقى مجال للاختلاف على تعريفها وتحديدها. فتكون روحية سمحة بمعنى انها تفتح صدرها وتظلل بجناحيها كل الذين شاركوا العرب في تاريخهم وعاشوا في جو لغتهم وثقافتهم اجيالا فاصبحوا عربا في الفكرة والعاطفة. ولا خوف ان تصطدم القومية بالدين فهي مثله تنبع من معين القلب وتصدر عن ارادة الله، وهما يسيران متآزرين متعانقين، خاصة اذا كان الدين يمثل عبقرية القومية وينسجم مع طبيعتها .


ميشيل عفلق
عام 1940


 

القومية قدر محبب

 

قلما يفكر المرء بالاشياء البسيطة مع ان في بساطتها سرا يفوق الاسرار. من ذا يفكر باسمه ووجهه؟ انهما قدر يلازمه طوال ثواني حياته. القومية كالاسم الذي يلصق بنا منذ ساعة ولادتنا ومثل قسمات الوجه المقدر علينا حتى من قبل ان نولد في وراثة أبوينا واجدادنا. إننا نألف اسماً ولا نجيب الا اذا نودينا به ولو كنا نفضل عليه اسماء احسن وقعا. كما نقبل بوجهنا ونستشف به خفايا نفسنا وصورة شخصيتنا ولو انه لا يحقق دوما كل شروط الجمال.

متى انتبه الانسان الى قدره يخرج من حالة الحياة السطحية ويدخل في جريان الحياة الحارة القوية، فاذا رافق عنده هذا الانتباه الى القدر، القبول به، اتخذت حياته اتجاها واتسمت بالرجولة.

القومية  للشعب كالاسم للشخص والملامح للوجه، هي قدر قاهر يسير مجموعة من البشر في مجرى من الحوادث والظروف فريد، وينسج عليه غلافاً من الصفات متميز الشكل. وكما ان من العبث ان يضيع المرء عمره في اللهف والاسف -لو ولدت في غير هذا البيت ووجدت على غير هذه الصورة- فان من الجهد الضائع ايضا ان يحاول الانسان التحلل من رباط قوميته التي احكمت شدها به اصابع القرون، ولكان اجدى به ان يقول: ما دامت طريقي معينة، ومسرح نشاطي محددا، فلاملأ كل خطوة من خطوات الطريق بأقصى جهودي، ولأظهر على هذا المسرح كل بطولتي، هذا هو قدري فلأكن به خليقا.

هبوا امرءاً تستيقظ فيه قوميته، ولم تتضح له ارادة هذا القدر فيقبل بها ويريدها، اي رجل هو؟ الى اي تاريخ ينتمي؟ ماذا يهبه الماضي من فخار ويرتب عليه الحاضر من مسؤولية؟ اية اماني تجتذبه الى المستقبل وتعلو به فوق حدود فرديته وانانيته؟ هل له مميزات تبين له في الحياة اتجاهه وتضيء له سبيله؟ او بتعبير آخر، هل له اسم، هل له ملامح؟

انني كلما فكرت في حالة امرىء كهذا ترتعد فرائصي ذعرا من صورة الشقاء الذي يضمه وصقيع العزلة التي تنأى به… اي ضيق في أفقه واي فقر في روحه، وأية تفاهة وشحوب في حياته؟ يعيش عمره وهو لايدري انه فرع من نبتة تغور اصولها في احشاء الماضي، و تمتد اغصانها على امتداد العصور، ولا يعلم انه واحد من الملايين الذين تعاقبوا خلال القرون والاجيال فحرثوا الارض وشادوا العمران واعملوا الفكر وأذابوا الارواح وحاربوا وسقطوا صرعى الحروب، كل ذلك ليكتبوا تاريخ امتهم سطراً سطراً، وليرفعوا بنيانها حجراً حجراً، وليوضحوا عبقريتها ويتابعوا رسالتها. وكل هذه الملايين جاهدت  وجالدت وصارعت العواصف وصمدت للنكبات لكي تخرجه من ظلمة العدم الى نور الحياة، لكي تلده هو، هذا الغافل الناسي، لتغني حياته بحياة الملايين، وتدعم نشاطه بجهود مئات الاجيال ولتحمله مسؤولية الماضي وشرف هذه المسؤولية، لتوجد له اسماً ينادى به وملامح تعرفه بين الامم، كي لا يبقى زيدا او بكرا من الناس، بل ليستطيع القول اذا تفاخرت الشعوب: انا عربي. قد يكون قاسياً هذا القدر الذي القى بنا في عصر الضعف والمذلة والتأخر والتفرقة،  بدلا من ان يوجدنا في عصر الوليد او الرشيد، فنستند الى دولة عزيزة منيعة، وشعب ناشط موحد الكلمة، وحضارة ساطعة الضياء. وقد يكون القدر احيانا قاسيا ولكنه عادل ابدا، فهو لا يوزع البطولة الا بنسبة الصعوبة، ولا يورث المجد الا بقدر الجهد. فلن تكون في نظره بطولة الذين يجاهدون اليوم ليحرروا بلادهم من استعمار الاجنبي وخطر التجزئة وينشلوها من هوة الجهل والفقر، بأقل من بطولة قتيبة وابن نصير. واذا كان عصر الرشيد والمأمون قد اتسع لانتاج الفلسفات والآداب، فسيكون كل واحد من ابطال اليوم في نظر الجيل الآتي موضوع ملحمة خالدة وتكون تضحيته منشأ فلسفة جديدة.

1940 

ميشيل عفلق


في القومية العربية


إذا كان في اهتمام الشباب ببحث القومية ما يدعو إلى الاستبشار فان في طريقة بحثهم لها ما يدعو إلى كثير من الحذر والقلق. فلقد أصبحت القومية عندهم نظرية من النظريات، يمكن الأخذ بها كما يمكن رفضها، إن لم أقل موضوعا من موضوعات الإنشاء وبابا من أبواب الصحف والمجلات.


إن إقبالا شديدا كالذي نراه على هذا الموضوع ليخيف أكثر مما يطمئن، لأنه كثير الشبه بالإقبال على زي جديد من أزياء اللباس واللهو. والزي الجديد سرعان ما يصبح قديما ويهجر بمثل الشدة التي قبل بها.


كل ذلك لأن “قوميتنا” أيضا تأتينا من الخارج بدلا من ان تنبعث من أعماقنا. إن الشجرة التي تفصل عن الأرض -مهما عظم حجمها- لا تلبث أن تجف وتخف حتى تبددها الرياح وتستحيل هباء.. بينما البذرة التي تولد في الخفاء، ما تزال تنمو وتشتد حتى تزدهر ويملأ أريجها الفضاء… أنجعل قوميتنا وهي أساس حياتنا نظرية من النظريات فنتركها عرضة لتقلبات المنطق والذوق والهوى فننادي بها اليوم ونؤثر عليها الأممية والشيوعية غدا، ونعتنق الدعوة الدينية بعد غد؟ أنفهمها فهما ضيقا فنساويها بأجزائها وعناصرها ونخير بين أن نسخر لها الفكر والفن ونضحي من أجلها بالحرية وبين أن نستعظم التضحية فنقدمها ذبيحة لكل هذه الأشياء ؟.


أنحصرها في ساحة محدودة من الوعي ونسجنها في تعريف كما فعل علماء الكلام بالدين قديما، فنحكم عليها بالهزال والفقر، والنضوب والعقم، ونقضي على جذورها المستترة في ظلام الأرض، وبراعمها الخبيئة في وهج النور؟

ان هذه القومية التي تأتينا من أوروبا مع الكتب والمجلات تهددنا بخطر مزدوج، فهي من جهة تنسينا شخصيتنا وتشوهها، ومن جهة أخرى تسلبنا واقعنا الحي وتعطينا بدلا منه ألفاظا فارغة ورموزا مجردة. فبحث القومية على الأسلوب الأوروبي يعللنا بآمال كاذبة، فيوهمنا أننا نبلغ ما بلغته الأمم الأوروبية العظمى بأخذنا بعض مظاهرها -أي بضرب من السحر- كما أنه يورثنا أمراضا ومشاكل وهمية فنشعر بنفس الأمراض والمشاكل التي تعانيها تلك الأمم.


ان الخطر الأكبر هو الايغال في التفكير المجرد. التفكير المجرد يوهمنا ان الواقع جامد ساكن عام في مادته الأولى، نستطيع أن نحلله ونشرّحه الى عناصر مستقلة، نعيد تركيبها ونبدل بعضها من بعض كما يحلو لنا، مع ان الواقع الحي كل متماسك منسجم، حي بتماسكه ووحدته، سابق لكل تحليل ذو فردية كاملة بذاتها. التفكير المجرد يعرّي الأشياء من لحمها ودمها ويفقدها لونها وطعمها، ويبعدها عن الدقة والضبط، فالأضداد تتشابه، والمتفاوتات تتعادل، لأنها أصبحت كلها ألفاظا واللفظة تساوي لفظة مثلها.


أية آلة دقيقة محكمة الصنع هي هذه القومية التي تحتم، كلما عرضت مسألتها في مكان، أن تنتج عنها نفس النتائج وتجابه ذات المعضلات؟ إن الذين يدخلون القومية في هذا الجو المجرد المفرغ من الهواء، لا يخطر ببالهم أنهم بنقلهم لفظة من موضع إلى آخر يزعزعون الجبال ويزلزلون الأرض، وأنهم بإهمالهم لفظة أخرى يقطعون أوصال الحياة ويحزون في شرايينها، ويحلون في ساعة ما نسجه الزمن في دماء أجيال. وإن في مقارنة القومية بالدين والتقاليد والفن مثلا ما ينم عن إخلال بدقة التفكير وفهم جزئي للقومية كأنها شيء مستقل عن الدين والتقاليد والفن، مع أنها التربة التي تنمو فيها مواهب أمة ما في كل الميادين. وعلى هذا لا يعود جائزا أن تختلق خصومة بينها وبين أحد أجزائها الأصلية المنبعثة منها، ولا ان نساويها به. أن التفكير المجرد منطقي مع نفسه اذ يقرر أن القومية لا بد ان تصطدم بالدين مثلا لأنهما يختلفان في المنبع والمظاهر.


ولكن لنهجر اللفظ قليلا ولنسم الأشياء بأسمائها وصفاتها المميزة، فنستبدل بالقومية (العروبة) وبالدين (الإسلام) تظهر لنا المسألة تحت ضوء جديد، فالإسلام في حقيقته الصافية نشأ في قلب العروبة وأفصح عن عبقريتها أحسن إفصاح وساير تاريخها وامتزج به في أمجد أدواره، فلا يمكن أن يكون ثمة اصطدام. وبعد فهل القومية محصورة بالأرض كما يظن، بعيدة كل البعد عن السماء، حتى يعتبر الدين شاغلا عنها مبذرا لبعض ثروتها، بدلا من اعتباره جزءا منها مغذيا لها ومفصحا عن أهم نواحيها الروحية والمثالية؟

ان القومية العربية ليست نظرية ولكنها مبعث النظريات، ولا هي وليدة الفكر بل مرضعته، وليست مستعبدة الفن بل نبعه وروحه، وليس بين الحرية وبينها تضاد، لأنها هي الحرية، اذا ما انطلقت في سيرها الطبيعي وتحققت ملء قدرتها.


ثمة فرق جوهري بين الجسم الحي، مهما كان ضئيلا بسيطا وبين الجسم الآلي الذي يريد تقليد الحياة والتشبه بها، مهما أتقن الصانعون صنعه وافرغوا فيه فنهم ومهارتهم. الآلة خارجة عن مجرى الحياة وغير متصلة بالزمان. فلا يحسب الذين يستعيرون النظريات القومية والفلسفية الأجنبية ويكدسونها بعضا فوق بعض ليركبوا منها القومية العربية، انهم بوضعهم الثياب الجميلة على عصا يوهموننا بأنها تحيا. اننا لا نزال نشعر أن هناك جسما حيا اهملوه وتعاموا عنه، انه مازال عاريا. قد يكون هزيلا ولكنه جميل، وجماله لا لشيء، سوى انه حي.


كثيرا ما نسمع: (أأنتم أفضل من هذه الأمة أو تلك! انها مرت على هذه المراحل ونجحت بهذه الأساليب!) لسنا ندعي اننا أفضل من غيرنا، لكننا مختلفون عنهم: وهذا الاختلاف هو الذي يجعلنا عربا ويجعلهم غير عرب. ولسنا نقول بضرر الاطلاع على النظريات الرائجة عندهم بل نعتقد ان فائدة هذا الاطلاع يجب أن تبقى سلبية، أي ان نعرف بواسطته كل الأشياء التي ليست لنا، فإن ذلك يقربنا من فهم حقيقتنا وحاجتنا.


كل تفسير للقومية العربية لا ينبعث من صميمها، انبعاث الغرسة من الأرض والسنبلة من القمحة يكون تفسيرا ضالا جامدا ميتا. وكل نظرية عن العروبة يصح أن تقال على السواء عن فرنسة القرن الثامن عشر وعن اليونان في عهد أفلاطون، نظرية زائفة آلية، لأنها لا تنبىء عن خصائص المكان ولا يستشف منها انسياب الزمن. وليكفوا عن التذرع بالأشياء الخالدة المشتركة اذ لا شيء خالدا ومشتركا بين البشر غير التحول والاختلاف.


لا يصبح العرب قوميين باعتناقهم فكرة القومية فهي ليست فكرة. ولا بعملية حب وإيمان وإرادة، فهي شروط لازمة للقومية ولكنها ليست إياها. جعل القومية فكرة تعتنق يضيف الى طوائف العرب طائفة جديدة ويضع على النفس العربية طلاء فوق القشور الموجودة التي تغشاها، ويزيدنا تفرقة ويباعد ما بين التجانس وبيننا. لا يحتاج العرب إلى تعلم شيء جديد ليصبحوا قوميين، بل إلى إهمال كثير مما تعلموه حتى تعود إليهم صلتهم المباشرة بطبعهم الصافي الأصيل. القومية ليست علما بل هي تذكر، تذكر حي.


وهذه المعجزة التي يسعون اليها ويتلوون على ألف شكل لكي يعثروا عليها، ما عسى تكون دهشتهم عندما تظهر فيهم نقية، كاملة، بسيطة بساطة المعجزات، إذا هم تركوا الحياة تستعيد فيهم عفويتها وحريتها وتملأ كل سعتها. عبثا ينشدون قوميتهم بتحليلها من الخارج إلى عناصرها، وتركيبها تركيبا صنعيا مستوحى من الكتب والتفكير المجرد ومثال الأمم الأجنبية، انهم لن يجدوها الا في داخلهم مركبة وواحدة معا كما هي في الواقع وككل شيء حي متداخل الأجزاء، لا يفصل عنها جزء الا ويفقدها الحياة. هي في أعمالنا الماضية وآلامنا الحاضرة، في فضائلنا وعيوبنا، في تاريخنا المسطور في الكتب وتاريخنا المحفور على حنايا الضلوع، الذي يقرر أكثر اتجاهاتنا ويغذي معظم أحلامنا.

عام 1941


 

ذكرى الرسول العربي

الشخصية العربية بين الماضي والحاضر(1 )– في مثل هذه الحفلات يخطر لي دوماً سؤال: ما هي قيمة الكلام؟ لم نعرف في تاريخنا زمناً كثر فيه الكلام وطغى على كل شيء مثل هذا الزمن الذي نعيش فيه، ومع ذلك فهو أقل العهود حيوية وإنتاجاً، فهل يكون الكلام إذا مساعداً على الشلل والعقم، بدلا من أن يكون دافعاً إلى العمل وخصب النفس؟ هناك فرق جوهري بين الكلام المرتبط بقائله الذي يعبر عن حاصل شخصية حية وعن موقفها الكلي من الحياة، وبين الكلام المنفصل عن الشخصية الذي لا يعني غير ذهن يلهو ولسان  يهذر. كان العرب شديدي التأثر باللفظ، لأن الألفاظ كانت عندهم حقائق نابضة مترعة بالحياة، فكان يسمعها القلب لا الأذن، و تجيب عليها الشخصية كلها لا اللسان وحده، لذلك كان للفظة قدسية وكانت بمثابة تعهد، تربط الحياة وتتصرف بها، سواء حياة الفرد أم حياة الجماعة.

فاللفظة التي كانت كالورقة النقدية تمثل قيمة معينة من الذهب، غدت اليوم مجرد قصاصة من الورق ليس وراءها ما يضمنها، فنحن نرى نفسا فقيرة إلى حد العدم تستطيع أن تغرق ما حولها ببحر من الكلام، وليس من يطالب بأن يكون وراء الكلام عمل يضمنه، فلا غرابة في أن تفقد الثقة وتلتبس الأمور ويكثر الغش والتلاعب وبالنتيجة الإفلاس والفضيحة.

نحن أمام حقيقة راهنة هي الانقطاع بل التناقض بين ماضينا المجيد وحاضرنا المعيب. كانت الشخصية العربية كلاً موحداً، لا فرق بين روحها وفكرها، بين عملها وقولها، أخلاقها الخاصة وأخلاقها العامة، وكانت الحياة العربية تامة ريانة مترعة يتضافر  فيها الفكر والروح والعمل وكل الغرائز القوية. أما نحن فلا نعرف غير الشخصية المنقسمة المجزأة، ولا نعرف إلا حياة فقيرة جزئية، إذا أهلها العقل فإن الروح تجفوها، وان داخلتها العاطفة فالفكر ينبو عنها : إنها فكرية جديبة، أو عملية هوجاء، فهي أبداً محرومة من بعض القوى  الجوهرية، وقد آن لنا أن نزيل هذا التناقض فنعيد للشخصية العربية وحدتها، وللحياة العربية تمامها. يجب أن تتحد الصلاة مع العقل النير مع الساعد المفتول، لتؤدي كلها إلى العمل العفوي الطلق الغني القوي المحكم الصائب..

كان انتسابنا لأجدادنا الأبطال انتسابا رسمياً لا أكثر، واتصال تاريخنا الحديث بتاريخنا  المجيد اتصالاً طفيلياً  لا عضوياً. اليوم يجب أن نبعث فينا الخصال ونقوم بالأعمال التي تبرر نسبنا الرسمي وتجعله حقيقياً مشروعا. يجب أن نزيل ما استطعنا من حواجز الجمود والانحطاط حتى يعود الدم الأصيل المجيد فيتسرب إلينا. يجب أن ننقي أرضنا وسماءنا حتى تستأنس أرواح الجدود الأبطال فتهبط إلينا وتستطيب الهيمنة  فوقنا.

ظللنا زمناً طويلاً نعيش في جو ثقيل خانق لانه كاذب : طلاق بين الفكر والعمل، بين اللسان والقلب، كل لفظة نقولها تحدث جلبة الوعاء الفارغ، ووقرا في الاذن والنفس، لأنها مفرغة من معناها. كل كلمة نقرؤها  تحدث ارتعاشاً في بصرنا والماً، لأنها تتراءى لنا كالشبح والظل تذكرنا بشيء انقطع عهدنا به، وهي تحزننا كمرأى طلل هجره ساكنوه. فيجب ان نعيد الى الالفاظ معناها وقوتها، مقامها وحرمتها ان نجعل لكل لفظة موقفاً في الحياة يقابلها. ان تجعل اللفظة مخبرة عن عمل قمنا به بعد ان كانت مذكرة بعمل عجزنا عنه، علينا الا نقول الا ما نقدر على تحقيقه، حتى يأتي يوم نقدر فيه ان نحقق كل ما نقوله.

الاسلام تجربة واستعداد دائم – ايها السادة : ان حركة الاسلام المتمثلة فى حياة الرسول الكريم ليست بالنسبة الى العرب حادثاً تاريخياً فحسب، تفسر بالزمان والمكان، وبالاسباب والنتائج، بل انها لعمقها وعنفها واتساعها ترتبط ارتباطاً مباشراً بحياة العرب المطلقة، اي انها صورة صادقة ورمز كامل خالد لطبيعة النفس العربية وممكناتها الغنية واتجاهها الأصيل فيصح لذلك اعتبارها ممكنة التجدد دوماً في روحها. لا في شكلها وحروفها. فالاسلام هو الهزة الحيوية التي تحرك كامن القوى في الامة العربية فتجيش بالحياة الحارة، جارفة سدود التقليد وقيود الإصطلاح. مرجعة اتصالها مرة جديدة بمعاني الكون العميقة، ويأخذها العجب والحماسة  فتنشئ تعبر عن  اعجابها وحماستها بالفاظ جديدة واعمال مجيدة، ولا تعود من نشوتها قادرة على التزام حدودها الذاتية، فتفيض على الأمم الأخرى فكراً وعملاً، وتبلغ هكذا الشمول. فالعرب عرفوا بواسطة هذه التجربة الأخلاقية العصيبة كيف يتمردون على واقعهم وينقسمون على أنفسهم، في سبيل تجاوزها الى مرحلة يحققون بها وحدة عليا، وبلوا فيها نفوسهم ليستكشفوا ا ممكناتها ويعززوا فضائلها. وكل ما أثمر الاسلام فيما بعد من فتوح وحضارات انما كان فى حالة البذور فى السنوات العشرين الاولى من البعثة، فقبل ان يفتح العرب الأرض فتحوا أنفسهم وسبروا اغوارها وخبروا دخائلها، وقبل ان يحكموا الامم حكموا ذواتهم وسيطروا على شهواتهم وملكوا ارادتهم. ولم تكن العلوم التى انشأوها والفنون التي أبدعوها والعمران الذي رفعوه، الا تحقيقا ماديا جزئيا قاصرا لحلم قوي كلي عاشوه فى تلك السنوات بكل جوارحهم والا رجعا خافتا لصدى ذلك الصوت السماوي الذى سمعوه وظلا باهتا لتلك الرؤى الساحرة التي لمحوها يوم كانت الملائكة تحارب في صفوفهم، والجنة تلمع من بين سيوفهم.

هذه التجربة ليست حادثا تاريخيا يذكر للعبرة والفخر، بل هي استعداد دائم في الامة العربية – اذا فهم الاسلام على حقيقته- لكي تهب في كل وقت تسيطر فيه المادة على الروح، والمظهر على الجوهر، فتنقسم  على نفسها لتصل الى الوحدة العليا والانسجام السليم، وهى تجربة لتقوية اخلاقها كلما لانت وتعميق  نفوسها كلما طفت  على السطح، تتكرر فها ملحمة الاسلام البطولية بكل فصولها من تبشير واضطهاد وهجرة وحرب، ونصر وفشل، الى ان تختم  بالظفر النهائي للحق والإيمان.

حياة الرسول خلاصه لحياة العرب –ان حياة الرسول وهي ممثلة للنفس العربية في حقيقتها المطلقة لا يمكن ان تعرف بالذهن، بل بالتجربة الحية لذلك لا يمكن ان تكون هذه المعرفة بدءا بل هي نتيجة. فالعرب منذ ضمور الحيوية فيهم، اي منذ مئات السنين يقرأون السيرة ويترنمون بها ولكنهم لا يفهمونها لان فهمها يتطلب درجة من غليان النفس قصوى، وحدا من عمق الشعور وصدقه لم يتوفر لهم بعد، وموقفا وجوديا يضع الانسان امام قدره وجهاً لوجه، وهم أبعد ما يكونون عن ذلك.

إن أرواح أبطالنا لتجفونا وتهجرنا منذ زمن طويل، لأن البطولة لم تعد من مزايا العرب المألوفة، ويخشى أن يكون هذا التعظيم العامي للرسول الكريم معبراً عن القصور والعجز اكثر منه تقديراً للعظمة، فقد بعد عهدنا بالبطولة حتى أمسينا ننظر اليها نظرة خوف ورهبة واستغراب كأنها من عالم غير عالمنا، في حين ان التعظيم الحقيقي للبطولة انما يصدر عن المشاركة فيها وتقديرها بعد المعاناة والتجربة، فلا يقدر البطل الا الذي يحقق ولو جزءا يسيرا من البطولة في حياته.

حتى الآن كان ينظر الى حياة الرسول من الخارج كصورة رائعة وجدت لنعجب بها ونقدسها، فعلينا ان نبدأ بالنظر اليها من الداخل، لنحياها. كل عربي في الوقت الحاضر يستطيع ان يحيا حياة الرسول العربي، ولو بنسبة الحصاة الى الجبل والقطرة الى البحر. طبيعي ان يعجز اي رجل مهما بلغت عظمته ان يعمل ما عمل محمد. ولكن من الطبيعي ايضاً ان يستطيع اي رجل مهما ضاقت قدرته ان يكون مصغراً ضئيلا لمحمد، ما دام ينتمي الى الأمة التي حشدت كل قواها فأنجبت محمدا، او بالاحرى ما دام هذا الرجل فردا من افراد الامة التي حشد محمد كل قواه فأنجبها. في وقت مضى تلخصت في رجل واحد حياة امته كلها، واليوم يجب ان تصبح كل حياة هذه الامة في نهضتها الجديدة تفصيلاً لحياة رجلها العظيم. كان محمد كل العرب، فليكن كل العرب اليوم محمدا.

الاسلام تجدد العروبة وتكاملها رجل من العرب بلغ رسالة سماوية فراح يدعو اليها البشر، ولم يكن البشرحوله الا عربا فاستجاب للدعوة نفر قليل وقاومها اكثرهم، فهاجر مع المؤمنين وحاربه المشركون الى أن انتصر الحق فآمن به الجميع. فملحمة الاسلام لا تنفصل عن مسرحها الطبيعي الذي هو ارض العرب، وعن ابطالها والعاملين فيها وهم كل العرب. مشركو قريش ضروريون لتحقق الاسلام ضرورة المؤمنين له، والذين حاربوا الرسرل ساهموا في ظفر الاسلام كالذين ايدوه ونصروه. ان الله قادر ان ينزل القرآن على نبيه في يوم واحد، ولكن ذلك اقتضى أكثر من عشرين عاما، وهو قادر ان ينصر دينه ويهدي اليه كل الناس في يوم واحد، ولكن ذلك لم يتم في اقل من عشرين عام، وهو قادر ان يظهر الاسلام قبل ظهوره بعشرات القرون وفي أية أمة من خلقه، ولكنه اظهره في وقت معين وفي حينه، واختار لذلك الأمة العربية وبطلها الرسول العربي. وفي كل ذلك حكمة، فالحقيقة الباهرة التي لاينكرها الا مكابر، هي اذن، ان اختيار العرب لتبليغ رسالة الاسلام كان بسبب مزايا وفضائل اساسية فيهم، وان اختيار العصر الذي ظهر فيه الاسلام كان لان العرب قد نضجوا وتكاملوا لقبول مثل هذه الرسالة وحملها الى البشر، وأن تأجيل ظفرالإسلام طوال تلك السنين، كان بقصد ان يصل العرب الى الحقيقة بجهدهم الخاص وبنتيجة اختبارهم لأنفسهم وللعالم وبعد مشاق وآلام، ويأس وأمل، وفشل وظفر. اي ان يخرج الايمان وينبعث من اعماق نفوسهم، فيكون الايمان الحقيقي الممتزج مع التجربة، المتصل بصميم الحياة.

 فالاسلام اذن كان حركة عربية، وكان معناه : تجدد العروبة وتكاملها. فاللغة التي نزل بها كانت اللغة العربية، وفهمه للاشياء كان بمنظار العقل العربي، والفضائل التي عززها كانت فضائل عربية ظاهرة أو كامنة، والعيوب التي حاربها كانت عيوبا عربية سائرة  في طريق الزوال. والمسلم في ذلك الحين لم يكن سوى العربي، ولكن العربي الجديد، المتطور، المتكامل. وكما نطلق اليوم على عدد من افراد الامة اسم “وطني” أو “قومي” مع ان المفروض ان يكون مجموع الأمة قومياً، ولكننا نخص بهذا الاسم الفئة  التي آمنت بقضية بلادها لانها استجمعت الشروط والفضائل اللازمة كيما تعي انتسابها العميق الى أمتها وتتحمل مسؤولية هذا الانتساب، كان المسلم هو العربي الذي آمن بالدين الجديد لانه استحضر الشروط والفضائل اللازمة ليفهم ان هذا الدين يمثل وثبة العروبة الى الوحدة والقوة والرقي.

انسانية الاسلام ولكن هل يعني هذا ان الاسلام وجد ليكون مقصوراً على العرب؟. اذا قلنا ذلك أبتعدنا عن الحق وخالفنا الواقع. فكل أمة عظيمة، عميقة الاتصال بمعاني الكون الأزلية، تنزع في أصل تكوينها الى القيم الخالدة الشاملة. والاسلام خير مفصح عن نزوع الامة العربية الى الخلود والشمول فهو اذن في واقعه عربي وفي مراميه المثالية انساني. فرسالة الاسلام انما هي خلق انسانية عربية. ان العرب ينفردون دون سائر الأمم بهذه الخاصة : ان يقظتهم القومية إقترنت برسالة دينية، او بالاحرى كانت هذه الرسالة مفصحة عن تلك اليقظة القومية. فلم يتوسعوا بغية التوسع ولا فتحوا البلاد وحكموا استناداً الى حاجة اقتصادية مجردة، أو ذريعة عنصرية، او شهوة للسيطرة والاستعباد.. بل ليؤدوا واجباً دينياً كله حق وهداية ورحمة وعدل وبذل. أراقوا من اجله دماءهم، واقبلوا عليه خفافاً متهللين لوجه الله. وما دام الارتباط وثيقاً بين العروبة والاسلام، وما دمنا نرى في العروبة جسماً روحه الاسلام، فلا مجال اذن للخوف من ان يشتط العرب في قوميتهم. انها لن تبلغ عصبية البغي والاستعمار… وطبيعي  ان العرب لا يستطيعون اداء هذا الواجب الا اذا كانوا أمة قوية ناهضة، لان الإسلام لا يمكن ان يتمثل الا في الامة العربية، وفي فضائلها واخلاقها ومواهبها. فأول واجب تفرضه انسانية الاسلام اذن هوان يكون العرب اقوياء  سادة في بلادهم. الاسلام كائن حي متميز بملامح وحدود ظاهرة بارزة، والكائن الحي المتميز الراقي في مراتب الحياة يكون هذا الشيء ولا يكون ذاك الشيء، هو يعنى هذا المعنى ويناقض ذلك المعنى ويعاديه: الاسلام عام وخالد ولكن عموميته لا تعني انه يتسع في وقت واحد لشتى المعاني والاتجاهات بل انه في كل حقبة خطيرة من حقب التاريخ وكل مرحلة حاسمة من مراحل التطور يفصح عن واحد من المعاني اللامتناهية الكامنة فيه منذ البدء، وخلوده لا يعني انه جامد لا يطرأ عليه تغير او تبدل، وتمر من فوقه الحياة دون ان تلامسه، بل انه بالرغم من تغيره المستمر، ومن استهلاكه لكثير من الاثواب، وافنائه لعديد من القشور واللباب، تبقى جذوره واحدة، وقدرتها على النماء والتوليد والابداع واحدة لا تنقص ولا تفنى، هو نسبي لزمان ومكان معينين، مطلق  المعنى والفعل  في حدود هذا الزمان وهذا المكان.

فهل يدري اولئك الغيورون الذين يريدون ان يجعلوا من الاسلام جرابا يسع كل شيء، ومعملا ينتج شتى المركبات والادوية، انهم بدلاً من ان يبرهنوا على قوته ويحفظوا فكرته من كل تغير طارئ، يقضون بذلك على روحه وشخصيته ويفقدونه مميزاته الحية واستقلاله وتعيينه، وانهم من جهة اخرى يفسحون المجال لدعاة الظلم وأرباب الحكم الجائر، كي يستمدوا من الاسلام اسلحة يطعنون بها مادة الاسلام نفسه، اي الامة العربية ؟.

 اذن فالمعنى الذي يفصح عنه الاسلام في هذه الحقبة التاريخية الخطيرة، وفي هذه المرحلة الحاسمة بين مراحل التطور، هو ان توجه كل الجهود الى تقوية العرب وانهاضهم وان تحصر هذه الجهود في نطاق القومية العربية.

العرب والغرب – منذ قرن ونصف قرن عاد اتصال الغرب بالعرب بواسطة حملة بونابرت على مصر، وقد رمز هذا الداهية الى ذلك الاتصال بأن علق لوحات كتبت فيها آيات القرآن الى جانب حقوق الانسان. ومنذ ذلك الحين ما برح العرب (أو الرؤساء الدخلاء على العروبة) يدفعون نهضتهم الحديثة في هذا الاتجاه الأشوه، فهم يجهدون انفسهم ويرهقون نصوص تاريخهم وقرآنهم ليظهروا ان مبادىء حضارتهم وعقيدتهم لا تختلف عن مبادئ الحضارة الغربية، وانهم كانوا اسبق من الغربيين الى اعلانها وتطبيقها. وهذا لا يعني الا شيئاً واحداً: وهو انهم يقفون امام الغرب وقفة المتهم مقرين له بصحة قيمه وأفضليتها. ان الواقع الذي لا محيد عن الاعتراف به هو ان غزو الحضارة الغربية للعقل العربي في وقت جف فيه هذا العقل حتى أمسى قوالب فارغة، يسر لتلك الحضارة ان تملأ بمفاهيمها ومعانيها فراغ هذه القوالب. ولم تمض فترة من الزمن حتى انتبه العرب الى ان ما يخاصمون الاوروبيين عليه هو نفس ما يقول به هؤلاء، وانهم لايفرقون عن الاوروبيين الا بالكم، كما يفرق القليل عن الكثير، والمقصر عن السابق، ولن يتأخر الوقت الذي يعترفون فيه بالغاية المنطقية لهذا الاتجاه، اي ان في الحضارة الاوروبية ما يغني عن حضارتهم. فحيلة الاستعمار الاوروبي لم تكن في انه قاد العقلية العربية الى الاعتراف بالمبادئ والمفاهيم الخالدة، اذ ان هذه العقلية معترفة بها وقائمة عليها منذ نشأتها. ولكن هي في اغتنامه فرصة جمود العقلية العربية وعجزها عن الابداع ليضطرها الى تبني المضمون الاوروبي الخاص لهذه المفاهيم. فنحن لسنا نخالف الاوروبيين في مبدأ الحرية، بل في ان الحرية تعني الذي يفهمونه منها. ان أوروبا اليوم، كما كانت في الماضي، تخاف على نفسها من الاسلام. ولكنها تعلم الآن ان قوة الاسلام (التي كانت في الماضي معبرة عن قوة العرب) قد بعثت وظهرت بمظهر جديد هو القومية العربية. لذلك فهي توجه على هذه القوة الجديدة كل اسلحتها، بينما نراها تصادق الشكل العتيق للاسلام وتعاضده. فالاسلام الاممي الذي يقتصر على العبادة السطحية والمعاني العامة الباهتة آخذ في التفرنج، ولسوف يجيء يوم يجد فيه القوميون أنفسهم المدافعين الوحيدين عن الاسلام ويضطرون لأن يبعثوا فيه معنى خاصا اذا أرادوا ان يبقى للامة العربية سبب وجيه للبقاء.

شرف العروبة من هذه المفاهيم الاوروبية التي غزت العقل العربي الحديث فكرتان عن القومية والانسانية فيهما خطأ وخطر كبير.

فالفكرة القومية المجردة في الغرب منطقية اذ تقرر انفصال القومية عن الدين. لان الدين دخل على اوروبا من الخارج فهو اجنبي عن طبيعتها وتاريخها، وهو خلاصة من العقيدة الاخروية والاخلاق، لم ينزل بلغاتهم القومية، ولا أفصح عن حاجات بيئتهم، ولا امتزج بتاريخهم، في حين ان الإسلام بالنسبة الى العرب  ليس عقيدة اخروية فحسب، ولا هو أخلاق مجردة، بل هو اجلى مفصح عن شعورهم الكوني  ونظرتهم الى الحياة، واقوى تعبير عن وحدة شخصيتهم التي يندمج فيها اللفظ بالشعور والفكر، والتأمل بالعمل، والنفس بالقدر. وهو فوق ذلك كله اروع صورة للغتهم  وآدابهم، أضخم قطعة من تاريخهم القومي، فلا نستطيع  ان نتغنى ببطل من ابطالنا الخالدين بصفته عربيا ونهمله او ننفر منه بصفته مسلما. قوميتنا كائن حي متشابك الاعضاء، وكل تشريح لجسمها وفصل بين اعضائها يهددها بالقتل  فعلاقة الاسلام بالعروبة ليست اذا كعلاقة اي دين بأية قومية. وسوف يعرف المسيحيون العرب، عندما تستيقظ فيهم قوميتهم يقظتها التامة ويسترجعون طبعهم الاصيل، ان الاسلام هو لهم ثقافة قومية يجب ان يتشبعوا بها حتى يفهموها ويحبوها فيحرصوا على الاسلام حرصهم  على اثمن  شيء في عروبتهم. واذا كان الواقع لا يزال بعيدا عن هذه الامنية، فان على الجيل  الجديد من المسيحيين العرب مهمة تحقيقها بجرأة وتجرد، مضحين في سبيل ذلك  بالكبرياء والمنافع، اذ لا شيء يعدل العروبة وشرف الانتساب اليها.

الإنسانية المجردة : أما الخطر الثاني وهو خطر الفكرة الانسانية المجردة على النمط الاوروبي، فيؤدي في نتيجته  العميقة الى اعتبار الشعوب كتلا من البشر جامدة متجانسة  ليس  لها جذور في الارض، ولا يؤثر فيها الزمن، فيمكن ان تطبق على واحد منها الإصلاحات والانقلابات التي تنشأ من حاجات واستعدادات شعب غيره. وبعد، فهل يحسب اصحاب النظريات الثورية في الإقتصاد والإجتماع انهم بالصاقهم ثماراً من الشمع على عود جاف ينفخ الروح في هذا العود، ويجعل منه شجرة حية؟ لا يكفي ان تكون النظريات والاصلاحات معقولة في حد ذاتها، بل يجب ان تتفرع تفرعا حيا عن روح اعم هي لها منبع واصل. يظن بعضهم اليوم ان ادخال الاصلاحات المختلفة على وضع العرب يكفي ليبعث الامة. ونحن نرى في هذا مظهرا من مظاهر الانحطاط لانه نظرة معكوسة، ووضع للفرع مكان الاصل، وللنتيجة مكان السبب. فالواقع ان هذه الاصلاحات فروع لابد لها من اصل منتج عنه كما تخرج الازهار من الشجرة، وهذا الاصل نفسي قبل كل شيء  هو ايمان الامة برسالتها، وايمان ابنائها بها. في الاسلام، كان الايمان باله واحد هو الاصل، وعنه تفرعت كل الاصلاحات التي طرأت على المجتمع العربي وقلبته. ولم يكن المسلمون الأولون في مكة يدرون ان موافقتهم على توحيد الله والايمان باليوم الآخر ستقودهم الى الموافقة عن كل التشريع الذي فصله الاسلام فيما بعد ونراهم مع ذلك يطبقون هذا التشريع تطبيقا عفويا، طوعيا منطقيا، لان موافقتهم الثابتة كانت ضمنية في الموافقة الاولى على الإيمان  باله واحد، فكل ما يأمر به هذا الإله هو حق وعدل ومهما قيل في تدخل العوامل السياسية والاقتصادية في مناهضة قريش للإسلام  يبقى العامل الرئيسي عاملا دينيا، أي فكريا. وان الآخذين اليوم بالطريقة المشوهة في تعديل الدين تعديلا ماديا ليخالفون واقع التاريخ والنفس الانسانية من جهة، ويطعنون العرب من جهة اخرى في اثمن مميزاتهم: في مثاليتهم. فلقد رأينا قريشا عندما اضطرتها مصالحها المادية ان تهادن الرسول فى صلح الحديبية، تصر على ان تنكر عليه وحيه ودينه الجديد.

فمما تقدم يتضح سبب  تعليقنا كل الاهتمام على الشعور القومي العميق الواعي، باعتباره اصلا، لانه وحده الضامن للاصلاحات الإجتماعية ان تكون حية فاعلة جريئة، منسجمة مع روح الشعب وحاجاته، يحققها لانه يريدها.

الجيل  العربي الجديد– ايها السادة : اننا نحتفل بذكرى بطل العروبة والاسلام. وما الإسلام الا وليد الآلام، آلام العروبة، وان هذه الآلام قد عادت الى ارض العرب بدرجة من القسوة والعمق لم يعرفها عرب الجاهلية فما احراها بان تبعث فينا اليوم ثورة مطهرة مقومة كالتي حمل الإسلام لواءها. وليس غير الجيل العربي الجديد يستطيع أن يضطلع بها ويقدر ضرورتها، لأن آلام الحاضر قد هيأته  لحمل لواء هذه  الثورة، وحبه لأرضه وتاريخه قد هداه لمعرفة روحها واتجاهها.

نحن الجيل العربي الجديد نحمل رسالة لا سياسة، ايمانا وعقيدة لا نظريات واقوالا. ولا تخيفنا تلك الفئة الشعوبية المدعومة بسلاح الأجنبي، المدفوعة  بالحقد العنصري على العروبة، لأن الله والطبيعة والتاريخ معنا. انها لا تفهمنا  فهي غريبة عنا.  غريبة عن الصدق والعمق والبطولة، زائفة مصطنعة ذليلة. لا يفهمنا الا المجربون والذين يفهمون حياة محمد من الداخل، كتجربة اخلاقية وقدر تاريخي. لا يفهمنا الا الصادقون الذين يصطدمون في كل خطوة بالكذب والنفاق والوشاية والنميمة، ولكنهم مع ذلك يتابعون السير ويضاعفون الهمة. لا يفهمنا الا المتألمون، الذين صاغوا من علقم اتعابهم ودماء جروحهم  صورة الحياة العربية المقبلة التي نريدها سعيدة هانئة، قوية صاعدة، ناصعة تتألق بالصفاء. لا يفهمنا الا المؤمنون، المؤمنون بالله. قد لا نُرى نصلي مع المصلين، او نصوم مع الصائمين، ولكننا نؤمن بالله لاننا في حاجة ملحة وفقر اليه عصيب، فعبئنا ثقيل وطريقنا وعر، وغايتنا بعيدة. ونحن وصلنا الى هذا الإيمان  ولم نبدأ به، وكسبناه بالمشقة والألم، ولم نرثه ارثاً ولا استلمناه تقليداً، فهو لذلك ثمين عندنا لانه ملكنا وثمرة اتعابنا. ولا أحسب ان شابا عربيا يعي المفاسد المتغلغلة في قلب امته، ويقدر الاخطار المحيطة بمستقبل العروبة تهددها من الخارج وخاصة في الداخل، ويؤمن في الوقت نفسه ان الامة العربية يجب ان تستمر في الحياة، وان لها رسالة لم تكمل أداءها بعد، وفيها ممكنات لم تتحقق كلها، وان العرب لم يقولوا بعد كل ما عليهم ان يقولوه، ولم يعملوا كل الذي في قدرتهم ان يعملوه، لا احسب ان شابا كهذا يستطيع الاستغناء عن الايمان بالله، اي الايمان بالحق، وبضرورة ظفر الحق، وبضرورة السعي كيما يظفر الحق.

ميشيل عفلق

5 نيسان 1943

(1 ) خطاب القي على مدرج الجامعة السورية في 5 نيسان عام 1943


التفكير المجرد

في بلادنا عدد غير قليل من المثقفين المشوهين الذين غدت الثقافة في ايديهم اداة ايذاء. واريد أن اخص بحديثي أولئك الذين عاشوا في وسط عائلي واجتماعي فقدت منه الروح العربية، ثم تعلموا في المعاهد الاجنبية أو في ديار الغرب وحرموا من الثقافة العربية حتىّ اذا وضعتهم ثقافاتهم في مراكز توجيهية، اجازوا لانفسهم ابداء الرأي في صميم حياتنا القومية التي عاشوا غرباء عنها جاهلين لها، حاقدين عليها. ومن هؤلاء أخذت الحركة الشيوعية في بلادنا بعض عناصرها المثقفة، ومنهم نشأ ذلك الاتجاه الذي سميناه في بعض الكتابات السابقة بالتقدمية الزائفة المصطنعة، لانه تقدم ليس له جذور في نفوسنا، ولا يلبي حاجاتا الحقيقية، وانما هو من الخارج، يلصق على حياتنا لصقاً.

ففقدان الروح العربية والثقافة العربية يقود الى الثقافة المجردة، فالشخص يكون ضعيفاً مجرداً فتدخل الثقافة الاجنبية عليه دون ان تجد مانعاً او رادعاً اومعدلاً، فيصبح معدوم الشخصية أمامها وتتحكم به في حين ان تثقف الفرد العربي بالثقافة الغربية مفيد له كل الفائدة شرطة أن تكون شخصيته قد تكونت، فالفرد العربي الذي له من ثقافته وروحه ما يكون رادعاً عن الوقوع في خطأ الثقافة الغربية ومصححاً لها وما يكون فيه من القدرة على تمثل تلك الثقافة تمثلاً فكريا يجعله حاكما فيها لا محكوماً لها فتكون اداة في خدمته ونفعه. الثقافة ليست شيئاً جامداً يدخل على الرأس ويستقر وانما هي حركة وحياة تتفاعل مع الشخص وتؤثر فيه، لها حاجات ومطالب ومستلزمات ولها وسط تنبت فيه وتتخذ معناها، فاذا دخلت الثقافة الغربية على عقل عربي غير مسلح بالثقافة العربية فانها تنقله إلى الحياة الغربية.

والثقافة بعد هي تعبير عن حياة حقيقية، فالثقافة الافرنسية تعبر عن حياة افرنسية نشأت في وسط فرنسي، عن حاجاتهم وعقيدتهم، فهي نتيجة لتقاليدهم السياسية الحاضرة والماضية وهي متداخلة في آمالهم واهدافهم. فالذي يتثقف الثقافة الفرنسية دون ان يكون له ذلك الرادع، وذلك الاساس العربي، فانه بطبيعة الحال ينخرط في حركتها وآليتها فهو منقاد دون ارادة الى العيش في تاريخ تلك الثقافة وتقاليدها، وهذا ما نشاهده بين المثقفين بالثقافة الغربية المحرومين من الروح العربية والثقافة العربية، اذ نراهم يعيشون معنا في اجسامهم بينما فكرهم الذي تغذى بالثقافة الغربية منجذب الى وسطه الحي، وتفكيرهم هو في تاريخ الغرب وتقاليده وسياسته. ان في بلادنا عدداً غير قليل يعيشون بأجسامهم بيننا وبافكارهم وارواحهم مع البلاد الاوروبية وهم مع ذلك يدعون لانفسهم حق اعطاء الرأي في مشاكلنا وماضينا وحق التأثير في العمل والتوجيه فيه، إن هؤلاء المثقفين منقادون بطبيعة الأمر للعيش في وسط ثقافتهم وهذا الوسط هو الغرب. وليس من شك في ان هذا هو الشيء الطبيعي وهو المحبب الى نفوسهم، لان العالم الغربي الذي هو منبت ثقافتهم عالم قوي راق صاعد فحوادثه تشغل الارض وتهزها، في حين ان العالم العربي ليس له تلك الدرجة من الاهمية، فكيف يترك هؤلاء المثقفون ذلك الوسط الذي تغذوا من ثقافته وهو قسم فعّال تمثل عليه الاعمال الجسام، ويرضون بالعيش لهذه البلاد التي ليس لها بعد من شيء يذكر في كل نواحي الحياة.. فانتقالهم بالفكر والروح الى العالم الغربي طبيعي لسببين:

أولاً: ان ذلك اشهى اليهم، يغريهم بالاطلاع على الحياة التي تثقفوا منها ومعرفة مصير التاريخ الذي لم يدرسوا غيره ونتيجة الحضارة التي لم يطلعوا الا عليها. ثم انهم يجدون امر استخدام الثقافة الغربية لاصلاح الواقع العربي امراً صعباً جداً، ولا يمكن ان يفهموا المجتمع العربي، وكل منهم قد رسم حوله دائرة غربية. فتعلقهم بالغرب، ولو انهم كانوا في شعورهم وطنيين، هذا التعلق ناتج عن ان هذه الثقافة تحتاج الى وسطها الحي الذي نشأت فيه، وعلى الاخص لأنهم يختارون الطريق السهل .

ولا يحتاج المثقف بالثقافة الغربية للابداع لفهم حياة الغرب لان هنالك من يقوم بذلك بدلاً منه، فهو يلتقط اتعاب الغربيين انفسهم، ولو طلب من نفسه ان يفكر في حياته هنا وطرق معالجتها، لاقتضى ذلك منه ابداعاً وتفكيراً شخصياً. هل هؤلاء هم في الواقع مجردون؟ كلا لانه ليس في الحياة انسان مجرد فذلك محض افتراض. ان للبشر عدا العقل والذهن، الغرائز والعواطف والارتباطات المادية والمعنوية بتاريخ ونمط من العيش ونوع من التفكير والفن.

فهؤلاء المجردون ليسوا مجردين من العواطف والتقاليد والروح العربية فقط ولكنهم قد تبنوا العواطف والتفكير والارتباطات المعنوية الغربية. اذن لا يمكن ان يوجد في الواقع تفكير مجرد وانما تفكير مشوه. فهؤلاء مشوهون باستبدالهم بعواطفهم عواطف غيرهم.

ثانياً: إن الثقافة الغربية تكون مفيدة لفرد عربي تكونت شخصيته، مثقف بالثقافة العربية ومشبع بالروح العربية وله اساس لا يستغني عنه انسان، فالأغذية لا تدخل اليه وتظل كما هي وتفرض نفسها عليه، بل تتحول الى الشكل الملائم لتنفع هذا الجسم، فالفرد العربي المثقف بالثقافة العربية عندما تدخله الثقافة الغربية تكون له طاقة وطريقاً وحافزا عاما في شخصيته، لانها ثقافة نشيطة راقية، فيستخدمها لمعالجة حياته العربية، ولا يعود شاقاً عليه ان ينظر الى ما حوله وواقعه ويسعى الى تفهم هذا الواقع والتأثير فيه بالفكر والعمل لانه يبقى عربيا ويتثقف بالثقافة الغربية. انه يتسلح باسلحة جديدة تمكنه من معرفة ذاته وفهم حاجاته وبالنتيجة التأثير في الواقع والعمل على اصلاحه. فالعملية شاقة ولا تحدث الا بوجود شخصية عربية مستقلة، فتكوّن الشخصية والحصول على الاساس الروحي والفكري ضرورى لكي تصبح الثقافة الغربية نافعة. أما المثقفون ثقافة غربية فهم فاقدون لهذه الشروط، فحكمهم مشوه مغلوط مؤذ اذا لم نقل انه مغرض يتعمد الغرض، فهؤلاء لن نستطيع ان نقول عنهم بأنهم ضحوا بشخصيتهم العربية واكتسبوا غيرها لان الثقافة ككل شي حي مرتبطة بوسط حي وتاريخ وروح وزمان ومجتمع، الثقافة الغربية مرتبطة بحياة الغرب ولها جذور عميقة في حياته، وهؤلاء لهم جذور في واقعهم العربي ولكن جذورهم في تاريخ الغرب وحياته. لقد اهملوا العناية بثقافتهم فانقرضت فيهم لانه لم يتكون لهم هذا ألاساس من روح البلاد التي يعيشون فيها، فهل يمكن ان يتفاعلوا مع تلك الثقافة الحية؟ هؤلاء المثقفون لا يمكن ان يفهموا الثقافة الغربية فهما صحيحا حياً لان هذه الثقافة لا تجد فيهم ارضاً خصبة، فهم ارض جدباء، وقد يلتذون بها ويسخرونها لنفع شخصي.. ولكن هل يتوصلون بها الى الابداع ؟ كلا.. لاننا لانجد الابداع يصدر الا من اهل الثقافة الاصليين، واولئك ليس لهم جذور واتصالهم بالثقافة الغربية اتصال مصطنع، لايخصب النفس ولا يدفعها الى التوليد والابداع. فالثقافة الغربية لاتجعل من هؤلاء غربيين اصليين لذلك لايمكنهم ان يحملوا رسالتها على الاطلاق، فلن يحملوا الرسالة العربية ولن يستطيعوا حمل الرسالة الغربية، فهم ينقمون خفية على كل من تصدى لمثل هذا العمل وخاصة على الذين يقولون بأن للامة العربية رسالة. وسنأخذ نماذج من تفكير هؤلاد ونبين أغلاطهم ومغالطاتهم. إن ثقافة هؤلاء افرنسية مثلاً، فهم يرون في التفكير الذي تغذوا منه وفي الكتب التي قرأوها تلك النزعة البارزة وهي التفكير الانساني فينقادون الى تقليدها. فعندهم المسألة بالنسبة للعرب هي ان يهملوا الواقع بكل ثرائه وخصائصه، ولا يأخذوا الا الفكرة المجردة او اللفطة، فهناك الفكرة الانسانية وهناك الفكرة القومية ويقارنون بينهما مقارنة “نزيهة ” و “مجردة” وهم مستعدون لان يقبلوا الفكرة الراجحة حجتها وفائدتها، فيرون ان القومية هي مبدأ محصور في امة، والانسانية مبدأ شامل لجميع الامم، فيستنتجون ان فكرة الانسانية افضل من القومية ويأخذون بها. او ان الفكرة الانسانية هي الاصل والقومية هي الفرع، فنسبة القومية في عرفهم للانسانية كنسبة الفرع الى الاصل، ثم يعلنون سخطهم على القومية كأنهم يعيشون هناك. ومن المعلوم ان الحياة الغربية في هذا الزمن تشكو من التعصب القومي لا من القومية، من الغلو والافراط في هذا التعصب القومي. فشكوى الثقافة الفرنسية من هذا التعصب الذي كان داعية للحروب يتبناه المثقفون في بلاد تشكو من فقدان القومية لا من افراطها، من ضعفها لا من الغلو فيها. انهم يخشون أن يطغى التعصب القومي ويقود الى حرب على أمة اخرى وهم يعيشون في بلاد مجزأة مستعمرة لا يمكن ان يكون منها خطر على غيرها الى زمن بعيد. هنا يظهر فساد التفكير المجرد متجاهلاً الفروق الاساسية الواقعية. لقد قرأوا في ثقافتهم ان القومية تؤدي الى اضطهاد البشرية والى الاستعمار، وانها تسخر لأصحاب رؤوس الاموال، وهذا كله واقع في بلاد الغرب وليس شئ منه في بلادنا . فخطؤهم انهم يتدخلون في أمور بلادهم والتأثير في اتجاهها في حين يعيشون في غيرها، فهل يعقل ان تكون القومية العربية اليوم سبباً لطغيان العرب على غيرهم؟ ان العرب لايطمحون الآن الا لجمع شملهم وتوحيد اقطارهم ورفع نير الاجنبي عنهم .

واذا سلكت بعض القوميات طريق التعصب والطغيان فهل من الضروري ان نسلك هذا الطريق؟ كلا. . ان قوميتنا لها ضمانة من الماضي لانها مقرونة برسالة انسانية، وهذا شيء ينفرد به العرب وحدهم. انها رسالة روحية، فالعرب يتصورون قوميتهم وسيلة لتحقيق رسالتهم.

والضمانة في الحاضر هي ان الشعب الذي يعاني الظلم والضعف والتجزئة والحكم الاجنبي، تكون له هذه المعاناة وحدها فكرة واقية، لانه يستطيع بالقياس المنطقي وبالمشاركة الروحية ان يفهم ما هو وقع الظلم على غيره. فبناؤنا قوميتنا اليوم تدخل فيه هذه التجربة الاليمة التي جربناها، تجربة الضعف والانحطاط وتدخل في بناء دولتنا المقبلة، وتكون وازعاً ورادعاً عن كل فكرة تبغي السيطرة والتعدي على الاخرين. وليس في قوميتنا ما يسمح لأحد بأن يفكر في دفع خطر العرب ووضع حواجز لتوسعهم وطغيانهم، بينما هم يشكون اليوم من حكم الامم الاخرى لهم.

وقد كان الاحرى بهؤلاء لو انهم نظروا الى الامم التي اخذوا ثقافتهم عنها وتساءلوا، هل تخلت عن قوميتها؟ وهل تتنازل وتضحي بقوميتها في سبيل الانسانية؟ أم أنها متمسكة بقوميتها، وهي في كل مرة تنادي فيها بالانسانية تكون لها وراءها مطامع استعمارية للتوسع. فالتفكير الانساني الفرنسي الذي ظهر اثناء الثورة كان ممهداً للتوسع، وكذلك الحالة في اميركا اليوم، التي تنادي بفكرة الانسانية .

فكل هذه الدول الغربية لاتزال تحتفظ بقوميتها ولا تضحي بها في سبيل انسانيتها. بل لها تقاليد تصطبغ بالصباغ الانساني هي ذريعة للتوسع. وحالتها وأوضاعها مختلفة عن اوضاعنا، فهي بحالة قوة ونحن بحالة ضعف، وهي بحالة توسع ونحن بحالة تجزئة، فلا يعقل ان نفكر تفكيرها.

انهم يتركون الامم الكبيرة التي يجب ان تخفف من غلواء القومية ويأتون الى أمة لا تزال فيها الروح القومية في أول ظهورها فيقضون على هذه الروح باسم الانسانية .

فما هو تفكيرنا من الناحية الانسانية؟

نحن العرب اليوم بحالتنا الراهنة لاننكر اننا نعيش بين أمم وان لنا صلة بالانسانية، وهذا أمر واقع. ولكن هل من خير الانسانية ان يبقى العرب على ما هم عليه من ضعف وتأخر، أم أنه من خيرها يقظة العرب ووحدتهم حتى لا يكونوا عبئاً عليها كما هم الآن؟

ان العرب الان يؤذون الانسانية بضعفهم، لانهم لا يحتلون مكاناً فعالأ بين الأمم، فهم بحالتهم هذه يؤذون أنفسهم وغيرهم، لانهم مجال تناحر الاطماع والاستعمار الذي دخل بلاد العرب .

فأكبر خدمة يقدمها العرب للانسانية هي ان ينهضوا بقوميتهم الى مستوى الانسانية.

عام 1943  


واجب العمل القومي

كيف يجب أن يكون موقف الشباب الواعي من قضيته القومية؟ كل سؤال إذا أحسن وضعه يتضمن في باطنه الجواب، اذن فلنحاول ان نضع سؤالنا بغاية ما يمكن من الدقة والضبط فنقول: كيف يجب ان يكون موقف الشباب العربي الواعي من قضيته القومية في مرحلتها الحاضرة؟

ونعتقد بأننا على هذه الصورة قد حددنا السؤال او المسألة بأكثر ما يمكن من الدقة، ومن وضعها على هذا الشكل نستخلص جملة نتائج. نحن سمينا هذا الشباب فقلنا عنه الشباب العربي، ووصفناه بالوعي، وطلبنا أن يكون له موقف من قضيته القومية، لا من شيء مجرد عام مبهم هو القضية القومية. لم نطلب منه موقفا تجاه مسألة فلسفية هي القومية بل طلبنا منه موقفا من أمر حيوي ذي اتصال مباشر بحياته وقلنا من قضيته القومية. ولم نترك المسألة عرضة للإبهام والتناقض، فحددناها بقولنا من قضيته القومية في مرحلتها الحاضرة.

فالنقطة الأولى، أي ما استنتجناه من قولنا الشباب العربي، هذه النقطة تبين لنا وضع الأمة العربية الخاص، اذ نحن لا نبحث في الشباب بصورة عامة، في شباب أية أمة من الأمم في أي زمن من الأزمان، بل نبحث عن شباب أمة معينة في وقت معين. وهذا يعني أننا نعرف الوضع الخاص لهذا الشباب بالنسبة لوضع امته الخاص أيضا، أي للفارق بينها وبين غيرها من الأمم. فلو أردنا ان نصف هذه الأمة وصفا مجملا لقلنا انها أمة عظيمة الماضي وهزيلة الحاضر ومجزأة في داخلها تخضع لحكم الأجنبي في أكثر أقطارها، ونتج من ذلك ان هذه الأمة تريد ان تتحرر من الأجنبي وان توحد أجزاءها وتنهض من تأخرها لتستطيع تحقيق إمكاناتها كلها وتسترجع هكذا رسالتها الخالدة بين الأمم.


هذه الأمة، الأمة العربية التي نبحث الآن عن فئة منها، الشباب، تنظر من جهة الى ماضيها ومن جهة أخرى الى حاضر غيرها، فماضيها مجيد عظيم وحاضر غيرها كذلك. وكما أنها لا تستطيع تجاهل ماضيها وصم سمعها عن ندائه، فهي كذلك لا تستطيع التعامي عن حاضر غيرها من الأمم التي تحيط بها وتؤثر في مصيرها بشتى الطرق.

وكما ان البون شاسع بين هذه الامة وماضيها فكذلك البون شاسع بينها وبين حاضر غيرها من الأمم. وهي انما تطلب غاية واحدة تبدو للنظرة الأولى مزدوجة. تطلب ان ترتقي الى ما يساويها بماضيها المجيد وبحاضر الأمم الأخرى.. هكذا يكون تذكرها لماضيها ووعيها لحاضر غيرها حافزا مزدوجا لها للنهوض. أو نقول: يكون لها من هذا الوعي لحاضر غيرها والتذكر لماضيها حافز وضرورة قاهرة. تذكر الماضي يحفزها، ووعي حاضر الأمم الأخرى يريها الضرورة القاهرة الى النهضة ويشعرها بها. وهذا الارتقاء إلى مستوى ماضيها وحاضر غيرها هو بالنسبة لذلك البون الكبير لا يكون بالنمو أو بالتطور الطبيعي، فالشقة واسعة وبعيدة ولا بد من الانقلاب حتى يتحقق الارتقاء العسير.

فشباب هذه الأمة إذا اعترفوا بصفتهم الأولى وميزتهم الأولى أي الصفة العربية، أي انتمائهم لهذه الأمة يجابهون بمجرد اعترافهم بهذه الصفة كل المشاكل التي تنتج عن تعريفنا لحاضر الأمة العربية وعن وصفنا المجمل لحياتها. فلنأخذ النتيجة التي استخلصناها من الصفة الأولى وهي أن للأمة العربية وضعا خاصا يفرقها عن غيرها من الأمم الحديثة. ماذا نرى؟

نرى أن الأمم الراقية القوية في العالم الحاضر تتقدم دون حاجة إلى الانقلاب، فحسبها بين حين وآخر أن تصلح بعض نواحي حياتها، بأن تستبدل بقوانين وأنظمة عتيقة قوانين أخرى أكثر ملاءمة للزمان، وان تستبدل بأشخاص قصرت كفاءتهم او تلوثت نزاهتهم أشخاصا أكثر جدارة وأنصع صفحة.


هذا ما يجري في الأمم الراقية القوية وهذا ما نلمسه ونسمع به يوميا، فإن رقي تلك الأمم يجعلها في غنى عن الانقلابات العنيفة. والجسم السليم هو محافظ بطبيعته لا يرجو غير النمو الطبيعي لان فيه تكاملا لصحته وسعادته، اما الجسم المريض، فالنمو الطبيعي بالنسبة اليه هو استفحال المرض وتفاقم الخطر.

فالملاحظة الهامة في هذا البحث هي أن لا يؤخذ الشباب العربي بوهم أمكان مسايرته للأمم الراقية، أو أن لا يؤخذ بوهم إمكان معيشته كما يعيش الشباب في تلك الأمم الراقية، فثمة اختلاف جوهري بين الحالتين. قد يكون الحياد السياسي أو الانقطاع إلى شؤون العمل الفردي الخاص أمرا جائزا بل واجبا عند تلك الأمم ولكنه بالنسبة إلينا وإلى حالتنا، إذا نحن أخذنا بوهم الشبه الظاهري وسولت لنا أنفسنا أن نعيش كما يعيش أهل الأمم الراقية، نكون قد جهلنا معنى الطور التاريخي الذي نجتازه. فكون أمم مختلفة تعيش في عصر واحد لا يعني أنها في نفس الحالة وأن لها نفس الحاجات وأعود واكرر بأن الأمم الراقية في الغرب تستطيع التقدم دون حاجة للانقلاب، والتفكير الانقلابي فيها يكون شذوذا مستهجنا ومخالفا لطبيعة الأشياء، وتبذيرا للقوى في غير طائل، وانحرافا عن الطريق السوي المنتج، في حين أن التفكير التطوري بالنسبة لحاجتنا، وعندنا، هو الشذوذ المرضي، هو التبذير للقوى، هو الانحراف عن الطريق السوي. فنحن بالنسبة لحالتنا لا نستطيع إلا أن نكون انقلابيين نفكر تفكيرا انقلابيا، لأن في ذلك وحده محاولة لمداواة المرض وإيقافه عند حده، ومحاولة لتغيير كل وضع الجسم المريض وهزه هزا عنيفا حتى تتكون لديه حالة جديدة يظفر بها على المرض. فإذا أخذ الشباب بنتيجة ما يطلعون عليه وما يقرأونه من أخبار العالم الراقي، وإذا توهموا أن غاية الحياة عندهم هي أن ينصرفوا للشؤون الخاصة والنجاح الفردي وإلى التفكير الحر المجرد كما هو شأن الشباب في تلك الأمم، يكونون قد خانوا أمتهم وخانوا أنفسهم في آن واحد لأنهم لن يستطيعوا تحقيق ذلك النجاح الفردي والثقافة الحرة والإبداع الخاص في امة هذه حالها، وهم علاوة على ذلك يتنكبون عن حمل أعظم مسؤولية وأشرفها، مسؤولية جيل قدر عليه أن يحقق هذا الانقلاب التاريخي.

ينتج عن كل ذلك نتيجة أردنا الوصول إليها من الصفة الثانية لتعريف الشباب الواعي، فصفة الوعي هي التي تسمح للشباب بأن يكتشف حقيقة منزلته في أمته وفي تاريخها، فاذا قدر الوعي للشباب، عرفوا أن هذه المرحلة التي تجتازها الأمة العربية مرحلة ثورية نضالية بمعنى انها تهيئة للرقي، وليست بمرحلة رقي. وهنا يظهر الفرق مرة ثانية بين شباب امتنا وشباب الأمم الأخرى.

فشباب هذه الأمم الأخرى مكلفون بالرقي لا بتهيئته، بمتابعته لا بتوفير شروط ظهوره. وأما الشباب في امتنا، الأمة التي تشكو من التأخر ومن التجزئة ومن فقدان الحرية والسيادة، هذا الشباب لم يقدر له أن يستمتع بالرقي وأن يعيش عيشة استقرار ومدنية، ولكن قدره هو قدر جيل محارب، جيل مناضل يهيئ بنضاله الحرية والاستقرار والرقي للأجيال القادمة. والشيء الهام في حياة كل جيل هو: أولا – أن يعي مهمته التاريخية الحقيقية في أمته. ثانيا – ان يقوم بها. ولا يفضل جيل جيلا آخر بنوع المهمة التي قدرت له، بل يفضل الجيل الآخر بقدر وعيه لمهمته، وبقدر تحقيقه لها. ولا يفكر احد منا بأن يفضل جيل العلماء والكتاب والمتفننين الذين ظهروا في عصر المأمون مثلا بنتيجة ازدهار الحضارة واستقرار الحياة على جيل العرب المجاهدين الذين لم تتوفر لهم الثقافة ولا الإبداع الفني والفلسفي والعلمي لكنهم قاموا حق القيام بمهمتهم التاريخية بالنسبة لحياة أمتهم، فكانوا بناة مستقبل طويل لها. اذن فليست القيمة في نوع المهمة بل في وعيها وفي حسن تحقيقها والاضطلاع بها. فاذا تبين لنا أن مهمة جيلنا اليوم هي انقلابية نضالية ووعيناها وهيأنا في أنفسنا وتفكيرنا وفي شروط حياتنا كل ما يمكن ان يساعدها على التحقق نكون قد ملأنا مكاننا وقمنا بواجبنا. وليس يطلب منا ما هو مطلوب من أبنائنا بعدنا، أي ما يطلب من جيل الإبداع في الحياة المتمدنة المستقرة. وكل ما يمكن أن نحلم به وأن نقوم به هو في الحقيقة الإبداع في النضال، لان النضال لا يعني شيئا سلبيا جافا بل هو حياة بكل معنى الكلمة، متسع لتحقيق المواهب ولتكامل الفضائل ونمو الحيويات على أوسع شكل.

قلنا ان الامم الراقية تتقدم دون حاجة لانقلاب، ويكفيها بين حين وآخر اصلاح بعض نواحي حياتها، كما يكفي الجسم السليم أن ينتبه بين حين وآخر لمعالجات جزئية وبسيطة ولوقاية نفسه من خطر الأمراض، يكفي هذه الأمم لتتقدم ان تبدل بين حين وآخر بعض الأنظمة والأشخاص، وهذا هو التطور، ولكن حالة كحالتنا لا يكفيها التطور بل يؤذيها وتستدعي الانقلاب. ليست المعضلة فيها معضلة أنظمة وقوانين أمست عتيقة بالية ولا معضلة أشخاص قصرت كفاءاتهم او اشتبه في أخلاقهم، بل المعضلة جوهرية وعامة وأعمق بكثير من كل تلك المظاهر أي مظاهر القوانين والأنظمة والأشخاص. فعندما نقول انقلاب نعني تغيير العقلية والخلق. وهذا لا يتم من نفسه ولا يتم بالتطور الطبيعي. وقد قلنا ان الزمن يزيد الصحيح صحة كما يزيد المرض استفحالا: فاذا كنا نشكو من تشويه قد انتاب جوهر امتنا أو على الاقل انتاب التفكير من اساسه، والخلق في صميمه، فليس تبديل الأنظمة والقوانين والأشخاص بمبدل شيئا في جوهر الحياة.

خلاصة القول في هذا الموضوع هو ان الشباب يجب أولا ان يتذكر صفته الأساسية، وهي انتماؤه لأمة معينة معروفة، وان يعرف صفته الثانية التي اهلته لها ثقافته وهي صفة الوعي، فبالصفة الأولى يدرك الفارق بينه وبين القسم الآخر من العالم، بينه وبين الأمم التي يطمح لبلوغ مستواها، ولن يبلغ مستواها بتقليدها… فلا بد لنا من جيل يناضل حتى تتهيأ شروط الرقي التي نماثل بها الأمم الأخرى.

وبصفة الوعي ندرك ان التاريخ أهلنا لهذه المهمة النضالية واننا لم نخلق لنعيش عيشة فردية حرة انعزالية منطوية على النفس، وانما عيشة اعتراف واضح مكين بالصلة التي تربطنا بأمتنا، واعتراف بهذا الدور الذي يقدره علينا التاريخ، فنرضى به طائعين بل فرحين مبتهجين لان قيمة العمل ليست في نوعه بل في إتقانه.

والصفة الثالثة التي بيناها في تعريفنا للشباب بقولنا: كيف يجب ان يكون موقفه من قضيته القومية، الصفة الثالثة هي هذا الموقف النفسي الذي لا يجيز للشباب النظر لأمتهم كنظرهم لأية أمة أخرى، فكونهم منها يرتب عليهم موقفا نفسيا شعوريا وفكريا، يختلف كل الاختلاف عن الموقف الذي يمكن أن يقفوه من تاريخ الأمم الاخرى وحاضر هذه الامم. فموقفهم من تاريخ أمتهم متصل بحياتهم مباشرة فلا يجوز لهم الحياد ولا التفرج ولا الاستخفاف لأنهم مسؤولون عن هذه الصلة التي تربطهم بأمتهم اذ هي الشيء الوحيد الذي يبرر وجودهم ويجعل له معنى.


والصفة الرابعة في تعريفنا هي ان يدركوا قضيتهم القومية في مرحلتها الحاضرة وعندما ينتبهون لذلك ينقذون أنفسهم من التخبط في الأفكار المتناقضة، والآراء المتباينة، ومن نشدان الأعذار المختلفة لتجنب العمل. فنحن لا نطلب من الشباب أن يحددوا موقفا نظريا من قضيتهم القومية في كليتها بدون اعتبار للوقت الحاضر الذي نجتازه، إذ لو سمحنا بهذا الإبهام في تحديد الموقف وصرفنا النظر عن أمر الزمان، الزمان الحاضر، لأجاز كل فرد لنفسه ان يتذرع بشتى الآراء فيفسر هذه القضية القومية بتفسيرات مختلفة وبالنتيجة يتعذر الحصول على موقف جدي… يجمع أفراد الأمة.

اما اذا وضعناه على شكل القضية القومية في الحالة الحاضرة لنحول دون هذه المحاذير، فلا يمكن ان نبحث الانسانية في مرحلتنا القومية الحاضرة، ولا يمكن أن نبحث في تقدم العلوم والمخترعات، ولا في أمور غيبية لاهوتية ولا في كل هذه الأشياء التي قد يجوز بحثها لأمم تخلصت وانتهت من دور النضال وتهيئة الرقي، وغدت في مرحلة الترف الفكري وتخمة السلطان والقوة، فيمكنها أن تبحث في شؤون الإنسانية وعالم الغد والسلام والنظام وما إلى ذلك. في هذا خطر كبير على الشباب إذا أجازوا لأنفسهم هذا الانفلات والتيه في التفكير، ولم يحصروا تفكيرهم وشعورهم بما تقتضيه القومية في المرحلة الحاضرة، فهي مرحلة استجماع للقوى في الداخل، مرحلة تقلص وحصر وتركيز لا مرحلة إشعاع وفيضان، وهي مرحلة اهتمام بالنفس لا مرحلة غيرة على الآخرين.

عام 1943


الجيل العربي الجديد


في حالة رقي الأمة وقوتها تخف مسؤولية الفرد، إذ يكون قادرا على نفعها عاجزا عن الإضرار بها، ولا يكون ثمة تناقض أو اختلاف كبير بين نفعه لها وانتفاعه منها، بل تنسجم المنفعتان في أكثر الأحيان. وبتحقيق الفرد شخصيته تتحقق شخصية أمته، وبقيامه بعمله الخاص يخدم الحياة العامة، وعندما يساهم في أوقات معينة ومناسبات محدودة في العمل العام، يعرف ان مساهمته اذ تضاف الى مساهمة الآخرين تؤدي بصورة أكيدة إلى النتيجة العامة المطلوبة أو ما يقاربها.

ذلك ان الأمة في هذه الحالة تسيطر على مصيرها وظروفها الى حد كبير، فحياتها ايجابية، دافقة، وهي تصعد وكأنها من قوة اندفاعها في نزول. والفرد محمول على تيارها في هذا الصعود يخدمها بلا عناء ولا تكلف.

أما في حالة التأخر والضعف فتتضخم مسؤولية الفرد، إذ يرى كل حركة من حركاته قادرة على الاضرار بأمته، في حين تصبح خدمتها شاقة متعذرة، فاهتمامه بحياته الخاصة ونفعه الخاص لا يكون اهمالا للخدمة العامة فحسب، بل في أكثر الاحيان موجها ضدها. ولا يعود الفرد خلية في جسم الأمة، اذا تغذى غذاها في الوقت نفسه، بل خصما لهذا الجسم لا يقوى الا من ضعفه ولا يسمن الا من جوعه.


واذا أراد أن يدخل الحياة العامة رأى بعد حين أنه بالرغم من رغبته الخالصة في الخدمة، منقاد بمنطق قاهر خفي لان يسخرها لنفسه ومصلحته، ويعيش منها وعليها بعد ان كان ينوي تسخير نفسه وعيشه لنفعها ولخدمتها، ويتضح له أن مساهمته في العمل العام بغية إيصاله إلى هدف مشترك واحد للأمة، لن تؤدي عندما تضاف إلى مساهمة الآخرين، إلا إلى وصول بعض الأفراد إلى أهداف خاصة مختلفة، أي إلى إبعاد الأمة عن هدفها المطلوب.


ذلك أن الأمة في هذه الحالة مسيّرة منفعلة، خاضعة لسلسلة من العوامل والظروف البعيدة والقريبة، الداخلية والخارجية. فبين ظروف الأمة ومصلحتها، بين قدرتها وإرادتها تضارب وتناقض. أي أن عملها عكس نفعها، وواقعها نقيض حقيقتها. وانما تقدر ما لا تريد وتريد ما لا تقدر عليه، فحياتها سلبية وتيارها غائر، اذا تصدى له الفرد شد اليه وغار معه. في مثل هذه الحالة لا يجدي علم بعض الأفراد وكفاءتهم وإخلاص بعضهم الآخر ونزاهته، وغيرة الغيورين وتضحيات المضحين، لأن الآلة الكبرى قادرة أن تتحمل مثل هذا الشذوذ لتتمثله وتهضمه وتطبعه بحركتها وتحوله إلى غذاء لها بعد حين، كما يقدر المجتمع الراقي السليم على تحمل بعض الفاسدين وحتى على الإفادة من فسادهم.


وكل علم يبقى ضمن إطار هذه الآلة هو ناقص، وكل إخلاض مشوب، وكل نزاهة مشتبهة. ولو كان العلم صحيحا لفك صاحبه من هذه الآلة وأخرجه من سجنها ووضعه في موضع حر مجرد يشرف منه عليها ليحيطها بنظرته ويفهم سر تركيبها، ليعرف كيف يهدمها. ولو كان الإخلاص تاما لدفع صاحبه إلى الانفصال عنها والتمرد عليها بدلا من تدعيم قوة الفاسدين. ولو كانت النزاهة حقيقية لحرص صاحبها على نظافة أمته أكثر من حرصه على نظافة سمعته.


ان حالة كهذه تجرف وتشل وتقنط العدد الأكبر. ولكنها قد تخلق أفرادا قلائل وحيدين يصمدون ويعاكسون سيرها، فعندما يتخلى العدد الأكبر عن مسؤوليته يظهر هنا وهناك الفرد الذي يتحمل كل المسؤولية، أي مسؤولية الكل، وهذه خطوة أولى ومربية لأولئك الأفراد يجب أن يعقبها تعارفهم وتوحيد جهودهم، حتى يكونوا القوة التي تحدث في نفوس الآخرين الثقة والاطمئنان إلى أن كل جهد ينصب في هذه القوة مثمر، وانها القوة الوحيدة التي تثمر فيها الجهود. فالعمل ليس عاديا آنيا، بل تاريخيا، وليس سياسة بل رسالة لأنه مكلف بتصحيح انحراف عصور عديدة ماضية وتهيئة انبعاث للأمة يؤتي أكله في عصور عديدة مقبلة، وليس ينجح فيه جهد افرادي وأسلوب سطحي وإعداد مرتجل، فلا بد اذن من جبل بكامله مهيأ لان يبدع في النضال ويستمر فيه الى نهايته.


اننا اذ نذكر الجيل العربي الجديد نعني به جيلا لم يتحقق بعد وان تكن له في واقعنا ممكنات، ومن العبث أن ننتظر ظهور هذا الجيل اذا لم تظهر فكرته. فالصفة المميزة له انه فكرة كله، وان عمله اشعاع لفكرته، فاذا لم تكن لم يكن. ثمة عمل يترسب منه ما يشبه الفكرة فهي من بقايا العمل وكدره وتفسخه، كعذر وتبرير. لذلك هي اسوء ما فيه وهي دوما دونه، ليس العمل اشعاعا لها بل هي تقطير لظلمته.

ولا يفهم من الجيل الجديد أنه جيل الشباب إذ ليس الشباب فكرة بل هو شرط مناسب لنموها، وقد يكون من الشباب من هم أشد من الشيوخ عداوة ومناقضة للجيل الجديد، لذلك لن تتحقق الفكرة العربية الجديدة الا في نوع معين من الشباب. واهمال هذا الفرق أدى الى فشل كل محاولات البعث التي قامت منذ سنين وما تزال لأنها اكتفت من الشباب برابطة السن وبرابطة أخرى لا تقل عنها خداعا: الثقافة الاصطلاحية. فالجيل الجديد يشترط أيضا وجود فهم معين للثقافة ونوع معين من المثقفين.


ان الوهم الذي ينسب الى السن الشابة قوة خارقة في حد ذاتها هو نفسه الذي ينتظر انتهاء الجيل القديم وموت آخر ممثل له. في حين ان هذا الجيل ليس مجرد أجسام مسنة، بل هو روح وتقاليد قادرة ان تتجسد في الأجيال الشابة الى ما شاء الله. قكما ان الجيل الجديد لا يوجد الا متى وجدت فكرته، كذلك الجيل القديم لا يموت ما لم تمت روحه وتقاليده، او بالاحرى ما لم تقتل بظهور الروح التي تنفيها. وهذا يعني ان كل اصلاح لا يتناول الفكرة الأساسية لحياة الامة هو سطحي فاشل وبالتالي ضار، وكل معالجة تهمل الجذر لتتلهى بالفروع هي اضاعة وقت. ومن هذا القبيل اهتمامنا الذهني (بالأخلاق) وفشلنا العملي فيها، فنحن نحسبها سببا وهي نتيجة، وما الفضائل المتعددة والمتنافرة أحيانا التي نطيل في ذكرها كلما كتبنا او خطبنا الا نتيجة طبيعية لموقف حيوي يجب أن يهيئه الفكر. وان هذه النظرة المعكوسة لتظهر في فهمنا لماضينا المجيد او لحياة أبطالنا، فنحن ننظر الى الأبطال من خلال ضعفنا وانحطاطنا، لذلك نحملهم احمالا من الفضائل لا يتناسب ثقلها مع ما كان لحياتهم من عفوية وطلاقة وتدفق، ولا يتفق تعددها مع ما كان لشخصيتهم من وحدة رائعة.

اذن فنحن لا نطلب جيلا مؤمنا مخلصا جريئا صبورا مضحيا فعالا بل نطلب جيلا جديدا، أي ان يكون له موقف حيوي جديد يستنبع هو نفسه الفضائل التي يتضمنها ويحتاج إليها. ان هذا الموقف لن يكون الا موقفا فكريا يمكن تحديده هكذا:


1- لا نهضة الا من الداخل، من داخل الانحطاط، تنبعث منه لتنفيه، وتستكشف اتجاهه لتعكسه، والجيل الجديد سيخرج من الواقع الفاسد ولكنه سيكون نقيضه، سيولد منه وينفصل عنه، وهو نتيجة للألم، ولا يشعر بألم الفساد إلا من عاش فيه لا منه.


2- ولكن الفساد لا يؤلم دوما ولا يؤلم أيا كان: فالألم قد يخلق ويوضح ويرهف ويجسم ويملأ بالمعنى ويعطي اتجاها. فلا بد من ألم شديد فيه معنى وله اتجاه.


3- ان معنى الألم واتجاهه متوقفان على نوع الاحكام التي يصدرها الجيل الجديد. وحياة هذا الجيل متوقفة على حكمه، لذلك وجب أن يكون حكمه حيا.


من صفات الجيل المنحط انه يحكم على الحاضر حكم مؤرخ، انه مفسر لا مؤثر، يحول الاسباب الى أعذار وقد يحول الاعذار الى مبادئ فلسفية وقواعد اخلاقية. ليس من ضرر في ان يكون حكمنا اليوم على الجاهلية حكما تفسيريا فنستكشف فيها فضائل ونجد لعيوبها اعذارا، ولكن الإسلام حكم عليها حكما حيا وهكذا أدى مهمته. فالذين يحكمون على الجيل القديم هذا الحكم التفسيري هم منه وان كانوا شبابا يافعين، لا بل هم دونه لان القصور الذين اضطر اليه الجيل القديم اضطرارا تعمده جيل الشباب تعمدا. وبما ان التحقيق هو دون المثال دوما، فالجيل الذي يتخذ من النتائج التي وصل اليها الجيل السابق مثلا وغايات سيكون حتما دونه في الخلق والعمل معا.


فالغيرة على الجيل الجديد أي على المستقبل تفرض اسلوبا معينا في وضع المسائل وعرضها ومعالجتها لان ثمة فرقا كبيرا بين وضع المسألة بشكل يوصل الى إيجاد أعذار ومسوغات أو فضائل وحسنات للجيل القديم وبين وضعها بشكل يوصل الى تكوين عقيدة ومثل ومفاهيم تمكن الجيل الجديد من القيام بمهمته التاريخية.


4- ولا يكون حكم الجيل الجديد حيا الا اذا كان له في فكره ونفسه مجتمع مثالي يستمد منه قيمه ويسأله الحكم على تفكيره وعمله. فالمجتمع الواقعي يهدد الشباب بأكبر الخطر اذ هو من جهة يرشحهم لمهام الابطال ومن جهة اخرى يرضى منهم بأبسط الاعمال. فلا بد من الترفع والتغاضي عن المقاييس الواقعية ومن استلهام مقايس المهمة التاريخية، أي المقاييس الخالدة. فالخلود ليس سير الحاضر الى المستقبل بل نقل المستقبل الى الحاضر. وان ابطال العروبة في الماضي المجيد لم يخلدوا لانهم قاموا بالاعمال العظيمة بل قاموا بالاعمال العظيمة لانهم كانوا في حياتهم يعيشون في نطاق الخلود.


5- كل ما تقدم يوصل الى هذه النتيجة: بأن الجيل الجديد لن يكون الا بانفصاله عن الجيل القديم لا في الزمن الاصطلاحي، بل في الزمن النفسي والجوهر، أي في أصل الفكرة ونظام تكونها وصلتها العضوية بمعتنقيها. هكذا نعتبر أصغر تلميذ قابل لان تتجسد فيه الفكرة العربية الجديدة أثمن وأنفع لأمته من أكبر سياسي حافل العمر بالحوادث والتجارب والخدمات. عند ظهور الاسلام كانت قيمة المسلم في كونه مسلما لان فكرة الاسلام كانت كفيلة برفعة الى مستواها، وكان فساد المشرك في كونه مشركا بصرف النظر عن مواهبه وفضائله لأن فكرة الشرك كفيلة بخفضه الى دركها وبتهديم هذه الفضائل وتبديد تلك المواهب. ذلك هو الفرق بين فكرة خلافة وفكرة عقيمة.


الانفصال هو النظرة الصحيحة الى الاتحاد الصحيح، لأن الاتحاد لا يكون في الكم بل في الجوهر والدم، واذا كان الاتحاد الكمي في حالة سلامة الجوهر قوة، فانه يعني الضعف والفوضى عندما يكون الجوهر مفقودا او مشوبا. ففي حالة الازمات الخطيرة التي تتناول جوهر الحياة ينشأ بين الكم والكيف تناقض وتضاد ويتميز العنصر الصالح بخلوه من العناصر الاخرى، وبخوفه ونفوره منها وتخويفه وتنفيره لها، أكثر من تميزه بجمعها واجتذابها. في وقت من الأوقات، وقبل البعثة، كانت الأمة العربية مجرد فكرة ومثال لا يقابلها في عالم الواقع شيء ولا يحققها شخص حي لذلك كانت قوية لانها رفضت ان تتساهل وتقبل بواقع لا يلائمها وانتظرت حتى ابدعت واقعا من فكرها ودمها واحشائها.


وفي وقت آخر عند البعثة كانت الامة العربية رجلا واحدا، وكان هذا الواحد كافيا ليمثلها في ذلك الحين والى ألوف السنين.


فالأمة ليست مجموعا عدديا بل فكرة تتجسد في هذا المجموع كله او بعضه، والأمم لا تنقرض بتناقص عدد افرادها، بل بنقص الفكرة من بينهم. وليس المجموع العددي مقدسا في حد ذاته باعتباره عددا بل باعتباره مجسدا لفكرة الأمة أو قابلا لأن يجسدها في المستقبل، لان الفكرة موجودة في حالة البذور في كل فرد من أفراد الأمة، لذلك يحق للذي تتمثل فيه ان يتكلم باسم المجموع. والزعيم في حالات ضعف الفكرة وتقلصها ليس هو الذي يحظى بالاكثرية أو الاجماع، بل بالمعارضة والخصومة، وليس هو الذي يستعيض عن الفكرة بالعدد بل يحول العدد الى فكرة، وليس هو المجمّع بل الموحّد، أي صاحب الفكرة الواحدة الذي يفرق عنها ويطرح منها كل ما يخالفها ويناقضها.


الجيل الجديد يؤمن بنفسه لانه يؤمن بأمته الخالدة، ويؤمن بأمته الخالدة وبقدرتها على أن تغلب انحطاطها، لأنه يؤمن بنفسه: ما دام هو قد خرج منها، فهي قادرة ان تخرج من نفسها، وما دام هو قد ارتفع فوقها فهي قادرة أن ترتفع فوق نفسها، وما دام هو قد انفصل عنها فهي تستطيع بعمله وتأثيره أن تنفصل عن نفسها، نفسها المنحطة الفاسدة لتعود الى ذاتها الأصلية، لتعود الأمة العربية الخالدة. ولكن كل ذلك يشترط أن يكون ثمة جيل عربي جديد.

عام 1944


العرب بين ماضيهم ومستقبلهم


ان علاقة الدين بالدولة التي تثار الآن في سوريا بمناسبة وضع الدستور الجديد هي من أهم القضايا القومية، لا كما يريد البعض ان يصورها بأنها مسألة تافهة. فهذه القضية تشمل شيئا اوسع من علاقة الدين بالدولة، وهو علاقة الأمة بماضيها وموقفها من مستقبلها، كما أنها تعني الأسس الروحية والحقوقية التي تقوم عليها القومية العربية في المستقبل.


أما الذين يقللون من شأن هذه القضية فالمرجح أنهم يقصدون فساد الأسس التي يبني عليها دعاة مزج الدين بالدولة نظريتهم وفساد الأساليب التي يلجأون إليها لدعم هذه النظرية، وسوء النوايا والأغراض السياسية والاجتماعية التي تحرك بعض المتزعمين لهذا الموقف أو بعض المناوئين له، لذلك وجب أن نتناول كل نقطة من نقاط الموضوع ونوضح حقيقتها الفكرية ونتائجها العملية، القريبة والبعيدة، في حياة الأمة العربية.


لماذا ظهرت هذه المشكلة في سوريا، وماذا يعني ذلك؟ لا شك أن قيام جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد كان المناسبة لظهور هذه المشكلة، ولا شك ايضا ان في وضع سوريا السياسي الشاذ وما يلابسه من أغراض حزبية ومداخلات أجنبية، عاملا كبيرا في اثارة هذه المشكلة وتوسيعها. ولكن الى جانب ذلك توجد عوامل أخرى تعطي للأزمة القائمة معنى أوسع وأعم وأعمق من معنى الازمات الحزبية والسياسية الطارئة، وهذه العوامل منها ما يتعلق بوضع سوريا التاريخي أي بكونها تضم عدة طوائف ومذاهب، ومنها ما يتعلق بوضع سوريا القومي بالنسبة الى النهضة العربية الحديثة، أي باعتبار سوريا أكثر الأقطار العربية اتصالا بفكرة القومية العربية وبحركة انبعاثها، وأكثرها تهيؤا لوضع الأسس الشاملة لهذه الفكرة ورسم الخطوط الواضحة لمستقبل الأمة العربية.


والحق أن لسوريا وضعا قوميا ممتازا تضافرت على خلقه عوامل عدة، تاريخية واجتماعية وسياسية. فسوريا قطر عربي صغير ليس فيه من الإمكانات ما لمصر مثلا، وهي أيضا رغم تقدمها النسبي في الثقافة والأوضاع الاجتماعية، إذا قيست ببعض الأقطار العربية المتأخرة في هذا المضمار، فأنها تقصر عن مصر ولبنان ولا تفوق العراق.


يمكن القول ان سوريا تمثل النقطة الوسط بين التيارات التي تتجاذب العرب في هذا العصر. فصدرها منفتح لتأثيرات الحضارة الغربية، وقلبها زاخر بالعواطف والذكريات العربية. لذلك كان كل تفاعل بينها وبين حضارة العصر الحديث يهز فيها وجدانها العربي، ويؤدي إلى تعبير جديد عن هذا الوجدان المستيقظ على شروط جديدة في الحياة. في حين نرى الأقطار العربية الأخرى موزعة بين طرفين متطرفين، فهي اما شديدة البعد عن تأثير الحضارة الحديثة، بعدا يترك الوجدان القومي فيها هاجعا متبلدا، وأما شديد القرب من تأثير هذا الحضارة، بشكل يطغى على هذا الوجدان فيجعل يقظته أشبه بيقظة المحموم تذهله عن شخصيته وهويته وتسبب له انحرافا عن الطريق الطبيعي السوي.


العرب بين الماضي والمستقبل – والأصح أن نقول أن المشكلة القائمة هي بين حاضر العرب ومستقبلهم، اذ لا يوجد في البلاد العربية نزعة فكرية خالصة يصح بأن تسمى رجعية، أي انها تقول بالرجوع الى الماضي، واعادة بناء المجتمع العربي على أساسه. ولكن النزعتين الراهنتين اللتين تتوزعان العرب في هذا العصر وتتجاذبانهم هما: نزعة محافظة تحاول الاحتفاظ بالأوضاع الراهنة وما يلابسها من تقاليد ومصالح، ونزعة قومية تقدمية تضيق بهذه الأوضاع وتسعى لتحطيمها والانفلات منها الى حياة تكون أصدق تعبيرا عن امكانيات الشعب العربي وحاجاته. فالمحافظون هم جميع الذين لهم مصلحة في بقاء الأوضاع الراهنة، سواء أكانت سياسية أم اجتماعية أم فكرية. وهم بحكم هذا التعريف أقلية بالنسبة الى مجموع الأمة تجمعهم على اختلافهم صفة الاستغلال. اما التقدميون فيمثلون الكثرة الساحقة التي تتوقف حياتها على التخلص من تلك الأوضاع. وكما ان نقص الوعي عند بعض المحافظين يقودهم الى التناقض وتأييد ناحية من نواحي التحرر، فكذلك نقص الوعي عند جمهور الشعب ما زال يدفعه الى معاكسة ناحية او أكثر من نواحي قضيته القومية التقدمية.


أما المشكلة النظرية التي تقوم في أذهان البعض على الإختلاف بين الإستمساك بالماضي والتحرر منه، فهي مشكلة وهمية يكفي لتبديدها ان توضح. فالماضي الذي تحنّ اليه الأمة وتجد فيه ثروة لها قوة، هو الزمن الذي تحققت فيه روحها، والمستقبل الذي يناضل التقدميون في سبيل بلوغه ليس الا ذلك المستقبل الذي تستطيع فيه الروح العربية أن تتحقق من جديد. ولكن بينما يحسب البعض ان هذا السير نحو تحقق الروح العربية يجب أن يكون رجوعا وهبوطا أي ايغالا في الجمود والشكليات، يرى التقدميون انه يجب أن يكون سيرا حرا صاعدا وبتعبير آخر، يريد الفريق الأول ان يصل الى الروح عن طريق الأشكال الميتة، بينما يسلك الفريق الثاني، الطريق الطبيعي الصادق، وذلك بالانعتاق من كل ما هو جامد ميت، وباستثارة كوامن الحيوية وروح الحرية والمسؤولية في نفوس العرب. وبينما يعتبر الأولون الماضي منحة وهبة تكافأ بها العبودية والجمود، يرى الآخرون في الماضي استحقاقا لا يبرره الا النضال الصاعد والمواهب المنطلقة، فالروح لا ترجع ولا تهبط ولكننا نحن الذين نتقدم نحوها ونرتقي اليها لنلتقي بها.


الهدم والبناء – يظهر مما تقدم ان الموقف الذي يتبناه البعث العربي هو الموقف الروحي الايجابي البناء. ولكن في الحالة التي وصلت اليها الأمة العربية نتيجة قرون من الانحطاط وفقدان الشخصية والعجز عن الابداع، أصبح من العسير ان نطمئن الى القيم والمفاهيم الاصطلاحية، ولم نعد بد مع من اعادة النظر فيها للكشف عن ينابيع الروح وعناصر الخلق والبناء. وان النظرة الفاحصة المتعمقة لتوصل الى رؤية الروح في المظاهر المتنكرة لها، كما توصل الى رؤية المادة والزيف والنضوب، في المظاهر المقنعة بقناع الروح، تلك هي حالة التناقص التي تؤذن بالثورة. فالتدين الرائج الذى ينطوي على الشيء الكثير من النفاق والنفعية والجهل، والاخلاق السائدة التي تقوم أيضا على النفاق والنفعية والاعتبارات الرخيصة السطحية والتقاليد الموروثة التي نضبت منها الحياة وفقدت كل تجاوب مع الحاجات الجديدة، كل هذا لم يعد صالحا ولا قادرا على امداد الأمة بالحيوية ودفعها الى السمو. وليس يمنع ذلك من ظهور بعض تفتحات للروح وسط هذه البيثة المشوهة الناضبة، الا ان هذه التفتحات لا تلبث ان تختنق وتخمد بسبب افتقارها الى التربة الندية والهواء الطلق فإذا لم تصحح القيم وتغير التسميات فستظل هذه البيئة الروحية في عنوانها، المادية في حقيقتها قبرا مفتوحا يبتلع كل محاولة للإنبعاث، ويقضي باسم الدين والاخلاق والتقاليد، على كل ارتعاشة روحية ووقفة اخلاقية صادقة، وكل يقظة للشخصية القومية.


وفي طلائع الحياة الجديدة تكمن القوى الروحية الحقة مختلطة ببعض الزيف والسطحية والشر، ويفرض عليها هذا الاختلاط فرضا لاستمرار الإلتباس في القيم والمفاهيم، ويسبب لها ارتباكا في السير وقلقا في الإتجاه، وخللا في التجانس. واذا لم تصحح التسميات وتصبح الفروق والحدود واضحة حاسمة بين مفهوم الرجعية ومفهوم الثورة فسيظل قسم غير ضئيل من قوى التحرر ضائعا مهدورا. ان التصحيح الذي نطلبه هو الذي يختصر مرحلة الهدم ويفسح المجال واسعا للبناء القومي المحكم، لان الهدم ليس هو، كما تدعي الفئات المحافظة المستغلة، في وثبات التحرر، ولكنه في التضليل الذي يؤخر انطلاق العناصر الحية من سجن البيئة المحافظة، كما يؤخر خلاص القوى التحررية من العناصر المزيفة والسطحية والمنحلة.


القيم الروحية والاقتصاد – لعل أهم ما يميز هذا العصر اكتشافه لحقيقة كبرى هي أهمية الاقتصاد وتداخله في مختلف نواحي الحياة الاجتماعية والفردية. وقد كان اكتشاف هذه الحقيقة مصحوبا بالغلو والجموح فاضطرت -لكي تعلن عن نفسها وتحتل مكانتها المشروعة بين الحقائق الانسانية- ان تظهر بمظهر الاستئثار والتعسف، وقدمت نفسها على انها الحقيقة الأولى والاخيرة، والحقيقة الوحيدة. ونتج عن ذلك تشويه وتضليل كبيران. ولا يحارب التشويه والتضليل بالتجاهل والعناد بل بروح الانصاف والتجرد، أي بالاعتراف لهذه الحقيقة بنصيبها العادل الراهن من الوجود.

والعوامل الاقتصادية ان لم تكن كل شيء في حياة البشر فهي شيء كبير وخطير، وان لم تكن المؤثر الأول فان لها على كل حال تأثيرا متبادلا وفي بعض الأحيان حاسما مع العوامل الأخرى. وان كل تعريف للروح وقيمها لا يحتوي في صلبه اثرا للعوامل الاقتصادية وتقديرا لأهميتها وتوقعا لنتائجها، انما هو تعريف ناقص وزائف. والخطر على الروح لا يأتي من الذين ينكرونها ويتحدونها بل من الذين يزيفونها ويسترون بعض جوانبها الأساسية. وكل توكيد للقيم الروحية يقف عند حدود الألفاظ والمبادىء المجردة، ويجبن عن مجابهة الحقائق الواقعية والسير بالمبادئ الى آخر طريق التحقيق، انما هو في الواقع خيانة وانكار للروح وستار لتوكيد نقيضها أي ستار للمادة الغاشمة. وعندما تتشوه القيم الى حد التناقض، وتفسد الأوضاع حتى تؤدي الى عكس الغاية التي وجدت من أجلها، في مثل هذه الحالة تصبح الدعوة الروحية الأصيلة هي التي تتحرر من نفسها، أي من الزيف الذي وقعت فيه الروح، ومن المصطلحات التي باعدت بينها وبين وظيفتها الحيوية، وتصبح الدعوة الروحية وعاءا رقيقا شفافا للمشاكل الإجتماعية والمادية، فتعطي لهذه المشاكل المقام الأول من الإهتمام وتصعد منها في ارتقاء شاق بطيء لتعلن في نهاية هذا الصعود -بظفرها على مشاكل المادة- عن حقيقتها.


الدين في البعث العربي – لقد ظهر البعث العربي في حياة العرب الحديثة وفي وسط الجمود والجحود والنفعية والانحلال حركة إيمان عميق تستقطب النفوس النقية السليمة، وتجتذب الإرادات القوية الصادقة وتجمع حولها الأفراد المشبعين بحب الأمة العربية، المؤمنين بعظمتها، الذين لم يعمهم ما طرأ على هذه الأمة من فساد عن رؤية جوهرها وامكانيات مستقبلها، ولم تستطع مغريات الواقع ومصاعبه أن تغلب فيهم ارادة العمل للكشف عن هذا الجوهر وبعث تلك الامكانيات. فنشوء البعث العربي إنما هو دليل ساطع على الإيمان، وتوكيد للقيم الروحية التي ينبع منها الدين.

ولكن هذه الصفة نفسها، صفة الإيمان المميزة للبعث العربي هي التي فرضت عليه الاصطدام بجميع الحركات التي تنكر الإيمان أو تتستر بإيمان سطحي زائف. وقد كان ظهور البعث العربي منذ عشر سنوات إيذانا بحرب صريحة على الجانب المادي السلبي الحاقد من الحركات التحررية، وعلى القومية اللفظية الرائجة التي تمثل الجفاف والنضوب والعجز عن الخلق، وترى في الواقع الفاسد الحقيقة النهائية فتفقد كل سيطرة عليه، كما انه لم يكن بد من التعرض للتدين الرائج الذي تتمثل فيه أيضا هذه الشوائب وقد تحدى البعث العربي منذ ظهوره هذه المظاهر المريضة وأرجعها كلها الى سبب واحد هو فقدان الثقة بالنفس. ففي الشيوعية في بلادنا يقظة مصطنعة للذين فقدوا الاتصال بروح أمتهم ويئسوا من كل خلاص يأتي من داخلها، فارتضوا خلاصا خارجيا مصطنعا. والقومية الرائجة ارتضت بالمرض حالا عادية سوية، وأقرت النفعية والعبودية والكذب قيما ثابتة للمجتمع لان الثورة على هذه المفاسد كانت تقتضي منها ثقة بقدرة الأمة على التغلب عليها. والتدين الرائج فقد كل صلة بالروح والحوافز التي كانت مصدر الدين بالماضي والتي جعلت منه حركة احياء وتجديد ويناء فآل الى حالة من الجمود والمحافظة والجهل، فسحت أرحب المجال للرياء والاستغلال.


وقد دعا البعث العربي الى مفهوم جديد للحياة القومية والحياة بصورة عامة، قوامه الإيمان بالقيم الروحية الإنسانية، وبقيمة الروح العربية الاصيلة، ومظهره الانفصال الحاسم عن مفاسد الواقع ومكافحتها في طريق صاعدة شاقة تسير فيها الأمة ببطء وجهد نحو الاتصال بروحها من خلال هذا الصراع الدامي بينها وبين واقعها. لذلك لم يبق في مفهوم البعث العربي مجال لأي تدين لا يحمل آثار هذا الإيمان المثالي. والبعث العربي الذي هو حركة روحية ايجابية لا يمكن أن يفترق عن الدين او يصطدم معه ولكنه يفترق عن الجمود والنفعية والنفاق.


البعث العربي حركة قومية تتوجه الى العرب كافة على اختلاف أديانهم ومذاهبهم، وتقدس حرية الاعتقاد وتنظر الى الأديان نظرة مساواة في التقديس والاحترام. ولكنها ترى الى جانب ذلك في الإسلام ناحية قومية لها مكانتها الخطيرة في تكوين التاريخ العربي والقومية العربية، وتعتبر هذه الناحية ذات صلة وثيقة بتراث العرب الروحي وبمميزات عبقريتهم. لقد كان البعث العربي أول حركة أوضحت هذه الصلة ووضعتها في صيغتها السليمة فحلّت بذلك أزمة مزمنة وأنقذت القومية العربية من مفهومين منحرفين: مفهوم القومية المجردة الذي يفرض عليها الاصطناع والفقر، ومفهوم القومية الدينية الذي يقضي عليها بالتناقض والتلاشي.


فالاسلام من حيث هو دين صرف مساو لغيره من الأديان في الدولة العربية التي تساوي بين جميع مواطنيها وتحترم حرية معتقدهم. والاسلام من حيث هو حركة روحية امتزجت بتاريخ العرب واصطبغت بعبقريتهم وأتاحت ظهور نهضتهم الكبرى له مكانة خاصة في روح القومية العربية وثقافتها وحركة انبعاثها، الا ان هذه المكانة لا تفرض فرضا بل تولد من الحرية وتستمد من قوة الروح ومن مدى اتصال العرب بروحهم وتجاوبهم الحر العميق معها. وبهذا المعنى تستلهم حركة البعث العربي من الإسلام تجدده وثورته على القيم الاصطلاحية. تستقي من نبعه فضائل الإيمان والمثالية والتجرد عن المنافع الشخصية والمغريات الدنيوية في سبيل نشر المبادئ التي تنقذ العرب في هذا العصر من ضعفهم وتفككهم وانخفاض مستواهم الروحي والاجتماعي. والبعث العربي اخيرا يستمد من حركة الاسلام الخالدة قوة الصبر والمقاومة لتيار الواقع المريض، ويجد فيها قدوة رائعة تحتذى في الغيرة الصادقة على مصلحة الأمة وفي معالجة أمراضها بجرأة وصدق دون تملق رخيص للعواطف السطحية، ودون استناد الى قوى الجهل والحقد وعبودية النفس والفكر، وهو مؤمن بأن هذا الاسلوب المنسجم مع سمو المبادئ التي ينادي بها هو الأسلوب الذي يكتب له النجاح آخر الامر كما كان ذلك في الماضي، وكما سيكون دوما.


الدولة في البعث العربي – ان الدولة العربية التي يعمل لها البعث العربي هي التي تتيح لجميع المواطنين أن يعملوا متعاونين على تحقيق امكانيات الأمة العربية في مجال الروح والمادة، وذلك بتحقيق امكانيات كل فرد من افرادها دونما عائق مصطنع. وبذلك تبعث القوى الكامنة في الأمة وتصحح القيم البالية ويستعيد كل مواطن حقه المقدس كاملا في الحرية والمسؤولية. فالدولة اذن تقوم على أساس اجتماعي هو القومية، وأساس أخلاقي هو الحرية. وافرادها يكونون مرتبطين بقوميتهم مسؤولين عن اداء واجباتهم نحوها بقدر ما يكونون احرارا فيها. وعندما نفهم الدولة على هذا الشكل ونرى فيها مجالا لبعث الأمة وبعث قوى افرادها ولتصحيح القيم وإزالة الكذب والزيف والضغط من حياة المجتمع، ودفع هذا المجتمع في طريق ايجابية مبدعة لاداء رسالة الأمة إلى الإنسانية فمعنى ذلك ان هذه الدولة هي نقيض الإلحاد والفساد وكل ما هو سلبي هدام. وعلمانية الدولة بهذا المعنى ليست إلا إمعانا في الحرص على اتجاهها الروحي والأخلاقي، لانها ليست إلا إنقاذا للروح من شوائب الضغط والقسر ووضع العراقيل المصطنعة أمام يقظة الروح واستقلال الخلق وانطلاق النشاط في نفس كل عربي.


وما دام الدين منبعا فياضا للروح، فالعلمانية التي نطلبها للدولة هي التي بتحريرها الدين من ظروف السياسة وملابساتها، تسمح له بأن ينطلق في مجاله الحر في حياة الأفراد والمجتمع وبأن تبعث فيه روحه العميقة الأصيلة التي هي شرط من شروط بعث الأمة.

عام 1950


قوميتنا المتحررة أمام التفرقة الدينية والعنصرية

(افتتح هذا الحديث، الذي ألقي في اجتماع لطلبة المغرب العربي، بسؤال من أحد الطلاب طرح عن الاقلية البربرية بالمغرب ومحاولة فرنسا تقوية هذه العنصرية وكيف يمكن التوفيق بينها وبين الفكرة العربية التي ندعو لها ونعمل من أجلها).

يجب التساؤل أولا: هل نحن سنعمل كالسياسيين الموجودين بأسلوب مرتجل لتمشية الحال دون أن يكون هناك نظرة شاملة وبعيدة للمستقبل، أو أن الوقت حان لوجود جيل عربي في كل مكان من أقطار العروبة ينظم تفكيره وعمله على أساس هذا التفكير الشامل.

فأسلوب السياسيين الموجودين في البلاد العربية هو أسلوب مرتجل كما هو معروف لا يقوم على نظرة علمية مدروسة شاملة تعتمد في المستقبل على إمكانيات الشعب العربي وتسعى الى تحقيق أهدافه وفق مراحل مدروسة.

فالسياسيون يصدرون من هذه النظرة، ولأن مصالحهم أيضا لا تسمح لهم بالعمل الطويل ولا تسمح لهم بالتجرد والنضال المستمر لذلك نراهم يرتجلون. فالعلل الموجودة في المجتمع العربي من رأسمالية وإقطاعية يضخمها الاستعمار باستمرار الى جانب عصبيات عنصرية وطائفية ومذهبية. ومعالجة السياسيين لهذه العلل معالجة مرتجلة وسطحية، تارة يكذبون على الشعب وتارة على أنفسهم ويتجاهلون هذه الامراض ويخضعون لها الخضوع التام فنرى من السياسيين من يماشي النعرات الطائفية المذهبية، وآخرين لكي يتحاشوا الاصطدام بالفروق العنصرية يلجأون الى الشعارات التي في عرفهم تجمع المجتمع. ففي المغرب مثلا يظن أن الإسلام يجمع الجميع لذلك لا يعود مجال للاختلاف العنصري. كما يوجد في الشرق العربي من يقول بهذا الرأي مع أنه أصبح ضعيفا.

اني أذكر بأن في سورية قبل خمس وعشرين سنة قلما كان الزعماء يذكرون كلمة عرب وعروبة. كانوا يجدون في كلمة سورية والسوريين مخرجا من مآزق كثيرة ولم يكونوا يستعملون تعابير قومية وانما وطنية بقصد أن يلتقي الجميع مسلمين ومسيحيين وعربا وأقليات غير عربية كلها باسم الوطنية لمقاومة الاجنبي المحتل. وبقي هذا لما قبل عشر سنوات. وقد اضطرتهم حركتنا في آخر الامر أن يتبنوا شعارات العروبة ولكن حتى الآن يظهر في تعابيرهم من حين لآخر بقايا الأسلوب القديم فيقولون بأمة سورية.

فالمشكلة ما زالت مطروحة ولكن في الشرق العربي خفت حدتها مع انها لا زالت باقية في لبنان، اما سوريا فقد سبقت غيرها من الأقطار واعتمدت الوضوح والصراحة. اما في العراق فما يزال هذا المفهوم موجودا نظرا لوجود أقلية كردية. أذكر مثلا منذ سنتين جاء وفد عراقي لزيارة سورية ولبنان -وكان الشيشكلي ما يزال موجودا- وتحدثوا لي عن خلاف عنيف وقع بينهم عندما دخلوا سورية وقبيل دخول دمشق، على رفع العلم العربي، فهناك قسم من الطلاب لم يوافق على ذلك، منهم الشيوعيون، والشيوعيون يستغلون هذه التفرقة العنصرية فيجدون أرضا خصبة بين الاكراد في العراق. أما في مصر فالمشكلة من نوع آخر، ليست هناك عناصر مختلفة وانما مر على مصر زمن طويل وهي في ظل الحكم الأجنبي من اتراك وانجليز أضعفوا فيها هذه الصفة العربية وغذوا فيها الشعور الإقليمي وأوجدوا شيئا من الاعتزاز المصري ونبشوا الحضارة المصرية القديمة من الآثار وكادوا يوهمون المصريين بأنهم غير غرب. ولكن هذه المحاولات فشلت. والآن لم يعد يجرؤ أحد أن يطالب جديا بقومية مصرية فرعونية. وفي لبنان ينظر الى العروبة نظرة الاسلام لانها رافقته، لذلك فالعناصر المسيحية المتعصبة المستغلة للتفريق الطائفي تكافح الفكرة العربية بحجة ان العروبة معناها سيادة وسيطرة الاسلام كدين وتشريع وتقاليد وحضارة. فكل هذه الافكار كانت معروفة لدينا حين بدأت حركتنا قبل خمسة عشر عاما. فنحن لم نخف منها لأننا مؤمنون بأنها أشياء مصطنعة في أكثرها تتلاشى وتذوب مع التوجيه واكتشاف الشعب تدريجيا لمصلحته في الوحدة، والوحدة مصيره، واكتشاف بطلان ما يختبئ وراء مكافحة الفكرة العربية من مصالح خاصة، من رجال الدين أو من زعماء بعض الاقليات العنصرية أو من اقطاعيين، والاستعمار وراء الجميع. فلو أردنا أن نمشي على غرار السياسيين والزعماء التقليديين في البلاد العربية كان علينا ان نكتم دعوتنا والشيء الكثير من أفكارنا ان لم يكن في كل الاقطار على الاقل في بعضها، ولكن لمعرفتنا بحقيقة شعبنا وبحقيقة هذه الامراض ومن أين تأتي ومن يغذيها واعتبارنا لهذه الأمراض سطحية وقابلة للكشف، فان التصريح بعقيدتنا وفكرتنا يساعد على شفاء هذه الامراض مثل الطبيب الذي يعتمد ارادة المريض في شفائه. فالطبيب الذى يكتم عن المريض مرضه يفقد عنصرا أساسيا في الشفاء. ومعنى ذلك انه لا يشرك المريض في عملية الشفاء في حين ان الطبيب الواعي يشارك المريض. لماذا كانت لنا هذه الثقة بفكرتنا وبأنفسنا؟ لأن فهمنا للعروبة يختلف كثيرا عن المفاهيم التقليدية. لقد اعتبرنا انتشار هذا المفهوم الجديد في أوساط الشعب يكفل تأييد الشعب له وبالتالي التغلب على الأوهام والمفاهيم البالية والاعتبارات القديمة. فهناك جملة مفاهيم للعروبة أو للقومية تخلق مشاكل ليس لها آخر فتمزق وحدة الشعب وخاصة وضع الشعب العربي في هذه المرحلة بعد قرون من التأخر، فنحن أحوج ما نكون الى مفهوم صحيح للعروبة نقدمه للعالم وللحضارة وللتفكير الإنساني. القومية المغلقة المتعصبة أكبر خطر علينا لانها تغذي الفروق بدلا من القضاء عليها. ولقد وجد دوما في البلاد العربية مئات من الناس كانوا يتبنون النظرة النازية حتى قبل ظهور النازية نتيجة للجهل، ووجد دوما من صوّر العروبة بأنها مقتصرة على نوع معين وعدد معين من الناس وانها تفاخر واستعلاء على الآخرين. وطبيعي ان يُحدث هذا رد فعل، وان تشعر الأقليات العنصرية بأنها مهددة بوجودها أمام مثل هذه القومية، لذلك كان هناك رد فعل على القومية المتعصبة من الأكراد والآشوريين والأرمن ورد فعل ديني ومذهبي. إن القومية الإسلامية والدعوات الطائفية الاخرى كان مصيرها الفشل كما كان مصير القومية الطاغية المتعصبة. اذا كيف عرفنا نحن العروبة منذ البدء وكيف وجدنا لها ضمانات قوية جدا لكي لا تصطدم بأي عقبة من هذا النوع ولكي لا تتحجر، بل تكون دوما منفتحة ومتطورة وانسانية؟ ليس تعريف العروبة وحده كافيا ولكن الشيء الاساسي في الموضوع هو أننا فسرنا قوميتنا بالاشتراكية وبفكرة الحرية. هذه هي الضمانات الحقيقية في الواقع عندما تكون القومية ملازمة للاشتراكية او الاشتراكية ملازمة للقومية.

فنحن عندما ننادي بالمساواة الاقتصادية وبتكافؤ الفرص نعني اننا سلمنا قضية البلاد لأصحابها الحقيقيين وهم أفراد الشعب. وهم في حقيقتهم شيء واحد لا فرق بين مسلم ومسيحي وعربي وكردي وبربري… الخ..

فلا يعقل مطلقا أن تكون القومية اشتراكية وفي نفس الوقت متعصبة لان الاشتراكية في فلسفتها هي محو لكل تمايز واستغلال وسيطرة من فئة لأخرى. فاذن نحن صدرنا من البدء عن فكرة وليست نظرية، اذ انها مستمدة من صميم هذا الشعب العربي الممتد على هذه الرقعة الممتدة في الشرق والغرب، والذي تجمعه أواصر في الماضي ومصالح وأواصر روحية في الحاضر والذي يجب أن يكون له اسم. فالاسم الذي هو أقرب ما يكون الى الواقع والى الماضي والى المستقبل هو العروبة. فاذا قلنا الاسلام فسنختلط مع عالم آخر نصطدم معه بالمصالح. فالفروق القائمة في وسط مجتمعنا العربي تظهر أنها لا شيء أمام الفروق في وسط العالم الاسلامي. اذا أخذنا الاقليات العنصرية ما بين العالم العربي والاسلامي نجدها كثيرة فالدولة الدينية كانت تجربة في القرون الوسطى وتجربة انتهت بالفشل وكلفت البشرية كثيرا من الجهد ومن الدماء ومن المشاكل وحدثت تقريبا في أوقات متقاربة في البلاد الاسلامية وفي أوروبا المسيحية. في أوروبا كان هذا الحلم عند الباباوات والأباطرة الجرمان من ألف سنة. لقد حاولوا أن يجعلوا من أوروبا دولة مسيحية واحدة باسم النصرانية، وكانت من نتائجها حروب مستمرة وتورط للسلطة الدينية في مغامرات سياسية بشعة لا تليق بالدين، حتى أصبح رجال الدين في أوروبا وزعماء الكنيسة أكثر شرا وفسادا من الملوك. كذلك أباطرة الجرمان ظلوا يعيشون وراء هذا الخيال مئات السنين وكانت النتيجة فشل المحاولة لظهور القوميات منذ القرن السادس عشر. فقد تبلورت فكرة القوميات في أوروبا وقضت نهائيا على هذا الحلم. أما في الشرق الاسلامي فقد فشلت المحاولة ايضا ونتائجها معروفة كذلك، بين حروب وثورات عديدة مستمرة انفصلت على أثرها الشعوب غير العربية وشكلت كيانات مستقلة مثل ايران وتركيا.

وانني أورد هذه الامثلة والتفصيلات لكي لا نقع في تجارب فاشلة. أعود الى الفكرة التي ابتدأنا منها: هل نريد أن نعمل دون خطة ودون نظرة بعيدة ودون أسس مدروسة متينة أم نعتبر أنفسنا مسؤولين عن مصير أمتنا وأن نختار لها أمتن الأسس وأحسن الاشكال التي تضمن ازدهارها وسعادتها ووحدتها؟ فالجواب هو ان نفرق بين العمل الماضي المرتجل وان نعتمد على المستقبل وان نتحمل في الحاضر كثيرا من الجهود والتضحية ريثما تتوضح فكرتنا للجميع وتحقق المصير الذي اخترناه لأمتنا.

وهذا لا يحدث في يوم ولا في سنة بل يحتاج الى زمن حتى يلمس جميع العرب بأن هذا هو الحل الوحيد لتطويرهم وازدهارهم. لا يجوز لنا ان نضحي بفكرتنا التي نؤمن بها أمام عقبات مؤقتة. فلمجرد وجود مسيحيين في لبنان يغذيهم الاستعمار بأفكار خاطئة، هل نساير لبنان ونقول له انه غير عربي!.. كلا لا يمكن ان نضحي بفكرتنا. وواجبنا أن نشرح للبنانيين الانعزاليين بأن العروبة التي نعمل لها تمنع الضغط الديني وسيطرة طائفة دينية على أخرى، انهم يتهربون من العروبة -وهي مرادفة في نظرهم للاسلام- لأنها في نظرهم لا تسمح بتكوين مجتمع يحفظ حرية الفرد ويساير التطور الحديث في العالم. فاللبنانيون الانعزاليون بحكم موقع القطر اللبناني، وبحكم الاتصالات بينهم وبين الغرب ووجود ارساليات أجنبية، تذوقوا مظاهر الحضارة الغربية اكثر من أي قطر عربي آخر، وتعلقوا بالحرية الفردية، فهم يخشون بعد ان حصلوا على شيء من هذه الحرية، اقول يخشون اذا ما اندمجوا في الجسم العربي أن يفقدوا حريتهم. واذا أخذنا الاقليات العنصرية مثل الاكراد مثلا.. نتساءل.. لماذا يتخوف الأكراد أو قسم منهم من العروبة؟ ان هذا التخوف أكثره ناتج عن دعاية استعمارية حديثة ترجع الى خمسين سنة، يوم دخل الانكليز والفرنسيون الشرق العربي. فالأكراد ظلوا مئات السنين يعيشون مع العرب ويحاربون ويستبسلون في الدفاع عن الأراضي العربية. فأفراد الشعب من الأكراد ماذا يريدون وأي شيء يطمحون اليه أكثر من ان يعيشوا حياة كريمة سعيدة، وأن يكون لهم ما للجميع وعليهم ما على الجميع باستثناء بعض الزعماء الذين لهم مصالح اقطاعية؟ أفراد الشعب هؤلاء لا يريدون أكثر مما يريده العرب أنفسهم.

والآن ليس هناك اقليات مضطهَدة وطوائف مضطهَدة وانما هناك اكثرية شعب مضطهَد هو الشعب العربي، وهناك اقلية مضطهِدة من المتآمرين مع الاستعمار. العربي والكردي والبربري والاشوري والمسلم والمسيحي والدرزي الخ.. افراد الشعب الذين يشكلون 90 بالمائة من افراد الأمة العربية مضطهدون محرومون من قبل أقلية تستغل الأوضاع الفاسدة وتستفيد من وجود الأجنبي.

فعندما تطرح المشكلة على هذا الشكل، أي ان الاشتراكية تطرحها على هذا الشكل، وقوميتنا اشتراكية، هناك طبقات مستغلة متآمرة على حساب الشعب، فعلينا ان نقضي على هذا الاستغلال عندها لا يعود هناك فرق بين المواطنين. واذا رجعنا الى تعريف العروبة كما نفهمها نحن وكما نريد ان تتحقق بأنها هي العنوان والاسم والروح التي تجمع بين هذا الشعب الواحد وتشعره بشخصيته ورسالته في الحياة فليس فيها أي جمود أو تحجر أو استعلاء.

لا أحد يمنع الأكراد ان يتعلموا لغتهم شريطة ان يكونوا خاضعين لقوانين الدولة ولا يشكلون خطرا على الدولة، والطوائف المسيحية مثلا لا يوجد من يمنعها من ممارسة شعائرها الدينية ومن الثقافة المسيحية ضمن هذه الثقافة العربية العامة. فمفهومنا بعيد جدا عن مفهوم القومية النازية التي تؤمن بأن هناك عرقا مفضلا وله مميزات خاصة يجب أن يتطهر من كل شيء وبالتالي ان يضطهد كل من لا تتوفر له الشروط من حيث النسب والعادات المعينة… فالعروبة هي انسانية ونحن نفهم من قوميتنا العربية بأنها الإنسانية الصحيحة وبأنها تقديس لقوميات الآخرين، فنقدس هذا الشعور عند كل شعب آخر.

ولكننا لا نقول بالاممية التي يقول بها ادعياء الماركسية بل نعتبرها مصطنعة لانها محاولة لأفقاد كل شعب شخصيته وربط الشعب بروابط طبقية بحتة، وهي محاولة فشلت كما فشلت محاولة الدولة الدينية في القرون الوسطى على ما في ذلك من مفارقة. فالشعب في حاجة الى من ينبهه الى أن الاممية التي تجاهلت الحقيقة القومية تتحول يوما بعد يوم الى طريق الفشل. وهكذا نرى أن نظرتنا الى الإنسانية هي النظرة العلمية لأننا نعتبر ان الإنسانية الصحيحة هي في القومية الصحيحة.

فلنعد الى المشكلة المطروحة ونضيق البحث ونعين الحل العملي على ضوء هذا التوضيح. هناك في المغرب عنصر يسمى العنصر البربري وهذا العنصر يمتزج مع العرب امتزاجا كليا، كما اعتقد، من الفتح العربي على الأقل لأن هناك بعض النظريات التي توجد صلات بينهما قبل الفتح، ولكن منذ الفتح العربي الى اليوم أصبحت أرضا واحدة ودينا واحدا وثقافة واحدة ولغة واحدة ومصلحة حاضرة واحدة.

ونغمة التفريق هذه قد اصطنعها الاستعمار وغذاها، اذن هل نقول اننا نريد ان نتحرر من الاستعمار اولا تحت الشعارات الملائمة التي تجمع ولا تفرق بعد ذلك نسعى أن نزيل هذه الفروق، أو أن نظهر للبربر الذين يتحفظون تجاه القومية العربية بأنها عين ما يطمحون اليه وانها حريتهم وحياتهم وازدهارهم وانها القوة الحقيقية؟ ثم بأنهم لن يكونوا فئة قليلة وبأنهم سيكونون جزءا من امة واسعة منتشرة في الشرق والغرب وهذا اضمن لقوتهم وسعادتهم؟  فالواقع ان المستقبل هو ابن الحاضر وان ما نتساهل فيه اليوم لن نستطيع تلافيه غدا. اننا لا نريد ان نكرر الاخطاء في المغرب فنحن لا يهمنا رجال الحكم والزعماء التقليديون الموجودون هنالك. فالاعتماد على الجيل الجديد، ولا يجوز له ان يساوم على فكرته وعقيدته لانه يبني للمستقبل وعليه اذن ان يبشر بهذه الفكرة: الفكرة الإنسانية الحرة الاشتراكية التي لا تبقي أي مجال للاستغلال بين عنصر وآخر وطبقة وأخرى. اذا لم نزرع هذه الفكرة من الآن فسنجد من الصعب جدا زرعها عندما تتحرر البلاد لان التحرر سيرافقه ايضا يقظة للمصالح الخاصة وحرص من الزعماء على أن يقتطعوا لانفسهم مناطق نفوذ، وهكذا فيجب أن نوجد الخميرة عند الشعب منذ الآن. فعلينا أن نوضحها ونقويها لأن لهذه البلاد في شرقها وغربها اسما واحدا ولغة واحدة وقومية واحدة. انكم ستجدون مقاومة لهذه الفكرة من قبل السياسيين، هذا منتظر ولكن هذا سيقوي فكرتكم وانتشارها وسيضغط على رجال السياسة بالذات ليراقبوا نفسهم ويبدلوا من اتجاهاتهم وارتجالاتهم كما حدث هنا. فنحن بهذا التيار الشعبي الذي أوجدناه منذ خمسة عشر عاما حتى الان اضطررنا الزعماء انفسهم بأن يخففوا من انتهازيتهم فيما يخص مصلحة البلاد وأن يعدلوا من ارتجالهم. انكم بتمسككم بهذا الاتجاه شريطة ان يكون مفهوما لديكم حق الفهم -إن ما نفهمه بالعروبة، هو هذه الرابطة الانسانية السمحة وهذه الفكرة الواقعية التي تضمن قيام مجتمع عادل- فبعض السياسيين القائلين بعروبة هوجاء متعصبة غامضة ومتسلطة سيضطرون للتراجع عن هذه النظرة الهوجاء وبذلك يخف رد فعل العنصر البربري. وانا لست مؤمنا بأن ما تتصورنه موجود الى هذا الحد. على كل حال مهما يكن من امر فدعوتكم أنتم من جهة ستعدل كثيرا من النظرة القومية الهوجاء… وهناك فئة اخرى تحمل أفكارا تتهرب بها من المشكلة فتقول نحن مسلمون ونحن مغاربة الى غير ذلك.. هؤلاء ايضا نتيجة لدعوتكم سيخرجون من المعركة وهم مؤمنون ولو بمقدار بسيط بهذه الفكرة العربية السمحة وعندها تكون الخميرة وجدت. العهد الاستقلالي لا يكون صحيحا وغير معرض لهزات ولانقسامات الا اذا طرحت المشكلة على الشكل الذي سردناه سابقا.

سؤال: ان حزب البعث تجنب الشيوعية لانها ستفقده شخصيته اذا انخرط فيها فالبرابرة يقولون بفكرة تشابه هذا القول ويقولون المغرب كوحدة يحقق الشخصية البربرية لانه ليس كله عربيا ولا بربريا.

جواب: ليس المقصود بالاحتفاظ بالشخصية التمايز بل المقصود شيء ايجابي، نحن نرفض الاممية الشيوعية لاننا نجد فيها شيئا سلبيا يحاول محو شخصية الأمة العربية. والشيوعيون انفسهم بدأوا يرفضونها عمليا وان كانوا لم يصرحوا بذلك بعد. وروسيا نفسها سائرة في فكرة القومية، وظهر ذلك اثناء الحرب عندما اخذوا يستندون الى بعث الروح القومية حتى ينتصروا.

نحن قلنا في تعريفنا لقوميتنا العربية بأنها ستسمح بالحرية للجميع. فلا شك ان المغرب عندما يكون جزءا من الوطن العربي الكبير سيكون امنع استقلالا وحرية واخصب ازدهارا مما لو كان وحده معرضا دوما للعدوان والمطامع واستغلال الدول القوية الاستعمارية. وأنتم تعرفون ان المعقل الاخير للاستعمار هو افريقيا، والدول الاستعمارية وأميركا خصوصا تتوجه بنظرها نحو المغرب. والاحتفاظ بنفوذ في المغرب من قبل الدول الكبرى غايته تركيز دعائم الاستعمار في هذه البقعة الباقية من افريقيا. ففي الوقت الذي يثبت فيه الاستعمار شعور الانقسام والفرقة والتمايز والكره للاكثرية نجده نفسه يبث عند عملائه من السياسيين بأن الاكثرية تحاول فرض سلطانها على الاقلية، وبنفس الوقت الذي يغذون الشعور بالاقلية عند البربر يخلقون عند الاكثرية زعماء متعصبين يسلكون سلوكا يثير نقمة الاقليات. فالقومية المتعصبة هي ايضا من النتاج الاستعماري في بلادنا والدعوات الطائفية كذلك لتدعيم الاستعمار. فلا الشخصية البربرية يحافظ عليها اذا استقلت لان البربر يصبحون عبيدا للمستعمر ولا يحافظ عليها اذا انعزل المغرب عن المشرق العربي لان المغرب بدون المشرق العربي سيبقى ضعيفا امام الاستعمار لان اوروبا متسلطة ومشرفة اشرافا مباشرا عليه.

عام 1955


القومية العربية والنظرية القومية

ان اصطلاح “القومية العربية” في استعماله الشائع اليوم، هو خليط من افكار واتجاهات سياسية وعواطف، ومن رواسب وانحرافات سلبية وايجابية جعلته بعيدا عن المعنى الصادق الخلاق الذي يوحي به، بحيث نرى القومية تارة مرادفة للتعصب والتوسع، وتارة اخرى مقيدة في اغلال من العنصر او الدين او التاريخ، او مساوية للوحدة ورفض التجزئة او لوحدة النضال الشعبي مع ان هذه المعاني كلها، السلبية والايجابية، عارضة متبدلة جزئية، والقومية هي وحدها الخالدة الثابتة الشاملة.

ان القومية العربية لدى البعث، هي واقع بديهي يفرض نفسه، دون حاجة الى نقاش او نضال، اما مجال الاختلاف وضرورة النضال فهما في محتوى هذه القومية، هذا المحتوى المتطور الذي يحتاج في كل مرحلة من مراحله الى نظرية قومية تلائمه. ولهذا لا موجب لأن نناقش في اننا عرب ام لا، ولكن يجب ان نختار وان نحدد مضمون العروبة في المرحلة الحاضرة: أتكون رجعية ام تقدمية؟ أتستقيم مع الاستعمار والاستبداد ام شرطها الحرية؟ وهل تبقى مع التجزئة ام ان الوحدة شرط اساسي لها؟

ولذلك فرق الحزب منذ تأسيسه بين “الفكرة العربية” وعنينا بها القومية العربية، وبين “النظرية القومية”، فقال ان الفكرة العربية هي بديهية خالدة، وهي قدر محبب، وانها حب قبل كل شيء، اما النظرية القومية فهي التعبير المتطور عن هذه الفكرة الخالدة حسب الزمان والظروف، وان هذه النظرية تتمثل اليوم -حسب اعتقادنا- في الحرية والاشتراكية والوحدة. وبهذا التفريق تتسع القومية العربية لكل هذا الواقع الغني الممتد عبر عصور التاريخ في جميع اقطارنا، فهي تحتضن هذا التاريخ وتتغذى به، وتؤلف من عناصره المختلفة تجربة واحدة موحدة. فهي بذلك الصفة المشتركة التي تجمع عناصر وحقبا تاريخية متعددة تشملها جميعا، ولا تصطدم بأي منها.

ولذلك نقول ان القومية العربية هي قومية وعربية، قومية بمعنى ان فيها الشروط الابتدائية لكل قومية، عربية بمعنى ان فيها التطور الخاص بالامة العربية عبر مختلف العناصر والحضارات والازمنة. وان الصفة العربية المشتركة التي وحدت بين هذه العناصر جميعا هي التي استمرت دون انقطاع، وكانت اللغة العربية ابرز عنوان لهذا الاستمرار بما تتضمنه اللغة عادة من وحدة في التفكير وفي المبادئ والمثل.

وبهذا المعنى فقط، يأخذ التاريخ قيمة في قوميتنا، تاريخنا بالدرجة الاولى، والتاريخ العام بالدرجة الثانية، فنحن لا ندخل التاريخ في قوميتنا ليكون صورة وقدوة بل لانه التربة الحية التي نما فيها وعينا وتصحح وتكامل، حتى بلغ هذه المرحلة الحاضرة التي نعبر فيها عن قوميتنا الايجابية بكليتها، والتي لا مكان فيها للتمييز او التفوق او السيطرة او العزلة.

وليس المهم ان تكون شتى المعاني السلبية والايجابية، كالعنصر والدين والتراث التاريخي، قد أسهمت، في الماضي، في صنع هذه القومية وتداخلت فيها. ولكن المهم هو المعنى الذي نستخرجه من ذلك في مرحلتنا الحاضرة، مرحلة انبعاث وخلق المستقبل العربي، المهم ان نعرف ان هذه القومية -التي وصفناها بالخلود وبأنها تفترق عن المضامين المختلفة التي تعبر بها عن نفسها خلال الزمن وبالتفاعل مع الحوادث والظروف- لا يعني الخلود فيها جمودا، وانما يعني ثباتا واستمرارا للحد الادنى من المقومات تبنى عليها وتنسج حولها تعبيرات متنوعة متجددة، فهي خلق دائم، ولكنها ليست خلقا مجردا ولا خلقا من العدم، بل نابتا من التجارب الحية، لان هذا هو الذي يعطيه قوته ويضمن استمرار حيوته وتكامله. ولذلك فنحن نعتبر ان التجربة الحاضرة للامة العربية هي القيمة الأولى والكبرى لهذه القومية، لأنها أغنى وأثمن من جميع المراحل التي عاشتها أمتنا في الماضي وبالتالي فان مجال التجدد والخلق مفتوح أمامها الآن بكل اتساعه، لتعطي لقوميتها المعاني الحرة الاصيلة التي توحي بها تجربتها الحاضرة بكل عمقها وعنفها، وتخلع بالتالي على تجاربها الماضية معنى جديدا. فهي بهذا المعنى تخلق المستقبل وتخلق الماضي نفسه، وهي بالتالي -أي هذه التجربة- تترك في الصف الثاني اكثر المعاني السلبية او الايجابية التي تدخل عادة في بناء القومية، وترفعنا فوق النظرة التاريخية، كما تجنبنا النظرة الاممية المجردة.

فالعرب اليوم لا يريدون ان تكون قوميتهم عنصرية، وارادتهم هذه نابعة من تجربتهم، فقد جربوا ما معنى العنصرية، وجربوا ما معنى الظلم.

والعرب اليوم لا يريدون ان تكون قوميتهم دينية، لان الدين له مجال آخر وليس هو الرابط للأمة، بل هو على العكس قد يفرق بين القوم الواحد، وقد يورث -حتى ولو لم يكن هناك فروق اساسية بين الاديان- نظرة متعصبة وغير واقعية.

والعرب اليوم لا يريدون ان تكون قوميتهم تاريخية. ان القومية العربية لا تنفي التراث التاريخي غير العربي، أي هي لا تتعارض معه، فالامة العربية اليوم وارثة لتراث حضاري غني وواسع، يشمل شتى الحضارات التي دخلتها وتفاعلت معها، من مصرية وآشورية وبابلية وفينيقية وغير ذلك. فالقول بالقومية العربية لا يعني مطلقا ان نتنكر لتراث الفراعنة مثلا أو نتبرأ منه، فهذا فهم سطحي ومضلل جدا، وكذلك فان القومية العربية لا تعني الانغلاق امام الحضارة الإنسانية، بل هي، على العكس، في تفاعل مستمر معها.

على أن قوميتنا، برغم هذه المرونة وهذا الشمول، تبقى قومية ذات شخصية، فهي لكي تستوعب التراث القديم العديد المتنوع، ولكي تتفاعل مع الحضارة الإنسانية، يجب ان تكون لها شخصية. فنحن نسمي عربا هذه المجموعة من البشر التي استلمت من الماضي تلك المقومات والشروط الابتدائية والضرورية للشعور المشترك، وللمصلحة المشتركة، لا لتقف عند هذا الحد، بل كنقطة انطلاق تبدأ منها حياة جديدة تملؤها بكل المثل الانسانية التي توحي بها او تدفع اليها تجربتها الحاضرة.

والقومية بمفهومها الحديث هي التي -بمنعها القفز الى عالمية مائعة ومجردة- تقي من الانتكاس والرجوع الى العصبيات الصغيرة، فهي اذن تحفظ شخصية الإنسان من التميع ومن التضاؤل. ان مفهوما للماركسية يدعو الى العالمية ويعتبر القومية انتكاسا، مع أنها في الواقع حركة تقدمية، لأنها حررت الإنسان من العصبيات الصغيرة وارتفعت به الى روابط اوسع، لها من نضجها ومن قيامها على اسس انسانية ما يجعلها خيرا من ان تهدم القومية لتدفع الانسان الى العالمية دفعا مصطنعا وسطحيا، فيصبح ضائعا في هذا العالم، ويحتاج الى قوة تجريد جبارة ليحفظ على نفسه ايمانها بصفة “المواطن العالمي” هذه، وهو وضع سيعود بالإنسان حتما الى نوع من العصبيات الصغيرة.

ان القومية في مفهومنا، هي محررة من خطر الانغماس والاستسلام لعوامل البيئة والظروف الاجتماعية المحلية، ومحررة ايضا من خطر الانقلاب من جو الحياة بكاملها، ومن الوقوع في التجريد، ذلك ان في القومية الحد المعقول من التجريد الذي يجعل المصري والسوري واليمني عربا، وهذا لا يمنع ان يشعر العربي بأنه إنسان، وبأن له رسالة مشتركة مع بقية البشر، ولكن ضمن كونه عربيا، فصلته بالآخرين وتعاونه معهم انما يتمان من خلال شخصيته العربية.

واخيرا، فان قوميتنا لا تزول باردتنا، ولكنها في الوقت نفسه لا تستمر ولا تتحقق تحققا كاملا بدون هذه الارادة، أي ان فيها امكانيات التفسخ والتناثر، كما أن فيها امكانيات الوحدة والانسجام والنضج. فالقومية العربية ليست مرحلة نضال مشترك، او شعارا لهذه المرحلة تنتهي بانتهاء النضال او بانتهاء دواعيه، ليعود كل قطر بعد ذلك الى شخصيته الخاصة. ان البعض ينظر الى نجاح النضال كنهاية للقومية العربية ولمبررات وجودها، اما نحن فنجد نهايتها في فشل هذا النضال، اذا كانت لها نهاية، والاصح ان نقول: ان في هذا الفشل انتكاسا وتقهقرا لها، وما دمنا نؤمن بأن الاقطار العربية هي في حالة ثورة وتقدم وتفتح، فنضالها متزايد، ووضوح شخصيتها العربية الموحدة متزايد ايضا بنسبة نجاح نضالها. ان النضال المشترك هو اليوم في الواقع الشعار للقومية العربية المتفتحة المنبعثة من جديد، فهي التي خلقت هذا النضال، وهي التي تغذيه.

القاهرة، عام 1957


معالم القومية التقدمية

ايها الاخوة الاحباء(1)

يصعب علي ان اصف لكم فرحتي بزيارة هذا البلد العظيم الذي رأيت فيه من علائم النهضة والتحفز ما يبعث الامل، ويبشر بمستقبل عظيم لهذا القطر وللوطن العربي الكبير.

اسمحوا لي ايها الاخوة، ان احدثكم قليلا عن تجربة اخوتكم في المشرق العربي، عن تجربة جيل بدأ نشاطه وتحمل المسؤوليات القومية منذ الحرب العالمية الاخيرة وأوجد تيارا فكريا شعبيا عظيما، جيل ساهم في النضال في اقطار المشرق، وساهم إلى حد غير قليل في صنع الاحداث في هذه السنين. وقد جاءت الاحداث مصداقة لنظرته في جملتها وإن كان الواقع احيانا يظهر بعض الاخطاء في التفصيل، هذه الحركة التي اريد ان احدثكم عنها والتي قد تكونون سمعتم بها هي حركة قومية عربية تنادي بأمة عربية واحدة وتؤمن بأن العرب لا بد ان يتوحدوا في وطن واحد، وتؤمن بأن للامة العربية رسالة في هذه الحياة تؤديها للانسانية كما سبق لها في ماضيها العريق ان فعلت. هذه الحركة تنظر الى القومية العربية نظرة جديدة مستوحاة من روح العصر وحاجات الامة وماضيها الاصيل.

فأثناء الحرب العالمية الاخيرة وجد العرب انفسهم حائرين وسط دول كبرى تستعمر اجزاء وطنهم وتنتقص من سيادتهم وتقول بمذاهب اجتماعية واقتصادية، بينما كان النضال العربي دون مستوى التفكير بالمذاهب، ودون مستوى الشمول. فقد كان محصورا لا في النطاق العربي فحسب، بل في نطاق القطر الواحد، في النطاق الاقليمي. ولقد كان النضال مقتصراً على مكافحة الاجنبي دون ان تكون له مادة ايجابية يستند اليها لبناء المستقبل بعد التحرر. وكانت جماهير الشعب لا تتحمس الحماس الكافي، ولا تضع جميع امكانات النضال في المعركة، لان قيادة هذا النضال لم تكن شعبية ولم تأخذ بعين الاعتبار مصلحة الشعب ومطالبه الاجتماعية، فكان يسود العلاقة بين الجماهير والزعماء فتور وشك.. شك في المقاصد وشك في الكفاءة والجدارة.

في تلك الظروف كان الجيل العربي الشاب الواعي مطالبا بان يخرج قضية أمته من ذلك التبعثر والفراغ وان ينقلها إلى صميم الواقع الحار ليلهب حماس الجماهير ويربط بين مصلحتها ومصلحة الوطن، وليرتفع بنضاله الى ما يتناسب مع روح العصر وليرتفع بالروح القومية الى الجو العالي الذي يتكافأ مع ماضي أمة عظيمة كالامة العربية.

في ذلك الحين كان الشيوعيون العرب ينشرون بين الشباب افكارا تنادي بالاممية وتنكر قيمة القومية، او تدعي بأن القومية مرحلة مؤقتة كمرحلة دنيا لا بد ان ترتقي فوقها المجتمعات لتصل الى الاممية، وان القومية مرحلة رجعية وانها مشوبة بالتعصب وان وراءها المصالمح البورجوازية والرأسمالية، وانها تدفع إلى التوسع وإلى الحروب فكانت هذه الاوصاف التي تصح على القومية في أوربا في القرنين التاسع عشر والعشرين، تناقض حالة قومية كقوميتنا مظلومة خاضعة لعدوان اجنبي ليس فيها إلا الحرص على مقومات الامة والا الحب للشعب ولجميع الشعوب. فكان يصعب علينا ان نصدق بأن القومية هي ضد الانسانية طالما اننا نشعر ان كفاحنا القومي في سبيل الاستقلال كان بدافع انساني. لقد كنا نشعر ان كفاحنا القومي كان بدوافع انسانية خيرة لذلك بدأت الفكرة الجديدة تتبلور واخذنا نفرق ما بين النظرية القومية الرائجة في الغرب، والتي ثارت عليها التقدمية الاشتراكية، وبين قومية الشعوب المغلوبة في آسيا وافريقيا ومنها القومية العربية التي تحمل في طياتها بذور الخير والانبعاث للقيم الانسانية.

وكان ثمة مفهوم آخر رائج، مفهوم مجرد مستعار هو أيضا من الخارج يحصر القومية في اتفاق المصلحة وفي الذكريات الماضية والآلام والآمال.. فكان هذا جواباً جافاً لا يروي ظمأ الشعب العربي إلى ما يحرك فيه طاقات دفينة، فكانت الخطوط التي رسمناها لقوميتنا العربية لا تكتفي بالروابط الحقوقية بين الافراد، وانما تجعل في وجود الامة رسالة تاريخية وأمانة في عنقها تحيا حياتها وتجربتها بصدق وتخلص للقيم والعقل وتقدم للانسانية خير ما عندها. وهذا ما جعلنا نرجع إلى تراثنا الحضاري التاريخي وننظر اليه نظرة جديدة.. ففي حياة العرب تجربة ضخمة ورسالة سامية.

وكان التفكير السطحي قبل ظهور حركتنا يوحي او يوهم بوجود التضاد بين القومية وبين هذا التراث الروحي بحجة الحرص على العلمانية، ولكن وجدنا ان لا تعارض بين العلمانية وبين الاعتراف بما يغذي روح حضارتنا من تجارب ماضي شعبنا الغنية. فكانت هذه النظرة الجديدة إلى تراثنا القومي نظرة حية واقعية عميقة ارجعت إلى نفوس الشباب الاستقرار الذي فقدوه زمناً، وصالحتهم مع ماضي امتهم دون ان تجمدهم في هذا الماضي.

ايها الاخوة،

الفكر في حد ذاته قوة تاريخية، قوة ثورية لا تقدر. فمجرد وضع القضية العربية القومية في صيغة فكرية شاملة كان اول مساهمة في تركيز الحركة الثورية العربية على اسس صلبة، اذ ان هذه الصيغة الفكرية هي التي جاءت تلبية لحاجة الشباب العربي في كل قطر لكي يرى ما تعني قضية امته واين هو موضعها بين قضايا العالم، فكانت هذه المحاولة التي لا شك انها تحتاج إلى مزيد من الجهود الا انها استطاعت ان تسد فراغاً في حياة الشعب العربي في عدد من اقطاره. والقومية التي كان الاقطاعيون قبل عشرين او ثلاثين سنة يتلفظون بها دون المام شامل، ودون معنى الا الرد على الاجنبي ليعينوا الاسم والهوية بأننا عرب لا اكثر، هذا التعريف الفارغ كان لا بد ان يأخذ معنى حياً مستمداً من الواقع فقلنا بأن القومية العربية تساوي وتعادل حياة الجماهير ومصلحة الجماهير وقضية الجماهير.

انها ليست عنوانا فحسب وليست ترفاً يدعيه ويزدان به الوجهاء والزعماء. انها من صميم الآلام، الآلام المادية والمعنوية، آلام الشعب المستغل وآلام الشعب المقهور في سيادته، وهكذا اتخذت القومية العربية مضمونا واقعيا ثوريا عندما حددت بأنها الوحدة والحرية والاشتراكية العربية: الحرية في الخارج امام الاجنبي المستعمر والحرية في الداخل امام الحكم الاستبدادي.. والاشتراكية للشعب كله، اشتراكية مستقلة لا تتبع مذهبا معينا ولا تكون أداة للتعصب المذهبي والتنازع وانما تستفيد من جميع النظريات والتجارب التي تمر بها الشعوب وتحرص على ان تتلاءم مع روح الامة ومع ظروفها وحاجاتها. هذه هي الاشتراكية العربية… والوحدة العربية هي أيضاً مفهوم ثوري لانها كانت دوماً موضع العدوان والتآمر من الدول الاستعمارية ومن الطبقة الرجعية ومن الصهيونية العالمية فكانت هي الضحية في كل حين، لانها سر انبعاث العرب وقوة العرب. لذلك كانت تتكالب عليها المؤامرات فكان لا بد ان نفضح كل هذا وان نظهر بالدليل الواضح كيف ان الوحدة التي طالما تشدق الزعماء بها وادعتها الحكومات لا يخلص لها ولا تقصد لذاتها وانما هناك تآمر عليها، وحرص على الاقليمية والتواطؤ مع الاستعمار في بعض الاحيان: حتى أن الجامعة العربية بدت لنا عند نشوئها وكأن القصد منها تخدير الحاجة الى الوحدة لا تلبية هذه الحاجة. فبينا حيوية الحاجة الى الوحدة وبينا ان الوحدة هي شرط لازم للنضال الشعبي التحرري ضد الاستعمار وضد الاستغلال، وأنه بدون وحدة يبقى الاستعمار يتلاعب بمصيرنا ويغري قطرا باستغلال محن قطر آخر وتبقى قضية الوحدة موضع شك. فثورة الوحدة ان لم يتبنها الشباب العربي الثوري ويخلقوا فكرتها خلقاً وينمّوا وعيها ويخلصوا لنضالها فانها ستبقى مادة للتضليل، وبالتالي لن ينجح لا النضال التحرري ولا الاشتراكي ما دام الشعب الواحد مجزأ، يقوم التنافر والتعاكس أحياناً بين نضال اقطاره بدلاً من التنسيق والتوحيد. فالذي يخلق الوحدة هو الشعب المستغل، الشعب الذي يحتاج إلى وحدة النضال لكي يضمن الخلاص من الاستغلال وفي الوقت نفسه يكون قد وحد اجزاء وطنه الممزق.

ونظرتنا هذه إلى الوحدة تختلف أيضا عن المفهوم القديم التقليدي الذي يقول: ان الوحدة هي رجوع إلى الحالة الطبيعية، رجوع إلى ما كانت عليه الامة قبل التجزئة، لان هذا كلام ليس فيه جد ولا اخلاص، فالوحدة لا يمكن أن تكون رجوعاً إلى الوراء. انها الوحدة الثورية في هذا العصر، وحدة تنهض على اكتاف الجماهير وتمتزج بالنضال الاشتراكي، بل يمتزج نضالها بتجربة الامة كلها في هذه المرحلة، وهذه التجربة الانسانية العميقة لا يمكن ان تكون عملية آلية وانما عملية خلق جديد للامة، وهذا يجب ان يكون واضحاً. فالتاريخ لا يرجع إلى الوراء والامة الحية تجدد نفسها باستمرار لذلك لا تبتعد الوحدة عن المثل التي تدين بها قوميتنا. ليست الوحدة مجرد جمع ووصل وعملية مادية، الوحدة هي صهر جديد من خلال التجربة الجديدة للعرب. يجب ان تكون الوحدة شفافة ترتسم عليها مثلنا ومبادئنا في الحياة والمجتمع، هذه وحدتنا التي تستطيع أن تحمس جماهير الشعب، وان تدفعها الى التضحية. وفي هذه النظرة الجديدة نظرة الى الانسان أي نظرة إلى اخلاقية العمل وربط الوسيلة بالغاية.

لقد كانت السياسة قبل ذلك أسلوباً واقعياً رخيصاً فقلنا بأن الأمة في مرحلة الانبعاث لا تستطيع ان تحرك فيها القوى الكامنة والتحفز للثورة والنضال وان تخلق وان تبدع اذا لم تكن منسجمة مع نفسها، مع مثلها وتاريخها، اذا لم تكن تطبقها في عملها.. وان الوسيلة لا يمكن ان تنفصل عن الغاية. ان الثورات والنهضات انما تعمل لخلق انسان جديد مستقل الشخصية حر في التفكير قادر على الانتاج والابداع وتحمل المسؤولية، فلا يمكن ان تطبق الميكيافيلية التي تعتمد على الكذب ولا تقيم وزنا للاخلاق.

لذلك كان لا بد ان ننظر الى ما حولنا في العالم وان نعين موضعنا من العالم، لقد كان الصراع بادئاً بين المعسكرين فقلنا بالحياد عقب الحرب العالمية، وكانت حركتنا اول من نادى بالحياد وربطته بفلسفتها، فلسفة القومية، التي ترفض النظام الرأسمالي والديمقراطية الغربية التي أنجبت الرأسمالية وترفض الشيوعية كنظام، وتترك المجال حرا لظهور الثورة الحقيقية التي لا تعسف فيها ولا اصطناع، والتي تنسجم فيها الوسيلة مع الغاية، اذ ان الشيوعية لم تستطع ان تحافظ على حرية الانسان وهي التي باستخفافها بالحرية قد حولت الغاية إلى وسيلة وفقدت الشيء الكثير مما كانت ترمي اليه من انقاذ للانسان من الظلم، فكانت صيغة القومية الجديدة انها لا تفرط بحرية الانسان وانها تغذي انسانية الانسان وانها ثورية تنشد الثورة لنفسها وللعالم، ولكن لا تضحي بالمثل من اجل ثورة مادية فحسب.

لقد أقاموا تناقضاً بين القومية والانسانية كما تعرفون، وهذا كان في نظرنا شيئاً مصطنعاً فلم نصدق ان القومية مرحلة، لاننا حتى الآن لم نر ان القومية كانت مرحلة لشيء فوقها، وانما الصحيح ان بين القومية والانسانية انسجاماً اذا فهمنا القومية فهما صحيحاً، والصحيح ان نقول ان ثمة، قومية انسانية.

القومية التي تخرج من تجربة الشعوب التي عانت الظلم وعانت الاستعمار وتحررت دون ان يستنفد الحقد ألمها وتجربتها، اي التي عانت تجربة الظلم والتأخر وتطالب بتجربة ايجابية متفائلة، هذه القومية هي التي تطبق القيم الانسانية في حدودها. فالقومية هي المسرح الواقعي لتحقق الانسانية، والانسانية التي تقفز من فوق القومية وتكون خيالية لا تجد ارضاً تستقر عليها فهي تكون في الذهن اكثر منها في الواقع، وكثيراً ما توصل الى العصبيات الضيقة والى الاقليمية. فالقومية الانسانية اذن هي تطبيق لنظرية في القومية عامة. اننا نؤمن بأن القومية للبشر عامة هي حالة سوية وحالة ثابتة غير مؤقتة اذا أحسن فهمها واذا خلصت من التعصب وشوائب الطمع والتوسع.

يحق لنا ان نتساءل ماذا استطاعت القومية العربية بمفهومها الحديث ان تحقق حتى الان، وما هو المأمول منها؟ انها قطعت أشواطاً في سبيل التحرر القومي وتوطيد الاستقلال، كما أنها قطعت أشواطاً في سبيل التقدم الاقتصادي والاجتماعي، وقطعت خطوة أولى بقيام الجمهورية العربية المتحدة. ومهما وصفنا أثر هذه الخطوة الاولى نكون مقصرين عن وصف الواقع والحقيقة.. لان المؤامرات العديدة على الوحدة التي كانت تأتي من الاجنبي والرجعية جعلت في اعتقاد العرب جميعاً ان الوطن العربي الموحد خيال غير قابل للتحقيق وانه عندما تتهيأ كل الظروف وتتوافر الرغبة الصادقة كان العرب يجدون ان عملية الوحدة تبتعد حتى كاد الشك يتطرق الى النفوس.. ولا شك ان الاستعمار والصهيونية كان لهما يد كبيرة في اشاعة هذا الشك، لذلك كان مطلوباً من الجيل العربي الثوري أن يضع حداً لهذه الشكوك وان يضحي وان يعطي برهاناً على قابلية الوحدة للتحقق. هذا ما يفسر الجهود والتضحيات الكبيرة التي بذلت حتى تحققت هذه الخطوة المباركة التي يفديها العرب في كل مكان.

ولئن وقعت أخطاء، فالوحدة هي اعمق من كل شيء وهي قادرة على أن تصحح الاخطاء، وما هذا الاصرار والاستعجال في تحقيق خطوة عملية نحو الوحدة الا دليل على حاجة الامة الى أن تشق طريق الوحدة لانه طريق القوة. والوحدة مازالت تحتاج إلى جيل يؤمن بها، يناضل من أجلها، يتابع رسالتها على الاسس الصحيحة، على المبادئ الديمقراطية والاشتراكية لكي يجد فيها الشعب مايطمح اليه. ولكي تكون وحدة متينة الاسس غير معرضة لأية انتكاسة.. مازالت تحتاج إلى جيل يؤمن بها مناضل، يخلق وعيها وينمي نضالها ويكافح عقلية التجزئة ورواسبها والمصالح الآنية للتجزئة. ولا يقال بأن في الوحدة اعباء كثيرة لان فيها مقابل الاعباء فوائد وقوة اذا حرصنا على أن تكون هي الوحدة الثورية، وحدة جماهير الشعب لا وحدة طبقة اقطاعية، وعندما يسعى هذا الجيل ويتابع نضاله من أجلها وينشره في كل قطر فلا شك انها ستصبح بدون أخطاء وتبعد عنها الاخطار وتزال عنها الشبهات، فالوحدة ليست ترفاً للعرب، فلا يمكن ان يصل القطر الواحد إلى استقرار وإلى تقدم ملموس واستقلال متين ما دامت أقطارنا متفرقة، وما دام الاستعمار يستطيع ان يلعب بنا ويستغل فرقتنا. فالوحدة ضرورة حيوية قاهرة، ولولاها ولولا اهميتها لما تكاتف الاستعمار العالمي والصهيونية العالمية وخلقوا عقبة كبيرة في طريقها هي اسرائيل.

ان السبيل إلى جعل الوحدة وحدة شعبية اشتراكية ديمقراطية هو الايمان بها وتبنيها والعمل لها، لا الخوف منها وتركها للصدف والظروف، لان الظروف قد لا تكون ملائمة طالما ان لها في العالم اعداء وهذه هي الامانة الموضوعة في اعناق الجيل العربي الجديد خاصة في المغرب العربي بعد أن قطع المشرق العربي شوطاً في هذا السبيل، فالمطلوب من جيل الشباب المناضل في المغرب ان يتابع الرسالة لكي يلتقي شطرا الوطن العربي ولكي نتفادى تبلور التجزئة في اقليميات مصطنعة.

ولا يتم لنا بعث عربي حقيقي اذا لم تتوحد جميع أقطارنا، ويأتي كل قطر بمساهمته وتجربته ليكمل تجربة الاقطار الاخرى، حتى تأتي التجربة العربية متحدة الجوانب، مكتملة المعاني.

وقد قلت أكثر من مرة بأن المغرب العربي قد عانى في هذا العصر تجربة من اعمق التجارب، تجربة لم يبلغها عرب المشرق، هذه التجربة القاسية الثمينة التي صمد لها شعبنا في المغرب وخرج منها ظافراً مدللاً على حيويته وخرج منها مطهراً من كثير من الاخطاء في المفاهيم والتقاليد، ينظر إلى الحياة نظرة جديدة بعد أن عايش الحضارة الحديثة جنباً إلى جنب. فتجربة المغرب العربي هي شيء اساسي في البعث العربي الحديث.

وهذا ما يجعل للوحدة العربية قيمة خاصة ومسؤولية خاصة عند شباب المغرب لكي تأتي نهضتنا مكتملة الجوانب ولكي نعود مرة أخرى نقدم نصيبنا من الخير الى الانسانية جمعاء.

عام 1960

(1) حديث ألقي في الرباط أثناء زبارة ميشيل عفلق للمغرب لحضور احتفالات العمال بذكرى الأول من أيار.