لا ينتظّرن العرب ظهور المعجزة
فلسطين لا تنقذها الحكومات بل العمل الشعبي
ليس بين العرب من يجهل أن قضية فلسطين هي اليوم أخطر مشكلة في حياتهم القومية. ولكن ما يجهله أكثر العرب هو أن الطريقة التي تعالج بها هذه القضية بعيدة كل البعد عن الصواب والنزاهة. فإذا عرفنا أن للصهيونية والدول التي تناصرها عقلية سياسية في غاية النضج والحنكة، وأساليب في التضليل والإغراء لا يقيدها شرف، ولا يردعها ضمير، إستطعنا من جهة أن نقدر درجة الخطر الذي ينتج عن الإستمرار في تلك الطريقة السطحية في المعالجة، وأن نسيء الظن من جهة أخرى في قصد الكثيرين من سالكيها ومروجي أساليبها.
ويمكن تلخيص هذه الطريقة في ناحيتين بارزتين: الأولى هي تحويل مشكلة فلسطين الى وجهة عاطفية عقيمة، بأن لا نرى فيها الا صورة لغدر الدول الغربية بنا ورجوعها عما قطعته لنا من عهود وخيانتها لما تدعيه وتتذرع به من مبادئ، فنقصر كلامنا على فضح هذه النوايا المفضوحة، واقتحام هذه الأبواب المفتوحة، وندعو الى الحذر من هذه الدول الماكرة، شعباً، لم يكن في يوم من الأيام الا حذراً منها، مرتاباً فيها، ونشجعه على الوقوف موقف المتشائم اليائس الذي لا يرى حوله إلا المؤامرات، ولا يبصر أمامه إلا تكتل قوى باغية طاغية لا قبل له بدفعها، فكأن الشعب الحي لا يفرض فيه أن يحسب لغدر الأعداء ومؤامراتهم حساباً.. وكأن واجبنا لم يكن دوماً أن نصون حقوقنا ونكسب قضيتنا بالرغم مما يقع عليها من اعتداء ويدبر لها من مكائد.
أما الناحية الثانية، فهي أن نسرف في الإطمئنان والتفاؤل بعد اسرافنا في الارتياب والتشاؤم، فنعتمد على خطب الزعماء وتصريحات الوزراء ووعود رؤساء الدول العربية، مع معرفتنا بوسائل هؤلاء السياسيين وامكانياتهم، وبالحد الذي تقف عنده جرأتهم وتضحيتهم، والسهولة التي يتملصون بها من تصريحاتهم هذه أو يناقضونها. وهكذا نرى الخطر محدقاً بنا ثم نرجئ الإستعداد له ونعلل النفس بالوهم. لأن زعيماً هدد وعظيماً وعد! منتظرين أن تظهر المعجزة التي لا نرى دليلاً واحداً ينبئ بظهورها، مضحين بالعقل على مذبح السحر!.
لنقف بجرأة ورجولة أمام الحقائق التالية:
ان تكن الصهيونية بالنسبة الى بلادنا حركة عدوان، فإنها بالنسبة الى أصحابها حركة إيمان. وان يكن وراء الصهيونية رأسماليون يغذونها ويستغلونها ودول إستعمارية تجد في مؤازرتها ربحاً لها، وتثبيتاً لاستعمارها في بلاد العرب فذلك لا يمنع الصهيونية ان تكون في صميمها حركة شعبية وأن تحصل على التأييد الفعال من جميع يهود العالم!
ونرى أيضاً أن الدول الغربية التي تناصر الصهيونية لا تفعل ذلك مختارة بل مكرهة بدافع المصلحة لأنها تجد في مناصرتها من الربح أكثر مما تلاقي في معاداة العرب من الخسارة. وأخيراً فإن واقع اليهود القوي الراقي يجعل من باطلهم في نظر الغربيين حقاً، في حين أن واقع العرب الضعيف التأخر يكاد يحجب حقهم، أو على الأقل يضع هذا الحق مع باطل اليهود في مستوى واحد. فاذا وجب أن نصر على اعتبار الصهيونية بغياً وعدواناً وان نفضح أمام العالم هذا العدوان فيجب أيضاً أن لا نغفل ما يكمن وراءه من عقيدة متينة توحي الى الشعب اليهودي بالتضحية والإقدام وإلى زعماء اليهود بالتجرد والصلابة، وتطبع الحركة كلها بطابع القوة والجد والاحكام.
فالخطر الصهيوني ليس إذن مجرد غزو إقتصادي يحركه المال والطمع المادي وانما هو بالدرجة الاولى غزو ديني لا يشبهه في التاريخ الا الحروب الصليبية! ولا يقوى على دفعه الا يقظة الإيمان في نفوس العرب، وتجسد هذا الإيمان بشكل عملي فعال. لذلك كان الإتكال على السياسة بحساباتها ومماطلاتها أكبر مخدر لروح النضال في الشعب وأكثف ستار يحجب عن العرب رؤية الخطر الذي يهددهم. فكما أن السر في نجاح الحركة الصهيونية هو كونها حركة شعبية، كذلك لا تحبط مساعي هذه الحركة الإجرامية الا متى أصبحت مقاومة العرب لها شعبية حقة. واذا كان اليهود وهم المشردون في الآفاق، الذين ليس لهم أرض تجمعهم ولا دولة تمثلهم، قد استطاعوا أن ينظموا أنفسهم بشكل نادر التوحيد وأن يسخّروا لأغراضهم دولاً كبرى برمتها فهل يعجز العرب وهم شعب واحد يسكن أرضاً واحدة، عن ان يحققوا مثل تلك الوحدة في تنظيمهم وأن ينقذوا قضيتهم من استغلال حكوماتهم وطبقاتهم المتزعمة، اذا لم يقدروا على توجيه هذه الحكومات والزعامات في الطريق التي تنفع القضية القومية؟
إن العرب يعانون مشكلة أساسية واحدة هي استسلامهم لطبقة إجتماعية تقوم على الإستثمار والإستئثار، وهذا الوضع يشكل ضعفهم الداخلي والخارجي لأنه يخنق معظم قواهم وامكانياتهم في الداخل ويظهرهم أمام العالم بمظهر الشعب المتأخر.
ولئن كان الظرف الآن لا يحتمل الانتظار لكي تعالج المشكلة من أساسها ولا يتسع للانشقاق والإنقسام، فيبقى أمام العرب واجب عاجل لانقاذ فلسطين، هو أن يتركوا الحكومات وشأنها ويودعوا آخر أمل لهم في نجوع السياسة الرسمية فيلتفتوا الى العمل الشعبي ويصبوا فيه كل جهودهم.
أما الحكومات العربية وجامعتها فيبقى أمامها سبيل واحد لكي تبرهن على انها لم توجد لخدمة الأجنبي والعمل بوحيه، هو أن لا تضع العقبات والعراقيل في وجه الشعب المتعطش للجهاد!.
6 آب 1946
وحدة النضال ووحدة المصير
بعد نكبة فلسطين التاريخية(1) تأتي حوادث المغرب العربي واهمال بقية الاقطار العربية لهذا الشطر الكبير من وطننا، ومساومة حكومات بعض هذه الاقطار على نضاله، دليلا جديدا على الحدة التي بلغها تناقض أوضاعنا القومية. لقد صمد المغرب مدة قرن وأكثر لأشد أنواع الاستعمار هولا ووحشية، الاستعمار الفرنسي الغاشم الذي كانت خطته إبادة العرب في الشمال الافريقي وإلحاق هذه البقعة العربية الغالية بالارض الفرنسية. وكان المغرب طوال تلك الحقبة يكافح وحيدا اعزل، لا يدري به العالم، ولا يستطيع عرب المشرق الخاضعون مثله لنير الاستعمار أن يمدوه بأي عون. وفي السنوات الاخيرة، أستأنف المغرب معارك حريته مؤملا في عون الجامعة العربية ودولها المستقلة، الا انه لم يلق غير الوعود والجحود.
إن الشعب العربي مؤمن بوحدة مصيره وبضرورة توحيد نضاله كشرط أساسي لتوحيد أقطاره في المستقبل القريب. فما هي العوامل والاسباب التي تؤدي الى تشويه ارادته على هذا الشكل الذي نرى فتجعل جهوده تتبعثر بدلا من ان تتوحد، وقواه تتناحر بدلا من ان تنسجم؟ ذلك ان وحدة النضال التي نحاول تحقيقها عبثا، لا تكون ممكنة الا بنضال الوحدة أي بتكوين عقيدة واضحة عن الوحدة العربية تصبح الموجه الاول لتفكيرنا، والناظم الرئيسي لكل ناحية من نواحي نضالنا.
يحسب الكثيرون أن فكرة الوحدة العربية فكرة بديهية قد تتهيأ كل الشروط في مجتمعنا لانتشارها ونجاحها، والواقع انها اقل الافكار وضوحا وأكثرها صعوبة وان كل شيء في واقعنا يعاكسها. فواقعنا المتأخر المتردي قائم على احدى الدعائم الكبرى للتأخر والتردي، الا وهي التجزئة، يفكر بعقلية التجزئة ويعمل بدوافعها حتى عندما يفكر بالوحدة ويعمل لها.
وليس أشد الافكار خطرا على الوحدة العربية هي الافكار الاقليمية والشعوبية الصريحة المفضوحة، انما هي الافكار التي يروجها دعاة الوحدة الرائجة، أي “وحدويو التجزئة”.
فكرة الوحدة العربية هي الفكرة الانقلابية بالمعنى الصحيح، لا يدانيها في انقلابيتها التحرر من الاستعمار على ما فيه من جدية وقسوة، ولا التحرر الاجتماعي الاشتراكي الذي يصدم في المجتمع أضخم المصالح وأقوى العادات والنظم. ذلك ان التحرر الخارجي يستفيد من عاطفة الشعب السلبية المباشرة، والتحرر الاجتماعي يعتمد على مصلحة الشعب المادية المباشرة، وكلا التحررين الخارجي والاجتماعي يلتقيان باتجاه هذا العصر السائر في طريق تصفية الاستعمار والاستثمار الطبقي. في حين ان فكرة الوحدة لا تحمل في طياتها أي معنى من معاني السلبية، ولا تتراءى فيها المصلحة المادية الا جزئية آجلة غير مباشرة، فهي ايجابية كلها، وروحية قبل ان تكون مادية، وإرادية أكثر منها عفوية، تغالب السهولة والمصالح الآنية، وتخاطب العقل والايمان العميق وتطلب التضحية بالحاضر في سبيل المستقبل وتقتضي تهيئة جدية، وتربية جديدة.
يعتبر وحدويو التجزئة الوحدة شيئا آليا يبلغ بالتوحيد السياسي عندما تتهيأ الظروف وتسنح الفرص، وانها لا تحتاج إلى تهيئة سابقة اللهم الا التهيئة السياسية بالمفاوضات والمناورات. وأما التهيئة الفكرية فلا تعدو أن تكون -في أحسن الاحتمالات- تبشيرا عاما بالوحدة يتسع لشتى الارتجالات والتناقضات. وفي حين تمسي الوحدة في نظر هؤلاء هذا الشيء الآلي السطحي المشوش الذي تعوزه الجدية ويأتي في أدنى درجة من درجات الاهمية بالنسبة الى المشاغل القطرية التي تستأثر عمليا باهتمامهم كله، فان الوحدة في نظرنا فكرة اساسية لها نظريتها كما للحرية والاشتراكية نظريتهما، ولها مثلهما نضالها المبدئي اليومي المنظم المستمر، ومرحلها العملية التي تزيد في قوة النضال وتمهد الطريق للنصر الاخير.
جميع الاحزاب العربية تقول بالوحدة العربية، وكذلك الحكومات، ومع ذلك فان هذه الاحزاب المتماثلة الهدف لا تلتقي ولا تتعاون، اما الحكومات فانما تلتقي لكي تتخاصم. ذلك لان الاحزاب والحكومات تعتبر الوحدة العربية محصلة ونتيجة لنضال كل قطر من أجل حريته ونهضته، في حين ان العكس هو الصحيح. فحرية كل قطر عربي ونهضته هما محصلة ونتيجة لنضاله من اجل الوحدة. فالايمان بالوحدة والنضال في سبيلها هما اللذان، بتوجيههما نضال القطر وجهوده الوجهة الصحيحة، أي بتذكير القطر باستمرار انه جزء من كل، لا كل قائم بذاته، يجعلان من حرية القطر حرية سليمة أي خطوة ووسيلة الى حرية مجموع الامة، لا انفصالا وعقبة في طريق هذه الحرية الشاملة، ويرسمان لنهضة القطر ملامحها وحدودها لتكون تهيئة وتمهيدا للنهضة العربية العامة دون تبذير او تصادم في الجهود والمصالح.
ان اهداف العرب الكبرى (الحرية والاشتراكية والوحدة) تشكل كلا لا يتجزأ ولا يجوز فصل بعضها او تأجيله عن بعضها الاخر. وهذا يكفي للقول بأننا نفهم من الوحدة العربية غير ما ينشده بعض العاطفيين الخياليين الذين يعتقدون بامكان توحيد العرب في ظل السيطرة الاجنبية، او بعض النفعيين واصحاب المصالح الكبرى الذين يأملون من وراء التوحيد تدعيما للحكم الرجعي الذي يستطيع ان يحمي مصالحهم من ثورة الجماهير.
وتبعا لهذا المنطق نفسه -منطق وحدة الاهداف القومية وتداخلها- فان ارتيابنا بأولئك الذين يحسبون أن شيئا جديا صادقا من الحرية والاشتراكية يمكن أن يتحقق في نطاق القطر الواحد ليس اقل من ارتيابنا بدعاة الوحدة الخياليين او النفعيين. انها دعوة مشبوهة تلك التي تحاول ان تسبغ على الاستقلال القطري، صفات الاستقلال التام الكامل، لتجعل منه مرادفا للانفصال وعقبة في طريق الوحدة القومية. وهي نظرة ضالة سطحية تلك التي تسمي الاصلاحات الجزئية التي تحققها بعض الاقطار ثورة وانقلابا، في حين انه لا ثورة جدية الا في نطاق الامة العربية الواحدة.
ان الحرية التي يطالب بها حزب مصري او عراقي، والاشتراكية التي يعمل لها حزب سوري او لبناني هما غير الحرية والاشتراكية التي تحتاجها وتقدر على تحقيقها الامة العربية كأمة ذات تراث حضاري واستعدادات وامكانيات لنهضة جديدة أصيلة. فالحرية التي يسعى اليها كل قطر عربي على حدة لا يمكن ان تبلغ من العمق والشمول والمعنى الايجابي ما تبلغه الحرية التي تنزع اليها الامة العربية عندما تضع مصيرها ومصير الانسانية موضع التساؤل، كما ان الاشتراكية التي تتقلص وتتشوه في حدود القطر الواحد، حتى تقتصر على اصلاحات جزئية خادعة، تأخذ كل مداها النظري والتطبيقي عندما يكون مجالها الوطن العربي كوحدة اقتصادية وكوحدة شعبية نضالية.
ان امكانيات الامة الواحدة ليست مجموعا عدديا لامكانيات أجزائها في حالة الانفصال، بل هي اكثر في الكم، ومختلفة في النوع. فالثراث العربي القديم لو وقع على كاهل قطر بمفرده، اما ان يقف منه هذا القطر موقفا ايجابيا فينوء تحت عبئه ولا يخرج منه بغير الغرور والابهام، واما ان يقف منه موقفا سلبيا فيتنكر له ويحرم من فوائده ومن كل صلة حية بماضيه فنفسية التجزئة هي التي تفسر الى حد بعيد ليس فوضى الاتجاهات المتنافرة المتناقضة فحسب، بل ايضا سلبية هذه الاتجاهات وعجزها عن كل بناء. هي نفسية الفرار والعجز، فرار الى التوسع الوهمي (كالاممية الشيوعية والدينية) او التقلص الصنعي (الاقليمية السورية واللبنانية والمصرية). كأن ربط العرب بعجلة عالم اوسع من عالمهم يغنيهم عن التحرك الذاتي او كأن الجهد الروحي الذي يبذل لبعث الحياة في قسم منهم لا يكفي لبعثهم جميعا. أما نفسية الوحدة فهي التي تحمل مسؤولية التراث السلبي دون تبرم، وتتفتح لخيرات التراث الايجابي دون غرور. نفسية التجزئة (تحلم) بالثورات الصاخبة العاصفة، وتقنع بالاصلاحات الرخيصة والترقيعات الهزيلة المضحكة، (تتكلم) عن المبادئ والقيم الروحية وتعني اقتسام المناصب والدفاع عن زعامة الاحياء والقرى.
فلم يعد اذن عمل الاحزاب القطرية والحكومات مرحلة توصل الى الوحدة بل اتجاها جديدا وطريقا مختلفا يبعد عنها ويضعف امكانياتها. والوحدة ليست عملا آليا تتم من نفسها نتيجة للظروف والتطور، فالظروف لا تخدمها والتطور قد يسير معاكسا لها، نحو تبلور كاذب للتجزئة. فهي بهذا المعنى فاعلية وخلق، ومغالبة للتيار، وسباق مع الزمن أي انها تفكير انقلابي وعمل نضالي.
ان هجوم الاستعمار والصهيونية يكاد يتركز على الوحدة العربية، هذا هو الهدف الذي يلتقي عليه الاستعمار الغربي والاحزاب الشيوعية الستالينية (وهو ما يفسر اتفاق الطرفين على خلق دولة اسرائيل كحائل كبير في طريق الوحدة) ولا يحتاج الاستعمار الى تدخل مباشر لتزييف الاستقلال والديمقراطية والتقدمية فالتجزئة كفيلة بذلك ما دام وضعها ومنطقها يغريان كل جزء بأن يستغلها لبلوغ بعض الفوائد الخادعة على حساب الاجزاء الاخرى، وهكذا فبالرغم من وحدة حاجات الشعب العربي في جميع اقطاره فان معظم نضاله يهدر ويبعثر، لان دماءه التي تسيل في مكافحة الاستعمار في بقعة تستخدم وسيلة للمساومة على صفقة سلاح او زيادة ارباح شركة في بقعة اخرى، ولان (الديمقراطية) في قطر تهلل للدكتاتورية في قطر آخر، ولان (الجمهورية) يحميها الملوك… فمنطق التجزئة لا يمنع الحركات المتماثلة في الدول العربية من التوحيد والتعاون فحسب، بل يدفعها الى التعاكس والتناقص. وهكذا نصل الى هذه النتيجة: لا يحقق الشعب العربي وحدة النضال، ما لم يمارس نضال الوحدة.
في الايام الجدية العصبية، اذ يشتد الخطر وتنزل المحن وتتعاظم التضحيات، تحظى الامة بلحظات خاطفة نادرة، تسترد فيها وعيها لمصيرها الحقيقي، ويصبح الجو النفسي العام اكثر ملاءمة وتقبلا لموقف التجرد وكلمة الحق. وعسى أن تكون البطولة الشماء والايام الدامية التي يحياها قسم من شعبنا في المغرب العربي وخاصة في الجزائر، مناسبة صالحة وثمنا كافيا لبعض الحق والتجرد يدخلان جونا ويساعداننا في مختلف أقطارنا على النظر الى مصيرنا بمنظار جديد يهيئ لنا سبيل تحول أساسي في تفكيرنا وعملنا.
آب 1955
(1) خطاب القي في مهرجان بوم الجزائر ني مقهى الرشيد، دمشق.
نظرتنا للوحدة العربية الوحدة والنضال الشعبي
ايها الاخوان: بدأ حزبنا قبل خمسة عشر عاما، ونادى بفكرة، اعتقد بأنكم تعرفون خلاصتها، والوحدة العربية أبرز شيء فيها. وبالرغم من أن حلم الوحدة يراود العرب جميعا في مشرقهم ومغربهم الا ان الكثيرين حتى من المثقفين ومن العاملين في الحقل القومي كانوا ضعيفي الإيمان في أمر الوحدة، وكانوا ينسبون الى دعوتنا “الخيالية“، ويعتبرون بأننا نطالب بأشياء نظرية، وان هذا الحزب المؤلف من شباب وطلاب لم يختبر الواقع ولم يعرف حدود الامكانيات وحقيقة الصعوبات، لذلك فهو يستسهل الارتجال وطرح المطالب الصعبة. ولكن اليوم بعد خمسة عشر عاما أعتقد بأن أكثر الذين كانوا يأخذون علينا هذا التطرف في المطالب عرفوا بالتجربة بأننا لم نكن حالمين ولا متوهمين، وان الوحدة العربية ليست مجرد حلم وخيال بل حقيقة حية سائرة في طريق التحقيق، وانها قد قطعت شوطا كبيرا في هذه السنوات، ولكن أمامها أيضا أشواطا كثيرة.
لكي أقرب الى أذهانكم هذا الموضوع لا بأس من أن أذكر لكم كيف يتصور بعض الساسة والمثقفين فكرة الوحدة العربية وأسلوب تحقيقها، وكيف أننا خالفنا هذا التفكير منذ البدء.
تعرفون بأن البلاد العربية طرأ عليها منذ قرون عدة تفكك وانحلال. ولسنا بحاجة الآن للرجوع الى التاريخ. والمفروض أنكم تعرفون هذه الاشياء. اذن عاش العرب مئات السنين مجزئين سياسيا الى أقطار ودويلات متنافرة، وفقدوا في كثير من أقطارهم سيادتهم، وفقدوا -حتى في الاقطار التي احتفظت بالسيادة– فقدوا الابداع، ملكة الابداع، ملكة التقدم والحضارة، أي أن المجتمع انتابته عوامل الجمود والتفكك فلم يعد قادرا على ان يتابع التقدم، فصار ينحل شيئا فشيئا ويعيش عالة على غيره.. على حضارة الآخرين، أو على بقايا حضارته القديمة. ففي هذه الحالة الوحدة المفقودة هي الوحدة القومية وليست الوحدة السياسية، لأن الوحدة السياسية، نتيجة، ولكن المهم في مثل هذه الحالة أن العرب في المشرق والمغرب لم يعودوا يشعرون انهم أمة واحدة.. الشعور العميق الجدي، الشعور الايجابي، وبالتالي لم يعودوا يشعرون بمسؤولية رسالة لهم في الحياة، وفي التاريخ. تكونت الأنانيات وتراكمت المشاغل المادية والنفعية والآنية على نفوسهم. ولم يفقدوا كل شعور بالرابطة القومية لانهم ظلوا يشعرون ويعرفون بأنهم كانوا قديما أمة واحدة، ولهم دولة واحدة، وانهم مازالوا يتكلمون لغة واحدة، ولا يزال في مجتمعهم بعض التقاليد والعادات المشتركة، هذا طبعا بقي، الا ان العناصر الايجابية فقدت، لان الوحدة الحقيقية لا تكون بالتشابه السلبي: أن يتشابه الجميع بالتأخر، بالجمود، بالأمراض.. الوحدة الحقيقية هي وحدة ايجابية: أن يتشابهوا بالعمل، القدرة على العمل والانتاج، أن يتشابهوا بنظرة دائمة مبدعة للحياة تتجدد دوما وتوحي لهم بالاعمال المستمرة في شتى الميادين.
ففي مطلع قرننا هذا كان فقدان الوحدة الروحية هو الأساس الذي يجب أن ينصب عليه التفكير لإعادة الوحدة القومية والسياسية. لكن السياسيين والمفكرين السطحيين يأخذون المظاهر والنتائج دون ان ينفذوا منها الى الاسباب والاسس والاعماق. يظنون ان وحدة العرب مرهونة بالقوة المادية، بالقوة العسكرية، بقوة دولة من دويلاتهم، تستطيع أن تفرض سلطتها على الآخرين وتوحد شتاتهم. هذا ما خلفناه نحن عندما نظرنا إلى الأسس: بأنه لا يمكن تحقيق الوحدة العربية تحقيقا جديا ومتينا وصامدا للزمن الا اذا حدث انبعاث روحي في المجتمع العربي. أي –بكلمة مختصرة– الا اذا عاد العرب فشعروا بأنهم لم يوجدوا عبثا في الحياة، ولم يوجدوا ليعيشوا على فضلة الآخرين، وليكونوا عبيدا للآخرين، وليكونوا أفرادا وجماعات متنافرة تتنافس على المادة والنفع الحقير، انما وجدوا –ككل شعب– ليعطوا خير ما في نفوسهم وعقولهم، ليعيدوا للحياة ما أعطتهم اياه، ليعبروا أكمل تعبير عن إنسانيتهم، ليرتفعوا فوق المشاغل الحقيرة وفوق الأنانية وفوق النظرة التي لا تؤمن بالقيم والخلود، ليرتفعوا الى مستوى روحي يصهر نفوسهم من جديد وينسيهم خلافاتهم ويبدل ضعفهم قوة ليشعروا بأن عليهم مسؤولية جدية تامة بأن يحرروا أنفسهم ليحرروا غيرهم، وأن يرتفعوا بأنفسهم، بمستوى معاشهم، بنظام مجتمعهم، ليستطيعوا فيما بعد أن يغنوا المجموع البشري بقدرتهم وكفاءاتهم. لذلك تصورنا الوحدة العربية تصورا انقلابيا ثوريا.لم نتصورها تصورا سياسيا بأنها جمع اعداد… جمع كميات بعضها الى بعض، لان الاشياء الميتة اذا جمع بعضها الى بعض فلا تنتج حياة، ولكن اذا حركنا الروح.. بعثنا الروح في هذا الشعب.. في هذا المجتمع، عندما يكون الجمع مجديا ومقويا، وعندها يكون الجمع ممكنا. اذ لا امكان للتوحيد في حالة التأخر والجمود وهبوط الروح. لا يمكن ان يتحد اثنان اذا لم يكن فيهما بذرة مهما تكن بسيطة من النزوع الروحي ليعرفا ان في الحياة شيئا أثمن من الانانية المحضة، وبالتالي يمكن أن يجتمع اثنان في سبيل غاية مشتركة أعلى من أنانية كل منهما على حدة.
فالوحدة العربية في نظرنا اذن هي نتيجة للانقلاب الروحي في المجتمع العربي، وهي ايضا في نفس الوقت سبب من أسباب هذا الانقلاب. هي نتيجة له، ولكن هي بحد ذاتها يمكن ان تكون دافعا مثيرا من دوافع الانقلاب، لذلك لم نقل مع القائلين: لنسع أولا الى إصلاح حال كل قطر، وبعد أن تصلح أحوال هذه الاقطار عندها تجتمع. لم نقل هذا القول، لان القطر الواحد –الجزء– اذا لم يعرف منذ البدء بأنه جزء فقط وبالتالي بأنه ناقص، وبأنه عاجز ومفتقر الى ما يكمله، وانه لا تستقيم حياته ولا تستقيم نظرته الى الحياة اذا لم يتصور نفسه حلقة في سلسلة، وجزءا من كل، وعضوا في جسم كامل، وان لهذا الجسم معنى في الوجود ورسالة في الحياة، فلا يستطيع القطر أن يصلح شؤونه اصلاحا عميقا. لذلك كان علينا ان نبدأ من البدء بإثارة فكرة الوحدة ليس فقط على نطاق التبشير ولكن في النضال والعمل. ونحن عارفون أن التحقيق النهائي للوحدة يتطلب وقتا ومشقات، ونعرف أن بين الاقطار العربية تفاوتا في الاوضاع والظروف الخارجية والداخلية، ونعرف أن الوحدة تتحقق على مراحل.. كل ذلك ندركه ولكن رغم ذلك وجدنا أن من الضروري ان يقترن نضال كل قطر في سبيل مشاكله الخاصة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، بفكرة الوحدة والنضال من أجلها، ليعرف كل قطر عندما يبدأ بتطوير حياته واصلاح شؤونه ان مهمته أعظم بكثير من مهمة هذا الجزء وان التصميم او الخطة التي سيضعها لتطوره ولنهضته ايضا يجب ان تكون جزءا من كل… ان يعرف بانه وجد ليتمم الاجزاء الاخرى وان يحسب لها حسابا.
هنالك نظرة سقيمة منحرفة وخطرة عرضت لجانب منها، وهناك جانب آخر هو نظرة السياسيين المعروفين: بأن الوحدة العربية او الرابطة العربية ليست شيئا ينبعث من أعماق حياة العرب في كل اقطارهم، وانما هي نقاط التقاء مشتركة بين هذه الاقطار، أي ان كل قطر: سوريا، مصر، العراق، تونس، مراكش، الجزائر، كل قطر له حاجاته، له مشاكله عليه ان يعالجها، ثم في مستوى اعلى من مستوى المشاكل الخاصة بكل قطر، توجد مواضيع مشتركة يمكن ان تلتقي عليها الاقطار العربية كلها او بعضها.
والواقع –كما تعرفون– ان هنالك نوعين من التجمع، تجمع الاقطار العربية المشرقية وتجمع الاقطار العربية المغربية وعلى هذا الاساس قامت الجامعة العربية: ان بين اقطار الشعب العربي بعض النقاط المتشابهة في السياسة، أحوالهم متشابهة يمكن ان يجتمعوا ليبحثوا هذه الشؤون في الاقتصاد ويتعاونوا في الثقافة وهكذا. هذا معناه ان كل قطر بشخصيته الخاصة ومشاكله الخاصة هو الأصل والأساس وانه في الفروع… في النتائج… في أمور سطحية ليست عميقة يمكن ان يلتقي مع الاقطار كلها أو بعضها.
مثل هذا الالتقاء قد يقع بين الشعوب مختلفة، لا تتكلم لغة واحدة ولا ترجع الى اصل واحد، موجودة في قارة او جزء منها، تفرض عليها ظروفها ان تتعاون، وهذا ما يريد الاستعمار ان يحدث في الشرق الاوسط.. في الأقطار العربية المشرقية.. تعاون سطحي في بعض أمور لا تنفذ الى صميم حياة الشعب، ولأن هذا التعاون سطحي فان فائدته ستذهب الى الاستعمار، وليس الى أهل البلاد. لذلك كان الاستعمار هو المحرض على انشاء الجامعة العربية، هو المقترح لها، ولم يخَفْ عواقبها. والاستعمار يعاود الكرة دوما لكي يوجد تعاونا اقتصاديا وعسكريا بين هذه الاقطار بشرط أن يكون هو حاضرا فيها لكي يستغلها.
هذا تصور خاطئ للوحدة –ليس خاطئا فحسب بل ضارا– لاننا نكون بهذا الشكل أعطينا شرعية وترسيخا للتجزئة، وسمحنا لعناصر الاختلاف والتباين الموجودة في الأقطار ان تنمو وتتوسع. وهكذا تكون الجامعة ستارا حاميا للتجزئة، للتفرقة، للتباين، في ظله تنمو التجزئة في امان، وهذا ما يريده الاستعمار لنا: بأن نصل الى زمن نتناكر فيه، ينكر بعضنا البعض الآخر وينادي كل جزء بشخصيته الخاصة التي لا يمكن ان يتنازل عنها ونعيش في تناحر وتنافس.
النظرة الصحيحة الى الوحدة –في اعتقادي– هي ان يكون أساس النهضة العربية الجديدة، أساس الانقلاب العربي المنشود، قائما على هذا المبدأ الذي لا يجوز التفريط فيه او التهاون فيه: بأن العرب أمة واحدة، وبأنهم في أي جزء من أجزائهم، وفي أي مشكلة تعترض أي جزء يجب ان يشعروا أو يفكروا ويعملوا بهذا الواقع، بهذا التصور، بأنهم ان لم يكونوا عمليا موحدين فانهم روحيا موحدون، وانهم يعالجوا مشاكلهم على أساس انهم سائرون نحو الوحدة ويعملون لها بجد وبنضال. فحزبنا في سورية مثلا، وهذا ينطبق عليه في كل الاقطار التي له فيها فروع، بدأ حياته منذ تأسيسه وبدأ بنضاله يعالج مشاكل الشعب في الجزء الذي وجد الحزب فيه ولكن على أساس عربي. لما بدأ الحزب في سوريا كان يناضل ضد الاستعمار الفرنسي ولكنه في كل خطوة خطاها في نضاله ضد الاستعمار كان يذكر الشعب بأن هذا الجزء هو جزء من كل.. من الوطن العربي، وان الاستعمار موجود في أجزاء أخرى، وان طرده من هنا واضعافه سيساعد الاقطار الاخرى على التحرر، وان بقاءه هنا في سورية يساعد الاستعمار على الضغط والاستبداد باخواننا في أقطار أخرى. وهذا الشيء متجسم في سورية لان فرنسا كانت تحرص على سوريا بصورة خاصة ليسهل استعمارها للمغرب وليطول أمد هذا الاستعمار، ولكي تضمن عدم وصول حركات وأفكار التحرر والمساعدات الاخوية من عرب المشرق إلى المغرب اذا هي ضمنت سيطرتها في هذه البقعة.
وبعد الانتهاء من مرحلة الاستعمار في سورية واجهنا مشكلة اخرى لم نكن نجهلها قبلا، ولم نسكت عنها كل السكوت زمن الاستعمار، ولكن لم نستطع أن نعطيها حقها من المعالجة ما دام الاستعمار هو العدو الاول: مشكة الطبفة الحاكمة او الفئة المتزعمة. فبعد التخلص من الاستعمار الفرنسي هنا وجه الحزب نضاله ضد هذه الطبقة لأنها كانت زمن الاستعمارية سببا في استمرار بقائه، لانها زيفت النضال، وأضعفته عندما تزعمت النضال وساومت الاستعمار مرارا عليه. دعت الشعب الى النضال، وما كان الشعب ليخطو خطوة او خطوتين حتى كانت هذه الفئة نفسها توقفه في منتصف الطريق، وتخاف من جموحه واسترساله في النضال واظهار كل قواه وامكانياته، لانها كانت مهددة في مصالحها وفي زعامتها. وآخر الامر تغلب الشعب على الاستعمار وعليها وعلى مساومتها، فوجدت ان تحل محل الاستعمار في حكم البلاد متذرعة بتضحياتها زمن النضال الوطني، وبأسبقيتها في مقاومة الاستعمار وغير ذلك.
ولا اعتقد انكم بعد كل هذه التجارب التي مرت على العرب في عشرات السنين الماضية، لا اعتقد انكم تجهلون حقيقة ادعاء هذه الطبقة التي هي ذاتها في كل قطر عربي، الوجهاء، الاغنياء، الزعماء التقليديون، والني تقاوم الاستعمار كمنافس ليس كمستعبد للوطن والامة: وانما كمنافس على الزعامة والاستثمار، وترضى منه بالمشاركة في كثير من الحالات.. أن تقاسمه المنافع والزعامة. ولما استطاع نضال الشعب أن يخرج الاستعمار من هنا انفضحت هذه الطبقة انفضاحا تاما، وظهر مفهومها للنضال والوطنية لأن نوعا من البيع والشراء حصل، لأنها دفعت الفلس لتأخذ مئة، وانها تعبت سنة لترتاح عشرين، وانها ضحت ببعض المنافع وحرمت من بعض المناصب لكي تستأثر فيما بعد بالحكم ومنافعه، ونظرتها إلى الشعب نظرة احتقار وتضليل لا تقيم له وزنا، ولا تشركه في قضيته ولا تطلعه على سياسة البلد، تسيره بالبطش تارة وبالحيل والاكاذيب والتضليلات تارة اخرى. فهل كنا في نضالنا ضد هذه الطبقة.. هل كنا نعمل لسورية كبلد قائم بذاته مستقل، لا تصله بالبلاد العربية صلة..؟.. كلا.. كنا نعرف ان نضالنا ضد هذه الطبقة هو نضال ضد مرض واحد ابتلي به العرب في كل أرضهم، واننا اذا نجحنا في تغيير هذه العقلية وهذه الاساليب في الزعامة والحكم، وفي تهديم القيم القديمة التي تجيز استعباد الشعب وخداعه واستثمار، وخلقنا قيما جديدة تعترف للشعب بالحقوق الكاملة، بالاحترام، وبأن يكون له الحق في الاطلاع على شؤونه وفي ممارسة تصريف هذه الشؤون.. عندما ننجح في تهديم هذه العقلية القديمة وخلق عقلية جديدة نكون قد قدمنا للعرب عامة تجربة وقدرة.
هذا لم يكن مكتوما، بل اعلناه. قلنا ان هذه الطبقة واحدة، وهذه العقلية واحدة في كل وطننا –عقلية الانحطاط والتأخر– ويجب ان تزال. وعندما قاومنا الدكتاتورية العسكرية لم نكن نعالج حادثا اقليميا وانما ظاهرة عربية، لأننا نعرف بأن وطننا العربي يمر في مرحلة تاريخية يتدرب فيها على الحكم من جديد، يتدرب على الاستقلال بعد ان أضاع قياد نفسه مئات السنين، فاذن هو معرض، هذا الشعب العربي في كل بقعة، ان يضلل وان تغريه الأفكار الخاطئة السطحية عن الحكم العسكري والابطال المغامرين الاقوياء، علينا أن نفضح هذه الخرافة، ونفع هذه التجربة سيعود على كل العرب.
علاوة على اننا كنا في هذا النضال سواء زمن الفرنسيين او زمن الحكم الوطني او زمن الدكتاتورية، نجد رابطة بين الاشياء التي نقاومها وبين المصلحة العامة. قلت لكم ان الفرنسيين جاؤوا الى سورية ليضمنوا بقاءهم في المغرب والدكتاتورية العسكرية قد ساومت على قضية المغرب من أجل صفقات سلاح وخذلت قضية تونس وهي في ابان نضالها المسلح قبل أربع سنوات، ومنعت كل تأييد وكل تظاهر وكل معونة وكل حدث في سبيل نصرة النضال في المغرب فكانت مقاومتنا للدكتاتورية ليس فقط لانها تبطش بالشعب العربي في سورية وليس لأنها تبتز أمواله، بل وبصورة خاصة لانها أجازت لنفسها ان تساوم على قضية قومية خطيرة.
تجدون اذن ان المصلحة العربية واحدة لا تتجزأ، وانها ليست كما يتصورها او كما يريد ان يتصورها الاجانب والسياسيون التقليديون في بلادنا: المصلحة العربية هي بعض أشياء مشتركة سطحية.. وانما هي في صميم نضال كل قطر، وبالتالي ان الوحدة العربية ليست مرحلة من نضالنا يمكن ان نوقتها فنقول: بعد ان ننتهي من الاستعمار في القطر الفلاني، وبعد زوال الاقطاع في قطر آخر والدكتاتورية في قطر ثالث نفرغ للوحدة. العمل للوحدة يبدأ منذ البدء والاستعمار موجود والاستغلال الاقطاعي موجود والحكم الرجعي الانتهازي موجود. علينا ان نوضح للشعب العلاقة بين مشاكله الجزئية وبين أساس المشاكل كلها: المشكلة القومية.
اذا أردنا أن نجيب على سؤال: ما هي الخطوات العملية نحو الوحدة العربية؟ فجوابنا هو بالدرجة الأولى والاهم هذا الذي ذكرت:
النضال الموحد. فالوحدة العربية قبل ان تصل الى طور التحقيق السياسي والانشائي يجب ان تبنى في جو النضال.. في صميم النضال.. ولا يجوز لنا ان نغفل هذه الناحية، وهذا ما يريد السياسيون ان يغفلوه لانهم لا يريدون الوحدة لأنها تقضي على زعاماتهم.. لأنها تطيح بهم وتخلق مستوى رفيعا من الوطنية والوعي والانتاج عند الشعب لا يعود متلائما مع وجود هذه الزعامات البالية، فهم يريدون تثبيت التجزئة.. يصورون الوحدة ان دورها لم يأت بعد.. الواقع هو ان دور الوحدة موجود دوما. اقطار المغرب العربي التي عرفت من ألوان الاستعمار وثقل ضغطه وبطشه ما لم تعرفه الاقطار الاخرى، وربما ما لم يعرفه بلد آخر في العالم.. هذه الاقطار اذا قدرت لها قيادة واعية مخلصة –وهي موجودة لا شك– فانها تستطيع ان تعمل للوحدة والاستعمار مسلط فوقها، اي ان تبني نضالها على اساس الوحدة. هذا لا يمنعها من معالجة مشاكل المغرب كما لم يمنعها من معالجة مشاكل سورية. ولكن بهذه الروح يجب ان يكون النضال.
فنحن اذن واضحون جدا في هذه النقطة. الوحدة العربية هي قبل كل شيء نضال ووحدة في النضال، ثم، كمستوى آخر قد يرافق هذا المستوى الاول وقد يتبعه، تأتي ظروف تكون فيها شروط بعض الاقطار السياسية والاجتماعية مهيأة لان تخطو خطوات انشائية في سبيل الوحدة مع متابعة النضال. وحدة النضال يمكن ان تنشئ بين اقطار علاقات توحيدية في السياسة والاقتصاد والشؤون العسكرية.
وهذا ممكن ومتيسر في اقطار الشرق العربي، ولو كانت للفئات الحاكمة في الشرق العربي عقلية متحررة ومؤمنة وواثقة بالشعب وبعيدة عن المصالح الخاصة، المصالح الطبقية، لحققت خطوات جديدة في طريق التوحيد منذ زمن. ولكن هناك مجالات سياسية تتطلب دقة، وحيطة وحذرا، لا يجوز ان تتوحد السياسة وهناك استعمار في الداخل ونفوذ استعماري، ولكن يمكن ان يتوحد الاقتصاد، وان تتوحد الثقافة. فنرى نحن بأن كثيرا من الاشياء يعجز عنها الحكام او يتهربون منها لا لأن الاستعمار يحول بينهم وبيننا بل لأن مصالحهم تحول بينهم وبينها، او لأن عقليتهم المتأخرة تمنعهم من تحقيقها.
الشيء الذي يهمنا جميعا الآن هو نضال المغرب ووحدة المغرب، فعلى الاساس الذي وصفناه اقول بأن وحدة المغرب لا يمكن ان تتحقق الا في وحدة نضاله، وأي تجزئة لنضال المغرب ستمنع في المستقبل التوحيد السياسي والاقتصادي. فالوحدة السياسية هي التي تتم في النضال. لأن النضال هو الحياة الصحيحة للعرب، ككل امة فقدت قياد نفسها في الماضي وتأخرت وتريد ان تستأنف سيرها، تريد ان تنهض. الحالة السليمة التي تعبر عن حقيقة الامة هي النضال. خذوا العرب بدون نضال، تروهم بين الشعوب المتأخرة. وخذوهم في حالة النضال: هم في مستوى أرقى الأمم.
النضال هو المعبر الصحيح عن الامة. فاننا في النضال نبني أسس حياتنا المقبلة، في النضال تزول عوامل الانحطاط، في جو النضال الجدي لا يبقى نفع خاص، ولا تبقى مادة، ولا يبقى تنافس حقير، ولا تبقى انانيات. لأن النضال يبني مستوى جديدا اما ان ترقى اليه النفوس او تسقط من الحساب. ومن ناحية عملية، لا يخفى عليكم ان تجزئة النضال اكبر سلاح بيد الاستعمار، وان حيلة الاستعمار التقليدية –في الماضي والحاضر– عندما يغلب على امره، عندما تثور الشعوب في وجهه، ان يلجأ الى التفريق.
خذوا أمثلة من حالة الشرق العربي: الاستعمار عندما يتراجع امام ثورة الشعب في قطر عربي، امام هذه الموجة الطاغية من الوعي والاستبسال في التمسك بالحقوق، حقوق السيادة والحرية، يكون محتارا بين امرين: اما ان يقاوم الى النفس الاخير، هذا يكلفه مالا وأرواحا وسمعة سيئة في العالم، واما ان يلجأ الى الحيلة فيسلم للشعب بالاستقلال، ولكن قبل ان يعطي الاستقلال يسحب منه حيويته.. يشترط الانفصال، وهذا ما حدث في السودان وفي سورية ولبنان. الدول الاستعمارية وافقت على الاستقلال في سورية ولبنان بشرط التجزئة. وأوجدوا لهم الجامعة العربية، كل دولة تنافس الاخرى، وتضع العراقيل في سبيل أبسط المشاريع التوحيدية. حتى ان الجامعة التي مضى على تأسيسها احدى عشرة سنة لا تزال مشاريع بسيطة جدا نائمة في مكاتبها، كالغاء الجوازات والغاء الرسوم الجمركية، وهذه اشياء تتحقق اليوم بين أمم متباينة كانت بالامس يحارب بعضها بعضا: لم يعد بينها جمارك وجوازات. ولكن الجامعة تعقد اجتماعات وتدرس ولا تنفذ، لأن الاستعمار الذي شعر بضعفه في هذه البلاد وجد هذه الحيلة: ان يعطي استقلالا شكليا فاقدا لأكثر نواحيه الايجابية المبدعة، عندما يجرد هذه اليلاد من الوحدة.
لذلك وبعده هذه التجارب المرة التي عانيناها لم نستطع السكوت على ما يجري في المغرب من تجزئة للنضال بفعل الاستعمار والذين يوافقونه من السياسيين الانتهازيين، لأننا نعرف قصة هذه السياسة ونتائجها.
عام 1956
وحدة النضال في المغرب العربي
ابتدأ الحديث(1) بتوجيه السؤال التالي: الاقطار المغربية الثلاثة تختلف أحيانا في مراحل الكفاح.. هل من الاحسن ان تتوحد الشعوب فيها قبل الاستقلال ام بعد الاستقلال؟
نظرتنا نحن بأن كفاح الشعب العربي في كل اقطاره واحد، ويجب ان يكون موحداً اي ان تكون له نظرة واحدة، واهداف واحدة وخطة عملية واحدة، وبالاحرى ان تكون نظرتنا الى كفاح الشعب العربي في المغرب هي نظرة التوحيد لانه لا شك ان بين الاقطار العربية المختلفة بعض الفروق في الاوضاع الداخلية وخاصة الخارجية، وهذه الفروق ليست في رأينا مما لا يمكن التغلب عليه من اجل توحيد النضال، ولكن حتى مع التسليم جدلا بفائدة مراعاة هذه الفروق وبالتالي مع التسليم بامكان التدرج في توحيد النضال -اي ان نصل بعد مراحل وتدريجيا الى توحيد نضال العرب كلهم- اعتقد ان لا احد يستطيع ان يجادل في ضرورة توحيد نضال المغرب كله لان اوضاعه واحدة لا فرق بين اقطار المغرب الثلاثة لا في الداخل ولا في الخارج..
اما اذا فهمنا من الفروق اكثر مما تمثل هذه الكلمة، واغرقنا وبالغنا في اعطاء الاهمية للفروق، عندها سنجد فرقا بين مدن سورية وعندها يتعذر كل عمل. اذا رضينا ان نسترسل في طريق التفريق والتمييز واعطاء الاهمية للفروق فان في ضمن القطر الواحد، فروقا بين منطقة واخرى، وهذا الاسترسال في التمييز في عرف العمل السياسي والعمل القومي غير جائز مطلقا.
اذن في مفهوم العمل السياسي والقومي كلمة “فروق” لها حدود لايجوز ان تتجاوزها، ولها مستوى لا يجوز ان تهبط عنه فاذا قيل مثلا ان ثمة فرق بين اليمن وبين باقي الاقطار العربية، لان اليمن معزولة منذ قرون، وفى حالة اجتماعية متخلفة جدا، بقيت على حياة القرون الوسطى الموغلة في القدم، واذا قيل بأن ثمة فرقا تحسن مراعاته بين المملكة العربية السعودية وبين الاقطار العربية الاخرى فأيضا يمكن ان نسلم نوعا ما بهذا الفرق لأنه لم يوجد بعد فى المملكة السعودية ما يسمى رأيا عاما، ما يسمى شعبا ومواطنين.. فالوضع بدوي عشائري، مغلق، معدوم الثقافة، معدوم النور وحرية الرأي، ولكن لا يجوز مطلقا ان نذهب لابعد من ذلك. عندها نكون عمليا كأننا نخضع لمنطق الاستعمار نفسه، الاستعمار الذي يتذرع بفروق ثانوية مصطنعة ليمنع توحيد الامة وليمنع توحيد نضالها ضده، او انه هو يخلق هذه الفروق. وربما ذكرت لكم مرة ان الافرنسيين قبل ربع قرن جعلوا من هذا القطر الصغير سورية خمس دويلات.. كانت سورية مؤلفة من خمس دويلات كان يطلق على كل منها اسم دولة: دولة الشام – دولة حلب – دولة العلويين – دولة جبل الدروز – دولة الاسكندرون.
والافرنسيون هنا حاولوا ان يجربوا فى هذا الشعب كل اساليبهم الخبيثة التي يستعملونها في المغرب، فمثلا حاولوا ان يوجدوا في منطقة العلويين، بعد ان فصلوها عن باقي المناطق، نعرة طائفية وعنصرية، وسعوا كثيرا بدعاياتهم وبكتابات كتابهم ومؤرخيهم ان يبرهنوا ان العلويين من اصل صليبي، انهم ليسوا عربا وليسوا من هذه البلاد، ان المذهب العلوي هو اقرب الى المسيحية.
من حيث المذهب، أرادوا ان يبعدوا مذهبا من مذاهب الاسلام، ومن حيث العنصر أرادوا ان يظهروا العلويين كأنهم اوروبيون.. أرادوا استغلال التفرقة بين الطوائف وضاعفوها اضعافا. كذلك كان من أهم الاسلحة التي يتسلحون بها في احتلالهم لهذه البلاد، ويثيرونها بين الحين والآخر، أنهم جاؤوا لحماية الاقليات المسيحية، وان المسيحيين فى خطر.. حياتهم وممتلكاتهم فى خطر في هذه البلاد، وانهم هم مكلفون بحمايتها. كل هذه الخدع كان يظهر بطلانها وزيفها، وآخر الامر قهرت أمام الحق.
اذن كيف يمكن أن نقبل بالتفكير الذي يقول بوجود فروق بين اقطار المغرب وهي أقطار واحدة..؟ الحياة الاجتماعية.. الحياة الروحية… الحياة المادية واحدة.. الاستعمار واحد.. الاستعمار الذي يضغط عليها، على الشعب العربي هناك واحد. نفس المشاكل التي اصطنعوها هنا وفي العراق ولبنان اصطنعوها في المغرب وخاصة قصة العرب والبربر وهذه كما تعلمون باطلة لان القومية العربية لا تقوم على اساس عنصر أو دم وانما على اساس تاريخ وثقافة مشتركة ولغة واحدة ومصلحة مشتركة في الحياة معا وفي الدفاع عن وطن واحد والعمل لبناء مستقبل واحد.
اذا دققنا كثيرا في أوضاع المغرب نجد، على ما اعتقد، بأن الاستعمارالفرنسي هو الذي أوجد بعض الفروق بين تونس والجزائر ومراكش خلال هذه المدة الطويلة من وجوده. مثلا خلق أو نمى طبقة من الوجهاء، من الاغنياء من ملاكي الارض الاقطاعيين هي اقرب الى الولاء له او المسايرة لوجوده في كل من تونس ومراكش. لم يكن حكما استعماريا مباشرا بكل معنى الكلمة كما هو في الجزائر، لانه بقيت بعض السلطة ولو في حدود ضيقة جدا لأهالي البلاد، أما في الجزائر التي دخلها الافرنسيون بالفتح، وأعلنوا أنها جزء من فرنسا، وفتحوها للهجرة الواسعة، وللاستيطان والتعمير والاستعمار امام مهاجرين افرنسيين وأوروبيين بصورة عامة.. في الجزائر لم يكونوا بحاجة الى تشجيع طبقة بورجوازية واقطاعية، بل بالعكس كانت مصلحتهم في القضاء على هذه الطبقة حتى يزيلوا الشعب من طريقهم ويستلبوا ارضه وثرواته، ويجعلوا العرب في الجزائر بمنزلة الخدم عند الافرنسيين، ويعملوا على افنائهم بالافقارالتدريجي وبالقمع، وجعلهم ادوات للخدمة والعمل لا اكثر.
هذا الفرق بين الجزائرمن جهة وبين تونس ومراكش من جهة اخرى هو لمصلحة النضال، فهو الذي أدى الى ثورة شعبية مئة بالمئة في الجزائركما نشاهد اليوم. هذا الشيء لم يحصل في أي قطر عربي آخر لا في الشرق ولا في الغرب.
الشرق العربي هنا في كفاحه ضد الاستعمار لم يتوصل كفاحه الى ان يكون شعبيا مئة بالمئة، ولذلك كان نضاله مشوبا في كثير من النواحي وكان يتراوح بين النضال الجدي وبين التراجع والمساومة والمفاوضات الكاذبة. لماذا؟ لان في هذه الاقطار طبقة من الزعماء.. من الملاكين الكبار والاغنياء والوجهاء لهم مصالح اقتصادية ضخمة هي هي نفسها تستتبع مصالح معنوية من وجاهة وزعامة وغير ذلك. وهذه الطبقة من اصحاب المصالح لا تستطيع ان تصارع الاستعمار مصارعة جدية حاسمة، بل ان من منطق مصالحها ان تناوش من الحين الى الآخر.. ان تأخذ وتطالب كما يقال، تأخذ شيئا، ثم تهدأ، ثم تعود لتطالب وهكذا. وكانت تدفع الشعب.. تحمس الشعب لمقاومة الاستعمار، لان الشعب بغريزته مقاوم للاستعمار. واحيانا كان هو الذي يدفعها، ولكن متى حصلت على بعض المكاسب البسيطة كانت تتخلى عن الشعب الثائر وتضطره الى الاستسلام. في حين ان الوضع في الجزائر اليوم هو وضع ثورة شعبية اذ لا يوجد هناك هذه الطبقة المميزة من الشعب العربي. لم يكن هناك فروق واضحة بارزة بين افراد الشعب العربي في الجزائر وقد تساووا جميعا في الفقر وفي الخضوع للظلم، ولذلك ثاروا معا.
فاذا قيل بأن ثمة فرقا بين وضع تونس ووضع الجزائر، أو بين وضع مراكش ووضح الجزائر، نقول: نعم، ولمصلحة القضية هذا الفرق، ويجب ان تتبع تونس الجزائر، وان تكون الجزائر المقياس في النضال لان وضعها أسلم قوميا ونضاليا، ولأن هذه الثورة الهائلة في الجزائر هي اكبركسب لتونس ومراكش، اذا عرف الزعماء في تونس ومراكش كيف يستفيدون من هذه الثورة. فالعرب في الجزائر وصلوا فعلا الى الحد الممتاز ثوريا الذي يعتبر أميز حالة ثورية، وهي عندما يتساوى الموت والحياة، او عندما يصبح الموت أثمن من الحياة أو السبيل الوحيد الى الحياة، أو كما تقول الماركسية في البيان الشيوعي المشهور: بأن العمال -البروليتاريا- ستخوض الحرب ضد الرأسمالية، وهي حرب مضمونة النجاح.. لماذا؟.. لان العمال ليس لهم شيء يمكن ان يخسروه.. يمكن ان يفقدوه.. لم يعودوا يملكون شيئا يمكن ان يدافع عنه. البيان الشيوعي يقول: ليس لهم ما يضيعون الا قيودهم وأغلالهم. وهذا هو وضع الشعب في الجزائر. وهذا ما يبين لكم خطأ ومحاذير تزعم الطبقة البورجوازية للنضال القومي، رغم ان زعامة هذه الطبقة في بعضى الاحيان لا يكون منها مناص، أي ان المرحلة تقضي بها. في سورية، في العراق، في مصر: الطبقة البورجوازية هي التي تزعمت النضال ضد الاستعمار… الوجهاء عامة، التجار، الاقطاعيون، ليست هي التي حاربت وانما وجهت الشعب الى الحرب. في تونس ومراكش الامر تقريبا من هذا النوع، فالمتزعمون للنضال القومي ضد الاستعمار هم من هذه الطبقة، لذلك حتى بعد ظهور الثورة في الجزائر -وهوحادث فريد من نوعه ومليء بالامكانيات- لم يجرؤوا على الاستفادة منه ليتابعوا النضال ويحصلوا على اكثر مما حصلوا عليه، خوفا على مصالحهم من أن تتهدد. وأعود لأذكر لكم أشياء ربما ذكرتها في الماضي، بأن ظروف هذه المرحلة النضالية في حياة المغرب العربي ظروف مواتية جدا، ومشجعة جدا، لان فرنسا في حالة انهيار ونضوب، وانه في حالة تضامن الاقطار المغربية الثلاثة تعجز فرنسا عجزا صريحا عن المقاومة، فليس لديها الامكانيات العسكرية والاقتصادية الكافية لشن حرب. والدليل هو ما تشاهدون الان رغم تجزئة النضال، ورغم براعة السياسيين الفرنسيين من جهة، وقصر نظر بعض الزعماء في تونس ومراكش الذين رضوا ان يجزئوا النضال، رغم ذلك الشعب الفرنسي بكليته او بقسم كبير منه يثور على حكوماته ضد هذه الحرب في المغرب العربي، ويؤيد الى حد ما استقلال هذه البلاد، ويطلب بأن تكف الحكومة الفرنسية عن هذه الحرب التي ليس فيها الا الخسارة وضياع دماء الافرنسيين، وبعض الافرنسيين ينضمون الى الثوار او يشجعونهم.
ما دام الامر قد وصل الى هذا الحد فان توحيد النضال كان يمكن ان يختصر الطريق، وان يضع فرنسا امام الامر الواقع، بأن تسلم لمطالبنا، وفي أقل الاحتمالات واسوئها الشيء الذي يحصل عليه العرب في نضالهم الموحد هو حتما أحسن مما بحصلون عليه في حالة تجزئة النضال وانفراد كل قطر بالمفاوضة.
هذا من حيث علاقة النضال بالتحرر من الاستعمار: توحيد النضال هو من كل الوجوه أحسن واكثر نفعا. ولنأخذ من الناحية الاخرى، بالنسبة الى حياة الشعب العربي هناك.. بالنسبة الى العرب انفسهم بصرف النظر عن الاستعمار. ما دمنا مؤمنين ان الاستعمار زائل هذه السنة أو بعد سنوات، يبقى الموضوع بالنسبة الى هذه الحياة الاستقلالية التي يسير نحوها عرب المغرب، والتي سيحصلون عليها بلا ريب.. هل الافضل ان يحصلوا على الوحدة الان او بعد الاستقلال؟..
الجواب أقوى من الاول: التوحيد وقت النضال هو التوحيد الصحيح الذي يصل الى اعماق النفوس.. يصهر النفوس والعواطف وكل شيء.. أما بعد أن يستقل كل قطر، ويرتب أوضاعه على أنه مستقل فالصعوبات ستظهر بشكل لا يصدقه العقل.. ستضحك علينا اجيالنا المقبلة، سيضحكون ويتألمون من هذه التجزئة التي صنعها الاستعمار، وصدقها العرب.. ليس العرب كلهم.. ولكن الزعماء، وتمسكوا بها وهي اكبر خطر في حياتهم.
فاليوم ليس الاستعمار هو كل شيء في بقاء التجزئة وفي الحيلولة دون الوحدة، وانما الاستعمار واصحاب المصالح هم في جانب التجزئة، حريصون عليها. عندما يبحث شباب مثلكم يرون ان من السهل التضحية بالمصالح، ولكن بالنسبة الى اصحاب المصالح أنفسهم ليس من السهل التفريط بها. لذلك نعتبر ان الفرصة ذهبية من اجل توحيد المغرب منذ الان.
ولاحاجة الى ان أشرح لكم اكثر من ذلك أنه بالنسبة الى الامم التي طرأ عليها التأخر والانحطاط والجمود اجيالا من الدهر كأمتنا العربية -وهذا شيء لا مجال لنكرانه- احسن حالة يمكن لأمة متأخرة… احسن حالة لها لكي تتوحد ولكي تشعر بشخصيتها وبمؤهلاتها: هي حالة النضال. فالامة العربية هي الان شيء مجرد، شيء في اذهان الجيل الجديد، ولكنها عمليا غير متحققة.. هي حلم في اذهاننا.. في كل مكان فيه شباب مؤمن.. يؤمن ان امته قادرة على الانبعاث وستعود مجموعة حية في المستقبل. ولكن عمليا هل هناك امة عربية متحققة؟.. إنها متحققة ولكن الى حد ضعيف، ولكنها متحققة في كل مكان يوجد فيه نضال، وبشكل خاص اذا كان جديا يواجه الموت في كل ساعة.. في حالة مجابهة الموت ترتفع الغشاوات وكل اثقال الجمود التي تراكمت خلال القرون.. أثقال الجهل والمصالح المختلفة والانانية وغير ذلك.. كل هذه الاثقال التي جعلت منها امة ضعيفة وأفقدتها انسانيتها، وأفقدتها امكانية التجارب مع الحياة وامكانية الحضارة.. كل هذه الاثقال المسيئة السلبية التي حطمت امتنا لا يعود لها وجود في حالة مواجهة الموت. الرجل الذي يقف امام الموت هو الانسان الصحيح.. الانسان الذي في هذه اللحظة يغامر ويستعد للتضحية بحياته -عندها يستطيع ان يكتشف زيف الاعتبارات التي كانت تكبله: العصبيات والمصالح الخاصة.. لان الموت اقوى من كل شيء مصطنع.
امتنا اذن موجودة في كل مكان يحمل فيه افرادها السلاح.
سؤال: مارأيكم في استقلال مراكش؟
اذا قلت ان هذا المنطق في معالجة القضية القومية وانتزاع حقوق الشعب من المستعمر هو منطق خاطئ وضار فاني لا أخص بذلك زعماء المغرب، ومن الواضح جدا ان هذا ينطبق على كل زعماء سياسيي العرب في المغرب والمشرق، خاصة في المشرق. لان زعماء المشرق هم الذين سبقوا، عندما بدأ النضال هنا، بالمفاوضات مع الاستعمار الفرنسي والانجليزي في سورية ومصر والعراق وغير ذلك، ولم يكن المغرب قد وصل بعد الى حد المفاوضات، لذلك فزعماء المغرب اليوم -في مراكش وتونس- لا يفعلون اكثر من الاقتداء بمنطق السياسيين والزعماء في مصر وسوريا. فاذن نحن نستنكر هذا المنطق ونقاومه، وقد قاومناه ونقاومه فعلا في اقطار الشرق العربي، ولذلك ايضا نقاومه في المغرب مقاومة فكرية لاننا ليس بعد حزب هناك حتى يقاوم مقاومة عملية.
صحيح ان اصحاب هذا المنطق من الزعماء لا يمكن ان يسموا خونة، ولا يمكن ان ننكر عليهم كل وطنية وان لا يكون بيدهم بعض الحجج، وهذا شيء نعرفه وقد عانيناه هنا سنين طويلة. فالمسألة ليست بسيطة كما يظن بأن الذين يأخذون بمنطق المفاوضة هم خونة واجراء استعمار، وهكذا تحل المشكلة. كلا، هذا حل مصطنع ومبسط جدا. الذين يأخذون بهذا المنطق هم ايضا وطنيون ويريدون الخير لبلادهم بنسب متفاوته: بينهم المخلص، وبينهم الأشد اخلاصا، وبينهم المتاجر بالوطنية لمنافع خاصة، ولكن بالاجمال، الحركات الوطنية التي يتزعمها البرجوازيون هي حركات وطنية ليست خالصة وليست وطنية واعية كل الوعي… ليست خالصة من المصالح اذن، وتشوبها اعتبارات مصلحية.. ليست واعية كل الوعي لانها لم تبلغ بعد درجة الوعي الثوري الذي يدرك حقيقة امكانيات الشعب ويعتمد عليها ولو انها اليوم غير ظاهرة، ولكن يعرف أنها ستظهر بعد.
هذا ما يميز الوعي الثوري. الوعي العربي الثوري يتطلب النظرة الشاملة الى الظروف العالمية والعربية، ويفترض التنظيم من جميع النواحي، ويفترض مستوى حارا من النضال، مستوى لا يقبل انصاف الحلول وأنصاف التضحيات، ولا يقبل الفتور.
فاذن ان ما نقوله بحق هؤلاء هو انهم ليسوا ثوريين. ولا نقول انهم ليسوا وطنيين، الا أننا نعتقد ان الوطنية الصحيحة هي الوطنية الثورية. لذلك فوطنيتهم ليست صحيحة كل الصحة. لهؤلاء منطقهم، منطق الاخذ والمطالبة -كما قلنا-، ومنطق التدرج على مراحل.. منطق عدم ارهاق الشعب -كما يزعمون- والواقع عدم ارهاق انفسهم واتباعهم أي عدم ارهاق الطبقة البورجوازية نفسها.. منطق توفير شروط حسنة أو صالحة نسبيا في جزء من الأجزاء على امل ان يتمكن هذا الجزء من تغذية النضال في الاجزاء الاخرى، وهذا ما يقال بصدد استقلال مراكش، وما يقال من قبل هؤلاء الزعماء -الذين لايشك باخلاصهم الى حد ما- انه اذا توافرت لمراكش شروط جيدة فباستطاعتها ان تغذي النضال في الجزائر، من سلاح ومن رجال، ومن تأييد دبلوماسي الخ..
هذه نظرية، طبقت هنا في الشرق، وطبقت ايضا في بلاد اخرى، ولكنها غير مناسبة لهذه المرحلة في رأينا. قد نجد عذرا لرجال الكتلة الوطنية في سورية قبل عشرين سنة او اكثر عندما لجأوا الى اسلوب المفاوضة مع فرنسا، وقد نجد مثل هذا العذر -الخفيف طبعا- لزعماء مصر الذين ارتضوا هذا الاسلوب قبل عشرين سنة واكثر وفاوضوا الانجليز على اساس تعاقد ومعاهدة وغير ذلك، اذ انه قبل ربع قرن كان العالم غير اليوم، وكانت الدول الرأسمالية الغربية في حالة ازدهار وقوة، ولم يكن حتى بصيص امل في انهيار سريع لهذه الدول، وزوال سريع للاستعمار. انجلترا وفرنسا بعد الحرب الاولى خرجتا دولتين جبارتين قويتين بمستعمرات هائلة ومصانع وغير ذلك، والبلاد العربية كانت في حالة اغفاء ونوم، في بدء يقظة لم تتوضح بعد، ولم يشتد ساعدها، اما اليوم فما هو العذر والعالم قد تبدل تبدلا اساسيا؟… ففرنسا طرحت من الصف الاول الى الصف الثاني من الدول وبريطانية نفسها زال الكثير من نفوذها وقوتها ايضا ونشأت في العالم دول برمتها لم تكن موجودة او لم يكن لها شأن قبل ربع قرن: هذا الاتحاد السوفياتي الذي كان مشكوكا في أمره قبل ربع قرن، هل يصمد؟… هل يمكن أن يعيش؟.. فاذا به يعيش ويقوى ويصبح قوة هائلة معدلة للقوى الغربية. وهذه شعوب ودول آسيوية كانت في حكم العدم قبل ثلاثين سنة، مستعبدة محكومة بالحديد والنار، ويستغل اهلها كالعبيد، ومتخلفة في كل نواحي الحياة، واذ بها تتابع نضالها وتستفيد من الظروف العالمية وتتحرر وتبني هذا الاستقلال بناء ايجابيا.
وهذا الوطن العربي الذي كان شبه نائم ومتأخرا جدا قطع اليوم اشوطا في التقدم والتحرر. اذن ما يجب ان يدخل في حساب الزعماء في المغرب هو هذه التبدلات الاساسية التي حصلت في العالم وفي وطننا بالذات، والتي هي في مصلحة الشعوب الثائرة والمطالبة بالتحرر.
ترون الان بأن الحكومة التونسية تحاول ان تعيد النظر في الاتفافية التي عقدتها مع فرنسا، وان تحصل على اشياء جديدة وحقوق جديدة. هل هذا كان ممكنا بدون نضال الجزائر وبدون نضال مراكش؟ كلا. أليس وجود النضال في مراكش والجزائر هو الذي سمح للحكومة التونسية التي كانت تحسب قبل عام أنها حققت معجزة ان ترى اليوم انها ارتضت بشيء هزيل؟
كل يوم يأتي بدليل جديد على فائدة النضال ولو كان مجزءا. وعلى ضرورة توحيد هذا النضال لانه يعطي اضعاف ما يعطيه النضال المجزأ.
آذار 1956
(1) حديث مع طلبة المغرب العربي.
حصيلة مرحلة من النضال
حلف بغداد، وملامح اليقظة العربية: يمكن أن نسمي حلف بغداد هجوما استعماريا دفاعيا لجأت اليه بريطانيا لوقف نمو اليقظة العربية وتدارك نتائجها قبل وقوعها، فصاغت هذا الحلف في تصميمه وبمراميه على نحو يكون فيه لكل وجهة من وجهات الحركة العربية الجديدة وجهة تقابلها فتشوهها او تحرفها او تعطلها.
فاذا كان من ملامح اليقظة العربية انها تسعى للخروج من حالة التخلف الاقتصادي، بتخطيط سياسة اقتصادية تقوم على أسس شعبية تقدمية ثورية، فتوجه معظم الجهود لرفع مستوى العدد الاكبر من ابناء الأمة العربية وتنصب على الأمور الجوهرية كتقوية الدفاع وإنشاء الصناعات الاساسية لتحرير البلاد من التبعية الأجنبية، كل ذلك ضمن منطق الوحدة العربية الذي يرتب عليه ان يكون الاقتصاد العربي متكاملا ومتمما بعضه لبعض ومفتوحا للخطوات التوحيدية ومساعدا عليها، فان حلف بغداد ايضا يحاول ان يقدم انتعاشا مصطنعا متلائما مع المصالح الاستعمارية تشرف عليه الطبقة الرجعية، ومشاريع اعمار يكون نصيب الشعب منها النصيب الذي قد يخدره دون أن يطلق طاقته ويرفع مستواه.
واذا كان من ملامح اليقظة العربية تسليح تضال الشعب بالسلاح المادي وانماء القوة العسكرية كي يتمكن الشعب من نفسه ويزداد ثقة بنجوع نضاله، فحلف بغداد أيضا يمني نفسه الأماني الكاذبة بالقوة العسكرية ويعمد لفصل القوة المسلحة عن نضال الشعب، وبث التناقض والتشكك كي يقيم بينهما توازنا. واذا كانت الحركة العربية الجديدة تهدف الى توحيد الاقطار العربية، ولكن مفهومها للوحدة ان نسيجها هو وحدة نضالية شعبية يكون من ثمراتها الوحدة السياسية، فحلف بغداد يقدم ايضا وحدة هي وحدة الطبقة الرجعية والخونة والعملاء من المحيط الاطلسي الى الخليج العربي، اي وحدة الطبقة المتمسكة بالتجزئة والمستغلة لها والمتآمرة على شخصية الامة العربية ووجودها. فساسة الحلف لا يكتفون بالضغط على سورية والاردن ولبنان لربط هذه الاقطار بحلف يغداد، بل يتصلون ببعض ساسة المغرب العربي ويشجعونهم على ربط المغرب بحلف الاطلسي والتنكر التام للعروبة.
واذا كانت الحركة العربية الجديدة تتجه في المجال الدولي الى اقامة السياسة العربية على اساس استقلال الامة العربية عن سياسة التكتلات الدولية وحياده ودورها الايجابي الخاص بالنسبة الى الانسانية، فحلف بغداد اتخذ هدفا آخر هو الانحياز التام الى المعسكر الغربي بحجة مكافحة الشيوعية، ومقاومة خطر الاتحاد السوفياتي، ولعب على فكرة خطر اسرائيل وضرورة مقاومتها في حين أنه بتبعيته للاستعمار يمكن لاسرائيل ويؤمن وجودها وبقاءها على حساب الوجود العربي.
وأخيرا اذا كانت الحركة العربية تهدف الى وقاية السلام وتدعميه فحلف بغداد تقدم بهدف آخر حين كون اتجاها نحو سياسة المعسكرات والاحلاف العسكرية والحرب. فشل الاستعمار وظفر العرب: ولكن الاستعمار رغم خطته هذه التي ظنها متكافئة لليقظة العربية ورغم ما حرك من فئات من العرب سلحها بمنطق كامل من المغالطات لتزييف اهداف هذه اليقظة وطريقها، فقد فشل في قطرين، سورية والاردن، وصعق امام ثورتين في الجزائر ومصر، فانكمش على نفسه وتحدد عمله بشراء بعض اضمائر واستئجار بعض العملاء والخونة للتخريب والتفرقة وإثارة الفتن، ولم يجد مناصا من تمزيق أقنعته واللجوء الى العدوان السافر فسجل على نفسه فضيحة تاريخية وسجل العرب بمقاومتهم تحولا تاريخيا.
اثر كارثة فلسطين: واذا كان الوعي والنضال العربيان قد فككا هذه الخطة المحكمة واستبانا اغراضها الخفية وهدماها، فان كارثة فلسطين هي التي اعطت أحدهما العمق والنفاذ والآخر الصلابة والتنظيم. فقد حزت الكارثة في الضمير العربي وواجهت الشعب بوجوده ومصيره فكانت منطلقه الى اعادة النظر في التكوين الداخلي لكل قطر وفي نوعية التضامن بين الاقطار العربية وفي تحديد موضع العرب من الانسانية والعالم، وهكذا طرحت على الشعب العربي من أعماق المأساة مشكلات وجوده الموحد وصورة هذا الوجود الاجتماعية الموضوعية وعلاقته بالوجود الانساني، فانبثقت ثورتا مصر والجزائر وارتبطت مصر بالمصير العربي بشكل واع وجدي، وبرزت السياسة المتحررة.
وما كانت كارثة فلسطين لتحدث كل هذا الأثر العميق ولتعطي كل هذه النتائج الايجابية لو لم يسبقها قبل يضع سنوات في سوريا والاردن والعراق ولبنان اتجاه عربي واضح الاهداف قائم علي أسس نظرية ونضالية جديدة، عبر عن وجهة العرب العميقة في هذه المرحلة من تاريخهم وتاريخ الانسانية وهو الاتجاه الذي مثلته حركة البعث، وقد جاءت الكارثة مثالا حيا مؤكدا صحة هذا الاتجاه فأغنته وفتحت امامه سبل امتداده كما كان هو من اهم العوامل التي حولت موقف العرب امامها من ان يكون موقفا سلبيا ينتهي الى التفكك والانحلال الى موقف ايجابي يحيل الكارثة الى مرتقى في طريق النمو العربي.
وحين اكره الاستعمار على الانتقال من معركة السياسة والتآمر للقضاء على اليقظة العربية، الى معركة العدوان السافر على مصر وعلى تمزيق جميع اقنعة الرياء التي كان يلتف بها، وحين اكرهت اسرائيل على ان تنكشف امام العالم بأسره.. وتبدو على حقيقتها اداة للاستعمار وجزءا منه، وكانت معرفتها من قبل مقصورة على الشعب العربي، بل على قسم منه، أتى كل ذلك برهانا على مدى القوة التي بلغها التيار العربي الجديد، ومدى الخطورة التي أحس بها الاستعمار واسرائيل على وجودهما.
واذا كانت ثورية السياسة العربية المتحررة وجرأتها قد جلبتا بعض الخسائر فقد جلبتا ايضا أضعاف هذه الخسائر من المكاسب للقضية العربية، إن بالنسبة للشعب العربي وإن بالنسبة للعالم. لقد كانت المعركة ثمينة وكانت تجربة مصر القاسية ثمينة، وكأنما كان العرب في حاجة الى هذا العدوان، ولقد كان شيئا حيويا بالنسبة اليهم في مرحلتهم الحاضرة.
لقد حسمت المعركة بضربة واحدة سياسة دامت عشرات السنين كلها مساومات وانصاف حلول وكلها تهرب من المعركة الحاسمة، وكلها نضال يقوم به الشعب بعفويته ويفرضه فرضا على الحكام والزعماء، فيثلمونه ويخدرونه ويمنعونه من الوصول الى غاياته.
أما في هذه المرة فقد تعهد قادة الثورة في مصر اتجاهات الشعب العفوية وطاقته النضالية بالتجاوب معها والرعاية والتنظيم فازدادت الاتجاهات وعيا وعمقا ونفاذا وشمولا، واكتسب النضال ثباتا وطمأنينة وكان امتحانا لاستعدادات الشعب تخمرت منذ سنوات، واجتاز قسم من الشعب العربي هذا الامتحان المرير ببطولة.
لقد أتى هذا العدوان برهانا حسيا على صحة الاتجاه الجديد القائم على الشعب، ودور الشعب في المعركة، وسيكون له نتائج ضخمة حين يعمم ما برهن عليه الشعب في مصر على الاقطار العربية جميعا.
وقد ارتدت تجربة الاتجاه الجديد، في الاعتماد على الشعب والاستلهام منه وتنظيم طاقته الثورية، ومصارحته ومشاركته في تخطيط سياسة بلاده وتحمل مسؤولية مصير الوطن، على الشعب ذاته، فاستيقظ الوعي لدى ابعد الطبقات ونفذ الى حيث كان من المستبعد ان ينفذ بسهولة ويسر، وانصب على طريق النضال قوى لم تكن في الحسبان.
كما ان هذا العدوان، والمستوى الذي بلغه الشعب كانا سببا لطرح القضية العربية طرحا واضحا على الرأي العام العالمي، فتحركت كافة القوى الحرة الثورية في اقطار الارض كافة ونهضت للاشتراك بالمعركة. لقد فرض عليها الخروج عن جهلها أو اهمالها او حيادها وشعرت بارتباط مبادئها ومصالحها في المعركة القائمة في ارض العرب. وكان ذلك من المكاسب الكبرى.
وأكد هذا التفهم الانساني والدعم للقضية العربية الاتجاه القومي العربي نحو الانسانية. ففي الواقع، وهذا دليل على سلامة الاتجاه العربي في هذه المرحلة التاريخية، انه في الوقت الذي تفتحت في الشعب العربي أواصر وحدته القومية انكشفت امامه بوضوح وعمق أواصر ارتباطاته الانسانية وبالتالي دوره في التاريخ الانساني، وفي هذا وفي تمتين هذه الصلات الانسانية اكبر ضمانة لسلامة المستقبل العربي.
القومية والانسانية: وليس مستغربا ولا من قبيل المصادفة ان تتضح صلتنا بالانسانية وتقوى في الوقت نفسه الذي تتضح فيه مقومات وحدتنا العربية ويقوي أندفاعنا في طريق تحقيقها. فنحن كلما اقتربنا من انفسنا زاد قربنا من الانسانية، وكلما اطمأننا على شخصيتنا ازدادت هذه الشخصية انفتاحا على الآخرين. وان تجربتنا العميقة القاسية لحاضرنا تؤهلنا لان نفيد من تجارب تاريخنا، ومن تجارب التاريخ كله، ولان نتحاشى الاخطاء والانحرافات في ماضينا وماضي الامم الاخرى، فتربط ربطا مبدئيا حيا بين قوميتنا وانسانيتنا ولا نسمح بأي انقطاع او مسافة بينهما، لانه لن تصل القومية الى الانسانية اذا اعتبرت مبدئيا؟ منفصلة عنها او مرحلة لها، فالانسانية هي في القومية لا قبلها ولا بعدها، وليس ثمة قومية وانسانية، بل قومية انسانية “وهي الصحيحة” وقومية منحرفة مشوهة لانها منفصلة عن الانسانية. وكل ما ظهر في تاريخ القوميات من تعصب واتجاه نحو الاغتصاب والاستعمار انما مرده الى انه سلم فيها بالبدء بانفصال القومية عن الانسانية او بامكان البدء بالقومية وانمائها للوصول في مرحلة أخرى الى الانسانية.
لقد ربح العرب معركة لم تكن هينة كما خسر الاستعمار معركة جدية ولكنها ليست اقسى معاركه ولا آخرها. فما هي العبرة التي حصلنا عليها والتي تفيدنا في تخطيطاتنا المقبلة وفي وعينا ونضالنا لمواجهة المعارك المحتملة دائما وبالتالي في اعداد مستقبلنا؟
لقد برزت قوة مصر في اتجاه عربي سليم وكان ذلك اكبر ظفر للعرب في هذه المرحلة. ولئن استحقت مصر في عهدها الجديد مكان الصدارة في القيادة العربية فلا يجوزان يلقى العبء كله عليها، لاننا نكون كأنما نال الاستعمار على هدفه الذي اذا اصابه بمقتل حل كل مشكلاته في الوطن العربي، ولذلك يجب ان يتحقق في كل قطر عربي ما تحقق في مصر من حيث العمل الداخلي، من رجوع الى الشعب ومصارحته وتأمين حاجاته الاجتماعية وتطهير جبهته الداخلية من الخيانة المرض.
وحدة النضال: كانت المعركة الاخيرة مناسبة لدفع وحدة النضال العربي خطوة جديدة جريئة الى الامام ولكن لا بد من الاعتراف بأننا ما زلنا مقصرين عن الوحدة النضالية المنظمة الخلاقة. فكثيرا ما تستبهم الحدود بين توحيد النضال وتوحيد السياسات الرسمية، ويستعاض عن ذاك بهذا، في حين ان الاصل والاساس هو الاعتماد على نضال الشعب العربي ومن ثم يمكن الاعتماد على السياسات الرسمية، بمقدار ما تتجاوب مع هذا النضال وتتأثر به، وليس توحيد النضال بمجرد تنسيق لاشياء موجودة بل هو خاصة خلق للنضال حيث لا يوجد، تنظيم له ورفع لمستواه حيث يوجد، ثم من بعد ذلك هو تنسيق.
الثقة بالنفس والمبادئ: كانت المعركة الاخيرة مجالا ايضا لظهور الوجه الايجابي الاصيل للحركة الثورية العربية. فبينما كان الكثيرون يخشون على مصر ورجال ثورتها من ردة انهزامية نتيجة لتآمر بعض الحكومات العربية عليها ولضعف تضامن بعض الحكومات الاخرى معها، جاء خطاب الرئيس عبد الناصر على اثر المعركة يؤكد سلامة الاتجاه العربي في مصر وعمقه عندما اعلن ان الشعب العربي في جميع اقطاره تضامن تضامنا فعالا مع مصر العربية وان معركة مصر كانت معركة العروبة. فهو اذن لم يحكم على الشعب العربي من خلال الاوضاع الشاذة التي يفرضها عليه الاستعمار والطبقة الرجعية وهو بهذا الموقف الواثق بالامة العربية وإمكانياتها والمؤمن بالمبادئ الثورية الشعبية، لم يكتف بأن سجل واقعة عن تضامن الشعب العربي مع مصر، بل قوى هذا التضامن وغذاه وفتح امامه مستقبلا لا حد له. وهذا الوجه الايجابي لحركتنا الثورية هو اكثر ما نحتاج اليه في مرحلتنا الجديدة لكي نتجنب المواقف المنفعلة القصيرة النظر، ونبني احكامنا وتصرفاتنا القومية على اساس الثقة والتفاؤل بإمكانيات شعبنا وأصالته.
كما اننا في مرحلتنا الجديدة بحاجة الى هذا الوجه الايجابي الاصيل في موقفنا من العالم. فنحن بعد اليوم مسؤولون عن العالم وسلامة اتجاهه وأوضاعه بقدر ما هو مسؤول عنا. وقد مضى الزمن الذي كنا فيه نكتفي بنقد الدول والامم الاخرى ومحاسبتها على ابتعادها او مناقضتها للمبادئ التي تدعيها، ونثق بهذه المبادئ او نتشكك فيها، بمقدار ما نجد عند الاخرين من انصاف لنا او اجحاف بحقوقنا. فهذه المبادئ لم تعد وقفا على غيرنا، وان تبنينا الايجابي لها سيؤثر حتما في نجاحها وفي تدعيم صف الحرية والعدالة في العالم.
البنيان الداخلي هو الاساس: لقد اصبح واضحا ان العرب حققوا في مختلف اقطارهم خطوة في التقدم، وظاهر هذه الخطوة انها ظفر على الاستعمار وكسب للحرية، اما مادتها الباطنية فهي انها تقدم شعبي داخلي في الفكر والاقتصاد وفي التربية السياسية والتنظيم، ولولا ذلك ما أمكن احراز هذا الانتصار على الاستعمار. فالموضوع اذا دائما هو بنياننا الداخلي، بنياننا القومي، هو دائما انشاء مجتمعنا وبناؤه لأن الاستعمار في الاساس انما نفذ الى مجتمعنا من ثغرات ضعف البنيان الداخلي والتخلف والامراض الاجتماعية. فاذا كان مفروضا علينا دائما ان نكافح الاستعمار، واذا كنا نعلم ان معاركه المقبلة معنا ستكون اقسى واكثر اتساعا من معاركه السابقة، فيجب ان نعلم ايضا ان مادة هذه المعارك ومادة الانتصارات انما هي في سد الثغرات في جبهتنا الداخلية، انما هي في الانشاء والبناء الداخلي. ان علينا كلما ازددنا تقدما في تحررنا الخارجي، ان نزداد جرأة في مواجهة امراضنا الداخلية ومعالجتها. وابرز ما في بنياننا الداخلي الوضع الاجتماعي، فواجبنا ان ننقذه من تناقضاته الجارحة وان نقضي على التفاوت بين الطبقات والاستغلال الطبقي لنوصله الى السلامة والانسجام والازدهار. كما ان هناك امراضا فكرية ونفسية كالعصبيات في مختلف صورها العنصرية والطائفية والعشائرية، والجهل وسواها، يجب ان تحسن مواجهتها بالعلاج الناجع.
لقد ربحنا معركة، فعلينا ان نوجه جزءا من الربح الى داخل البيت لنصلحه، فنكون اشد مناعة وأكثر تهيؤا لمواجهة الاخطار والمعارك المقبلة.
كانون الاول 1956
دور معركة الجزائر في نضالنا
مشكلة فرنسا مع الجزائر أعمق مشكلة تعرضت لها فرنسا، وفضحت فيها، وعرف فيها ضعفها واسباب ضعفها، لان مشكلة الجزائر جاءت بعد انتهاء مشكلة الهند الصينية، فلو كان كيان فرنسا ما يزال يملك المقومات الايجابية لكان ينبغي ان تكون اقدر على حل مشكلة الجزائر، بعد ان ارتاحت من عبء الهند الصينية واستعمارها المرهق. ان مشكلة فرنسا مع الجزائر أضخم من مشكلتها مع الهند الصينية، وهي تثير أزمة أعمق وأوسع. ان فرنسا تنظر الى ارض الجزائر خاصة، والى ارض المغرب العربي عامة، على انها امتداد حيوي قريب لارضها، وان حرمانها من هذا الامتداد يهدد حياتها، اقتصاديا وعسكريا الخ.
ورغم ذلك نرى اكثرية الشعب الفرنسي تقف ضد سياسة الحكومات في تشبثها العنيد المصطنع باستعمار المغرب والجزائر، ومعنى هذا انه اصبح هناك تناقض واضح جدا بين مصلحتها القومية التي يمثلها الشعب ويعبر عنها، وبين وضعها الاجتماعي الذي تدافع عنه الحكومات لمصلحة فئات مستثمرة ليس للجزائر فحسب، بل للفرنسيين انفسهم ايضا. نستطيع ان نقول ان فرنسا منذ زمان، والآن خاصة، في حالة تفسخ، وقد يؤدي هذا الى ولادة شيء جديد، وقد لا يؤدي الى شيء من ذلك.
وقد ظهر هذا التفسخ في الحرب الاخيرة، وظهرت في مقابله بقايا الايجابية والحيوية في فرنسا، تمثلت في مقاومة الالمان. وقد ادركت العناصر الموجهة في حركة المقاومة عمق المشكلة التي تعانيها فرنسا، أدركت انها مشكلة أساسية تتناول النظام الاجتماعي كله، وحاولت أن تكون هذه المقاومة مناسبة لنهضة فرنسا على أسس جديدة. ولم تكن هذه العناصر كافية، كما ان العناصر الاخرى غير الثورية دخلت معها، وحدّت من عمق حركتها وشمولها فاقتصرت هذه الحركة آخر الامر على تحرير فرنسا من الاحتلال، وبقيت المشكلة الاساسية معلقة.
ومرة أخرى انتصرت فرنسا انتصارا كاذبا قائما على الغش (لقد كان انتصارها عام 1918 كاذبا، وكان عام 1944 أكذب، فقد قام على مساعدات أجنبية وعلى تغطية للمشاكل الاساسية). وطبيعي ان لا يحول هذا الانتصار المغشوش دون ازدياد المشاكل الداخلية والخارجية.
في بلد كفرنسا يملك هذه الحضارة وهذا الوعي، كل كلمة تقال، وكل موقف يتخذ، تكمن وراءه مصالح حيوية. فموقف احرار الفكر، الى جانب موقف الاحزاب اليسارية، الى جانب تظاهرات الشعب نفسه، ليست مجرد مثالية مجانية، وانما هي تعبر عن مصالح واقعية لهذا الشعب الفرنسي نفسه، وهذه المصالح نفسها تصرخ: يجب ان تستقل الجزائر وان تتخلص فرنسا من الاستعمار، فكأنهم لا يهبون الاستقلال للجزائر بل يطلبون تحررهم من عبء استعمارهم للجزائر، يطلبون التخلص من اوضاع ستؤدي بفرنسا الى الانحلال المحقق. والواقع يرينا ان هذه الفئات الاستعمارية المحصورة بالشركات الرأسمالية والطبقة الاقطاعية تشتري الحكومات والصحافة والجيش نفسه وتتستر وراء الشرف القومي والكرامة الفرنسية والمصلحة القومية وهيبة فرنسا ومستقبلها ولكن هذا كله أصبح بالنسبة الى الشعب الفرنسي مفضوحا ولا يلقى لديه أي صدى.
ان مصالح الشعوب لا تتصادم، فمصلحة الشعب العربي في الجزائر والمغرب تتمشى مع مصلحة الشعب الفرنسي في التحرر من أوضاعه الجائرة. وفي هذا ضمانة لانتصار العرب في المغرب، لان كل امعان من قبل فرنسا في السياسة الاستعمارية، ان كان يوقع ضررا في عرب الجزائر، فهو يوقع في مصالح الشعب الفرنسي اضعاف هذا الضرر مما يؤدي الى ثورة الشعب الفرنسي.
على ان هذه الضمانة ليست بالوحيدة ولا هي الضمانة الأولى او الأهم، فالضمانة الاولى ايجابية لا سلبية، أي هي لا تأتي من ضعف العدو بل من قوة العرب أنفسهم ومن وعيهم لمصالحهم وتفتح امكانياتهم الهائلة التي ظلت خلال زمن طويل مكبوتة ثم حركها الظلم والاستثمار واخذت تتفجر في كل مكان من ارجاء الوطن العربي وتأتلف وتتناسق.
وينبغي ان نشير الى فروق اساسية بين المعركة التي يخوضها العرب في شتى أقطارهم في هذه المرحلة التاريخية، وبين العدوان الاستعماري وما يخفي وراءه وما يعبر عنه. فمعركة العرب معركة ايجابية بكل معنى الكلمة لانفسهم وللعالم، فبمقدار ما يتحررون يحررون العالم، وهي معركة صادقة تنبثق شعاراتها من صميم واقعها، وهي لذلك قوية بالنسبة الى العرب وبالنسبة الى الرأي العام العالمي لانه ليس فيها تزييف ونفاق، وهي معركة رابحة لانها تقوم على الشعب كله وتسير في اتجاه مصلحة الشعوب، شعوب العالم.
وهي اذن معركة انسانية، هي معركة الحضارة والقيم الانسانية والمستقبل، اما معركة الاستعمار فهي نقيض ذلك كله. ومعركة العرب معركة موحدة، توحد العرب انفسهم وتوحدهم مع التاريخ والعصر والشعوب، اما معركة الاستعمار فهي معركة مجزئة، تقسم البلد الاستعماري على نفسه، وتخلق اعمق الازمات بين فئات الشعب الواحد وتفضح تناقضات الوضع المؤدي الى الاستعمار وتعزل الدول الاستعمارية عن شعوب العالم واتجاه الحضارة. وهي كذلك معركة سلبية رغم هجومها الظاهر، فهي تهاجم لتدافع عن بقايا مصالح لم تعد تأتلف مع اتجاه العصر… وهي معركة قاضية، فشعوب الدول الاستعمارية تصبح يوما بعد يوم اقل تحمسا لهذا الحروب الاستعمارية، وهي تنسحب منها انسحابا متزايدا لتقتصر المعركة أخيرا على اصحابها الحقيقيين بدون قناع: الرأسماليين والمغامرين والمرتزقة الذين يستفيدون من الحروب، وعندما تصل الى هذا الحد، تكون قد وصلت الى نهايتها، لأن الحروب الاستعمارية لا تقوم على الاستعماريين وحدهم بل على قدرتهم على خداع شعوبهم، وعلى زجها في تلك الحروب.
ان حدا ادنى من الوعي كان ضروريا ليبدأ العرب نضالهم القومي التحرري ولكن هذا النضال نفسه كان باستمراره واتساعه وتوالده ينمي في الوقت نفسه ذلك الوعي الذي يولد النضال ويرفع مستواه ويكشف عن آفاق جديدة له. وان ما يطلب منا اليوم هو ان نعود فنرفع نضالنا الى مستوى الوعي الجديد الذي خلقه النضال.
لقد كنا قبل عشرات السنين لا نطمع في اكثر من رفع القيود عن انفسنا وعن وطننا معتبرين هذه المرحلة مرحلة سلبية، على هامش حياتنا وتاريخنا على هامش الحياة والتاريخ، منتظرين يوم التحرر الكامل ليدخلنا الى التاريخ.
واليوم ندرك اننا دخلنا التاريخ منذ بدأنا النضال، وان كل قيد حطمناه سواء من قيود الاستعمار أو قيود اوضاعنا، البالية المساعدة للاستعمار، كان في الوقت نفسه قيدا من قيود الانسانية يتحطم وحجرا من احجار المستقبل يرتفع. وان رسالتنا لم تعد ذلك الشيء البعيد الاجل الذي يبتدئ بعد الاستقلال وبعد الوحدة وبعد الثورة الداخلية، بل اننا اخذنا نحيا هذه الرسالة ونؤديها منذ اللحظة التي وعينا فيها انه يجب ان تكون لنا رسالة.
نحن اليوم في قلب التاريخ الانساني، نؤثر فيه اكثر مما نتأثر به، فبقدر ما نهدم من أوضاعنا الاستعمارية والاستثمارية، ونساهم في تحرير الشعوب المستعمرة لنا بقدر ما يكون نضالنا ضد الاستعمار صادقا وشاملا ومعبرا عن تجربتنا القومية التي هي تجربة الانسانية.
كانت عقيدتنا حافزا ومحركا، واليوم حان الوقت لتصبح منهاجا عمليا نعبئ اقصى امكانياتنا لتحقيقه في وعي تام لأهداف نضالنا القومي البناء، فهل قدّرنا الموضع الخطير لمعركة الجزائر من هذا النضال؟
عام 1956
في الحياد الإيجابي
ان حركة البعث ترى انه ليس من مصلحة الامة العربية، في المرحلة الحاضرة من التاريخ، ان ينهار أي من المعسكرين الرأسمالي او الاشتراكي. وهي لهذا قد دعت منذ البداية الى الحياد، وبفعل الزمن والاحداث المحلية والدولية إتخذ هذا الحياد شكله الايجابي القائم الآن لدى عدد كبير من الشعوب الآسيوية والأفريقية. وهذا الحياد الايجابي لا يجد مبرراته في الدواعي السياسية والاقتصادية وحدها، بل يبرره أيضا موقفنا الحضاري وموقفنا من مشكلة الحرية، في الصراع الدولي السياسي والعقائدي المحيط بنا، كما تتجلى آثاره في علاقات اقطارنا بعضها ببعض، وفي علاقات مختلف الفئات داخل كل من هذه الاقطار على حدة، بحيث يمكن القول ان هدف الحياد هو سلم عالمي وسلم داخلي عربي أيضا.
ونقول انه ليس من مصلحة الامة العربية الآن ان ينهار أي من المعسكرين العالميين، لأن انهيار المعسكر الاشتراكي معناه ظفر المعسكر الرأسمالي الاستعماري وزيادة سطوته الاستغلالية على مواردنا وثرواتنا وانتقاصه من سيادتنا. كما ان انهزام المعسكر الرأسمالي يعني بالمقابل اكتساح الفكرة الشيوعية للعالم بما تتضمنه من انكار للقومية والحرية. فمصلحتنا هي في ان يتطور كل من المعسكرين، يتطور المعسكر الرأسمالي نحو الاشتراكية والتنازل عن الاستعمار، ويتطور المعسكر الاشتراكي نحو الحرية في داخل الاتحاد السوفياتي، ونحو الاعتراف بحقوق القوميات الاخرى في اختيار طريق تحقيقها للاشتراكية في خارجه، ولن ينفسح المجال لتحقيق هذا التطور بشقيه الا اذا امتنعت الحرب .
وقيام جبهة كبيرة من شعوب العالم بسياسة الحياد، أي برفض انهيار احد المعسكرين سريعا هو رفض للحرب واعتراف بضرورة السلم. وان النجاح الذي حققته سياسة الحياد حتى الآن هو دليل واضح على وجود نقص أساسي وخطر كبير في سياسة المعسكرات والانقسام المذهبي الضيق، إذ لو كان احد المعسكرين العالميين محقا في دعوته وسياسته لما وقف قسم كبير من العالم خارج هذا الصراع لا يرى فيه مشروعية ولا مصلحة. فسياسة الحياد تعني الحكم على كلا الطرفين بالخطأ، وان كان ذلك لا يشترط تساوي الخطأ ولا تساوي الضرر. وكون هذا الحياد (إيجابيا) يعني ان هذا القسم غير الصغير من العالم الذي اخذ بالحياد لا يكتفي بسلبية الرفض والتنصل من الخطأ وإنما يأتي بحل جديد. وبهذا المعنى تصبح فكرة الحياد الايجابي اشمل من عدد الشعوب الآسيوية والافريقية، وأعمق من المستوى السياسي البحت الذي يعبر به عادة عنها. فالحياد الايجابي -بمعنى التطلع الى موقف جديد شامل- يرتفع فوق ذلك التضاد بين الاشتراكية والرأسمالية، ويتعمق في المشكلات الإنسانية والعلاقات الدولية اكثر من ذي قبل، مستفيدا من جميع التطورات والتبدلات التي تمت منذ وضعت نظرية التضاد هذه، وخاصة منذ تبلور الانقسام والصراع بين المعسكرين الغربي والشرقي. وبالتالي، فإن هذا الموقف الجديد يشترط التحرر التام من كل نظرة مذهبية بغية اعادة النظر في جميع النظريات والمذاهب وفي الخطط والاساليب المستمدة منها، كما يتطلب توفير الجو والشروط التي تسمح بالتخلص النهائي من منطق الصراع بين هذه النظريات بشكل واقعي سلمي.
والفهم الدقيق لسياسة الحياد يقتضيها ان تتوافق مع المراحل الطبيعية الضرورية لنضج النضال القومي في كل نواحيه. واذا كان اول واجباتنا أن نعبئ كل القوى الممكنة لانهاء الاستعمار وتحقيق الاشتراكية في أسرع وقت، فأن هذه السرعة ليست غاية في ذاتها ، ولا يجوز ان ندفع ثمنا لها الارتماء في المعسكر الشرقي، مستعينين بقوة مصطنعة خارجة عنا، وهي بالتالي تحمل بذور أخطار جديدة علينا، ومتجاهلين ضرورة نضج الشعب في نضاله، هذا النضج الذي يضمن له وحده النضج في حماية مكاسبه. ان انضمامنا للمعسكر الشرقي قد يكون هو أقصر الطرق الى التخلص من الاستعمار، لكننا نضحي بالطريق الأقصر لكي نصل في النهاية الى الحل الافضل: التخلص من الاستعمار، والحرية في الداخل، وممارسة كل حقوقنا القومية. وهذا المنطق يؤدي بنا الى ان الموقف الوحيد السليم الذي يجب علينا التزامه في هذه المرحلة هو موقف الحياد الايجابى .
وموقف الحياد الايجابي هو ايضا موقف حضاري جديد وخلاق بين الحضارتين المتصارعتين لا يتبنى تبنيا كليا لا القيم الشرقية ولا الغربية. ولا يقبل التعصب الاعمى لمذهب معين، ولا العداء الأعمى لنظام او فلسفة معينة. وموقفنا من الحرية هو ايضا موقف الحياد الايجابي بين المعسكرين لقد أفرغ الغرب الحرية من محتواها حتى امست عنوانا اجوف لا مضمون له، وجاء موقف الشرق في الواقع كرد فعل لتزييف الحرية في الغرب، فنفى الحرية نفيا كليا. أما نحن فنرى أن الجواب على تزييف الحرية لا يكون بالاستغناء عنها، وانما بتطبيقها تطبيقا صادقا. ان ما يزعم انه معركة الحرية بين الغرب والشرق هو في الواقع ضد الحرية، لأن الحرية واستئصال الخصم لا يجتمعان. ولقد رأينا الحرية تستيقظ في المعسكر الشرقي حين خف ضغط الغرب عليه، فلما عاود الغرب ضغطه وتهديده، عادت قوى الحرية فانكمشت من جديد، كما حدث في المجر مثلاً، فالعدوان الاستعماري الغربي هو الذي أوقف حركة التحرر في أوروبا الشرقية وكان ممكنا ان تنمو وتصبح حركة سليمة ايجابية.
وبالتالي، من هذه الزاوية أيضا، يبرز اثر ايجابية الحياد على الصعيد الانساني. فهي في الواقع لا تهدف الى مجرد تأمين مصلحة الشعوب القائمة بهذه السياسة، بل تتجاوزها الى تأمين مصلحة شعوب المعسكرين المتناحرين ايضا. فهي، من جهة، تتيح لحكومات المعسكر الشرقي مجال تصحيح موقفها من شعوبها بالاتجاه نحو الحرية، ومن جهة اخرى تعمل، بانسجامها مع مصلحة الشعوب الغربية نفسها، على ان تزداد الهوة القائمة بين هذه الشعوب وبين حكوماتها الرأسمالية الاستعمارية، لتدفعها تدريجيا الى الاشتراكية، والى طرح الاستعمار والاعتراف بحقوق الشعوب وسيادتها. وسياسة الحياد لا تعني رفض التعامل مع الغرب، بل رفض احتكار الغرب لهذا التعامل، وتقبل بالتعامل مع الغرب والشرق على السواء، تحقيقا لمصلحة شعوبهما ومصلحتنا في وقت واحد .
من هذا كله، يتبين ان مهمة الحياد الايجابي هي منع انفجار الصراع بين الديمقراطية بمعناها العميق الشامل وبين العدالة الاجتماعية في صورتها الاشتراكية الكاملة. ان كلا المعسكرين يراهن على المستقبل، المعسكر الغربي يقول ان الديمقراطية اذا روعيت بشكلها الكامل تضمن في النهاية تحقيق العدالة الاجتماعية، والمعسكر الشرقي يؤمن بأن تحقيق العدالة الاجتماعية هو الذي سيؤدي في نهاية الامر الى الديمقراطية الصحيحة. وكلا المعسكرين بالتالي، يعترف بافتقاره الى تصحيح أوضاعه، ولكنه لا يسلك السبيل الى ذلك، بل يحاول تسويف هذا التصحيح إلى ما بعد القضاء على المعسكر الآخر، أي انه ينفي الضمانة الكبرى لهذا التصحيح. أما الحياد الايجابي فيدعو الى ان يتم هذا التصحيح الآن لا في المستقبل، أي أن يصحح المعسكر الشرقي نفسه مع وجود الغرب، متطورا نحو الحرية، وان يصحح الغرب نفسه مع وجود الشيوعية، متطورا نحو الاشتراكية وتصفية الاستعمار. وهكذا يرد الحياد الايجابي سياسة الإحراج –أي إحراج الدول غير المنضمة الى احد المعسكرين بدعوى انه يجب القضاء على العدو قبل أن يصحح كلاهما خطأه- هذه السياسة التي يتضمنها منطق التناحر بين المعسكرين، ويتيح فرصة لكل منهما للتصحيح، ويحول دون دخولهما في معركة، ويضمن السلم للعالم .
وكذلك في داخل بلادنا تضمن سياسة الحياد السلم. ذلك ان الحياد هو السياسة التي تسمح للفئات التي لا تقاوم الاستعمار مقاومة عنيفة أن تنضم الى النضال الشعبي، اذ من الصعب على هذه الفئات أن تظهر رفضها لسياسة تحارب التبعية والاستعمار، وان كانت لا تخلص حقا لهذه السياسة بسبب الارتباط الوثيق بين السياسة التحررية وبين تصفية المصالح الاقتصادية لهذه الفئات، ولأن التحرر من الاستعمار يؤدي بطبيعته الى التحرر الاجتماعي في الداخل والى القضاء على امتيازات هذه الفئات. أما لو تخلينا عن سياسة الحياد هذه وقلنا بالانحياز الى الشرق لتعجيل التحرر، فان تلك الفئات الرجعية ستنحاز صراحة الى صف الاستعمار وتحارب في صفه، ومن ثم تكون الحرب الأهلية في الداخل. وواقع الامر أننا الآن في مرحلة تقتضي تركيز الجهود للتحرر من الاستعمار، وان رافق ذلك جهد معتدل نسبيا للتحرر الداخلي والتوحيد القومي، فيجب اذن ان نستفيد من كل قوانا الممكنة في المعركة، حتى ولو كانت بعض هذه القوى غير مخلصة كل الاخلاص في مساهمتها، دون ان يمنعنا ذلك -خلال الطريق- من ان ننتزع من هذه الفئات بعض الامتيازات ومن ان نحقق بعض الكسب في مجال الوحدة القومية لضمان تقوية نضال الشعب وتحرره.
ومن هنا، يظهر خطأ موقف الشيوعيين العرب من الحياد، اذ يرون فيه كسبا دون ان يروا فيه الكفاية، متخذين في ذلك موقفا هو في الواقع رد فعل يكشف عن ضعف ثقتهم بأمتهم. فكما كانوا في الماضي يعادون القومية والوحدة لانهم لم يكونوا يؤمنون بإمكان قيام فكرة قومية او دعوة للوحدة غير رجعية، كذلك تراهم الآن لا يكتفون بالحياد للصمود في وجه الاستعمار، بل يبدون من طرف خفي انحيازهم للمعسكر الشرقي، وموقفهم في الحالين موقف رد فعل لموقف الرجعيين وعملاء الاستعمار، ولا يحاولون السمو عنه الى موقف استقلالي أصيل. ان هذا الموقف الأصيل هو الحياد، الذي يحقق السلم الداخلي حين لا يستبق المراحل في النضال ولا يفتح الباب لحرب اهلية في كل قطر من اقطارنا، كما انه ييسر تعاون هذه الاقطار بعضها مع بعض. فالوطن العربي يضم اقطاراً متحررة واخرى غير متحررة، أقطارا بلغ فيها الوعي الشعبي حدا أوصل معه الى الحكم او فرض على رجال الحكم عناصر تقاوم الاستعمار، واقطارا اخرى ما تزال حكوماتها لا تقبل هذه السياسة التحررية لان الشعب فيها لم يبلغ بعد المستوى اللازم من النضج النضالي ولان شروط النضال والتنظيم فيها عسيرة، وسياسة الحياد تتيح لهذه الاقطار المتخلفة ان ينضج فيها هذا النضال حتى تتساوى مع الاقطار الاسبق، ونحن نرى اليوم فائدة هذه السياسة. اذاً بالرغم من ان بعض حكوماتنا تنحاز صراحة الى الغرب، وبعضها ينحاز اليه انحيازا خجولا يحاول ان يجد له المبررات، فان سياسة الحياد هي التي تجعل هذا الانحياز بهذا التردد وهذا الخجل، وتضغط على الحكومات كي تستجيب للشعب في الانفكاك عن الاستعمار والعمل للتحرر.
القاهرة، آذار 1957
الشعب العربي الواحد
كان الأستاذ ميشيل عفلق قد اجتمع في القاهرة سنة 1957 بعدد كبير من الطلبة والمثقفين العرب، بينهم القوميون والماركسيون وغيرهم وقد عكس هذا الاجتماع التيارات الفكرية والسياسية التي كانت تشغل أذهان المثقفين العرب في تلك الفترة المضطربة والمحفوفة بالاخطار، والتي كانت في الوقت نفسه، تمثل اعلى درجات الوعي العربي الجماهيري والمد الشعبي التحرري الواسع ضد الاستعمار كما عكس ذلك الاجتماع. بصورة خاصة، تطلع المثقفين من ابناء القطر المصري لتفهم القومية العربية وشعاراتها التي كانوا يواجهونها لاول مرة بشكل عقيدة لها منطق ولها فلسفة سيما وهم يعيشون مرحلة ثورية ونضالية ضخمة اثناء معركة تاميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر لمسوا من خلالها اهمية هذه الافكار، حتى قبل ان يستوعبوها بشكل علمي.
لذلك اراد الاستاذ ميشيل ان ياخذ الحديث في ذلك الاجتماع طابع الحوار، فيستمع الى تساؤلاتهم ومن ثم يوضح لهم رأي الحزب فيها فكان هذا الحديث الشامل
سؤال: ما رأيكم فيما يقوله البعض من ان القومية ليست الا شعار النضال العربي المشترك؟
الواقع الذي لا ينكر ان القومية العربية قد استفادت كثيرا من النضال العربي المشترك ضد الاستعمار، ولكن ليس معنى هذا ان القومية هي شعار هذا النضال المشترك، بل الاصح ان يقال ان النضال ضد الاستعمار هو احد شعارات القومية العربية في المرحلة الحاضرة. وذلك لان هذه القومية كانت ابدا موجودة، وان اختلفت وضوحا وضعفا، وكانت ابدا تتمتع بالحد الادنى من المقومات الضرورية التي كونتها اللغة والدين والتراث، وهي الآن ترتفع فوق هذه المقومات جميعا لتزداد حياة وانسانية.
سؤال: ما رأيكم في قول البعض بان العالم صائر يوما الى وحدة واحدة، تندمج فيها القوميات وتنصهر في بوتقة واحدة؟
ان هذه الوحدة قد تتم، وفي ظروف قد لا تكون بعيدة، اذا قصد بها ان تكون تنظيما دوليا او مجرد شكل للحكم. ولكن هذا التنظيم لا يكون حيا ولا يمكن ان يستمر اذا قصد به ان يؤلف شخصية واحدة تمحو الشخصيات القومية، بدلا من ان تكون تنسيقا لها يزيدها تفاعلا وغنى. ولذلك نقول ان القومية باقية خالدة، تظل ذات شخصية حية ومقومات، ولو ان هذه المقومات كما حدث في الماضي، يمكن دائما ان تتطور كما يمكن ان تتبدل وتتشتت ولكنها على اية حال تظل باقية لا تزول.
والواقع ان من الخطأ وضع القومية والانسانية كمراحل ترتيب زمني. ان الانسانية موجودة وجود القومية، وهي الآن تزداد غنى بتيسر وسائل الاتصال بين البشر، ولكنها لا تذيب القوميات في وحدة تأتي بعدها، بل تغنيها بتفاعلها المستمر، فبدلا من ان نقول ان عهد القوميات سائر الى الزوال ليفسح المجال امام عهد الانسانية، يصح ان نقول اننا قد بدأنا فعلا في عهد “القوميات الانسانية”، الذي تصبح فيه القومية انسانية بتخلصها من تعصبها وانكماشها وعواملها السلبية الأخرى.
سؤال: لماذا يصر حزب البعث على القول “بشعب عربى واحد” ويتجنب دوما استعمال عبارة “الشعوب العربية”؟
من الخطأ الظن بان هذه المجموعات من الناس التي تعيش ما بين المحيط الاطلسي والخليج العربي والتي يجمعها الشعور بوحدة المصير، هي شعوب لكل منها المقومات التي تميزه بقومية خاصة، الا اذا اخذت كلمة “الشعب” في اصلها اللغوي الذي يعطيها معنى الفرع في جسم الامة، بمعنى ان له بعض المميزات المحلية التي يفرضها تنوع الأقاليم والبيئات والظروف في اطار الوحدة العامة. واذ ذاك نقول الشعب المصري والشعب السوري بما يقارب المعنى الذي نقول به شعب الاسكندرية وشعب اسيوط، اما اذا قصدنا بالشعب معناه القومي الكامل فكل هذه المجموعات اجزاء في شعب واحد هو الشعب العربي.
وان اكثر الاقطار التي تؤلف الوطن العربي اليوم كانت حتى قبل الفتح العربي، وبرغم الطابع المحلي لكل منها، تؤلف شخصية حضارية واحدة تتغذى بالتيارات الحضارية التي تمر بها، فتغتني بها دون ان تفقد مقومات هذه الشخصية. وقد كانت مهمة الفتح العربي ان زاد شخصيتها هذه قوة ووحدة فظلت حية مستمرة حتى الان، ويكمن فيها تراث كل الحضارات التي سبقتها. ونحن لا نحارب تراث الحضارات المختلفة في قوميتنا ولا نحاول ان نحاربه، بل بالعكس يهمنا ان تغتني به عروبتنا، تماما كما يهمنا ان نتفاعل الان مع حضارات الشعوب الاخرى في العالم.
ولو صح ان كل مرحلة حضارية مرت في بلادنا يجب ان تبعث وان يعترف لها بقومية خاصة لتعددت هذه “القوميات” في كل قطر من اقطارنا، لا في مجموعة هذه الاقطار فحسب. مع ان الواقع ان كلا من هذه الحضارات الفرعونية او الآشورية او الفينيقية قد أدت مهمتها التاريخية في حينها، وما ظل من تراثها له القدرة على الاستمرار فقد ساهم في اغناء القومية العربية واصبح جزءا من مقوماتها.
سؤال: ما هو موقفكم من الفئات التي اخذت اخيرا ترفع شعارات القومية العربية؟
ان تبنّي مختلف الفئات للشعارات العربية التي ينادي بها البعث لدليل على قوة العقيدة القومية، اذ بعد ان كانت تهاجم ويشكك فيها، اثبتت الاحداث عمق تجاوبها مع الشعب العربي، وفرضت نفسها حتى على اولئك الذين لا يؤمنون بها كشيء ثابت ونهائي، وان كانوا يقرونها الان. وهذا بالطبع كسب يجب ان يلقي منا التشجيع وان يزيدنا ثقة بسلامة عقيدتنا.
على ان نجاح الفكرة القومية وانتشارها هذين لا يعفيان معتنقيها الاصليين من متابعة العمل والنضال لزيادتها توضيحا وتعميقا وترسيخا، لانهم بصورة طبيعية اقدر على ذلك من الجماعات الاخرى. فهذا الفارق بين حمل الفكرة يوم كان حملها ثورة على الواقع وتحديا له، وبين تبني الفكرة نفسها بعد ان راجت وتم نجاحها، لا بد ان تكون له آثار عملية في المرحلة الحاضرة بالذات وفي المستقبل، حتى عندما نسلم بصدق مقاصد الذين اخذوا يتبنونها، لما يعتور هذا التبني من سطحية وأخطاء.
فنحن اذن نرحب بان ترفع الفئات الاخرى شعاراتنا ولكن على حذر وتحفظ، يضمنان ان تحتفظ الفكرة القومية باصالتها وبكل طاقتها الثورية. اذ لو اكتفى الناس بتبني نتائج الثورة دون ان يصعدوا الى اسبابها ومقدماتها واسسها، لكانت معرضة دوما للانتكاس او للتخلي عنها في حال تبدل الظروف. فما نقصده بالحذر والتحفظ انما هو الاصرار والالحاح، في المجال الفكري العقائدي، على ربط النتائج بالمقدمات لنرتفع بالشعارات القومية العربية من مستوى الاستهلاك السياسي الى مستوى القناعة.
سؤال: ما هي علاقة الوحدة العربية بالقومية العربية ؟
ان الوحدة العربية ليست هي القومية العربية كما يشعر بذلك التعبير المتداول الان، بل هي جزء من محتوى هذه القومية في مرحلة من المراحل، فالنظرية القومية للفكرة العربية في هذه المرحلة تقوم على تحقيق الاهداف الثورية الثلاثة: الحرية والوحدة والاشتراكية. النظرية القومية تنشأ في مرحلة لتحقق اشياء مفقودة في حياة الأمة العربية في هذه المرحلة، اما القومية العربية نفسها فهي ابدا موجودة قائمة.. ووجودها هو الذي يسمح بتحقيق الحرية والاشتراكية والوحدة.
ولقد كانت الوحدة مطلبا للامة العربية منذ ان طرأت عليها التجزئة، فالبعث لم يخلق مطلب او هدف الوحدة ولكنه اعطاه مفهوما جديدا جعله قابلا للتحقيق. فالوحدة في نظر البعث فكرة ثورية وعمل ثوري، خلافا للمفهوم الذي كان سائدا والذي لم تزل آثاره ممتدة الى اليوم والذي يعني مجرد الجمع والربط بين اجزاء الوطن العربي، اما المفهوم الثوري فيعني خلق التفكير والنضال المناقضين لحالة التجزئة ولما اورثته واصطنعته التجزئة من عقلية وعواطف ومصالح واوضاع سياسية واقتصادية واجتماعية داخل كل قطر من اقطار الأمة.
وهكذا تتصل الوحدة، بمفهومها الثوري، بالهدفين الثوريين الآخرين: الحرية والاشتراكية، وتتفاعل معهما وتغذيهما وتتغذى منهما. وهكذا تدخل الوحدة لاول مرة منذ اجيال في صميم حياة الشعب العربي وفي صميم نضاله من اجل حريته واستقلاله ومن اجل حقوقه السياسية وقوته اليومي والشروط الاقتصادية والاجتماعية المحققة لكرامته الانسانية ولمهمته القومية.
فالوحدة العربية هي وحدة الشعب العربي، والنضال في سبيلها نضال شعبي، وصورتها المقبلة تولد وتتحد بما يحمل نضال الجماهير العربية من تجارب ومعان تحررية انسانية.
سؤال: ما اثر الوحدة في الخصائص الاقليمية لكل قطر عربي؟
الوحدة ثورة تأتي لتزيل التشويه وتغير الواقع وتكشف عن الاعماق وتطلق القوى الحبيسة والنظرة السليمة. والخصائص الاقليمية منها السليم ومنها الزائف السلبي الذي ليس هو الا نتيجة انعدام الوحدة. فليس كل شيء في واقعنا جديرا بالبقاء لمجرد انه موجود. اما السليم الايجابي فهو الذي يغني الوحدة ويأتلف معها بل هو شرط لوجودها. والغريب ان تعطى الوحدة العالمية من الحقوق ما ينكر على الوحدة القومية. فالوحدة العالمية هي ايضا تفترض التخلص من الخصائص السلبية الزائفة بعملية تقريب وتوحيد وتوجيه، كما انها تتسع للخصائص السليمة وتغنى بها. والاغرب من كل شيء ان نسمع استنكارا للعمومية ممن اوصلوا العمومية الى نهايتها المجردة وان نراهم يخافون على الخصائص الصغيرة وهم اتباع النظرية التي تضرب صفحا حتى عن الخصائص الضخمة الجسيمة. الا يكون هذا لكي يبقى الكيان القومي ضعيفا حتى يسهل غزوه بفكرة الاممية الطبقية، وهل يكون اذن هذا الحرص على الخصائص الصغيرة بريئا ومقصودا لذاته؟
اذن، فلا يجور ان نتصور الوحدة كعملية جمع منفعل، لانها ليست وحدة لاجزاء سليمة، ولا نتيجة لتجزئة حديثة طارئة. انها فاعلة خلاقة فيما بين الاجزاء وفي داخل كل جزء، وهي منبعثة من داخل كل جزء كضرورة حيوية لهذا الجزء نفسه، قبل ان تكون مطروحة بشكل علاقة بين الاجزاء للتعاون والتضامن. الوحدة لا تفقد الجزء شخصيته، بل تؤكدها وتعمقها وتعطيها حقيقتها واصالتها وابداعها عندما تضع الجزء في مكانة الحي كجزء من كل.
سؤال: ما موقف “البعث” من اسرائيل؟
اننا نعتبر اسرائيل قاعدة للاستعمار دون شك، فهو الذي خلقها ويدافع عنها ويغذيها لهذه الغاية، ولكن هذا لا يستنفد كل المشكلة، فالمشكلة هي هذا واكثر.
فاسرائيل هي ايضا تعبير عن قوة الصهيونية العالمية، التي تستطيع ان تسخّر الاستعمار. الاستعمار يسخّر اسرائيل، ولكن الصهيونية العالمية تستطيع ان تسخّر الاستعمار نفسه، فتوصّل العرب الى القضاء على الاستعمار يحل اضخم جزء من المشكلة ولكن لا يحلها كلها. وبالاصح، هذا التوصل الى القضاء على الاستعمار يشترط حتى يتحقق ان نحسب حسابا لقوة الصهيونية العالمية، وبالتالي فان نضالا آخر يجب ان يرافق نضالنا ضد الاستعمار، هو نضالنا ضد الصهيونية. والصهيونية العالمية بما لها من نفوذ قوي استطاعت ان تسخّر بالاضافة الى القوة الاستعمارية، الطبقات الشعبية نفسها في كثير من البلاد، مستغلة الوضع التاريخي الخاص لوجود يهود في اوروبا تعرضوا في فترات كثيرة للاضطهاد الديني والعنصري، ومستغلة المستوى الحديث الراقي لدولة اسرائيل من حيث الكفاءة الفنية، وبالتالي تخلف المجتمع العربي وطابعه الرجعي، لتجعل من اسرائيل رائدة التقدم في هذه المنطقة من العالم وتجربة جديدة لحضارة الغرب في هذا الجزء من الشرق، تجربة تستحق الرعاية والتشجيع.
ووجود اسرائيل واقع في مرحلتنا القومية الحاضرة، يجب ان ندخله في حسابنا وان نجد له الحل الكامل دون ان نتهرب من بعض المصاعب، ودون ان نتهيب رؤية العلاقة العميقة التي تصل وجود اسرائيل بمشكلاتنا القومية من جميع نواحيها، اي فيما يتعلق بأسس نظامنا الاقتصادي واتجاهنا الاجتماعي وتربيتنا السياسية ووحدتنا القومية، وان نرى بوضوح وجرأة ان كل تلكؤ في مواجهة مشاكلنا السياسية ووحدتنا القومية، بتفكير واسلوب ثوريين انقلابيين، قد لا يؤخر حل مشكلة اسرائيل فحسب، بل يسمح بتدعيم كيانها الى حد يصعب او يتعذر معه في المستقبل التخلص من هذا الخطر. فاذا عالجنا مشكلة اسرائيل على ضوء نظرتنا العربية الانقلابية، التي ترتبط فيها صورة المجتمع العربي المقبل بصورة العالم او المجتمع الدولي والانساني المقبل الذي يسهم العرب في تحقيقه، نصل الى النتيجة الآتية:
ان ما يشكل خطرا على الأمة العربية هو كيان اسرائيل كدولة، لا وجود اقلية يهودية في الوطن العربي، وان التعجيل في النضال التحرري والوحدوي وتحقيق خطوات سريعة وجدية في هذين المجالين يقطع الطريق على اطماع الاستعمار في استخدام اسرائيل، واطماع الصهيونية العالمية في استخدام الاستعمار للمحافظة على اسرائيل وتوسيعها، والتعجيل في النضال الاشتراكي العربي يضعف مخاوف الاقلية اليهودية من تعذر تعايشها السلمي العادل مع العرب، كما يزيل او يضعف سلاح الدعاية الصهيونية العالمية في استدرار عطف الشعوب الحرة والطبقات الشعبية على اسرائيل كدولة يراد لها ان تكون ملجأ لشعب مضطهد ولشعب راق متقدم قد يحمل بذور التقدم الى الاقطار المجاورة. واخيرا، فان اصرار العرب على اتجاههم الانساني في المجال الدولي، وتعاونهم مع الشعوب الاخرى في سبيل توطيد السلم والتقدم الاشتراكي لجميع الشعوب وسياسة الحياد الايجابي، كل هذا يساهم في ازالة اسباب التعصب العنصري والديني ويساهم الى حد ما في حل هذه المشكلة.
سؤال: ما هي العلاقة بين اسرائيل والاستعمار؟
لم يكن وجود الصهيونية كافيا لكي ينجح الصهيونيون في استملاك فلسطين واقامة دولة فيها. و الحركة الصهيونية في البدء لم يكن هدفها فلسطين. كانت تفتش عن اي ارض في العالم تقيم عليها وطنا قوميا يهوديا. ولكن الحركة الصهيونية من جهة ومصلحة الاستعمار من جهة… وتلاقي المصلحتين هو الذي ساعد على خلق هذه الدولة. والمفهوم بداهة بان مساعدة الدول الاستعمارية للحركة الصهيونية على تحقيق اغراضها في فلسطين يقصد منه الحيلولة دون الوحدة العربية، والحيلولة دون قوة الأمة العربية. ان استكمال هذه القوة يشكل خطرا على وجود الاستعمار. فعندما يتمكن اليهود من اقامة دولة في قلب البلاد العربية تساعدها الدول الاستعمارية باستمرار، ينشغل العرب بهذا العدو ويبذلون قسما كبيرا من جهودهم في دفع خطر هذا العدو وفي الاستعداد لمواجهة خطره، كما ان نفسيتهم وتفكيرهم يمكن ان يشغل عن الاستعمار بهذا العدو الظاهر المقيم. وتعرفون كيف ان بريطانيا نفسها كانت، واحسب انها مازالت الى اليوم والى الغد، تحاول ان تظهر بوجهين وان تلعب على الحبلين، فهي التي اوجدت اسرائيل وتدعو الى مقاومة اسرائيل وتتكلم كانها عربية قحطانية تغار على العروبة، وتتحالف مع بعض الدول العربية بحجة الدفاع ضد الخطر الاسرائيلي او بحجة التخلص من اسرائيل. فلم نكن مخطئين اذن عندما وضعنا دوما العدو الاول هو الاستعمار، واعتبرنا اسرائيل نتيجة للاستعمار وحليفة له وربيبة له، وان مصيرها مرتبط بمصيره. ولكن لا حاجة الى تنبيهكم بان هذا لا يجوز ان يؤخذ بالشكل الحرفي وان تظنوا ان اسرائيل تأتمر بالاستعمار بكل شيء، هي حليفة للاستعمار ولكنها ليست اداة بالمعنى العادي… لها كيانها، ولها خططها ولها مصالحها ولها قوتها وذكاؤها وسياستها. اذن هي احيانا تورط الدول الاستعمارية، واحيانا اخرى الدول الاستعمارية تدفعها.
اشرت الى هذا لكي ابين لكم انها تضليل الدعايات الاستعمارية، ودعايات عملاء الاستعمار والفئات الرجعية التي تتبنى منطق الاستعمار، لانها اصبحت تعي صلتها بالاستعمار وان مصلحتها رهن ببقاء الاستعمار. ففي هذه الاشهر الاخيرة فقط، اذا اكتفينا بها، كنا نرى صحفا كثيرة في هذا البلد وفي بلدان عربية اخرى مسيرة مباشرة او بصورة غير مباشرة من الاستعمار، ومن الانكليز بصورة خاصة، كلما قامت حركة شعبية، كلما قام نضال في بلاد العرب في وجه الاستعمار الغربي، قامت هذه الدعايات وهذه الفئات والاوساط تصرح بانكم نسيتم العدو الاول للعرب، اسرائيل، وان كل الانتباه يجب ان يركز عليها وان كل الجهود يجب ان تصرف لمقاومتها. وتعرفون ايضا بانهم حاولوا كثيرا ان يظهروا حلف بغداد بان مبرره الاول والاكبر انه وجد ليساعد على محو اسرائيل وعلى التخلص منها، وان بواسطته سيحصل العراق على الاسلحة، وتقوى الجيوش العربية. وكان هذا تناقضا مفضوحا، واستمروا الى الايام الاخيرة في هذه الدعاية حتى ان الاوساط الانهزامية في لبنان، وهي معروفة بجفائها لكل ما هو عربي وبعقليتها الطائفية المتعصبة، وبصلاتها المشبوهة مع دول الغرب، قد شاركت فيها. عندما نشأت ازمة قناة السويس سمعنا اصوات هذه الفئات تذوب غيرة علي فلسطين وتتوعد اسرائيل وتكثر من الكلام والكتابة عن اسرائيل وخطرها على العرب والعروبة، لكي تلهي الناس عن الخطر الحقيقي وعن موضوع الساعة.
سؤال: ما هو موقفكم من الاحلاف ومبدأ ايزنهاور؟
قبل ظهور السياسة التحررية، كان منطق السياسيين العرب في موضوع الاحلاف لا يعترض الا على عدم تسليم الغرب بمطالب العرب القومية، اي انه كان يقبل بمبدأ الاحلاف قبولا مشروطا بتحقيق الاهداف القومية. وكان هذا منطقا متناقضا متهافتا، اذ لو كانت دول الغرب مستعدة للتسليم بهذه الاهداف ولتحقيقها اي مستعدة للتنازل عن الاستعمار، لتغير الوضع العالمي تغيرا اساسيا أثر بصورة عميقة على موقف المعسكر الشرقي، ولما عاد ثمة مبرر للاحلاف.
اما نحن فنرى في هذه الاحلاف عدوانا جديدا على العرب، عدوانا مزدوجا، لانها اولا استمرار لاستعمار العرب، يثبت قبضته عليهم ويعاود احتلال ما تحرر من اقطارهم وينهب خيراتها، ويعرقل وحدتها ونهضتها. ولانها ثانيا تتحكم برأي العرب في السياسة الدولية وفي النظرة الى مستقبل العالم، اذ تدعوهم للتحالف مع الغرب ضد عدو مشترك، مع انه ليس من شيء يبرر اقتداء العرب بالغرب في النظر الى المعسكر الشرقي وان كانوا لا يقبلون الشيوعية. وهكذا ينبع رفضنا للاحلاف من نظرة اعمق واسلم واكثر ايجابية، فهو يشير دون مواربة الى ان عدونا الحقيقي هو الاستعمار، ويقضي بتركيز كل الجهود لمحاربة الاحلاف. فالاستعمار سبب الاحلاف وليس عقبة بيننا وبينها، وبصورة اخرى نقول ان الاحلاف هي الاستعمار ذاته لانها في حقيقتها لا تتوخى تحقيق شيء بعد مرحلة الاستعمار او شيء يتجاوز علاقتنا مع الاستعمار الى هدف عالمي انساني.
اما النظرة العالمية الانسانية فهي في موقف العرب من الاحلاف: انهم في حرصهم على حريتهم واستقلالهم ووحدتهم، ونضالهم في سبيل هذه الاهداف، انما ينظرون الى مستقبل العالم من خلال نظرتهم الى مستقبلهم هم كما يريدونه. ففي عالم يكون فيه العرب امة حرة مستقلة موحدة، ومثلهم سواهم من الشعوب المستضعفة، لن يبقى استعمار ولن تبقى معسكرات وبالتالي لن تكون ثمة حاجة الى الاحلاف.
اما مبدأ ايزنهاور فهو يمثل ذروة المنطق الاستعماري. انه الخطوة الاخيرة التي كان على الاستعمار ان يخطوها ليصل الى الصيغة المعبرة اقوى تعبير عن تناقضه وتعصبه وقرب انهياره. فالاستعمار الذي هو نقيض المبادئ يصل اليوم لتسمية نفسه باسم “مبدأ”. والغرب الذي كانت اقوى حججه على الشيوعية انه لم يجارها في المذهبية المتعصبة يضطر اليوم لتفادي انهياره، ان يلبس نفس اللباس المذهبي المتعصب فيسمي نفسه العالم الحر ويفرض على الدول والشعوب الضعيفة الاستغلال والتبعية باسم الدفاع عن الحرية، فهو يفضح ماهية هذه الحرية كما يفهمها: حرية السادة الذين يجب ان يكون لهم عبيد، حرية الغرب الذي لا يستطيع ان يبقى حرا الا اذا ظل جزء كبير من العالم مستعبدا له.
فالحرية التي يأتي مشروع ايزنهاور ليغري العرب بها ليست الا استمرارا وتضخيما للاستعمار الذي عرفوه عشرات السنين: فهو محاربة لكل نزعة تقدمية، وتشجيع للرجعية وللمجتمع الطبقي الفاسد، وتعميق للانقسام بين الاقطار العربية وفي داخلها، بالفتن والمؤامرات، وتقوية لاسرائيل على حساب العرب.
سؤال ما معنى القول بان اشتراكيتنا عربية؟
يمكن القول بان هذا الوصف للاشتراكية بانها عربية يتضمن شيئين:
الاول: بانها اشتراكية ملائمة لظروف وحاجات المجتمع العربي. وقد كنا بحاجة الى الالحاح على هذه الناحية، رغم انها تبدو اليوم بديهية. متى عرفتم ان الإشتراكية الماركسية، لم تكن تقبل فكرة التنوع مطلقا بل تعتبر ان الاشتراكية واحدة، وكانت وما زالت تسمي نفسها اشتراكية علمية وتقصد بذلك ان القوانين العلمية لا تتغير بتغير الزمان والمكان وانها واحدة يصح تطبيقها في كل الحالات. ولكن الماركسية هي التي تراجعت عن هذا الادعاء وغدت اكثر مرونة.
والثاني: (وهو المعنى الذي لا يتبادر الى الذهن مباشرة وقد لا يفطن اليه كثيرا) هو ان اشتراكيتنا مرتبطة ارتباطا وثيقا بقوميتنا العربية. فهي في تفاعل مع هذه القومية وهي جزء اصيل منها، وبالتالي ليست شيئا خارجا عنها وليست شيئا اعلى منها يفرض نفسه على القومية العربية، وتضطر هذه القومية الى ان تتكيف بما يناسب الإشتراكية. واحسبكم تفطنون الى الرأي المعاكس الذي يقول ان الاشتراكية هي الاصل وكل الاشياء الاخرى تتفرع عنها وتنفعل بها. فنحن قد لا نصل الى حد القول بان القومية هي الاصل والاشتراكية هي الفرع، ولوان هذا جائز نوعا ما اذا لم يكن بد من ايجاد تسلسل في الاهمية والقيمة، ولكن الواقع ان تفكير الحزب كان حريصا على الا يقيم مثل هذا التفريق المصطنع، فنظرة الحزب تحرص دائما على ان تكون نظرة حية.
سؤال ما هي علاقة الاشتراكية بالقومية العربية؟
قلنا دائما ان الإشتراكية ليست طارئة على القومية العربية، فالقومية العربية عندما تعي ذاتها وعيا عميقا وصحيحا، عندما تتهيأ الشروط لكي تنضج النضج الصحيح وتعبر عن نفسها، تجد ان الاشتراكية شيء اصيل فيها.
واعتقد ان هذا المعنى يختلف عن الفهم الذائع الذي يريد ان يقصر الصفة العربية لاشتراكيتا او الصفة القومية لاية اشتراكية على كونها فقط اشتراكية متأقلمة، اي خاضعة لظروف الزمان والمكان. هذا يعني ان لب الاشتراكية واحد ولا يتغير، ولكن هناك تعديلات ثانوية تطرأ عليها عندما تتغير مجالات تطبيقها. هذا المفهوم هو الذي بدأت الماركسية تتسع له وتنادي به، ولكن هذا داخل في تفكير البعث منذ البدء وهو ليس كل شيء فيه.
واعتقد ان الناحية المادية هي المميزة لتفكير البعث: ان هناك بين قوميتا واشتراكيتا ترادفا وتمازجا وتفاعلا وانه ليس هناك قومية واشتراكية، نجمع بينهما لنصل الى صيغة جديدة للقومية، وانما هناك قومية هي اشتراكية بمجرد وجودها، وانها اذا لم تكن اشتراكية فانها تفقد وجودها ذاته. كذلك فحن بتخصيصنا ان اشتراكيتا هي عربية، من صميم ومن صلب قوميتا، نتيح للامة العربية ان تتمكن من الاهتداء بحرية وقناعة وبدون ضغط وارهاب من الخارج، الى نظرتها الخاصة الى الانسان والاخلاق والى التاريخ والسياسة ولى شتى مجالات الفكر والعمل.
ثم انه ترتب على نظرتنا القومية واعتبار العرب أمة واحدة لا تتجزأ، والبلاد العربية وطنا واحدا، ان كانت دعوتنا دوما الى اشتراكيتنا بانها الاشتراكية التي تحتاج الى نضال الشعب العربي بكاملة لتتحقق، وتحتاج الى الوطن العربي بكامله كمجال للتطبيق. فلم نؤمن في يوم من الايام بامكان تحقيق اشتراكية صحيحة في قطر واحد، وان كنا نعمل دوما للتمهيد لهذه الاشتراكية بتحقيق اصلاحات في كل قطر. وذلك ان بعض الاقطار العربية على الاقل ليس فيه الشروط الاقتصادية الكافية لقيام اشتراكية سليمة. في حين ان الحركة الشيوعية، لانها لم تنظر الى الأمة العربية كوحدة فانها وقعت، نظريا على الاقل، في تناقض عندما تعد الناس باقامة نظام اشتراكي في قطر صغير ليس فيه صناعة ولا مقومات اقتصادية كافية. كذلك فان الشيوعية تقع في التناقض، نتيجة عدم ايمانها بالقومية وبوحدة الأمة، حينما تربط احيانا بين النضال في قطر عربي والنضال العالمي، قافزة من فوق نضال الاقطار العربية الاخرى.
واشتراكيتنا التي هي على اساس عربي موحد، حافظت دوما على اتجاهها الانقلابي لانها كانت دائما تستند الى واقع الأمة العربية بمجموعها، وهو واقع ثوري انقلابي من الطراز الاول، ولكن اذا اهمل اعتبار وحدة الأمة فقد لا تكون الاشتراكية ثورية دائما بالنسبة الى جميع الاقطار العربية، اذ ان من بينها اقطارا في حالة او شروط اجتماعية واقتصادية قد يظن بانها لا تستدعي الانقلاب وانما يكفيها الاصلاح، فمثل هذه الاقطار قد يستفيد احيانا من وضع التجزئة الذي يدعمه الاستعمار والطبقة الرجعية فيحصل على مكاسب اقتصادية مصطنعة تضعف من حاجته الى الثورة الاشتراكية، اما حركتنا فهي الوحيدة التي تكشف هذا الزيف والاصطناع لانها تنظر الى هذه الاقطار كاجزاء في جسم واحد، وبالتالي تطالب لها كلها باشتراكية واحدة ثورية.
سؤال هل تأخذ حركة البعث بسياسة المراحل؟
ان حركتنا تأخذ بسياسة المراحل ولكنها تفهمها على انها الحاح على ناحية اكثر من غيرها، وليست الاقتصار على ناحية واحدة واهمال النواحي الاخرى، فلا نقتصر على مقاومة الاستعمار فحسب، بل نعمل ايضا للاشتراكية والوحدة. قد تكون الظروف مهيأة لمحاربة الاستعمار اكثر من اي عمل آخر. ولكن اقتصارنا على محاربة الاستعمار فحسب يطعن النضال نفسه.
فنحن اذن لا نفصل فصلا تاما بين مرحلة نضال وطني واجتماعي ووحدوي وانما نمشي في هذه المجالات كلها في آن واحد، ولكن نلح فقط ونركز على ناحية او اكثر حسب الظروف، ولا نؤمن بامكان تحقيق اي نجاح في احد هذه المجالات اذا لم يكن مدعوما بنجاح وتقدم في المجالات الاخرى. فنحن لم نسكت في هذا الظروف كما لم نسكت في الماضي عن المطالب الاشتراكية او المقربة من الاشتراكية، لعلمنا بان التحرر من الاستعمار دون تحقيق اصلاحات اجتماعية تقوي نضال الجبهة الشعبية وتهيئ لها شروطا انسب لمتابعة النضال، يبقى شيئا ضعيفا ومهددا دوما بالانهيار او الانتكاس، وكذلك الشان في نضالنا من اجل الوحدة. وبكلمة مختصرة فان حركتنا لا تحتاج الى ان تضحي باي هدف رئيسي من اهدافنا الانقلابية في مرحلة من المراحل، في سبيل الاهداف الاخرى، فهي دوما قادرة على ان تناضل من اجل جميع أهدافها.
كذلك فان المراحل في نظرنا هي في التطبيق لا في الوعي، فالوعي لا يجزأ، لذلك كان على الشعب العربي ان يدرك منذ ظهور الحركة ما هي حقيقة اوضاعه، وما هي العلاجات الحاسمة لها، وما يريد ان يصل اليه في آخر النضال. فاذن في الوعي لا نتبع سياسة التكتم في الاهداف التي لم يحن الوقت لتحقيقها.
عام 1957
وحدة مصر وسوريا
اذا كان العرب قد حققوا بنضالهم وحدتهم في الجمهورية العربية المتحدة، فان هذه الوحدة التي حققوها لا يرون فيها الا خطوة، وان الآمال لتبدو اقرب منالا، وأقرب الى الواقع واكثر حقيقة من قبل، ولو ان الذين يعيشون في قلب المعركة في أي قطر من الاقطار لا يؤثر فيهم الزمن، فالنضال يشق حجب الزمن ويكشف عن المستقبل للمناضلين المؤمنين وينقل المستقبل الى الحاضر، ويريهم حقيقة امتهم، ولو ان كثيرا من الحجب الكثيفة والامراض تشوه وجهها، ولكن النضال يعطي الثقة للنفس ويصفي النفس ويظهر الحقيقة ويتيح للمناضلين بأن ينقلوا هكذا ايمانهم الى العدد الاكبر. ولم نكن نشك لحظة واحدة منذ سنين طويلة بأن امتنا امة واحدة من الأطلسي حتى الخليج العربي، وان روحها روح واحدة وان النضال وحده هو الذي ينقل هذه الوحدة من حيز الامكان الى حيز الفعل والتحقيق لأنه يغسل النفس من الادران، وحرارته تذيب ما علق بالامة من تشويه ومن جمود ومن امراض دخيلة، وكنا دوما نعتبر النضال وسيلة وغاية وليس وسيلة فقط من اجل التحرر والتغلب على العدو ولكنه وسيلة لنقترب من انفسنا، من حقيقتنا، لان الوحدة هي حياة وليست جمودا ولا موتا، وعندما تكون الاقطار العربية في حالة التقاعس واليأس والاستكانة فانها لا تفقد شعور الوحدة بينها فحسب وانما الفرد العربي يفقد شعور الوحدة مع أخيه الذي يعيش بجانبه، اما في حالة النضال فان هذه الوحدة تتجسد حقيقة حية وتنهار الأوهام والسدود والمصالح الآنية الحقيرة، ويرتفع ابناء الامة الى الجو التاريخي، الى جو معنى وجود الامة، جو رسالة الامة في الحياة وفي التاريخ وفي الانسانية. اذا ذكر النضال فيجب ان تذكر الجزائر كأكبر وأروع دليل على النضال في كل التاريخ البشري.
ثورة الجزائر ايها الاخوان كان لها آثار ضخمة قوية قد لا نكون وعينا الا جزءا يسيرا منها، وسنعي بقية هذه الآثار مع الايام والسنين المقبلة، هذا القطر العربي الذي تحمل ما لم يتحمله بلد في العالم من قسوة الاستعمار، وأي استعمار واي وحشية وأي حرب!.. تصميم على الابادة في هذا القطر الذي تجمعت عليه قوى الشر ونذالة المستعمرين بأقوى الصور وابشع الصور تخرج منه اروع الثورات وأعمق الثورات معنى وشعبية.. تخرج الثورة من الفلاحين، من ابناء الريف البسطاء، من ابناء الجبال، من هذه الطبيعة الصافية الروح التي طهرها الالم وتصمد في وجه الجيوش الحديثة والاسلحة الفتاكة فأي اثر اكبر من هذا، ليس على شعب الجزائر، بل على الامة العربية بكاملها. انه المثال الحي على ان العروبة خالدة وان في الامة العربية من الامكانيات والاصالة ما يستحيل على الزمن وعلى القوى الاستعمارية الغاشمة مهما اشتدت ان تطفئ هذه الشعلة…
ان نضال سورية ونضال مصر ونضال العراق والاردن وعمان ما كان يمكن ان يكون بمثل هذه القوة وما كان يمكن لمصر وسورية ان تصمدا امام مؤامرات الاستعمار وجيوشه المعتدية وضغوطه المتلاحقة لو لم يستمدا من ثورة الجزائر ثقة عميقة بالنفس وبأصالة العروبة، ثقة بما تصبو له العروبة التي بعثت من جديد على ارض الجزائر.
فالوطن العربي وطن واحد، والشعب العربي شعب واحد، هو رغم التباعد ورغم الحواجز يتفاعل بعضه مع بعض ويستمد بعضه من بعض القوة والقدوة والمثل. فكما ان ثورة الجزائر تستمد من نضال العرب في الشرق جرأة ويقينا بالنصر القريب وشعورا بأن الجزائر ليست وحيدة وانما لها اخوة، كذلك نحن استوحينا من ثورة الجزائر ثقة عظيمة، في هذا الوقت الذي يحقق العرب فيه هذه الخطوة التاريخية، وحدة سوريا ومصر، التي سيكون لها أعظم التأثير في تاريخهم وتاريخ البشرية، لننظر ولنتجه بأنظارنا وقلوبنا الى اخواننا في الجزائر لان لهم النصيب الاول في تحقيق هذه الخطوة.
لقد اعطت الثورة الجزائر دليلا قويا على ان الامة العربية بلغت بعد طول التحمل والمحن والتخلف الطويل بلغت مستوى من النضج يؤهلها بأن تنطلق من جديد ليس من اجل طرد المستعمرين فحسب بل من أجل بناء مجتمع عربي جديد ومن اجل الكفاح وحمل رسالة الى العالم كما حملتها من قبل، اذ لو لم تكن امتنا قد بلغت هذا المستوى لما رأينا حركات ثلاثا اصيلة عميقة تخرج من اقطار عربية مختلفة ليس بينها صلة وثيقة وليس بينها تعارف، وتخرج وكل حركة منها اتخذت شكلا يختلف عن شكل الاخرى ما لبثت هذه الحركات بعد قليل حتى ظهر انها تتكلم نفس اللغة، وتعلن نفس الاهداف والمبادئ، وتناضل من أجل نفس الغايات والاهداف، هذه الحركات الثلاث حركة البعث، وثورة الجزائر، وثورة مصر.
لقد كنا نقول دوما بأننا لسنا الا تعبيرا عن نضج امتنا. اننا لا نخلق الامة بل هي تخلقنا، اننا نستمد منها القوة، اننا نترجم فقط حاجاتها وامانيها ونعلن ارادتها، وان قوتنا ما كانت لتكون شيئا مذكورا لولا استنادها الى قوة الامة والى هذا الوعي المستمر في كل جزء من اجزائها الذي صقلته التجارب والآلام الطويلة، وهكذا كان لا بد لهذه التجارب المتماثلة ان تعطي نفس النتائج في مختلف اقطار الوطن العربي.
فلو كانت الامة العربية غير مؤهلة للبعث وللرسالة العظيمة التي تنتظرها، لما ظهرت هذه الحركات في وقت واحد دون أي تعارف، ومع ذالك فقد اتفقت في المبادئ والاهداف والنضال.
وهذا خير دليل على ان هذه الامة تستطيع ان تمضي بعمق واصالة وان ترتفع الى مستوى التخطيط الموحد الشامل للنضال العربي بعد ان اعطتنا هذه الاحداث والتجارب البراهين الحسية على ان امتنا ناضجة مهيأة كل التهيئة ولا تحتاج الا الى الطليعة الواعية التي تتقدم الصف –الى السباقين الذين ينيرون الطريق الامام. واعتقد ان كل مناضل حقيقي دخل النضال لمس هذه الحقيقة لمس اليد بأن الشعب العربي يعطي اكثر مما كان ينتظر منه.
فلنتعاهد على ان نجعل من هذا النصر الجزئي الذي حققه جميع العرب في جزء من اجزاء وطنهم، لنتعاهد على ان تكون ثمار هذا النصر ايضا لجميع العرب وعلى ان يكون فاتحة جديدة لعمل قومي موحد منظم، وان تكون هذه الوحدة الصغيرة التي يفرح لها العرب في كل مكان ان تكون النواة للوحدة الشاملة وأن تنصب اكثر جهودها في مساندة ودعم حركات التحرر وفي العمل لتوحيد الاقطار المجزأة لان خطر التجزئة خطر بالغ الخطورة، خطر قتال. واذا (لا سمح الله وهذا لن يكون مطلقا) انصرفت جهود هذه الجمهورية الى الداخل وقصرت في واجباتها نحو اخوتها في الاقطار الاخرى فان هذا الانصراف يهددها في وجودها، وما دمنا مؤمنين بان القضية العربية واحدة ومصير العرب واحد فجمهوريتنا الجديدة عندما تدعم الجزائر وتعمل من اجل تحرر أي قطر عربي مكافح فهي تدافع عن نفسها وتبني كيانها. ووحدة سوريا ومصر الآن وبعد هذه التجارب العديدة والنضال الطويل هي مدينة الى هذه الحقيقة بأن قضيتنا واحدة ويجب ان يكون مستقبلها ايضا ملتزما بهذه الحقيقة وان ترى حياتها في حياة الاقطار العربية الاخرى.
20 شباط 1958
الوحدة ثورة تاريخية
في هذا الظرف التاريخي الذي كان لحزبنا فيه اكبر الأثر لابد ان اذكركم بملحمة عن مميزات حركتنا ومبررات وجودها، ثم نصل إلى إلقاء نظرة على هذا الحدث العظيم الذي تحقق اخيرا وما يستتبعه من نتائج وواجبات بالنسبة لحزبنا وبالنسبة الى جميع المواطنين العرب .
لقد كان ظهور حركة البعث ثورة في تاريخ الامة العربية بمعنى ان حركة البعث لم تكن استمراراً لما قبلها بل كانت عبارة عن انقطاع او بتر ارادي واع وارتفاعاً الى مستوى جديد من التفكير والاخلاق، والجو الروحي، رغم ما انتابها من ضعف ونقص، وما دخلها من شوائب. منذ البداية، لم تكن خالية من الضعف والنقص، ولم تكن منـزهة من الخطأ ولم يخل سيرها من التعثر، ولكن أية حركة تاريخية لا تجيء كاملة سليمة، كل الكمال والسلامة. والمهم هو الحكم الاجمالي على الحركة، هل تجاوبت مع مرحلتنا وأحست بعمق ما يجب ان يعمل، وعملت؟ هذا هو المهم. هل ملأت فراغاً في حقبة من التاريخ وملأته ملأ ايجابياً، ملأ فيه ابداع وبناء ورغم كل النواقص والاخطاء كما قلت؟ هل يعني ظهورها بدءاً لتاريخ؟ اذا كان الامر كذلك فهي اذن حركة تاريخية. هذه الحركة التي بدأت بدءاً متواضعاً جدا فكان سر قوتها في هذه البداية المتواضعة، لانها انطلقت قوة أصيلة لا زيف فيها، لم تعتمد على شيء من القوى الراهنة التي هي كلها قوى زائفة، هذه الحركة في الواقع كانت ترجمة لاستعدادات وامكانيات قائمة غير انها مغطاة عن أعين الاكثرية. فهذه الحركة استطاعت أن تنظر نظرة صافية وبريئة لم تعكرها المصالح والمفاهيم الموروثة او الاهواء والانانيات، فعرفت القوة حيث كان اكثر الناس لا يرون الا الضعف والانحلال، واعتمدت على هذه القوة لانها كانت مؤمنة بان هذه القوة قوة حقيقية. راهنت على المستقبل، وكانت نظرتها منذ البداية بعيدة بكل معاني الكلمة، بعيدة في العمق، بعيدة في المكان وبعيدة في الزمن، فهي نظرت الى اعماق الامة العربية المغلفة بواقع مريض ومشوه. ونظرت وهي التي ولدت في قطر صغير من اقطار الوطن العربي الشاسع، نظرت الى جميع اجزاء الوطن، لم تغفل احداً منها، نظرت نظرة بعيدة في الزمن، اي انها توجهت الى الشباب، الى تلك السن التي تحتاج الى زمن غير قليل لكي تصبح قوة بالمعنى المتعارف عليه، بمعنى السياسة الراهنة والمصالح الراهنة، توجهت الى الشباب العربي في جميع اقطاره. ومن هذا تتبينون ميزة من ميزاتها. انها في روحها وفي نزعتها العميقة كانت دوماً تتطلب الصعب، تتطلب الشيء العميق، الشيء الاصيل الذي لا يبلغ بسهولة وتترفع وتعف عن كل ما هو قريب وسهل. فاليوم تبدو لنا المسألة بسيطة وسهلة للغاية، ان يظهر حزب او حركة، وتتوجه من جهة الى الشباب الحديث السن، ومن جهة اخرى الى هذا الشباب في اقطار غير القطر الذي توجد فيه الحركة. والشباب كما قلت في تلك السن لا يكونون وزنا سياسيا يمكن ان يفيد فائدة سياسية عاجلة وبالاحرى عندما يكون بعيدا عن القطر فليس له وزن قط.
هذه الاشياء التي تبدو اليوم بسيطة وطبيعية كان لا بد من روح ثورية وايمان غير عادي لكي نقدم عليها ولكي نخالف كل المألوف ونتحدى سخرية الناس ونتحدى مقاومة أصحاب المصالح والعقلية البالية وأصحاب النظرة السطحية. ولا يشترط في أصحاب النظرة البالية والسطحية ان يكونوا من الجيل القديم دوما ومن غير المتعلمين بل قد يكونون من اكثر الناس ثقافة ومن الشباب أيضا. فالنـزعة الاولى كما ترون نزعة روحية اخلاقية اقترنت بوعي ثوري، وقلما يجوز التفريق بين الوعي والخلق لان بينهما تفاعلا وتأثيرا متبادلا، فالروح الاخلاقية السليمة الصافية التي تترفع عن السهل وعن الشيء الشخصي، والشيء الزائل، هي التي تساهم الى حد كبير بإيجاد الوعي الثوري، وهي من اهم عناصر التفكير الثوري لان التفكير الثوري هي رؤية الحقيقة المغلفة المستترة، رؤية الحقيقة العميقة. فاذا كانت ثمة أهواء وأنانيات ومصالح خاصة، فانها تحجب عن التفكير هذه الحقيقة وتشوش التفكير، وتمنعه من
ان يصل الى الاعماق، وبالعكس عندما يتوفر التفكير الجذري الثوري يستطيع ايضاً إلى حد ما ان يؤثر في الجو النفسي، في الخلق وفي الروح، ان يحررها الى حد ما من كثير من الاشياء. اقول كل هذا ولا اعتقد بأنه خروج عن الموضوع أو حشو كان يمكن الاستغناء عنه لكثرة ما كررت هذه الاقوال خلال سنين عديدة في الحزب، ولكن بودي ان أثبت في اذهانكم بأن بعض الشروط الاساسية في حياة الانسان والشعوب اذا ما اغفلت او انتقص من قيمتها فان المقاييس تختل وان حياة شعب بكامله ستتعرض لأفدح الاخطار والانتكاسات اذا لم تحترم هذه الحقائق الاساسية.
والآن اعود فأقول ان حركة البعث اختلفت اختلافاً نوعياً لا كمياً عن كل ما سبقها من حركات في الوطن العربي، فطرحت قضية الامة العربية طرحاً ثورياً لأول مرة منذ مئات السنين، طرحاً انقلابياً كما اعتدنا ان نقول، واعتبرت الامة العربية في مرحلة ثورة اصيلة، ثورة تاريخية، وانها مهيأة كل التهيؤ لتحقيق هذه الثورة اذا انتشر وعيها بين الجماهير. هذا الطرح الانقلابي للقضية القومية يمكن ان يلخص ببضع نقاط:
1- وضع قضية ومصير الامة العربية ضمن قضايا العالم ومصير الانسانية بعد ان كانت الحركات الوطنية تنكمش على نفسها وتتجاهل ما يجري في العالم. حركة البعث حينما بدأت كانت قد كونت فكرة اجمالية تقوم على دراسة اجمالية لمشاكل وقضايا العالم الاجتماعية والفكرية، عن المذاهب الكبرى التي تحرك البشر في هذا العصر. بدأنا ونحن نعرف هذه المعرفة الاجمالية من الناحيتين الفكرية والعملية، نعرف هذه القضايا والمذاهب في خطواتها الاساسية وفي اسلوبها وخططها ونتائجها وآثارها العملية في العالم، ولم يكن من ذلك بد لان العالم، اذا نحن تجاهلناه فانه لا يتجاهلنا، فهو كان غازياً لنا ومحتلاً ديارنا، لذلك كان لا بد من ان نعرف ونربط بين مصيرنا ومصير العالم.
2- نقطة اخرى يمكن ان تستنتج من الاولى اولها علاقة بها هي الفكرة القومية او اذا جاز ان نقول النظرية القومية. كانت المذاهب والفلسفات التي احتلت المكان الفعال في هذا العصر تنكر القومية بشكل او بآخر، بعضهم كان ينكرها من شدة المغالاة بها، المغالاة السلبية المريضة، وبعضهم كان ينكرها ويعتبرها شيئا عارضا ومرحلة، فوضعت حركة البعث بذور النظرية القومية بصورة عامة لا للعرب وحدهم وانما ألحت على حقيقة الامة في حياة البشر، فما يصح على العرب لا بد ان يصح على غيرهم . وصوبت نظرها على النواحي الخبيئة الثمينة الايجابية في القومية لانه لم يكن يظهر من القومية إلا النواحي السلبية، وأوجدت صيغة، او محاولة لصيغة، تربط القومية بالانسانية ربطاً حياً لا اصطناعياً، فاعتبرت القومية خالدة والانسانية خالدة وليست احداهما بسباقة على الاخرى لا في الزمن ولا في القيمة، وانما هما مظهران لشيء واحد، وان الانسانية هي ثمرة لنضج القومية، هي المجال الطبيعي السليم الوحيد لتحقيق القيم الانسانية تحقيقا حيا لا اصطناع فيه ولا تضليل. ثم نظرت حركتنا الى امتنا فأعلنت وحدتها رغم جميع المظاهر التي كانت تتحدى هذه الوحدة في كل لحظة وفي كل عمل، وأعلنت في نفس الوقت ان رسالتها . . رسالة انسانية رغم ان جميع المظاهر كانت تتحدى هذا الاعلان وهذا الادعاء، رغم كون الامة العربية في حالة سلبية فاقدة لأي ابداع تعيش عالة على العالم، فأكدت حركة البعث رسالة الامة العربية. كل هذه الاشياء تنبع من نظرة واحدة كما تلاحظون، من نظرة ثورية، النظرة المتجددة البعيدة المدى الطويلة النفس التي تنظر للمستقبل نظرة ليست حالمة كنظرة الشعراء، ليست نظرة التمنيات، وانما نظرة في منتهى القسوة والواقعية والجدية. من خلال الواقع الفاسد المشوه كانت ملامح المستقبل تتراءى، او لأن الواقع كان بلغ هذا الحد من الفساد والمرض لم يكن صعباً على اصحاب النظر الصافي ان يروا الكنوز المخبأة في ضمير المستقبل المشرق الذي ينتظرنا.
وكانت هذه الحركة اول من وضع القضية القومية، قضية الامة العربية، في قلب الواقع، في قلب الجد، بوضعها المشكلة الاجتماعية في صميم الثورة القومية، بوضعها مشكلة عيش الملايين من افراد الشعب العربي، رزق الملايين وعشرات الملايين الذين كانوا وما يزالون مشلولين الى حد بعيد بنتيجة الاوضاع الجائرة المعكوسة. فالتعبير العملي عن الثورة القومية هو الثورة الاجتماعية. وطرحت مشكلة الحرية على كل اتساعها وأبعادها، التحرر من الاستعمار ومن الاجنبي ونفوذه واستغلاله بكل اشكاله، والتحرر في الداخل الذي يشمل النواحي السياسية والاجتماعية والفكرية، مشكلة الحرية ووعي الشعب ووعي الافراد ومشكلة التحرر وأهمية هذه المشكلة وأسبقيتها، وكما تعلمون اوجدت بين هذه النواحي المختلفة اتصالاً وتفاعلاً حياً.
ولكن استطيع ان اقول بأن مشكلة الوحدة، قضية الوحدة، كان لها مكان بارز في فكرة البعث ونضال البعث لانها كانت معرضة لان تظلم حتى من الذين ليس لهم مصلحة في ان يظلموها لانها كانت خافية في حقيقتها على الكثيرين، فطرحت حركتنا قضية الوحدة طرحا ثوريا لقي الكثير من المقاومة والمغالطة وسوء الفهم، ولكنه تجاوب مع حالات الشعب، وحس الشعب، ووعي الشعب اخيراً، وكتب له ان يظفر.
قلت لكم في البدء بأن مسألة الوحدة كانت تتطلب اول ما تتطلب تجرداً في النفس لانها تشترط كثيراً من الاغفال للنتائج العاجلة، تشترط العمل للمستقبل البعيد نسبياً وتشترط في نفس الوقت تفكيراً ثورياً اصيلاً، وليس كل ما يسمى بالتفكير الثوري هو فعلا هكذا. الاستعمار عدو اجنبي غريب محتل مستغل وقح، ودعوة الشعب لمقاومته ليست صعبة ولا غامضة. الإقطاع والرأسمال والنفعية والاستغلال بأشكاله وألوانه أقل وضوحاً من الاستعمار، ولكن رغم ذلك فيه بعض الوضوح، ولكن التجزئة التي مرت عليها قرون احيانا وعشرات السنين في احسن الاحوال والاحتمالات ولم يقتصر الامر على ان المستعمر خلقها بل اصبحت هي تخلق نفسها بنفسها فيما بعد، تخلق قوى ومصالح وزعامات وعقلية معينة وعواطف معينة تنفخ الروح وتبث الدم والحياة في هذه التجزئة المخزية المصطنعة. وأصبح من السهل ومن غير المستنكر (وهذا الشيء لا يمكن بسهولة ان يكشف تناقضه) ان يقوم الزعماء وتقوم الاحزاب وتنادي بالوحدة العربية وتسجل الوحدة في رأس برامجها، وان تعمل وتوجه وتتصرف وتدبر يومياً كل ما هو نقيض الوحدة تارة بقصد وتصميم وتارة دون قصد أو وعي.
والخلاصة ايها الاخوان ان معركة الوحدة التي لا تنفصل حسب عقيدتنا ونظريتنا ونضالنا عن معركة الحرية والتحرر وعن معركة الاشتراكية، ولا يجوز فصلها بحال من الاحوال، ولكن يجوزكما اعتقد ان نصفها على حقيقتها فنقول انها هي بصورة خاصة المعيار لثورية الافراد والجماعات ولثورية امتنا في هذه المرحلة التاريخية .
عندما نتغلب على التجزئة نكون قد اطمأننا فعلاً على اننا سنؤدي رسالتنا التاريخية لان معركة الوحدة اصعب معركة يواجهها الشعب العربي منذ زمن طويل. وعندما اثمرت معركة الوحدة هذه الثمرة الاولى الطيبة الضخمة في نتائجها كما سنرى يوماً بعد يوم، فوجئ العالم مفاجأة تاريخية لا تحدث كل يوم ولا كل سنة وقد لا تحدث الا في مئات السنين، فوجئ حتى القسم المتحرر من العالم الذي تغلب على الاوضاع الرجعية الفاسدة، وتجاوب مع مصلحة الجماهير وتسلح بنظرية علمية، وبينه وبيننا وبين جميع الشعوب المناضلة من اجل حريتها وتقدمها تعاطف طبيعي. رغم ذلك لم يكن احد يصدق بأن هذه الوحدة ممكنة، وهذه كلها دلائل ثمينة جداً تنبئ عن العمق والنضج الذي وصلت اليه حركة القومية العربية وتنبئ عن غنى مستقبلها ايضاً.
ان ما تحقق للعرب في هذا الظرف هو نتيجة ثورة وبداية ثورة، هو لا شك ثمرة لهذا النضال الطويل الذي بدأ قبل حركتنا بزمن، ولكن حركتنا بدأت مستوى جديداً في الفكر والعمل، هذا النضال هو مستوى ثوري يختلف عما سبقه. هذه الوحدة التي هي ثمرة لنضال الماضي ستكون بذورها بذرة قوية ومحركاً قوياً لثورات متعاقبة، أو قد يختلف نوعها او مظهرها عن السابق حسب درجة النمو الذي بلغته الحركة العربية الثورية. فعلينا ان نقدر هذه الخطوة حق قدرها، وان نعرف السهل والصعب فيها، وأن نأخذ مكاناً في قلب المعركة لان المعركة لم تنته بعد. ان اهمية هذه الخطوة بالدرجة الاولى هي انها قضت على نوع من التفكير، نوع من العقلية، نوع من النفسية المتخاذلة او في احسن الاحتمالات النفسية التي لم تبلغ حد الامتلاء ، وبالتالي لم تصل الى حد الايمان بأن الوحدة ممكنة. فتحقيق هذه الخطوة سيبدل النفسية العربية في كل مكان وحتى في اشد الامكنة والاوساط انكاراً وجحوداً، وسيكون لها آثار ونتائج سياسية واجتماعية ضخمة عاجلة وآجلة. ولكن المهم ان نعرف بأن البداية هي دوما صعبة، ودوما محفوفة بالاخطار، وان علينا واجباً مقدساً بأن نحمي هذه الخطوة التاريخية وان نغذيها بكل طاقاتنا، وان لا نرى فيها مبرراً للراحة والانسحاب من العمل او المطالبة بثمن الاتعاب الماضية. فهذه الخطوة ما تزال معرضة لأخطار كثيرة، والاخطار المكشوفة هي اخف هذه الاخطار لانها مكشوفة، والاخطار المخفية هي التي لا تظهر كثيرا بوضوح تام، وأهمها ان يستمر شيء من عقلية التجزئة ومصالح التجزئة وان تنسج الوحدة بخيوط التجزئة فتتناقض وتفشل .
ايها الاخوان، تبين من حديثي ان حزبنا كان له مساهمة لم اتورع عن ان اسميها تاريخية في نضال امتنا في هذه الحقبة وخاصة في نضال الوحدة الذي اوصلنا الى هذا الانتصار. ولكن هذا لا يعني اننا وحدنا في الساحة وان غيرنا لم يعمل. ألححت على ذكر الحزب ومميزات فكرته في هذه المناسبة، ولكن تعرفون كما اعرف بأن الشعب العربي في كل مكان عمل وناضل من اجل هذه الوحدة بصورة غير مباشرة، وتعرفون على الأخص ان للثورة المصرية شاناً تاريخياً في هذه المرحلة وهو قد قلب وجه التاريخ العربي، او كان مناسبة لكي تتجلى قيمة النضال العربي في اقطار المشرق الذي انتشر فيه الحزب، ولا يمكن ان نفسر شيئا مما حدث من التحولات الضخمة العميقة في حياة العرب في هذه السنوات الاخيرة اذا لم تعط ثورة مصر حقها من الاهمية، حتى انها اثرت في حياة العصر والعالم كله، ويمكن القول بان تأميم قناة السويس هو بداية لعصر جديد في العالم في كثير من النواحي، وان مولد الجمهورية العربية المتحدة هو ايضاً بداية تاريخ جديد بالنسبة للعرب والعالم.
صحيح ايها الاخوان ان ثورة مصر لم تتبع نفس الطريق الذي اتبعناه، فهي ثورة عسكرية لم تبدأ من الشعب، ولم تبدأ بفكرة او نظرية، ولكن هذا لا يغير شيئا من حقيقتها وقيمتها، فهي ثورة اصيلة صادقة، لذلك اعطت مثل هذه النتائج، ولم يمض وقت طويل عليها حتى استقرت واتضحت معالمها وخط سيرها، وبدأ الاتصال والتفاعل بينها وبين حركتنا، تفاعلاً مباشراً وغير مباشر. المباشر بالاتصال بالحزب وقادة الحزب وفكرة الحزب وغير المباشر بتأثرها بنضال الشعب العربي في الاقطار التي يقود النضال فيها حزبنا وتجاوبها مع نضال هذه الاقطار ومع شعارات هذا النضال . .
23 شباط 1958
معركة الوحدة في العراق
ليس عندي(1) مناسبة أغلى من مناسبة الاجتماع بالشباب العربي لأنني اعرف منذ زمن طويل بأن هذه المرحلة التاريخية التي تجتازها امتنا العربية، هذه المرحلة الانقلابية العميقة الشاقة لا يقوى على حملها والاضطلاع بأعبائها الا الشباب المهيأ بطبيعة تكوينه للايمان بالمثل والمبادئ والقيم الخالدة. وها نحن الآن وما زلنا في الخطوات الاولى لثورتنا نواجه امتحاناً صعباً وليس غير الشباب من هو جدير بأن يمتحن هذا الامتحان، لذلك اقدر وافهم قلقكم وحماستكم واهتمامكم البالغ بما يجري في عراقنا الحبيب لأنكم تدركون بما توفر لديكم من وعي وبما يجيش في اعماقكم من ايمان، تدركون بأن ما يجري في العراق الآن يتناول مصير الامة العربية كلها، فلذلك تشعرون بواجبكم التاريخي وتتطلعون الى اداء هذا الواجب بشكل قوي يحقق النصر لمبادئكم. ان من طبيعة هذه النهضة العربية الحديثة ان يكون طريقها شاقاً وان تمتحن بين الحين والآخر بالمشاكل الصعبة المعقدة، لأنها نهضة هيأت لها قرون طويلة كانت فيها عبقرية الشعب العربي وحيويته مختزنة، وكان لابد ان تأتي نهضته نهضة اصيلة انسانية لأنها أتت بعد صبر وانتظار طويل، ولأنها تأتي من أمة ألفت حمل الرسالة واعتادت أن تنظر الى الحياة بأنها رسالة. فيجدر بنا اذن ان نتذكر هذه الخاصة لبعثنا الجديد، خاصة الصعوبة والمشقة لكي يكون بعثاً اصيلاً، وعندما نتذكر ذلك نقبل على الصعوبات بلهفة للقائها لاننا نرى فيها السبيل الذي نريد ان نحققه. الفرق هو بين ان ننظر الى العقبات بأنها عقبات وبين ان ننظر اليها بأنها هي الطريق. كل ذلك لكي يعطي العرب ما يؤهلهم تاريخهم ان يعطوه وما تنتظره البشرية منهم. ولا يمكن أن نعطي شيئاً اصيلاً يصلح لاعادة تنظيم مجتمعنا ووضع اسس حديثة له، لا يمكن ان نعطي ذلك الا اذا خبرنا المصاعب واصطدمنا بغيرنا وبمختلف المشاكل والاغراض الانسانية حتى يكون الحل الذي يخرج من العرب حلا انسانياً. ولكن ذلك يرتب علينا مسؤوليات كبيرة لأن المهمة الاصيلة لا تأتي بالكلام ولأن هذا التفاؤل والاستبشار بالصعوبات لا يكون في التأمل وانما يستوجب العمل الجدي بكل معاني الجدية، فهذا الامتحان الجديد لنهضتنا مهما يكن بالغ الخطورة لا يليق بنا الا أن ننظر اليه كحافز على التصحيح للنواقص التي لا تزال في نهضتنا، للأخطاء والسطحية في التفكير، للضعف في التنظيم، لسطحية الايمان وسطحية الاخلاص للمبادىء التي آمنا بها، فهذه المحنة وهذه التجربة ليست في الواقع الا حافزاً ومنبهاً وليست الا تحدياً جديداً علينا أن نكون به جديرين وأن نعطيه المثل الايجابي.
لعلكم تذكرون بأني كنت أقول بأن معركة الوحدة هي أصعب معاركنا لأنها هي الثورة الخالصة التي يضع فيها العرب جميع امكانياتهم. الثورة العربية التي لا يعتمد فيها العرب الا على انفسهم هي معركة الوحدة، في حين أن ثورة التحرر والثورة الاجتماعية تساندهم فيها قوى أخرى: تيار العصر يصفي الاستعمار، وتقدم الانظمة الاشتراكية في كل مكان. أما الوحدة فهي أصعب لأنها تتطلب من العرب الجهد الذاتي، تتطلب محاربة النفس، تتطلب تضحية وبعداً في النظر، تضحية للسهل القريب في سبيل الآجل الصعب الباقي المتين، وللفوائد التافهة الرخيصة سواء أكانت شخصية أم قطرية في سبيل منفعة الجميع، وهي حساب دقيق وتنظيم وايمان وتجرد. لذلك أقيمت اسرائيل لتعيق سبيل الوحدة، وعندما انطلقت الوحدة، وهذا شيء لم يكن الاستعمار يصدق أنه سيحدث، عندما حدث ذلك كان بالرغم من وجود اسرائيل والاستعمار.
لقد التقوا وتناسوا ما بينهم من فروق قبل عشر سنوات في سبيل اقامة هذا الحاجز وسط الارض العربية، لذلك جمعوا جمعهم لكي يحولوا دون ما نؤمن نحن أنه قدر لابد ان يتحقق. فالمسألة هي هذا الصراع بين الوحدة وأعداء الوحدة. لكن أعداء الوحدة ليسوا كلهم من الأجانب، ليسوا كلهم في الخارج، انما لا تزال توجد في وطننا شروط وأوضاع وعوامل تمنع مجيء الجميع الى الوحدة، تؤخر شمول عقيدة الوحدة. لا يزال يوجد عدد غير قليل في شتى الأقطار يقاوم الوحدة حرصاً على المصالح الخاصة وعلى الزعامات المحلية ويقاوم الوحدة عن جهل بخيرات الوحدة. لذلك اذا اردنا ان ندخل هذه المعركة ونحن واثقون من انتصارنا فيها فليس أوجب علينا من رؤية الأمور على حقيقتها، ليس أوجب علينا من رؤية الأمور صريحة لا مواربة فيها. فكما أن ثمة في العالم مصالح ضخمة تعادي الوحدة لأن الوحدة تهدد هذه المصالح الآثمة، فان في داخل الوطن العربي مصالح آثمة، مصالح خاصة تقاوم وتعارض الوحدة. وهناك ايضاً أعداء للوحدة دون أن يكون لهم مصلحة في مقاومتها. اذن هناك تقصير من قبل دعاة الوحدة وأنصار الوحدة والعاملين في سبيلها، هناك خطأ ونقص، اذ لكي تستطيع الوحدة ان تصمد في وجه أعدائنا ذوي المصالح الذين يقاومونها خوفاً على مصالحهم، يجب ان نكسب وبأسرع وقت ممكن جميع الذين ليس من مصلحتهم معاداة الوحدة لكي يكونوا معها وفي صفها وتيارها وجنوداً في معركتها.
بالرغم من التقدم الكبير الذي حققته الفكرة القومية العربية في السنوات الاخيرة في مجالي الفكر والعمل، وبالرغم من الوضوح الذي أصاب نواحي عدة من هذه الفكرة، وبالرغم من بعض الانسجام الذي أصاب مختلف نواحي الفكرة القومية فلا يزال فيها جوانب غامضة ولا يزال فيها اضطراب. وهذا يعني أن ألوفاً ومئات الآلاف من أبناء الشعب العربي لا زالوا يقفون خارج المعركة، فنخسر مساهمتهم وان لم يدخلوا الصف الآخر ضدنا.
قلت لكم، أيها الاخوة والاخوات، بأن المعركة في تقديري معركة وحدة وانفصالية، وإن تكن تحولت في وقت قصير جداً الى معركة بين القومية والشيوعية. ولو اننا اعطينا الوحدة مفهومها السليم الكامل الواضح من جميع النواحي لما أمكن ان تتحول المعركة بهذه السهولة وبهذه السرعة الى مضاعفات جديدة، الى معركة قومية وشيوعية. اذ اني لا اقول بوجود غموض تام بل بوجود بقايا غموض في الناحية الاجتماعية لفكرتنا وبقايا غموض في النواحي الأخرى الانسانية والفكرية عامة منعت الوحدة من ان تكون منذ اليوم الاول في العراق شعاراً لجماهير الشعب، شعاراً يرون فيه تلبية جميع مطالبهم وحاجاتهم القومية والاجتماعية والانسانية. لقد كانت الى حد ما هذا الشيء، ولكن بعض الغموض الذي بقي فيها أتاح للشيوعيين ان يظهروا على المسرح كتقدميين مع ان تقدميتهم زائفة وهزيلة اذا قيست بتقدمية القومية العربية عندما تفهم الوحدة على حقيقتها. وهذا ما سمح لبعض العناصر الرجعية ان تلوذ بالوحدة تتستر بها وتلقي عليها ظلالها الثقيلة وشبهاتها. وهذه سيرة مألوفة، اذ أن نوري السعيد كان في الماضي يتغنى بالوحدة وكان يدعي أنه يعمل لها. واجبنا أن نجعل تقدمية الوحدة العربية حاسمة فاصلة كالسيف لا تدع مجالاً للالتباس كي نكسب الشعب العربي كله. ويجب ان نعرف بأن كسب الشعب العربي له ثمن هو ان نخسر الرجعيين والاقطاعيين والمستثمرين من كل صنف. وهنا لا يمكن التردد في اقتحام الطريق الثوري وفي اتباع الاسلوب الثوري القاطع الحاسم، الاسلوب القوي الذي يدعو جماهير الشعب للالتفاف حول القضية بمنع الفئات المستغلة للشعب من أن تدخل وتتسرب الى صف الشعب لتوجيهه. فهذا القدر من الغموض والارتجال والعاطفية الذي ما زال في فكرة الوحدة وفكرة القومية عامة يحمل، لا أقول كل المسؤولية، ولكن بعضها في المعركة الجديدة التي فرضت علينا.
وهذا ما مكن الشيوعيين بمساعدة الاستعمار وبمساعدة الشيوعية الدولية ومساعدة الانفصالية والشعوبية في الداخل من ان يخدعوا ويضللوا ويكسبوا وقتاً وقواعد، ويمتلكوا الى حد ما زمام المعركة مؤقتاً. لم يكن في مخطط الحركة التقدمية ان تدخل في معركة مع الشيوعية. لم تكن الخطة القومية في ان تفتح معركة مع الشيوعية، ولكن الشيوعيين هم الذين فرضوها، فما علينا الا أن نجني فوائدها. فالشيوعية في الواقع استبقت المعركة كالمذعور الخائف الذي يعرف ان مصيره آت، ومعرفته هذه تدفعه الى استباق الحادث والى التعجيل في مصيره. لقد ادركت الشيوعية المحلية في البلاد العربية منذ سنتين او ثلاث سنوات على الأقل بأن ما كان يقال وما كان يجري على ألسنة الشعب هو حق وحقيقة، وليس لهواً أو مزاحاً، وان الامة العربية دخلت في طور البعث وفي طور النهضة الحديثة، وان لا مجال للشيوعية مع هذه النهضة، فأصبح همهم ان يعرقلوا ويؤجلوا تحقيقها في هذه البلاد. وأقول يقينا بأن هذا ليس مقتصراً على الشيوعية المحلية، بل أؤمن بأن الشيوعية الدولية ترى في نجاح الثورة العربية نهاية لها او ما يشبه النهاية، أو على الأقل منافساً خطيراً لها لأن الثورة العربية ليست وليدة الثورة الشيوعية ولأنها عقيدة تستطيع اكثر من غيرها ان تثبت ملامح الثورة الاصيلة والعقيدة الاصيلة. والشيوعية تعرف خطر ذلك عليها. فكان اذن للشيوعية مصلحتان في عرقلة الوحدة: مصلحة في داخل الوطن العربي ومصلحة عالمية، لأن نجاح الثورة العربية ظهر منذ الآن، ونحن ما زلنا في الخطوات الاولى، انه يعطي مثلا وقدوة لجميع شعوب العالم وخاصة شعوب آسيا وافريقيا، خاصة وان الشيوعية كانت تحسب هذه الشعوب رصيداً لها تستطيع أن تؤثر فيها وتسيرها. وهكذا تطورت المعركة واتخذت شكلاً جدياً، عقائدياً، حاداً، فما علينا الا ان نستبشر بما فرض علينا فرضاً وأن نحول المصاعب الى مناسبات لتعميق فكرتنا ولتقوية وتوحيد نضالنا ولرفع مستوى معركتنا الى المكان التاريخي الذي يليق بأمتنا. فلقد كنا ننحصر كثيراً بالحوادث القريبة، ننحصر كثيراً في حدودنا السياسية ونهمل ان نلقي نظرة على حركتنا في العالم وفي التاريخ. فجاءت هذه المعركة تذكرنا بالقوى الكامنة في حركتنا وتجربتنا القومية التي انتبه اليها الاعداء والمنافسون ونحن لم ننتبه لها.
الثورة الشيوعية في اوروبا تعرف انها تدخل مرحلة الشيخوخة، ليس لأن عشرات السنين مضت عليها، اذ ليس ضرورياً ان يكون الزمن عامل شيخوخة. بل لأنها سلكت سبيل المساومة والابتعاد عن المبادئ، ولأنها نسيت الدافع الاول الثوري واخذت تتنازل امام الواقع ونسيت الثورة كثورة عالمية وأخذت تهتم بمصلحة الدولة. هذا الضعف الذي طرأ على الشيوعية منذ سنين، اقول انه بلغ ذروته عندما تورطت الشيوعية في معاداة ومهاجمة القومية العربية وفي معاداة الامة العربية التي هي أمة ثائرة ما زالت تكافح الاستعمار وما زالت تكافح الرجعية وما زالت تناضل من اجل وحدة أجزائها والحق في جانبها والتاريخ في صفها، وان اي دولة تقف في صف آخر فانها تقف ضد سير التاريخ وضد الحق. ولا أعرف ورطة اصعب من هذه الورطة التي انزلقت اليها الشيوعية العالمية. الشيوعية المحلية قصيرة النظر، مزيفة منذ بدايتها لأنها لم تقم على طبقة عاملة وانما على الاقليات غير المندمجة في التيار الوطني. وقد زادتها تزييفاً تبعيتها العمياء للشيوعية الدولية، وخاصة عندما وضعت هذه الاخيرة نفسها في صف ضد القومية العربية، وعندما يقوم الشيوعيون المحليون بتقليد الشيوعية العالمية في تشويه الحقيقة العربية وفي تفسير الشيوعية العالمية تفسيراً خاطئاً.
اذن نحن نستبشر لأن حركتنا اصيلة الى حد ان الحركة التي كانت تحتكر العقائدية في العالم وتحتكر رعاية مصلحة الشعوب، شعرت بالغيرة وشعرت بالمنافسة فتورطت في معاداتنا ولم نعادها نحن. فيا ايها الاخوة، اقول لكم ذلك لتعرفوا دائماً المستوى التاريخي الذي يجب ان نعمل فيه. لكي تتذكروا دائماً ان للامة العربية رسالة، وان ثمن الرسالة لا يكون سهلاً ولا ثمناً رخيصاً. اقول لكم بأن ثورتنا هي لنا وهي للعالم، ومن حقنا ان نطمح هذا الطموح، لأننا عانينا وما زلنا نعاني تجارب قاسية تؤهلنا معاناتها لأن نعطي حلولاً عميقة للانسانية. ولكن يجب علينا الا نؤخذ بالجانب السهل من هذا الكلام. اذ لا يليق بنا مطلقاً ان نهمل ما يرافق ثورتنا من ثغرات، بل الاجدر بنا ان نعترف بها ونتلافاها، وان نشكك في انفسنا وفي ما نقدمه، وان نطلب دوماً المزيد من النقد الذاتي وان نكون مستعدين للتصحيح اذا ظهر اي خطأ في خططنا وعملنا. جدير بنا ان نعطي للخصم حقه. فالمعركة التي نخوضها قاسية وهي معركة تشرفنا لأنها مقياس لتضحيتنا ولأنها تنبئ عن الامكانيات الكامنة في ثورتنا. ولكن بين خصومنا من هم اشداء متسلحون بالعلم والتنظيم. هذه الثورة الشائخة التي تحدثت عنها الآن، لا يحسن بنا ان نستخف بها لأن عقيدتها رغم ما فيها من اصطناع، فان فيها جهداً انسانياً كبيراً، فيها جهد المئات والألوف، فيها خلاصة اتعاب مائة سنة من الذكاء البشري وتجارب البشرية في النضال. يجدر بنا ان نعرف مواطن القوة عند الآخرين كما نعرف مواطن الضعف فيهم. فالمعركة خطيرة وقاسية، ولكن نستطيع اذا رجعنا الى مبادئنا وتعمقنا فيها وفي تطبيقها، وجعلنا نضالنا وتنظيمنا في مستوى هذه المبادئ وفي مستوى الامة التي تصنع التاريخ، عندها نستطيع ان نحول جميع الصعوبات والعقبات والمحن التي تعترض سبيلنا الى فوائد وخيرات ومناسبات لتعميق فكرتنا. وأول ما تتطلب منا هذه المعركة، وهي اولاً وآخراً معركة الوحدة العربية، ان نطبق فعلياً وبكل اخلاص وجدية مبدأ الوحدة، وحدة النضال، وان نعتبر العراق اليوم ساحة نضال لجميع العرب .
نيسان 1959
) حديث القي في اجتماع لرابطة طلبة الأردن في القاهرة، 22 نيسان 1959.
لبنان و العروبة
حسبما تكون نظرتنا الى مستقبل الاتجاه العربي الثوري نظرة متفائلة او متشائمة، ننظر ايضا الى موضع لبنان من العروبة، والى موقف العروبة من لبنان.
والواقع ان اكثرية الذين يسمون انفسهم ثوريين عربا بهم يأس من لبنان ومن امكانية انفتاحه على العروبة وانسجامه معها.
وسبب هذه النظرة سطحية وانحراف في ثورية هؤلاء “الثورين“. فالعروبة الحديثة، أي العروبة الثورية، لا يجوز ان تيأس من جزء من اجزاء وطنها وشعبها، لان الثورة العربية ليست الا الانكباب على مواطن الالم واسباب التأخر والفرقة في مجتمعنا، ومعالجتها من الأعماق والجذور، بروح مشبعة بالايمان والتفاؤل، ايمان بمبادئ الثورة، وتفاؤل بقدرة شعبنا على التجاوب مع هذه المبادئ.
وأكثر من ذلك، فالروح الثورية انما هي التي تتخذ من المشاكل المعقدة مناسبات ودوافع لتعميق المبادئ وامتحانها، وتصحيح الأسلوب، واعطاء الرسالة كل معناها ومداها.
وفي وطننا العربي الكبير من المشاكل والأوضاع الشاذة المتراكمة ما يتحدى ثورية القومية العربية واصالتها كل يوم، ويدفعها باستمرار كيما تجعل من واقعها وعاءا شفافا للمبادئ التي نادت بها.
فالمغرب العربي تكوينه التاريخي الخاص الذي يجمع بين العرب والبربر، ثم هجرة اعداد ضخمة اليه من الاوروبيين في ظل الاستعمار الفرنسي… والعراق وأقلياته العنصرية، وخاصة تلك الاقلية الكبيرة من الاكراد… ولبنان وتكوينه الخاص الذي اعطى لفروق المذهب والدين معنى الاختلاف الحضاري، كل هذه الحالات تتطلب حلولا ثورية سليمة، تحفظ للعروبة كل اجزاء ارضها وشعبها، وتتحقق الوحدة الروحية والتفاهم والانسجام بين الجميع، بدلا من الحلول النابعة من اليأس التي تتراوح بين بتر الاجزاء المسببة للمشاكل، او الاحتفاظ بها بالقوة والقسر.
واذا قصرنا الآن كلامنا على لبنان نجد ان مشكلته لم تطرح حتى الساعة بشكل صحيح ونزيه، وأول ما يتوجب تصحيحه هو الاعتقاد بأن لبنان يكون مشكلة فريدة في الوطن العربي، مع انه احدى المشاكل الرئيسية وقد لا يكون اكثرها صعوبة.
ولكن الاهم من ذلك هو التخلي نهائيا عن الحكم على عروبة لبنان بمقاييس هذه الدولة العربية او تلك، والرجوع بدلاُ من ذلك الى مقاييس العقيدة القومية الثورية التي لم تتجسد بعد بصورة كاملة في اية دولة عربية، وان كان بعض الدول يقترب منها اكثر من بعضها الآخر.
في ضوء هذه الحقيقة يبدو لبنان اقل ابتعادا عن العروبة من عدد من الأقطار الاخرى. وعندما نتخلص من هذا الالتباس نكون في الوقت نفسه قد وضعنا حدا في لبنان للاعتقاد الخاطئ الذي يعتبر كل نقص او خطأ في تصرفات بعض الدول العربية نقصا في القومية العربية ذاتها. كما اننا، بالمنطق نفسه، نرفض تقسيم الشعب في داخل لبنان الى قسمين، قسم مع العروبة وقسم ضدها، ذلك ان الجميع في نظر المقاييس القومية الثورية، بعيدون عنها، ولو باشكال ونسب مختلفة. اذ انه لو صح التقسيم الاصطلاحي وكان نصف سكان لبنان “عروبيين” اي عربا ثوريين، لما بقي فيه مخاصما للعروبة غير القلة من الرجعيين، بل لما كان فيه تقدمي الا هو نصير لها مؤمن بها، لان مشكلة لبنان مع العروبة ليست الا مشكلة تقدمية العروبة.
وبهذا المعنى يصبح للبنان دور اساسي في تصحيح وتعميق وتكامل الحركة العربية الثورية، حتى لو كان الذين يخاصمون العروبة فيه لا يقصدون التصحيح من موقفهم السلبي العدائي، اذ المفروض في العروبة الحديثة ان تكون قادرة على قبول هذا التحدي والاجابة عليه بمزيد من توضيح تقدميتها وتعميق ايمانها بالحرية والانسانية.
عام 1960