بيان قيادة قطر العراق لحزب البعث العربي الاشتراكي
بمناسبة الذكرى الثانية والستين لعروس الثورات
في 14 تموز 1958، حصل تغيير كبير في نظام الحكم، إذ تم إسقاط النظام الملكي على يد تنظيم الضباط الأحرار، الذي كان قد تشكل رداً على سياسات الحكومة بالارتباط بسياسة الأحلاف الغربية، هذا في مجال السياسة الخارجية، وحصلت ممارسات قمعية على مستوى المعارضة السياسية بكل أطيافها، إضافة إلى ظلم اجتماعي كثير تعرضت له الطبقات الفقيرة.
كان يجب على الثوار اعتماد خط سياسي وطني وقومي يراعي مصالح العراق والأمة العربية، واعتماد سياسة الحياد الإيجابي وعدم الانحياز إلى أي من المعسكرين المتناحرين، الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي السابق، والغربي بقيادة الولايات المتحدة، والنأي عن سياسة الأحلاف.
ولكن افتقاد قيادة الثورة إلى الخبرة السياسية في إدارة شؤون البلد، أدت إلى وقوع أزمات داخلية وتوترات في علاقات العراق العربية والدولية، فلم تكد تمضي إلا شهور معدودات، إلا وتفجر الخلاف داخل القيادة الجديدة، فقد اختار الزعيم عبد الكريم قاسم النهج الدكتاتوري لإدارة شؤون العراق، فأزاح أقرب قادة الثورة إليه، وتحالف مع الحزب الشيوعي، وأطلق له الحرية الكاملة في توازنات غبية، ظنا منه أن هذا التوجه هو الضامن له الاستمرار في الحكم، فاستغل الحزب الشيوعي تلك الثقة التي حصل عليها من قاسم، فمارس إرهاباً ضد التيارات السياسية الوطنية والقومية، وبطش بعشرات الآلاف من معارضيه، بحيث ضجت المؤسسة العسكرية التي تعتز بتقاليدها العريقة بالشكوى من دور المنظمات المسلحة وشبه المسلحة التي شكلها الحزب الشيوعي مثل “المقاومة الشعبية”، والتي سطت على دور الأجهزة الأمنية، وحلت محلها في ملاحقة الخصوم السياسيين، فحصلت ممارسات أقل ما يقال فيها، أنها استهتار بكل القيم العراقية، فتم توجيه الإهانات للعراقيين على مدار ساعات اليوم، وتلقى حزب البعث العربي الاشتراكي أقسى الضربات، فتم الزج بمناضليه في السجون، ونشطت أجهزة السلطة والمقاومة الشعبية في ملاحقات غير قانونية ضد الآخرين، ولكن البعث كان بعد كل مواجهة، يخرج أصلب عوداً وأكثر تألقاً وحضوراً في أوساط الجماهير.
لقد أدت سياسات عبد الكريم قاسم إلى تفاقم الوضع السياسي الذي وصل إلى درجة الاحتقان الكامل، في مطلع 1959، لا سيما بعد أن سمح عبد الكريم قاسم لما يسمى بـ”قطار السلام” بالتوجه إلى مدينة الموصل، التي عانت كثيراً من سطوة المنظمات المدعومة من قاسم، وخاصة المقاومة الشعبية وبقية تشكيلات الحزب الشيوعي، مثل أنصار السلام ورابطة الدفاع عن حقوق المرأة، والنقابات التي أطلقت يدها للعبث بحركة الإنتاج الصناعي، والجمعيات الفلاحية التي تخلت عن خدمة الأرض وراحت تفلسف دورها بأنه لحماية الفلاحين من ظلم الإقطاع، الذي كان قد خسر قدراته كلها بصدور قانون الإصلاح الزراعي الذي شرعته سلطة الثورة على عجل.
ومع أن السلطات العسكرية في مدينة الموصل ألحت على قاسم بعدم ارسال قطار السلام، إلا أنه ركب رأسه وتجاهل نصائح المقربين منه، واستجاب لطلب الحزب الشيوعي في استعراض القوة، وعندما وصل قطار السلام إلى المدينة، طفق راكبوه باستفزاز سكان الموصل ذات التراث العروبي الرافض لتوجهات قاسم والحزب الشيوعي، فتحركت وحدات من موقع الموصل بقيادة العقيد الركن عبد الوهاب الشواف آمر الموقع، فأعلن الثورة على سلطة الزعيم عبد الكريم قاسم والتي قوبلت بترحاب واسع، ولكن الحركة فشلت بعد استخدام الطائرات الحربية لقصف مواقعها وتلكؤ بعض القطعات عن التحرك المطلوب في الوقت المناسب، عندها خرجت قطعان الغوغاء من جحورها لتعمل القتل بسكان الموصل رجالاً ونساء وسحلهم بالشوارع، وتم تعليق جثامين الشهداء على أعمدة الكهرباء بعد قتلهم بكل وحشية وضمائر ميتة، وفي اليوم التالي لفشل حركة الشواف، استباحت عناصر متعطشة للانتقام، شوارع بغداد والموصل وكركوك وحولتها إلى ساحات احتراب وقتل وتغوّل على المواطنين العزل لمجرد أنهم يرفضون تسلط الشيوعيين على مقاليد العراق السياسية، فذهب ضحية ذلك عشرات الآلاف من الضحايا، مما يمكن وصفه بحمام دم هائل يتحمل وزره قاسم والحزب الشيوعي، الذي أخذ الضوء الأخضر منه للفتك بكل معارضيه، وكي تكتمل صور الجريمة بكل أبعادها، فقد جرت اعتقالات عشوائية لمئات الآلاف لكل من يُعتقد بعدم تأييده للانحراف عما تم الاتفاق عليه بين الضباط الأحرار، فتم إعلان الأحكام العرفية وحالة الحصار التام، بحيث لم يعد بوسع المواطن العراقي التنقل حتى داخل محافظته إلا بعد الحصول على إذن خطي مسبق من دائرة الانضباط العسكري.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد سيق مئات الضباط، بمن فيهم الذين كان لهم السبق على عبد الكريم في الانتماء لتنظيم الضباط الأحرار، سيقوا إلى محكمة الشعب التي يرأسها العقيد فاضل عباس المهداوي “ابن خالة الزعيم الركن عبد الكريم قاسم” والتي تحولت إلى أبشع سيرك سياسي عرفه القضاء، وفي جو إرهابي لم تشهده ساحات المرافعات القضائية، لوح خلالها الغوغاء بالحبال في وجوه المتهمين، لإرهابهم بشعار بائس، يقول “ماكو مؤامرة تصير والحبال موجودة” كانوا يصرخون بها بأعلى أصواتهم، وعلى الرغم من أن نتيجة المحاكمات كانت معروفة مسبقا بسبب نزعة الانتقام التي سيطرت على عقل رئيس الوزراء وقيادة الحزب الشيوعي ورئاسة المحكمة، فإن بعض أعضاء المحكمة رفضوا المصادقة على قرار إعدام الزعيم الركن ناظم الطبقچلي، والعقيد رفعت الحاج سري وهو مؤسس تنظيم الضباط الأحرار الذين تصدوا ببسالة للانحراف الذي اعتمده قاسم عن المسار الذي رسمه الضباط الأحرار لعراق ما بعد التغيير.
ورغم ذلك سارع رئيس الوزراء القائد العام للقوات المسلحة، للمصادقة على أحكام الإعدام التي صدرت على عدد كبير من الضباط الكبار بتهمة الضلوع بما أطلق عليه مؤامرة الشواف.
وكان يوماً حزيناً عاشته بغداد وكثير من مدن العراق، بعد الإعلان عن تنفيذ حكم الإعدام بكوكبة من خيرة ضباط الجيش العراقي الباسل، حتى استعادت الذاكرة العراقية جريمة إعدام العقداء الأربعة بعد حركات عام 1941.
كل هذه العوامل اجتمعت مع بعضها، إضافة إلى رفض عراقي قاطع لسياسة المحاور والارتباط بالأحلاف العسكرية التي اعتمدها نظام الحكم الجديد، وهي السياسة التي كانت من بين أسباب نقمة الضباط الأحرار على النظام الملكي، وبدلاً من انتهاج خط سياسي مستقل، تحول العراق من التحالف مع الغرب إلى التحالف مع المعسكر الشرقي، ففاقم من الاحتقان الشعبي والرفض في أوساط ضباط الجيش العراقي، والتقت تلك المشاعر الغاضبة مع إرادة قوية لحزبكم حزب البعث العربي الاشتراكي، الذي تصدى ببسالة منقطعة النظير للسياسات الهوجاء التي سار عليها نظام عبد الكريم قاسم، فكان الإجماع على ضرورة التغيير السريع قبل أن يتم ربط العراق نهائياً بسياسة الأحلاف مرة أخرى، فكان ضحى الجمعة بكلمة السر “رمضان مبارك” يوم انطلق فيه فرسان البعث للسيطرة على مداخل بغداد ومخارجها ومفترقات الطرق والساحات العامة، كأول خطوة بانبثاق ثورة الرابع عشر من رمضان 1382هـ الثامن من شباط 1963، والتي خاض فيها مناضلو البعث معارك مشرّفة ضد السلطة الجائرة وفلول الحزب الشيوعي، الذي تصرف بطيش عندما دعا في بيان ناري له جماهيره للنزول إلى الشارع ودعا الزعيم إلى توزيع السلاح على عناصره لمواجهة ما أسماه بالمؤامرة، فحصلت حرب شوارع في أكثر من منطقة من بغداد وفي مدن عراقية أخرى، حتى تمكن رفاقكم المناضلون مع قوات الجيش العراقي، من حسم المعركة لصالح الثورة بعد ثلاثة أيام من ساعة الصفر، وتم تشكيل المجلس الوطني لقيادة الثورة كجهة لقيادة النظام الجديد، وتم تشكيل حكومة برئاسة الرفيق القائد أحمد حسن البكر رحمه الله، وباشرت عملها بكل أمانة وإخلاص لإزالة التخريب الذي تركه الحكم القاسمي والحزب الشيوعي، لكن التآمر على الثورة لم ينته بعد ذلك، فقد تحركت فلول من مختلف التيارات والتوجهات، بهدف اسقاط التجربة الأولى للحزب في الحكم، صحيح أن هدفهم قد تحقق في ردة 18 تشرين الثاني 1963، لكن البعث خرج من التجربة وهو أكثر قوة وحزما ولهذا عاد إلى الحكم بعد خمس سنوات.
تحية لعروس الثورات في ذكراها الثانية والستين
تحية لشهداء الثورة وتحية لشهداء الحزب في العراق وفي طول الساحات العربية وعرضها، الذين كافحوا ببسالة وإباء عن أهداف الأمة بالسيادة والكرامة والوحدة.
قيادة قطر العراق
لحزب البعث العربي الاشتراكي
بغداد الرشيد 8 شباط 2025