شبكة ذي قار
عـاجـل










التنمية الاقتصادية نجحت في دول فقيرة وانتكست في دولة غنية مثل العراق!

أ.د. مؤيد المحمودي

 

 

هناك دول عرفت في الماضي بوضع اقتصادي ضعيف نتيجة للحالة السياسية الصعبة التي كانت تمر بها كالحروب والأزمات السياسية لكنها نجحت مؤخرا في تطوير اقتصادها بقفزات متسارعة. مثال على هذه التجارب الاقتصادية الناجحة هو ما حصل مع دول بنغلاديش وفيتنام ورواندا.

1.بنغلاديش: في العام 1970 كانت بنغلاديش دولة فقيرة، نصف الشعب يعاني من سوء التغذية ونسبة المتعلمين لا تتجاوز ال 17 % والدخل السنوي للفرد حوالي 5.3 دولار أمريكيا. ولكن في تشرين الثاني من عام 2020 نشر صندوق النقد الدولي تقريرا بعنوان "الآفاق الاقتصادية للعالم.. صعود طويل وشاق" ذكر فيه أن بنغلاديش تغلبت على الهند من حيث الناتج المحلي الإجمالي للفرد، الذي بلغ 1888 دولارا. علما أن الهند كانت قبل 5 سنوات فقط تحقق ناتجا إجماليا محليا للفرد يفوق بنغلاديش بنسبة 40 %. ويعود السبب الرئيسي لنجاح النمو الاقتصادي في بنغلاديش الى تسلم السلطة في العام 2009 من قبل حكومة وطنية نظيفة بقيادة امرأة اسمها الشيخة حسينة، ومنذ ذلك الوقت وهذه الدولة المحدودة الموارد تحقق نسبة نمو اقتصادي سنوي يفوق 6 % حسب تقارير البنك الدولي. وفي هذا السياق تحدثت مؤخرا رئيسة حكومة بنغلاديش عن انجازات بلادها الاقتصادية فتقول "إضافة إلى الاكتفاء الذاتي، نحن الآن رابع أكبر منتج للأرز، وثاني أكبر منتج لنبتة الجوت، ورابع أكبر منتج للمانغو، وخامس أكبر منتج للخضروات، ورابع أكبر منتج من الأسماك". وكانت الشيخة حسينة بعد توليها رئاسة الحكومة، قد وضعت أهدافا محددة للنمو الاقتصادي في البلاد تتضمن بلوغ مرحلة الدخل المتوسط في العام 2021، وتحقيق أهداف التنمية الشاملة بحلول عام 2030، ثم التحول إلى بلد متقدم بحلول عام 2041. وهكذا فإن دولة بنغلاديش تتقدم اقتصاديا وفق خطة واضحة ومحددة ولا يوجد شك بأن مؤشرات التطور في اقتصادها يؤهلها لتنفيذ تلك الخطة الطموحة بنجاح.

2.فيتنام: سبق وأن عانت فيتنام من تدمير اقتصادها أثناء الحرب مع أمريكا، لكنها عادت مؤخرا في زمن كورونا لتسجل نموا اقتصاديا بمعدل 3% سنويا في الوقت الذي كانت العديد من الدول تعاني من مشاكل اقتصادية هائلة تحت ظروف هذه الجائحة، دفعتها إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي. وحتى مع تراجع التجارة العالمية عام 2010، نمت صادرات فيتنام بنسبة 16% سنويا، وهو أسرع معدل على مستوى العالم إلى حد كبير، ويعادل 3 أضعاف المتوسط في البلدان النامية. علما أن فيتنام تخصص معظم مواردها لتهيئة البنية التحتية، وذلك من خلال بناء الطرق والموانئ لنقل البضائع إلى الخارج وبناء المدارس. وفي هذا السياق تعتبر فيتنام حاليا في أعلى الدرجات على مستوى جودة البنية التحتية مقارنة بأي دولة في مرحلة مماثلة من التنمية. ونتيجة لهذا التطور الاقتصادي تضاعف متوسط دخل الفرد السنوي في فيتنام 5 مرات منذ أواخر الثمانينيات.

3.رواندا: رواندا دولة افريقية شهدت في العام 1994 حرب طائفية بين قبيلتين رئيسيتين ذهب ضحيتها حوالي مليون شخص حتى جاءت الجبهة الوطنية الرواندية لتوحد البلاد. عندها تغير الوضع جذريا نتيجة لاتباع سياسة التسامح بين الفئات المتنازعة ونسيان الماضي. وبعد عقدين من تلك المذبحة الطائفية في البلاد بدأت رواندا مؤخرا تجذب اهتمام العالم كأنجح اقتصاد متنامي بشكل مضطرد حتى لقبت ب "سنغافورة إفريقيا". ويعتمد اقتصاد البلاد على الزراعة وتربية الحيوانات والتعدين والسياحة، ووفقا لإحصاءات المعهد الوطني للإحصاء في رواندا، فان الاقتصاد في البلاد قد نجح في تحقيق نموا اقتصاديا جيدا في الأعوام الأخيرة. وهو ما أكدته منظمة دول تجمع السوق الأفريقية المشتركة لدول شرق وجنوب أفريقيا (الكوميسا) التي أشارت الى أن دولة رواندا تعتبر الآن واحدة من الدول الأفريقية الرائدة في مجال النمو الاقتصادي حيث سجل اقتصادها النمو الأكبر بمتوسط بلغ 7.5 %. وهكذا تخطو رواندا حكومة وشعبا بخطوات واثقة في طريق الازدهار الاقتصادي، عبر تحقيق السلام الاجتماعي، مخلفة وراءها التمييز العنصري الذي أشعله الاستعمار، وتسبب في الإبادة الجماعية التي شهدتها البلاد قبل 23 عامًا.

  هذه التجارب الناجحة للنمو الاقتصادي في ثلاث دول ليست نفطية ولم يعرف عنها قبل عقدين من الزمن أنها كانت دول غنية.     على العكس من ذلك انها تشترك في وضع اقتصادي متردي في السابق لكنها نجحت لاحقا في تطوير وضعها الاقتصادي نحو الأفضل سعيا وراء الوصول الى حالة الاكتفاء الذاتي. ولا يوجد سر كبير في نجاح هذا التحول الايجابي من الناحية الاقتصادية لدى تلك الدول سوى توفر حكومة وطنية تعمل بصدق من أجل بناء البلد واستثمار الموارد المتوفرة لديها لدعم عملية التنمية.

العراق من جهة أخرى كان قبل عام 2003 في وضع اقتصادي أفضل من تلك الدول الثلاث ويمتلك القدرة لتطوير اقتصاده نحو الأحسن، لولا الاجتياح الامريكي الذي خلق أزمة سياسية مستديمة بالتعاون مع نظام الملالي في طهران. ورغم موارد العراق المتعددة من النفط والمعادن الأخرى وامكاناته الزراعية وقدرا ته الكامنة على خلق صناعة وطنية متطورة، تجعله في وضع أكثر ثراء من دول عديدة في العالم الثالث، الا أن اقتصاده شهد تراجعا كبيرا في العقدين السابقين. وهذه الانتكاسة الاقتصادية جاءت نتيجة لحالة الاحتلال في البلاد التي أعاقت قيام دولة ذات مؤسسات بالمعنى القانوني والاداري يمكن أن تنهض بالوضع الاقتصادي في البلاد. فالنظام الطائفي الذي ابتلي به العراق بعد الغزو انغمس كل الوقت في صراعات داخلية على المكاسب الادارية والغنائم المالية تحت مظلة حكم برلماني شكلي وانتخابات محسومة النتائج مسبقا تضمن اجتثاث القوى الوطنية الحقيقية القادرة على البناء. وبدى واضحا ان الرهان على الانتخابات لتغيير المشهد السياسي في العراق قد أثبت فشله مادامت الميليشيات المسلحة التابعة لإيران هي التي تمتلك اليد الطولى في التحكم بمصير السلطة. وهذا بدوره خلق فجوة كبيرة بين النظام والشعب الذي اضطر أكثر من 82 % منه الى مقاطعة الانتخابات البرلمانية الأخيرة لانعدام القناعة بمصداقية النظام في التعاطي مع مشاكل البلاد.

وقد انعكست هذه الحالة السياسية الشاذة على الوضع الاقتصادي في العراق، الذي عانى من اهمال متعمد للقطاعين الزراعي والصناعي وأصبح معتمدا على الاستيراد الخارجي، خاصة من إيران لتوفير المواد الضرورية. ولولا الموارد النفطية من زيادة أسعار النفط مؤخرا التي ساعدت على حصول نمو اقتصادي يقارب 8.9 % في العام 2022، لكان الاقتصاد العراقي قد وصل الى حافة الهاوية. لكن هذا النمو الاقتصادي يوصف بأنه خداع ولا يمكن مقارنته بحالات النمو التي حصلت في الدول الغير نفطية. فهو لا يعكس أي تغير بنيوي في أداء الاقتصاد يمكن أن يحسن الوضع المعاشي للفرد العراقي. على العكس من ذلك بلغ عدد العاطلين عن العمل حسب تقدير وزارة التخطيط العراقية أكثر من 4 ملايين شخص، ونسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر حوالي ثلث سكان العراق. ناهيك عن توقف عجلة الزراعة والصناعة تقريبا في البلاد ولم تكترث الحكومات المتعاقبة خلال العشرين عاما الماضية بوضع خططا تنموية قابلة للتنفيذ تساعد الاقتصاد العراقي المتعثر على النهوض مجددا. يقابل ذلك تردي مستوى الخدمات الصحية والتعليمية والاجتماعية وفقدان الأمن والأمان وزيادة نسبة الفساد والاستيلاء على المال العام بحيث أصبح العراق اليوم من الدول الأكثر فساداً في العالم حسب تقارير المنظمات الدولية. كما أن مساهمة القطاع النفطي هي الأكبر في دخل الإيرادات السنوية للدولة التي تقترب من 95 في المائة، وبذلك يعتبر اعتماد العراق على النفط أعلى بكثير من نظرائه في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي نقطة ضعف كبيرة تهدد بحصول كارثة اقتصادية عظيمة إذا ما حصل انخفاض مفاجئ في اسعار النفط.

يقول أحد خبراء الاقتصاد في الشأن العراقي أن هذا البلد أنفق خلال العقدين الماضيين حوالي 83 مليار دولار على قطاع الكهرباء، ولكن حتى الآن لا تستطيع البلاد تقديم خدمة كاملة من دون انقطاع التيار الكهربائي. والموازنات منذ 2008 أدرجت نحو 7 آلاف مشروع استثماري بتكلفة 200 مليار دولار، لم يُنفذ منها سوى العشرات وان 90 % منها كانت وهمية لا يوجد لها أساس على أرض الواقع. وليس من المستغرب أن نجد في ظل النظام الحالي سيطرة الفاسدين على حركة الأموال والنشاط الاقتصادي والاستثمارات، ما دامت الحماية السياسية متوفرة لهم. والحكومة تحوّلت مهمّتها إلى تسهيل صفقات وتعامل مافيات الفساد مع القوى السلطويّة، وليست حماية أموال الدولة أو ضمان عدم وصول يد السارقين إليها بسهولة. وعليه ما ينقص العراق الأن لتحقيق رؤيا اقتصادية ناجحة هو ليس ضعف الموارد المالية أو القدرة على التخطيط وانما وجود نظام وطني يعمل بكل مصداقية لوضع خطط تنموية والعمل على تنفيذها بكل نزاهة وجدية تحت ظروف سياسية مستقرة.






الاربعاء ١١ شعبــان ١٤٤٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢١ / شبــاط / ٢٠٢٤ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أ.د. مؤيد المحمودي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة