شبكة ذي قار
عـاجـل










 



جيش العراق الوطني

نموذج لمفاخر الأمة وعنوان لمآثر البطولة

د. وحيد عبد الرحمن

 

في عيده الأغر الثالث بعد المائة منذ تأسيسه، نستذكر تلك الحقب التي مر بها هذا الجيش الباسل، ونستحضر كل معاني ومعالي شرف الجندية التي رافقت مراحل كفاحه المسلح دفاعا عن تربة وسيادة العراق الغالي، وعن تربة أقطار الأمة العربية المجيدة أينما تطلب الموقف أن يكون على أرضها ليرويها بدماء مقاتليه والشهداء الأبرار، ويحقق النصر الناجز بما يحمله من شجاعة فائقة وروح معنوية عالية، وقناعة مطلقة بعدالة القضايا التي يدافع عنها، وحسم للنصر في صدور مقاتليه قبل دخول أي معركة.

وإن من يستعرض تأريخ جيش العراق يقف مذهولاً أمام هذا السفر الخالد من الأمجاد والبطولات وصور العز والمجد والفخار وملاحم الإباء والشمم التي سطّرها عبر تاريخه المجيد، فسجل بأحرف من نور ذلك السجل الناصع من الوفاء لتربة العراق وأرضه ومائه وسمائه. ويشعر بالفخر والزهو لتلك المواقف البطولية في الدفاع عن ارض العراق ووحدته، وعن ارض العروبة، وعن المقدسات وقيم ومبادئ الدين الحنيف.

ومنذ ذلك اليوم الخالد، الخميس المصادف 28من شهر ربيع الثاني 1339هجري، والموافق السادس من كانون الثاني عام 1921 ميلادي عندما أُعلن عن تأسيس الجيش العراقي في الاجتماع الرسمي الأول الذي عقد برئاسة الفريق جعفر العسكري وزير الدفاع في قصر عبد القادر باشا الخضيري المطل على نهر دجلة قرب الباب الشرقي، وحتى الاحتلال العسكري الغاشم لبلادنا الجريحة، الذي قادته كل قوى الشر الأمريكية والبريطانية والصهيونية والصفوية والماسونية العالمية، لم يثبت عليه يوما ما أي موقف شائن، ولم يصاب بأي ثلمة على شتى الصعد.

وللتاريخ، لسان يحدثنا عن هذا الجيش العملاق ودوره الوطني. فعلى الرغم من أنه كان قد تشَكَّل في ظل الهيمنة البريطانية على العراق، إلا أنه لم يرضخ لإرادتها يوماً، ولم يسجل التاريخ انه كان يوما تابعا لها، أو يأتمر بأوامرها، أو أنه وقف ضد إرادة شعب العراق. لذا كان موقفها يتسم بالتشكيك وعدم الثقة به لكونه ومنذ ذلك اليوم لتأسيسه قد حمل منظومة قيمية وطنية وقومية راسخة، فكان أبناؤه في طليعة المخلصين من أبناء الشعب لمقاومة الاحتلال وقيادة انتفاضاته وحركاته المسلحة، وقدم في سبيل ذلك كوكبة من الشهداء في حركات مايس عام 1941 م. تلك الثورة التي قادها مجموعة من الضباط الذين تميزوا بشجاعتهم الفائقة وانتمائهم الوطني والوقوف بحزم وصلابة من أجل عدم مهادنة بريطانيا الاستعمارية، فكانت تلك الثورة مدخلاً مهماً لملاحم النضال في سبيل ترسيخ حرية العراق واستقلاله، فواصل جيش العراق كفاحه للتحرر من كل أشكال الاستعمار والهيمنة الأجنبية.

ومنذ تأسيسه وعبر كافة مراحل نضاله كان نموذجاً للمؤسسة الوطنية الجامعة التي ترتكز على مبدأين أساسيين هما: الولاء الوطني المطلق المتعالي عن الولاءات الضيقة، والتضامن من أجل تحقيق الأهداف الوطنية العليا.

كما كان جيش العراق عنواناً لوحدة العراق، وسوراً لها، حتى أصبح رمزاً للوحدة الوطنية العراقية. فنأى بنفسه عن كل أشكال الطائفية والتعصب القومي والمذهبي، فلم يعرف جيش العراق تلك الطائفية المقيتة التي قام المحتل الأمريكي بمحاولة تكريسها في أرض العراق.

 فقد تخرج من مؤسساته العسكرية آلاف الضباط وضباط الصف من الأكراد والتركمان والأزيدية والمسيحيين والصابئة، ومن المسلمين السنة والشيعة فأضحوا عناوين بارزة في الوفاء لتربة العراق وفي الدفاع عنه. بل كان من المعيب جداً، بل من المحرم أن تُذكَر مثل هذه التسميات في وحداته.

 كان المقاتلون من جميع الأطياف والأعراق في الوحدات، ينامون في قاعة واحدة، ويتناولون الطعام في مطعم واحد، ويتدربون سوية في ساحات العز، ويتسامرون بأطراف الأحاديث المختلفة في فترات الاستراحة، دون أن يفكر أحدهم بمذهب رفيق سلاحه، أو قوميته، أو دينه، أو منطقته، أو عشيرته، بل يجمعهم حب الوطن والدفاع عن كرامته، والاستشهاد دونه. وبذلك فقد شكل الجيش العراقي الوطني النموذج الأمثل للوحدة الوطنية في المجتمع والركيزة الأساسية لها.

كانت حياة المقاتل العراقي داخل معسكره حياة الجهاد المستمر الذي لا يلين ولا يستكين، فهو مشروع دائم للاستشهاد من أجل بقاء الوطن عزيزاً مستقراً، ومن أجل ضمان عزته وأمنه والحفاظ على استقلاله وتاريخه وتراثه وضمان مستقبل أبنائه.

ومن هنا كان أبناء الشعب عموماً يقدر حجم المسئولية التي كانت تلقى على عاتق هذا الجيش البطل الذي كان يؤدي بكل جوارحه تلك المهام الجسام، كما كان الجميع يقف إلى جانبه لما يبذله من صبر وجَلَد إزاء قساوة وشدة الظروف، والضغط والسهر دفاعاً عن العراق والأمة العربية.

ومن هذا الدور استمدت الجندية سمو رسالتها ووهج هالتها وشرف قدسيتها، فهي التي كانت تتقدم طليعة المؤسسات الاخرى للدولة في تطبيق مبادئ العدالة والمساواة بين صفوفها. فكان جميع القادة والآمرين يعتبرون جميع منتسبيهم متساوون أمام القانون، وهم يحظون بفرص التكريم والاحترام والتقدير والثناء والترقية تبعاً لكفاءاتهم وإخلاصهم وليس تبعاً لمعايير أخرى.

كان جيش العراق يتمتع بأعلى درجات الجاهزية القتالية التي تعني ذلك المستوى الرفيع والمتكامل والعالي من الاستعداد المادي والمعنوي لكافة مفاصل القوات المسلحة في كل جوانبها التدريبية والتسليحية والتنظيمية والمعنوية وفقاً لأحدث الأساليب والوسائل والسبل العلمية والتقنية المتاحة، والتي تؤهله لتنفيذ مهامه الوطنية والقومية في السلم والحرب، فتم التركيز على الجانب النوعي، ومواصلة بناء وتحديث قدراته في مختلف صنوفه وأسلحته. مع التأكيد على التنفيذ المبدِع والخلاّق لبرامج الإعداد المعنوي والثقافي والتربوي للضباط والمراتب، ورفع درجة الانضباط العسكري والتقيد بالقوانين العسكرية وضرورة اقتران الواجبات بالحقوق حتى يكون الانضباط طوعياً وواعياً. وزيادة الاهتمام بقضايا التأمين والحفاظ على الممتلكات العسكرية وصيانتها. وكذلك تحسين المستوى المعيشي والصحي للمقاتلين من خلال بناء الثكنات العسكرية الملائمة لسكنهم وتامين الغذاء المناسب والملبس اللائق لمظهرهم العسكري، وتحسين مستوى الخدمات الصحية لهم ولأسرهم.

وتجسدت كل تلك المعايير التربوية والمعنوية والتدريبية والتسليحية والضبطية والتنظيمية لجيش العراق الأشم في القتال الضاري الذي استمر لثمان سنوات ضد العدو الفارسي في الحرب الإيرانية العراقية الذي كان يحلم الخميني ويعد جيشه وحرسه لغزو العراق أولا ثم دول عربية أخرى على وفق هدفه في استعادة الإمبراطورية الفارسية، فاستطاع جيشنا المقدام من كبح جماح العدوان وتحطيم تلك الأحلام المريضة، بل تمكن من كسر شوكة الجيش الإيراني الذي كان يعد الجيش الخامس على مستوى جيوش العالم من حيث العدد والتسليح، ففي معارك التحرير الكبرى في الفاو والشلامجة ومجنون والزبيدات وكيلان غرب، فرض أبطال هذا المارد على الحرب أن تضع أوزارها بالنصر العراقي الناجز على الجيش الإيراني وما يسمى بالحرس الثوري والبسيج حتى تجرع كبيرهم السم الزعاف حسب قوله الصريح وهو يوافق صاغراً على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 598.

ولسان التاريخ الصادق يحدثنا أيضاً عن جيش الشهداء الذي ساند الأمة بكل ما أوتي من قدرة وهمة ونخوة. فتلك هي الأرض الفلسطينية التي تضم مقبرة الشهداء العراقيين في جنين، وتلك المقبرة العراقية للشهداء في دمشق. وهناك في أرض المفرق الأردنية مقبرة لشهداء الجيش العراقي البطل، وتلك أجواء سيناء المصرية شاهدة على مرور الطائرات المقاتلة العراقية لتدك معاقل وحصون الجيش الصهيوني.  وجميعها تحكي قصص بطولة الجيش العراقي في المعارك التي خاضها على أرض العروبة في 1948، 1967، 1973م.

وتلك هي صواريخ الحسين التي حطمت نظرية الأمن الصهيوني بعد أن أخذت معها صواريخ الباتريوت الأمريكية المضادة للصواريخ لتدمر بها ومعها المواقع الإسرائيلية في تل أبيب والنقب وغيرهما عام 1991.

لقد ارتكزت عقيدة الجيش العراقي العسكرية على المبادئ القومية وتاريخ الأمة العربية المجيد. ولذا فقد كان دفاعه عن البوابة الشرقية للوطن العربي هو دفاعاً عن الأمة بأسرها، مثلما كان يتنقل في أرض العروبة للدفاع عنها.  وقد جعل من قضية فلسطين تاجاً على رأسه فارتبط اسم فلسطين باسمه ولم يتخلف عن الجهاد ضد الصهاينة الغاصبين يوماً.

فمنذ أن دخل الجيش العراقي أرض فلسطين في عام 1948 تواصلت عملياته العسكرية ضد العصابات الصهيونية وألحقت بهم الخسائر المتتالية، ولعل أفضل نموذج لتلك العمليات ما قام به الفوج الثاني من اللواء الخامس الذي حرر جنين بقيادة العقيد الركن عمر علي بعملية عسكرية بطولية بتاريخ 3 – 4 حزيران يونيو عام 1948م بالتعاون مع الفوج الثاني من اللواء الرابع، حيث اندفع عمر علي بفوجه ليلاً مشتبكاً مع القوات الصهيونية التي أجبرت على الفرار مذعورة بعد تكبدها اكثر من 100 قتيل و65 جريح وفقاً للرسائل اللاسلكية المسترقة من العدو.

 وها هي مقبرة الشهداء في جنين شاخصة تحكي قصة بطولات الجيش العراقي لكافة الأجيال معبرة عن عشق الجيش العراقي لفلسطين. فما إن تصل إلى المدخل الجنوبي لمدينة جنين، وتحديداً على مفترق الطريق المؤدي إلى بلدة قباطية وقرية مثلث الشهداء المجاورة، حتى تأخذك عيناك إلى مقبرة وضعت على البوابة الرئيسة لمدخلها لافتة قديمة كتبت عليها عبارة (مقبرة شهداء الجيش العراقي).

وكان الجيش قد شارك حينها في تحرير قسم كبير من فلسطين وأضحى قاب قوسين أو أدنى من إسقاط تل أبيب لولا المؤامرة الدولية التي أوقفت القتال يوم 11 حزيران يونيو 1948، لإنقاذ دولة الكيان الصهيوني.

تلك المؤامرة الدولية التي لم تقف ولم تتوقف عند حدود محددة، بل خططت لاحتلال العراق وحل جيشه الباسل ليتسنى لها تنفيذ مخططها الاجرامي في انهاء القضية الفلسطينية بقتل الأطفال والنساء والرجال كما يحدث اليوم في غزة بجريمة الإبادة الجماعية أمام انظار العالم بأسره، بتقطيع أجساد عشرات الآلاف من الشهداء المدنيين الأبرياء دون ان يحرك ذلك ضمير الخونة من أبناء جلدتنا الذين ساهموا في هذه المؤامرة القذرة فسمحوا لكماشة العدو الصهيوني في الغرب والعدو الصفوي في الشرق لينقضوا على الإنسان العربي، وعلى الفكر والقيم والمبادئ العربية الإسلامية. فالعدو الصهيوني يقصف بمدفعيته وصواريخه وطائراته أهلنا في غزة ويدمر كامل البنية التحتية لتحقيق أهدافه الاستراتيجية بعد أن جعلوا غزة العز ميدان رمي لأسلحتهم متذرعين بحجج مختلفة، تارة استهداف وإنهاء حركة حماس، وتارة لتحرير الأسرى، بينما يتسارع العدو الصفوي في استكمال هيمنته على مقدرات وطننا الجريح في العراق وسوريا ولبنان واليمن، ويتسارع في انتاج سلاحه النووي. 

والسؤال الذي يطرحه كل الأحرار من امتنا: هل كان العدو الصهيوني أو الصفوي يتجرأ كما هو الآن لو كان العراق وجيشه الباسل قبل الاحتلال موجوداً؟

إن استشهاد الطفل الفلسطيني محمد الدرة، وحده بين أحضان والده، والذي شاهده العالم مباشرة من على شاشات التلفاز هز قيادة العراق وجيشه، فوضعت الخطط العسكرية حينها لنصرة أهلنا في فلسطين! فكيف الحال والمعمورة بأسرها تشاهد استشهاد عشرات الآلاف من شعبنا الفلسطيني دون وازع ودون أي رادع؟

إن جسامة الملمات والخطوب لم تثلم السفر البطولي الخالد لجيش العراق، فلم يسجل على هذا الجيش أي موقف شائن حتى وإن غفل الزمان وتكاثرت المحن والنوائب، حتى أضحى هذا الجيش عنواناً للوطن، بل إنه بات مرادفاً للعراق فلا يُذكر اسم العراق، إلا وذكر معه جيش العراق.

ومهما طال الزمن ومهما تكالبت قوى الشر فإن جيش العراق سيعود أقوى مما كان وسينتفض من جديد بأبنائه، وأبناء وأحفاد قادته ومقاتليه الذين تمكنوا من بنائه بناءً راسخاً وثابتاً ودائماً، وسيبقى نموذجاً لمفاخر الأمة وعنواناً لمآثر البطولة المجيدة.

 

وإن غداً لناظره قريب.






الخميس ٢٢ جمادي الثانية ١٤٤٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٤ / كانون الثاني / ٢٠٢٤ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب مكتب الثقافة والإعلام القومي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة