شبكة ذي قار
عـاجـل











رابعاً : مفهوم الحزب ووظائفـه

ا - تكوين الحزب كمجتمع مصغر :
يتميز الإنسان الواعي بالمقدرة على التفكير في عناصر الثقافة التي يكتسبها وفي الظروف الموضوعية للأحداث المحيطة به، وبالتالي فانه يمتلك الحرية في اختيار النظريات الفكرية والسياسية بناءاً على ما يتوصل اليه من قناعات.

وتُعَد النظريات الفكرية والسياسية، إسهامات من الأفراد والجماعات في إغناء الفكر الإنساني وايجاد الحلول التي تحقق مصلحة المجتمع الذي ينتمي اليه اصحابها.ولا تكتسب أهميتها إلا بمقدار اكتشافها للحقيقة كما هي بدون تمويه ،واستجابتها لحاجات الإنسان وتحقيق رفاهيته.ولا يمكن لها أن تؤمّن هذه الحاجات سوى بالعمل على تطبيق الاهداف المعلنة لها.والتطبيق لا يأخذ طريقه الجدّي إلا إذا تظافرت جهود المؤمنين بهذه النظريات والعقائد لترجمتها إلى أهداف واختيار الطرق المناسبة لتحقيقها.

وعندما تخرج الأفكار من دائرة الفرد إلى دائرة الجماعة فإنها تصبح ملكاً عاماً لها؛ وعندها تدخل العلاقة والتفاعل بين الفرد والمجموع مرحلة حساسة من شأنها ان تضمن نجاح الفكر او العقيدة في تحقيق اهدافها نجاحاً كبيرا،ً او بالعكس تتعرض الى اخفاق كبير.

وتتمثل هذه المرحلة بقدرة النظرية او العقيدة على ضمان دخول العقل الفردي، باختياراته الفكرية الحرة من دون خضوع أو إكراه، الى دائرة الجماعة، ليتفاعل معها، فيأخذ منها ويرفد أهدافها الفكرية والعملية بطاقاته الفردية بكل حيوية وتجدد، وضمن الضوابط الموضوعية التي تضعها المجموعة بموافقة وإقرار افرادها.

فما هي طبيعة هذه العوامل بقدر تعلق الامر بالعلاقه بين الفرد والحزب السياسي الذي ينتمي إليه؟

ان الحزب هو تجمع لأفراد اختاروا أهدافاً فكرية ذات مضامين سياسية واقتصادية واجتماعية، وارتضوا فيما بينهم العمل معاً لتحقيق هذه الأهداف.عندها يشكل تجمُّعهم ما اصطلح على تسميته حزباً.فوظيفة الحزب هي ترجمة الأهداف الفكرية إلى واقع عملي.وعلى الرغم من أن الحزب هو ليس كل المجتمع الا انه تجمُّع لمجموعة من هذا المجتمع.ويصبح صورة مصغرة عن المجتمع الذي يطمح لبنائه بقدر تمسك الاعضاء فيه بترجمة العقيدة الى واقع حي في سلوكهم وممارساتهم اليومية والمستقبلية.وعندها يمثل الحزب أهدافاً فكرية في السياسة والاقتصاد والمجتمع، و يشكّل في نفس الوقت قوة لتنفيذ الخطط الكفيلة بتحقيق تلك الأهداف ثانياً.

وعليه فإن لكل فرد في داخل الحزب وظيفة، فبالانخراط الحرّ للفرد في الحزب، وبقيامه بوظيفته فإنه يكمِّل قيام الأفراد الآخرين بوظائفهم.لذا فإن أي اختلال في ممارسة وظيفة الفرد ينتج عنه اختلال في وظائف الآخرين.ومن هنا يصبح دور الفرد في داخل الحزب ذا قيمة معنوية هامة وتكتسب وظيفته قيمة عملية كبيرة إذ يصبح التفاعل بين وظائف الافراد كلهم عنصراً أساسياً وحاسماً في المحافظة على هيكلية البناء الحزبي الداخلي وتماسكه من جهة، وفي تطوير وسائل العمل وارتقائها نحو الأفضل وصولاً الى تحقيق الاهداف المعلنة من جهة ثانية.

٢ - الدور الوظيفي لالتزام العضو الحزبي يزاوج بين الديمقراطية و المركزية داخل هذه الدائرة المجتمعية التي اصطلح على تسميتها حزباً، والتي حازت على شرط الاطلاع والوعي بالظروف الموضوعية والأهداف الفكرية ووسائل تحقيقها ، كيف يمكن للحزب التوليف بين جوهري الديمقراطية والمركزية ؟.

لتنظيم العلاقات بين الأعضاء المنتسبين إليها اتخذت الاحزاب العقائدية التي تتبع النظرية التنظيمية الهرمية التسلسل، جملة من الاجراءات للتوليف بين الديمقراطية والمركزية.وقد تبنى حزب البعث العربي الاشتراكي إطاراً نظرياً وعملياً متميزاً ينظم العلاقات الداخلية سواء بين اعضائه من جهة او بين تشكيلاته الهرمية ابتداءاً من قواعده وصعوداً الى قياداته ، على قاعدة الديمقراطية المركزية.وذلك حرصاً من البعث على ضمان حيوية التفاعل بين الفرد والمجموعة داخل الحزب ، وتسخير طاقات كل فرد من رفاقه من اجل تحقيق الاهداف التي آمنوا بها بطريقة نظامية وحضارية في نفس الوقت.فإلى ماذا تستند عوامل التوليف بين هذين الطرفين الأساسيين في مفهوم الحزب؟

بالنظر إلى كل من هاتين الآليتين ( المتعارضتين فلسفيّاً ) على انفراد، نرى أن ضمان التوازن بينهما و ضبطه يعدّ العامل الحاسم لضمان ديمومة الحزب كقوة حية متجددة في المجتمع ،وكذلك ضمان وصوله الى تحقيق اهدافه الاستراتيجية التي آمن بها افراده وانتموا اليه بموجبها.

فالديمقراطية إذا لم تستند إلى مفهوم العلاقة المنظمة والمسؤولة بين الأنا والآخر، فإنها تقترب إلى حدود المفهوم المنفلت للحرية الذي لا يرتضى أن يكون خاضعاً لأي إكراه أو أية قيود أو معوقات تحول دون تحقيق قناعاته الفردية.

ولأن الديمقراطية كمفهوم عام ،جاءت ذات مضمون سياسي مجتمعي، فقد حملت داخل ذاتها قيوداً محددة ومدروسة من شأنها ان تضمن توجيه الحرية بالاتجاه الصحيح بحيث لا تنفلت باتجاه الفوضى ، وانما تضمن حقوق الفرد في المجتمع في التعبير والممارسة من جهة وحقوق المجموع في تحقيق الاهداف العامة من جهة اخرى.كذلك، في نفس الوقت فقد حملت الديمقراطية إمكانية ذاتية لتخفيف هذه القيود بحيث لا تتكاثر إلى الحد الذي تنحرف فيه باتجاه العبودية.

أما المركزية، فهي نظام فكري وآليات عمل تفضي الى التنازل عن القرار الذاتي لمصلحة الغير والنابع من الرضا والقناعة بالخضوع لها ، ولكنها قد تجنح احياناً الى استخدام القرار الفردي ( سواء كان فرداً أو أقلية ضئيلة ) باتجاه تكبيل المجموع بإرادة الفرد وقراره، اي ممارسة الغلبة على هذا المجموع.

وسواء استند مفهوم المركزية في بعض الاحزاب إلى مبدأ الرضا بالخضوع أو مبدأ ممارسة الهيمنة او الغلبة فقد تحولت لدى تلك الاحزاب الى " ديكتاتورية" على صعيد الشكل والمضمون.ويرى البعض ان هذا بحد ذاته يشكل النقيض للديمقراطية بمضمونها الفلسفي ، واكبر تهديد لحيوية التفاعل بين الفرد والمجموعة داخل الحزب الواحد ، و عائق يمنع تسخير طاقات كل افراده من اجل تحقيق الأهداف التي آمنوا بها مما يعيق في النهاية الوصول الى تلك الاهداف.

ومن اجل تفادي كل هذه التحديات فقد تميز فكر حزب البعث العربي الاشتراكي بانه نجح في صهر هذين العاملين في بوتقة واحدة من خلال آليات تضمن أن يتنازل كل منهما عن أقصى مضامين التطرف، اي عن ما قد تفضي اليه الديمقراطية المطلقة من فوضوية، و ما قد تفضي اليه المركزية المطلقة من ديكتاتورية.

فوضع الحزب تشريعات منصوص عليها في عقد يتوافق عليه الاعضاء الملتزمون حزبياً، وهو ما يعرف بالنظام الداخلي.وسوف تتم مناقشة مضامين هذه التشريعات والضوابط التي من خلالها تقوم نظرية الديمقراطية المركزية في حزب البعث العربي الاشتراكي بتحقيق التوالف والتكامل بين طرفين يبدوان متناقضين للوهلة الاولى لكن في الواقع لا غنى عن تكاملهما للوصول الى تحقيق اهداف الحزب العقائدية على ارض الواقع.

٣ - التشريعات تعالج النزوع الطبيعي للهيمنة المتبادلة بين المركزية والديمقراطية :

في البداية لا بد من إعادة التذكير بمسلمتين اثنتين، لا يمكن بدون تفاعلهما أن يستقيم العمل الحزبي، وهما :

أولا : وجود أهداف فكرية - إيديولوجية عامة يعتنقها كل رفيق من أعضاء الحزب بوعي وحرية، من دون ضغط أو إكراه، وهذا يمثل جانب الحرية الفردية بمفهومها الفلسفي.

ثانياً : وجود قناعة بوجوب تحقيق هذه الأهداف.فبهذه المسلمة يتحول الفكر من الدائرة النظرية إلى الدائرة العملية / الاجتماعية، وبها يتحول الامر من فكر من أجل الفكر، إلى فكر من أجل مصلحة المجتمع والامة.وهنا يتحول مفهوم الحرية لكي يصب في المصلحة الجماعية بدلاً من الفردية.

ولقد اشرنا سابقاً الى إن تحويل الأهداف الفكرية / الإيديولوجية، من أهداف نظرية إلى اهداف ومصالح مجتمعية لعموم المجتمع والامة ، يفترض جهوداً تتجاوز إمكانيات الفرد، وهذه الجهود تتوفر في تشكيل الحزب السياسي.

وفي البداية يمكن في داخل الحزب لكل عضو فيه أن يعتنق أهدافه الفكرية / الإيديولوجية بحرية ووعي ودون ضغط أو إكراه.ولكن عند البدء بالترجمة العملية لهذه الأهداف سوف تتعدد الآراء حول أفضل الوسائل لإنجاح العمل.وهذا امر طبيعي نظراً الى تباين الخبرات والظروف التي ينطلق منها كل رفيق.هنا، تتولد الإشكالية الأولى التي تتلخص في أي رأيٍ يمكن اختياره لكي يمكن اعتماده كأساس للتنفيذ العملي ؟ وهل ان هذا الاختيار يُلزِم المعارضين له بقبوله وتنفيذه ؟.

وتتولد الإشكالية من الإلزام الذي ينطوي في تطبيقه احياناً على معنى من معاني الضغط والإكراه، لانه سيشكل انتقاصأ من مفهوم الحرية في بعده الفلسفي.وعندها سيكون سبب يبرر للمعترض الانفصال عن الجماعة التي انخرط معها على أساس وجود قناعة مشتركة بالأهداف الفكرية / الإيديولوجية.

ولان من طبائع الامور ان الواقع التعددي في وسائل التطبيق يفرز اراءاً متعددة قد تتعارض فيما بينها ، لذا فان البعض ممن يصعب عليه الموازنة بين ممارسة حرية الرأي وبين الالتزام بالقرار النهائي ، سيفضل الانفصال عن أصحاب الرأي الآخر بحجة المحافظة على قدسية الحرية الفردية.لذا فان الضوابط والتشريعات تعد امراً في غاية الأهمية لضمان عدم استمرار هذه الحالات التي من شأنها ان تحدث استنزافاً في الطاقات والجهود والقدرات مما يعيق قيام الحزب بوضع الخطط التنفيذية الكفوءة لتحقيق أهدافه.

ولكي يتم التوفيق بين الحرية الفردية في اختيار الأهداف، وبين الالزام في ترجمتها كحاجة مجتمعية للأمة، جاءت النظرية التنظيمية لحزب البعث العربي الاشتراكي في الديمقراطية المركزية بعدد من التشريعات للتوفيق بين الحرية الفردية للرفيق والالتزام الجماعي، أي بين الحرية بمفهومها الفلسفي المطلق وبين الإلزام بمفهومه الانضباطي.

وتكون القاعدة الأساسية في التشريعات او الانظمة الداخلية هي تحقيق التوازن بين المركزية كمفهوم للسيطرة وتنظيم العمل بكفاءة ، وبين الديمقراطية كمفهوم للحرية، مع اعطاء الديمقراطية الاولوية وهذا ما ميز فكر البعث وعقيدته.ويستند ذلك إلى عملية التنازل المتبادل للحدود المتباعدة بين دائرتيهما للاحتفاظ بالعناصر المشتركة المتقاربة وتفعيلها بحيث يصب كل منهما في خدمة الآخر.ويشمل ذلك التنازل عن حالة الإكراه والتفرد التي تنطوي عليها المركزية المفرطة ، والتنازل عن الحرية المؤدية الى الحالة الفوضوية في الديمقراطية المنفلتة، من خلال التخلي عن جزء من الحرية المطلقة للفرد لصالح حرية ومصلحة الآخرين.

إن التنازل المتبادل هي عملية إلزام ذاتي لكل من حدَّيْ العملية التنظيمية، وهو التزام مقيَّد برضى الطرفين، و بالضوابط التنظيمية المنصوص عليها في اللوائح والنظام الداخلي.ويأتي الالزام الذاتي والالتزام المقيَّد مستنداً، ليس إلى عملية آلية بحتة ، وإنما إلى حصانة أخلاقية لها علاقة بالطبيعة البشرية للإنسان.ذلك ان هذه الطبيعة بما تحتويه من تعقيدات اجتماعية ونفسية، قد تؤثر سلباً على حسن تنفيذ العقد الرضائي بين الديمقراطية و المركزية ما لم يتم الاستناد الى الحصانة الاخلاقية فكان وجود هذه الحصانة في الحياة الداخلية لحزب البعث العربي الاشتراكي ميزة اخرى تميز عقيدته وتنظيماته.

ففي إطار هذا العقد الرضائي، تأتي التشريعات والنظام الداخلي لكي تمنع طغيان المركزية وبالتالي تحولها إلى ديكتاتورية.ويتم ذلك من خلال اقرارها للديمقراطية بحق الاختيار الحر للقيادات الأعلى في عملية الانتخابات الحزبية وصولاً الى القيادة المركزية.وفي ممارسة نقد القيادة ومحاسبتها في المؤتمرات الحزبية.وفي تثبيت فقرة النقد والنقد الذاتي كنهج ثابت في
الاجتماعات الحزبية، وغير ذلك من الممارسات الاخرى.وفي الجانب الآخر جاءت التشريعات والنظام الداخلي، ومن اجل تسهيل اتخاذ القرارات وتنفيذها، لتنص على حق الأكثرية في إلزام الأقلية بالتقيد بالقرارات المتخذة والاشتراك في تنفيذها بكل فاعلية.

ورغم سلامة النظرية وسمو الموزنة بين طرفي المعادلة ( الديمقراطية والمركزية ) ، الا انه من الأهمية بمكان عدم التوقف عن متابعة التطبيق العملي لها و دراسة الإشكاليات التي يثيرها واقع تطبيق التشريعات التنظيمية في هذه القضية على صعيد الممارسة العملية ، وصولاً الى ايجاد الحلول الكفيلة بتجاوز اية عوائق.

لإن الواقع والتجربة ، وعلى الرغم من وجود نصوص واضحة تحدد العلاقة بين الديمقراطية و المركزية ، يؤشران الى امكانية حدوث مصاعب وعوامل ذاتية وموضوعية تسعى الى عرقلة هذه الآليات وبالتالي عرقلة مسيرة اية حركة ثورية.

ويعزى سبب وجود هذه التحديات الى جسامة المهام الملقاة على عاتق الحزب وعظمة الاهداف التي يسعى لتحقيقها في حياة الامة، والى التعقيد الذي تتسم به الطبيعة البشرية لأسباب اجتماعية ونفسية.كما ان الحرية بطبيعتها تجنح باستمرار نحو الفردية، لذا فإن عدم إلمام العقود التشريعية بكل هذه التعقيدات السياسية والاجتماعية والذاتية، سوف يبقي الإشكاليات قائمة في التوفيق بين الذات والمجموع ما لم تتسم النظرية التنظيمية بسمة الحركة والتطور والتحرر من اية عوامل تحاول ان تفرض عليها الجمود.

لذا فإنها وإن لم تستطع الخلاص من الإشكاليات بشكل كامل لاستحالة ذلك في اي تشكيل مجتمعي ، فإنها ستكون قادرة على مواجهتها بكفاءة عالية وذلك بالمعالجة المستمرة وذلك لضمان تحقيق شقي المعادلة الأساسيين وهما الديمقراطية والمركزية وصولاً الى ديمومة النضال وتصاعد وتائره بكفاءة عالية على طريق تحقيق الاهداف العظيمة للأمة العربية في الوحدة والحرية والإشتراكية.

مكتب الثقافة والاعلام القومي
١٥ / ٣ / ٢٠٢٠





الثلاثاء ٢٢ رجــب ١٤٤١ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٧ / أذار / ٢٠٢٠ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب مكتب الثقافة والاعلام القومي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة