شبكة ذي قار
عـاجـل










تدرك موسكو أن إيران ترتبط بالغرب، وتشكل مجالاً للأحتكاك عبر التاريخ على حافات المجال الحيوي لروسيا، كما أنها شكلت قاعدة غربية للتنصت على فعاليات الحركة السوفياتية الأستراتيجية، وكان الغرب يحصي أنفاس الأتحاد السوفياتي في نظم صواريخه غير الثابتة في حركتها وتجاربها. ورادارات أمريكا كانت في المقام الأول ترصد تجارب السوفياتي النووية والصاروخية وبشكل يثير قلق الكرملين، وخاصة التسليح الأمريكي للجيش الإيراني فضلاً عن عقيدته القتالية الغربية .

فالدولة الإيرانية كانت مأخوذة بهوى الغرب سياسياً واقتصادياً، ولم يكن مسموح لليسار الإيراني أن يكون له شأن على مستوى الأمساك بشؤون الحكم .. وحين نضجت الظروف لحزب تودة الإيراني والأحزاب الوطنية الأخرى في قيادة الشارع الإيراني، والذي تزامن مع دخول الجيش السوفياتي إلى أفغانستان .. أسقط الغرب الشاه وساعد فوراً على سحب البساط من تحت اقدام الحركة الوطنية الإيرانية لتتولى المؤسسة الدينية- الطائفية مسؤولية السلطة في إيران لكي تقوم بتصفية الحساب مع اليسار الإيراني بعد إجهاض بريطانيا حركة مصدق الوطنية .. الرد الأمريكي على التدخل السوفياتي في أفغانستان كان إجهاض اليسار الأيراني وتسهيل أيات الله للوصول إلى الحكم في إطار سيناريو محكم عملت عليه المخابرات الأمريكية والبريطانية، كانت صفحته الأولى احتلال السفارة الأمريكية في طهران واحتجاز الدبلوماسيين الأمريكيين ,فيما باشرت المؤسسة الدينية الإيرانية بإدانة الغرب إعلامياً والتوافق الأستراتيجي الأمريكي - الإيرانية عملياً يأخذ مساره على منحيين : العدوان على العراق أولاً والتحشيد لإخراج الجيوش السوفياتية من أفغانستان ثانياً عن طريق خط الأسلام السياسي المتشدد الذي دعمته أمريكا بالأموال والسلاح والمعلومات الأستخبارية تحت مسميات ( محاربة الكفار السوفيات ) ، فيما كان التحشيد والتجنيد تحت مسميات ( العرب الأفغان ) ، الأمر الذي انتهى إلى هزيمة الجيوش السوفياتية في وديان جبال تورا بورا الوعرة وقراها الصعبة .. فيما ظل التوافق الأستراتيجي الإيراني- الأمريكي قائماً حتى الوقت الحاضر في ظروف احتلال أفغانستان ووضع السيناريوهات الخاصة بانسحاب الجيوش الأمريكية بمعاونة إيران، التي تبرعت قي تقديم التسهيلات على أساس من التعاون .. وكما هو الحال الراهن الذي يكشف نوع التوافق الإستراتيجي الأمريكي- الإيراني قبل احتلال العراق وحتى الوقت الحاضر .

التوافق الأستراتيجي الأمريكي- الإيراني منذ سقوط الشاه وتسلم المؤسسة الدينية زمام السلطة في طهران لم يكن نمطاً عادياً ، كما أنه لم يكن هذا التوافق مبني على استقلالية المصالح المشتركة .. بمعنى الأستقلالية في العمل المشترك .. إنما مبني على الرؤية الأستراتيجية المشتركة التي ظلت هي نفسها تلك الرؤية التي كان الشاه يتبناها حيال الصراعات الدائرة في المنطقة من جهة، والدور الموكول لإيران أن تلعبه على أساس ( قوة إقليمية ) قادرة على التأثير في مجريات الأحداث ، ليس فقط في المنطقة إنما في المحيط المتوسط وعلى حافات المجالين الحيويين الروسي والصيني على حدٍ سواء من الجهة الثانية.

إيران لن تستطع أن تخرج عن هذا التوافق الإستراتيجي، الذي كان يسمى في عهد الشاه بـ ( التحاف ) مع المعسكر الغربي، والتي كانت إيران تعد في ضوءه جداراً غربياً لما يسمى ( احتواء ) الأتحاد السوفياتي ، ليس على أساس النظم السياسية الحاكمة في إيران، إنما على المستوى الأستراتيجي، الذي يشتمل على الموقع الـ ( جيو- إستراتيجي ) القريب من الأتحاد السوفياتي وهو ذاته القريب الآن من روسيا الأتحادية، والقريب من بحر قزوين، والذي يتوسط أو يشرف على خطوط أنابيب النفط والغاز، فضلاً عن قربه من منابع النفط في الخليج العربي .. هذه المقتربات ما تزال قائمة بغض النظر عن غياب الشاه وغياب الأتحاد السوفياتي في الرؤية الأستراتيجية الأمريكية والغربية .. فإيران تظل موضع إهتمام الغرب، والنظام الإيراني يدرك ذلك وعلى أساسه يبني رؤيته في التوافق الإستراتيجي مع أمريكا والغرب علانية ومع ( إسرائيل ) بصورة سرية.!!

وموسكو تدرك ذلك .. ومن الصعب عليها أن تترك طهران لتوافقها الإستراتيجي مع أمريكا، إنما تعمل على جذبها إلى خط دفاعها لأعتبارات مجالها الحيوي من جهة واستخدامها لأستعادة نفوذ الأتحاد السوفياتي القديم في المنطقة .. ومن هذه الزاوية تتمسك موسكو بموضع القدم في ميناء ( طرطوس ) ، ومبيعات السلاح إلى بغداد والأنفتاح على مصر في تلك اللحظات التي أدارت أمريكا ظهرها للقاهرة وعرض موسكو التسليحي المغري كما هو عرض طهران لها بالأستثمارات وبتدفق ملايين الدولارات عن الزيارات الدينية مقابل موضع القدم الطائفية في مصر العربية .

الحركة الإيرانية حيال مصر فشلت فشلاً ذريعاً .. وحركة موسكو وجدت نمطاً من المجاملات وبعض حنين إلى الماضي البعيد .. ووجدت واشنطن وضعها مرتبكاً وحائراً بهد سقوط مبارك زاد اضطراباً بسقوط محمد مرسي .. وإلى أن تستقر قناعة صانع القرار الأمريكي وقبوله بالنتائج، التي فوتت على واشنطن مشروعها الصهيوني في سيناء وهي تبني عليه آمالاً في خلق دولة فلسطينية على رمالها الساخنة .

خيارات موسكو معروفة ومكشوفة تماماً .. إذا فقدت ( طرطوس ) أو ساومت عليه ، فأن خيارها ميناء ( بندر عباس ) القريب من منابع النفط، التي تتشكل منها المصالح الحيوية الأمريكية ( American Vital Interests ) المُقَرَه إستراتيجياً بمبدأ كارتر ( Carter Doctrine ) ، أو تأجير ميناء في قبرص قد يفي بالغرض، ولكن خيارها في عدن ميؤس منه، إذ وافقت موسكو على قرار مجلس الأمن بشأن اليمن الذي قيد الحالة فيها بالفصل السابع، وهو تطور لآفت من موسكو يقابله رفع الحظر عن نظم صواريخ ( s-300 ) المتطورة، الأمر الذي يكشف عن حسابات تضعها موسكو بصورة إستباقية تعكس احتمالات تطور مجريات الأفعال وردود الأفعال في اليمن ومجالها الحيوي باب المندب .. أما لماذا السلاح لطهران، فهذا لا يعنى أن طهران في صراع مع أمريكا والغرب ابداً، إنما تكمن أهداف موسكو خلف الإستراتيجية الإيرانية الموجهة أساساً تجاه المنطقة تحديداً تبعاً لواقع الصراع واهدافه :

أولاً- طهران تريد إحياء إمبراطوريتها الفارسية الساسانية البائدة عن طريق التمدد على حساب دول المنطقة وشعوبها ومصالح العالم .

ثانياً- موسكو تريد إحياء نفوذها الإمبراطوري القيصري عن طريق دعم وإسناد النظام الفارسي في طهران والأختباء خلفه وتشجيعه وحمايته لأهداف العودة إلى مواقع النفوذ السوفياتي في المنطقة .

ثالثاً- موسكو تقترب من ( عش الدبابير الطائفي ) لتحمي دواخلها وخاصرتها المترهلة التي يقطنها أكثر من ( 60 ) مليون مسلم قد تتفجر الطائفية في أوساطها كما حصل في الشيشان وربما يصل شررها إلى عمق العاصمة الروسية.!!

ولكن موسكو تعلم :
1- أن إيران دولة متخلفة، وإن ناتجها القومي الاجمالي لا يتعدى ( 4.03 ) مليار دولار، وهو مبلغ لا يُعَدُ كبيراً بالنسبة لعدد السكان الذي يربو تقريباً على ( 80 ) مليون نسمة تتصارع فيه معدلات الفقر والبطالة .. وإن نسبة 60% من هذا الناتج تحتكره الدولة، فيما تتركز نسبة 30% من هذا الناتج بيد المؤسسة الطائفية وتعاطيها الواسع النطاق مع ( البازار ) .. وإن الدولة الإيرانية تعتمد على منتج واحد وهو النفط والغاز الذي يمثل نسبة 80% من قيمة الصادرات والعملات الصعبة .. هذا الأقتصاد تحيطه بركة من الفساد يتوزع بين مؤسسة الحرس الثوري ورجال المؤسسة الطائفية في ( قم ) و ( البازار ) الذي يجمع بين الأثنين معاً ليصنع خليطاً مشحوناً بالصراعات والأضطرابات والشد والجذب .. الأمر الذي يدفع بالنظام الصفوي إلى التصعيد الخارجي والأيهام بمخاطر خارجية من أجل توحيد الداخل واستمرار تصدير المشكلات لهذا الغرض.

2- كما أن موسكو تعلم بأن إيران قد وظفت كل جهودها منذ عام 1979 وهو عام مجيئ ( خميني ) إلى السلطة من أجل تصدير الثورة الطائفية، فأشعلت الحرب مع العراق، والهدف هو إزاحة عقبة العراق، الذي يحمي الخليج العربي والمنطقة من التمدد الفارسي على مدى عقود وعقود من السنين .. إلا أن إيران فشلت وانكسرت وتجرعت السم الزعاف ثم باشرت تعاونها مع الشيطان الأكبر وتوافقها الأستراتيجي معه لتهديم السد .. وبانهياره نمت أذرع إيران في جنوب لبنان وسوريا وتمددت في اليمن وتحركاتها المشبوهة في الكويت والبحرين والأمارات ومصر والسودان والمغرب العربي .. التمدد هذا أرهق إيران اقتصادياً كما العقوبات الأقتصادية والمالية وانهيار اسعار النفط.. الأمر الذي انعكس على الداخل الإيراني :

- هجرة الرساميل الإيرانية إلى الخارج .

- هجرة الملايين من الإيرانيين إلى الخارج وراء فرص للعيش أفضل.

- كلف التسليح المفرط وغير المتجانس الذي بدأ بالصواريخ دون أن يكون للتصنيع المدني أي قاعدة أساسية .

- سوء إدارة دفة السياسة - الأقتصادية وتوجهات الحروب المليشية التي تديرها مؤسسة الحرب الإيرانية والمؤسسة الدينية .. اللتان تفتقران الى الخبرة في ادارة نظام الحكم على أسس واقعية متوازية .

- الحالة الخطيرة من الأستنزاف التي يعانيها النظام الفارسي نتيجة لنهجه العسكري الذي يتبعه في محيطه الخارجي بصورة غير واقعية وغير مشروعه .

- لا تمثل إيران معياراً ثقيلاً لتوازن القوى في المنطقة حيال القوى الأقليمية ( الدول العربية وتركيا ) على وجه التحديد .. وإن الميزان ليس في صالح إيران لا إقتصادياً ولا عسكرياً ولا يمغرافياً وبالتالي فأن إيران لا تملك ثقلاً أو نفوذاً تستطيع من خلاله أن تفرض معادلتها في المنطقة .. وهذا تدركه موسكو جيداً. !!

3- تدرك موسكو وإيران معاً حقيقة مفادها .. أن عدول طهران عن نهجها الخارجي وتراجعها سيعجل في إنهيار نظامها السياسي في طهران .

4- إن وقوف موسكو خلف طهران وإسنادها إياها بالسلاح والدعم السياسي وتشجيعها على نهجها في التمدد، لخلق حالة تماثل وهو سباق التسلح وتقديم عروض إنشاء مفاعلات نووية عربية على غرار ما أنشأته موسكو لإيران، تجني موسكو من خلال تلك العروض المليارات .!!

5- تدرك موسكو أن إيران بعد ( عاصفة الحزم ) باتت تعيش في عزلة خانقة.

6- كل دول المنطقة وبدون إستثناء باتت تتوجس من طهران الشر- حتى أن من يقف ورائها بات وضعه لا يحسد عليه ما دام يبني حساباته في ضوء ( الهجمة المليشية الطائفية الفارسية ) ، التي تستهدف عسكرة المنطقة وبالتالي تهديد أمنها واستقرارها.

7- موسكو فتحت مخازنها ورفعت الحظر على نظم صواريخ ( S-300 ) لماذا في هذا التوقيت ؟ هل أن طهران مهددة؟ كلا، طهران لا أحد يهددها لا أمريكا ولا الكيان الصهيوني ولا الدول العربيو . وهل أن النقلة الروسية هذه ذي طبيعة إستراتيجية تتعلق بالحركة الأمريكية العسكرية حيال أوكرانيا ؟ نعم هي كذلك ، ولكنها نقلة تعطي دفقة قوة لنظام ديني طائفي مطلق يعادي الشعوب الإيرانية ويعادي الشعب العربي وشعوب المنطقة بدواعي عنصرية وطائفية مقيتة.. وبهذا السلوك فأن موسكو قد وضعت نفسها في خانة الخاسر، لأنه من غير المنطق أن تصغي الدول العربية وشعبها العربي وتعداده يقارب الـ ( 400 ) مليون نسمة لكلام موسكو وهو يحرض ويدعم ويساند دولة إيران المارقة بكل المقاييس.!!

8- إن موافقة موسكو دون أن تلجأ إلى الفيتو طريقاً لمنع صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم ( 2109 ) حول اليمن خلافاً لما ترمي إليه طهران، هو أمر لا تريد موسكو أن تسبح ضد تيار الشرعية الدولية، الذي أعرب العالم عن تأييده لقرار ( عاصفة الحزم ) التي قصمت ظهر السياسة الإيرانية في اليمن وفضحتها على الملأ، فيما غدت سياسة إيران ووكلاؤها في العراق على المحك حيال الثورة العارمة التي يصر الشعب العراقي على بلوغ نتائجها بطرد الغزاة الأمريكيين والإيرانيين الفرس وأدواتهم الذين دمروا الدولة ومزقوا الشعب ونهبوا ثرواته .

إيران تظل في هوى الغرب .. ومثل هذا الهوى لم تأتَ به المواسم إنما هو امتداد من عهد الشاه، قلباً وقالباً، إلى عهد خميني إلى عهد خامنئي وحتى ما بعد رحيله، ستبقى إيران ( جيو- إستراتيجيا ) حاظرة في عقلية الغرب وفي مقدمته أمريكا والصهيونية، طالما أن الفرس المجوس انقذوا اليهود في عهد نبوخذنصر، وطالما أن هذه الـ ( جيو-إستراتيجيا ) تقع على تخوم خطوط ( النفط + والغاز+ والمياه+ وطريق الحرير ) فضلاً عن المجال الحيوي لقوى التوازن المستقبلي روسيا الأتحادية والصين ومستقبلها الواعد .!!






الاحد ٣٠ جمادي الثانية ١٤٣٦ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٩ / نيســان / ٢٠١٥ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. أبا الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة