شبكة ذي قار
عـاجـل










النظام العالمي الذي يتبلور حالياً يُعَرَفْ بأنه ( المفهوم الذي تنتجه الحضارة أو إقليم ما حول طبيعة الترتيبات، وتوزيع القوة، التي يُعتَقَدْ بأنها قابلة للتطبيق على العالم بأسره ) .. هذا التعريف جاء به "هنري كيسنجر" وزير الخارجية الأمريكي الأسبق في كتابه الأخير النظام العالمي ( The World Order ) .. والتحديد الذي ينفرد به هذا المفهوم هو أن النظام العالمي تنتجه ( حضارة ) معينة وليس حضارات .. أو ينتجه ( إقليم ما ) وليس أقاليم تتوزع على قارات لها عمقها ومؤثراتها الحضارية .. بمعنى أن حضارة الغرب هي التي تحتكر إنتاج أو المعنية بإنتاج النظام العالمي .. والأقليم الذي يعبر عن هذه الحضارة له الحق في قيادة النظام الدولي هي الولايات المتحدة الأمريكية .

هذا المفهوم يلغى كل الموروث الحضاري الأنساني ويلغي قدرات دول ويهمش أقاليم وقارات العالم التي تتمتع بعمق حضاري لألآف السنين يسبق الحضارة الأمريكية التي لا تتعدى القرون الثلاثة المملؤة بكوارث الحروب والتدخلات والأبادات البشرية وارتكاب اعمال التمييز العرقي والتطهير العنصري ومجازر ضد الأنسانية حتى وقتنا الراهن .

- إن أي نظام دولي وما تتأسس على مفهومه من مكونات وقواعد ينبغي ان يُتَفَقْ عليها، والتي من مهامها أن تُحَددْ طبيعة القوى التي تتحكم في مسألتين :

الأولى - وضع قواعد من شأنها عدم اختراقها من أي جهة كانت، إقليمية أم دولية، على وفق القانون الدولي والمواثيق الناتجة عن الأتفاقيات المبرمة مع كافة الفرقاء المعنيون بالسلم والأمن الدوليين، ليس على أساس القوى التي أعلنت انتصارها في الحرب العالمية الثانية، وليس على أساس القوى التي أنهت الحرب الباردة بين المعسكرين، إنما على أساس واقع مطالبات الشعوب التي عانت ويلات الحروب والأحتلال وتداعياته دون أن ترتب مكاسب من شأنها أن تغير من استحقاقاتها في حريتها واستقلالها الوطني أو تغير خياراتها وانتمائها الحضاري وقيمها الأنسانية، تحت أي مزاعم أو دعاوى أو مسوغات أو تفسيرات لا تمت للواقع بصلة .

الثانية- ان أي نظام دولي يفقد استقراره بدون توازن نسبي للقوى الأقليمية والدولية، فضلاً عن الحالة التمثيلية لها، التي تقرها القواعد المتفق عليها في اطار القانون الدولي واحكام مبادئ ميثاق الأمم المتحدة وفي مقدمتها عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى واحترام السيادة والأستقلال الوطني.

الثالثة- إن القوة العسكرية والأقتصادية لا تمنحان المسوغ للتوسع أو التمدد أو التدخل باستخدام القوة العسكرية في ظل النظام الدولي، الذي له أحكامه في هذا الأطار تقوم على أساس توازن القوى والشرعية القانونية والواقعية لأي وحدة سياسية لها مكانتها في هذا النظام .. كما أن المنطق الديني والمذهبي لا يرتب هو الآخر استحقاقات جيو- سياسية في ظل النظام الدولي بأي حال .

- إن الفهم الخاطئ لأرهاصات الشرق الأوسط يعود الى استنتاجات خاطئة .. ومن هذا يتضح أن محاولات فهم التحولات، التي جرت خلال العقود الثلاثة الماضية وأفرزت قوى فاعلة على المسرح السياسي الأقليمي، لم تكن صدفة، ولم تكن بفعل عوامل ذاتية خالصة فحسب، إنما بفعل تراكمات فعل الخارج منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى والثانية على وجه الخصوص، التي رتبت تقسيمات جيو- سياسية لمنطقة الشرق الأوسط وزعتها القوى المنتصرة في الحرب دون وجه حق في ما بينها توزيعاً استعمارياً استهدف الهيمنة والنهب الأستعماريين .. كان هذا هو السبب في تكريس واقع مغاير من جهة وفرض سياسات وافكار ومفاهيم من شأنها العمل على تغيير الواقع على أساس معايير جديدة تمثل الأستعمار وأنظمته المحلية الحاكمة.. ثم إحكام قبضة الأستعمار عسكرياً وعن طريق معاهدات مهينة سلبت حرية الشعوب ونهبت ثرواتها وفتكت بقيمها وهتكت مفاهيمها وحاولت أن تنزع عنها هويتها القومية .. هذه النتائج تمثل التراكمات التي استولدت مسارات رافضة لواقع الهيمنة.

- لقد أوجد الغرب افكاراً ومفاهيماً غريبة على مجتمعات المناطق المستعمرة مثل : الليبرالية، والراديكالية والعلمانية، والشرق أوسطية، والأسلام السياسي العابر للحدود، والحركات السياسية المعتدلة، والجماعات الجهادية، وتنظيمات القاعدة، والعملية السياسية، فضلاً عن مفاهيم التقسيم الطائفي والعرقي التي تقوم على مسميات الأكثرية والأقلية .. وهي مفاهيم الغرض منها تقسيم الواقع ( جيو- سياسياً ) ومن ثم تفتيته ، وتقسيمه ( جيو- اقتصادياً ) على أساس المصالح ، ومثل هذه الأفكار التي تتعلق بالدولة والمجتمع قد فرضها الأستعمار الغربي على مختلف الدول، وهي الأفكار ذاتها ما تزال مرفوضة من القوى الوطنية على ساحة الشرق الأوسط.. فيما استطاعت قوى اقليمية ان تنفذ اجندتها في هذا الصراع لتزيده اتساعاً وخطورة .. واللعبة في هذا المعنى الذي يسوقها الغرب تكمن في خلط الأوراق بين ثورات الشعوب ضد المستعمر المهيمن وبين ما يسميه الغرب خطورة الأسلام السياسي العابر للحدود .. وبهذا المفهوم يلغي دور الشعوب في مقاومة الاحتلال والأستعمار والظلم السلطوي، ويختزل ويؤطر فقط مخاطر ما يسميه ( الأسلام السياسي المتطرف العابر للحدود على المصالح الغربية ) .!!

- ويأتي الأقتراب الأمريكي، حسب كيسنجر، من الدولة الأقليمية الإيرانية على اساس يدعو الى ضرورة تدعيم العلاقات التعاونية بين امريكا وايران :

1- على اساس مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية .

2- استغلال سياسات توازن القوى وتحالفاتها مع الدول السنية في الأقاليم لدفع إيران نحو هذا التعاون.!!

3- هذه المحاولة ستحدد النتيجة النهائية في أي الطرق ستسلكها طهران في النظام الأقليمي .. هل ستسعى في طريق الأسلام الثوري أم طريق الدولة الأقليمية المستقرة داخل النظام العالمي ..؟ ) .

- هذه الأفكار التي أوردها ( هنري كيسنجر ) هي أفكار تجريبية مخادعة هدفها ذر الرماد في العيون .. وكأن أمريكا لا تعرف دوافع الأستراتيجية الإيرانية الفارسية حيال المنطقة التي تتوافق كلياً مع الأستراتيجية الأمريكية في المنطقة والمشروع الأسرائيلي الملتحم مع هذه الأستراتيجية وبأدوات التجريف الطائفي والعرقي الأيرانية الفارسية .. وكأن المنطقة بعيدة عن مخطط تغيير خرائط دول المنطقة وإعادة تشكيلها على أساس معادلة جديدة للقوى يتكفل بادارتها نظام جديد للأمن الأقليمي.!!

- ولم تكتفِ هذه الأفكار عند حدود الشرق الأوسط إنما لها أبعاد في العمق الآسيوي تتعلق بالصين كما تتعلق بالمجال الحيوي الروسي وبإمدادات خطوط النفط والغاز، على الرغم من المصالح المشتركة التي تحدد مديات تجمع بين ( المنافسة والصراع في آن واحد ) .!!

- إن السياسة الخارجية الأمريكية قد دخلت منذ أواخر ولآية بوش الأبن، كما أسلفنا في مقال سابق، مرحلة تغيير النهج .. بمعنى ان تكون الأداة الأساسية في تنفيذ المهام الخارجية هي ( الأستخبارات ) بكل اجهزتها المختلفة تحت مسمى ( القوة الناعمة ) بدلاً من استخدامات القوة العسكرية المباشرة، والتي تسمى ( القوة الخشنة ) .. هذا التغيير في النهج الأستراتيجي يوافق عليه الديمقراطيون والجمهوريون مع بعض الأختلافات وحسب منظور التطبيق في شأن المسائل التي تتعلق بالأمن القومي الأمريكي .. ولكن أضيفت إليه أداة أخرى تسمى قوة الطاقة ( Energy Power ) ، وأداة أخرى سميت القوة التكنلوجية ( Technological Power ) .. والمحصلة الراهنة أن السياسة الخارجية الأمريكية تجمع بين ( القوة الناعمة + قوة الطاقة + القوة التكنلوجية ) .. هذه الوسائل تمتلك قدرات التغيير وقدرات الضغط في العمل السياسي الخارجي .

- إن قوة الطاقة ( Energy Power ) ، تقوم على أساسين :

الأول- كلما زاد معدل الخزين الأستراتيجي من النفط .. كلما تراجع سعر البرميل الواحد من النفط .. وكلما تراجع سعر البرميل الواحد من النفط .. كلما ارتفع سعر الدولار في السوق الدولية.

الثاني- إضْعافْ إقتصادات الدول، خاصة التي تعتمد على واردات النفط في موازنات اقتصاداتها .. والضغط على دوائر صنع القرار فيها وارغامها على التراجع عن مواقفها أو لعقابها أو لتعزيز علاقاتها.

- هذا يحصل، إعتقاداً من امريكا بأن هذا الأسلوب يقوم على تفادي الخيارات العسكرية المباشرة إن إقتضى الأمر ذلك، ولكن استخدامات ورقة الطاقة كسلاح للضغط في السياسة الخارجية قد ينطوي في المقابل على احتمال الرد العسكري إذا أقتضت الضرورة لذلك أيضاً .. وقد نص على هذه الأداة ( Energy Power ) في وثيقة الأمن القومي الأمريكي، التي أعلنت عنها الأدارة الأمريكية مؤخراً .. وهو الأمر الذي يجمع عليه الحزبان الجمهوري والديمقراطي على أنه أداة مهمة من أدوات السياسة الخارجية الأمريكية في المرحلة الراهنة.

- فأذا كانت ( الواقعية ) البراغماتية و ( المثالية ) الراديكالية هما الأتجاهان الأساسيان اللذان يشكلان السياسة الخارجية الأمريكية عبر التاريخ .. فأن السلوك السياسي الخارجي الأمريكي يُعَدُ الأكثر خرقاً للقيم المثالية الأمريكية .. وهنا تكمن الأزدواجية في مفهوم مبادئ السياسة الخارجية الأمريكية، ومعطياتها تفضح هذا السلوك .. فأمريكا تتمسك بمثالية القيم من جهة ولكنها تخرقها بالكذب على مجتمعها وعلى العالم بمبررات غزوها للعراق، وتكذب بمفهومها لـ ( لتحرير والحرية والديمقراطية ) ، حين تستبيح كرامة المواطنين في سجن ( أبو غريب ) وسجون أمريكية أخرى ، وتكذب حين تستخدم الأسلحة المحرمة دولياً ومنها ذخيرة اليورانيوم المنضب والقنبلة النووية المحدودة التي القتها أمريكا على مطار بغداد الدولي في عام 2003 ، وتكذب حين نصبت لصوص لحكم العراق وتدعي الإعمار والأستثمار والأزدهار .. والنتيجة هي تدمير العراق وتمزيق شعب العراق وتسليم العراق للدولة الفارسية الصفوية كي تعبث بأمنه واستقراره.!!

- إن إدارة العلاقات الدولية لا تتم إلا من خلال تدعين نظام ( الدولة القومية ) التي تريد الصهيونية العالمية تدميرها واشاعة نظام ( الدولة الدينية ) .. وما يجري في الوقت الراهن هو نهج ( صهيوني – امبريالي – فارسي ) في كل مراحل التأزم والأنفجار.

- ولكن على الرغم من ذلك فأن ( الدولة الدينية ) لن تنجح، لا في فلسطين المحتلة ولا في إيران ولا في أي مكان آخر .. لأنها لا تستطيع ان تبني ( دولة قومية ) جامعة لكل الأقوام والأديان التي تنضوي تحت لوائها .. دولة قومية تستند على مقومات قومية انسانية تؤكد على السيادة والحرية والديمقراطية والتكافل الاجتماعي والتعامل الخارجي على وفق مبدأ عدم التدخل واحترام خيارات الدول في انظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

- التجريبية الأمريكية والأسرائيلية والفارسية ساقطة لا محاله في وحل التكهنات غير الواقعية .. لأن ما تنتهي اليه مرتسمات السياسة وفرضياتها قد لا تجد لها تطابقاً حقيقياً على ارض الواقع .. وهذه هي الحقيقة التي تكشف بوضوح العهر الكائن بين ( الواقعية ) البراغماتية و ( المثالية ) الراديكالية الأمريكية وزواج المتعة بينهما الذي لن يدوم طويلاً ..!!






الثلاثاء ٤ جمادي الثانية ١٤٣٦ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٤ / أذار / ٢٠١٥ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب د. أبا الحكم نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة