شبكة ذي قار
عـاجـل










أذا كان هناك من بلد أوربي عرف بتنوع وتعددية المشارب والمدارس والآراء في تاريخه الثقافي والأدبي وازدهرت فيه النقاشات والسجالات والحوارات في الصفحات الثقافية للصحف والمجلات والدوريات الأدبية والفكرية ،كما تشهد عليها أحياء ومقاه معروفة ، وتوثقها صداقات بين كبار المفكرين والأدباء فهذا البلد هو فرنسا. فما يزال الفرنسيون يتذكرون ويتفاخرون بقراءتهم لمناظرات سارتر وكامو وميرلو بونتي في شبابهم على الصفحات الثقافية في اللوموند او مجلة الأزمنة الحديثة وغيرها . يتذكرون تحمسهم لموقف هذا المفكر او هذا الكاتب ممن يدافع عن وجهة نظر مغايرة او يتضامن مع اتجاه سياسي مختلف أزدهر لعقود ما بعد الحرب العالمية الثانية وهزاتها الأخلاقية والإنسانية ومن بعدها الحرب الباردة بين الكتلتين الرأسمالية والشيوعية التي أمتدت الى بداية الثمانيات.

 

هذا المشهد الثقافي المتنوع الذي تمحور حول الصراع الطبقي والثورة بدأ يتلاشى ويتصدع شيئا فشيئا وخاصة بعد سقوط جدار برلين وانهيار الأتحاد السوفيتي واعلان المحافظين الجدد انتصارهم على الكتلة الشيوعية. وقد شهد عقد التسعينات تدهورا كبيرا لثقة القارئ الفرنسي بأعلامه حتى ان استبيانا صحفيا أظهر ان غالبية الفرنسيين لا يثقون بأعلامهم وان هذا الأعلام قد كذب عليهم في قضايا داخلية ودولية منها حرب العراق وانقلاب رومانيا والأوضاع الاقتصادية الداخلية والعالمية. ورافق ذلك ابتعادا كثيرا عن شراء الصحف والمجلات ومتابعة القنوات حتى أصبحت أهم واكبر الصحف مهددة بالإغلاق والخسارة والإفلاس وعلى رأسها صحيفة اللوموند الذائعة الصيت عالميا وجريدة ليبراسيون وبيعت بعض القنوات التلفزيونية الى من يشتريها من كبار رؤوس الأموال. أمثال برلسكوني وآخرين غيره فيما بعد. ومنذ أحداث نيويورك وغزو العراق والأزمة الاقتصادية العالمية، تزداد الضغوط على الأعلام الفرنسي بشكل كبير لتنحسر التعددية تماما وتقصى البرامج ذات المضمون الواعي والمفيد التي تعطي معنى لكل ما تقدمه من موضوعات وتهمش ما بقي من برامج ثقافية تعد على أصابع اليد الواحدة بدفعها الى ساعات متأخرة ليلا بعد ان كانت تحظى بساعات مشاهدة واسعة في أوقات أبكر. وحلت محلها برامج باهتة وخاوية المعنى وبرامج الترفيه السطحية . وبدأت إدارات وسائل الأعلام تهتم بنسبة المستمعين والمشاهدين لتحدد بقاء أي برنامج –سوق مضاربة - حتى أصبح سهلا التخلص من أي برنامج لا يتلائم مع الأعلام السائد والمناسب سياسيا ولا يتماشى مع الوضع الدولي.


ولذلك زادت في السنوات الأخيرة وبشكل ملحوظ نسبة الفرنسيين الذين يستقون معلوماتهم من الأنترنت من مواقع متخصصة تقدم أخبارا لا تنشرها الصحف والمجلات او محطات الراديو العديدة التي لا تنقل من الأخبار والمعلومات الا ما يناسبها ولا يسيء الى مصالح أصحابها من كبريات الشركات ورجال الأعمال ورؤوس الأموال مثل ليبراسيون وصاحبها ادوارد روتشيلد رجل البنوك المعروف ولاغاردير صاحب معامل السلاح وأسهمه في صحيفة اللوموند ومجلة باري ماتش وقناة اوربا الأولى وجريدة الأحد. أن التطورات السياسية والاقتصادية للعقد الأخير في فرنسا وعودتها لحلف شمال الأطلسي في عهد ساركوزي جعل ايدلوجية المحافظين الجدد تتسلل حتى الى الأعلام الحكومي لتعيد ترتيبه بالطريقة التي تتناسب مع التوجهات الرأسمالية والعسكرية العالمية.


.فحال مجيء نيكولا سركوزي للحكم بدأت حركة الإقصاء لبعض الإعلاميين وخاصة ممن لهم علاقة بالشرق الأوسط. بعد تقليص عمل الصحفيين المختصين بالشرق الأوسط وخاصة في القناة الثالثة وصل التطهير الى الراديو الحكومي والراديو الدولي الفرنسي فأبعد الصحفي المعروف والمتمكن ريتشارد لابيفير عام 2008 والآن مينارغ ومن ثم ستيفان غيون وديديه لابورت اللذين كانا ينتقدان سياسة الرئيس الفرنسي ساركوزي بشدة وبطريقة ساخرة.وقامت أدارة الراديو الحكومي فرانس انتر بتغيير موعد بث برنامج الصحفي المعروف دانيال ميرميه ونقلته الى ساعة ميتة لكي يهبط عدد المستمعين له. وها هي اليوم تفصله بشكل مباغت من الراديو دون أي تحذير ولسبب واه وغير صحيح وهو ان مستمعيه قلة بحسب المعيار الرسمي وهذا ما تكذبه نشرة الميديامتري التي تقيس نسبة الاستماع في فرنسا. لكن الحقيقة التي تظهر في مثل هذا التبرير هو ان الإدارة لم تقم بتنحيته مباشرة بل أنها هيأت لذلك وقنعته بوسيلة تسمح بتمرير فصله دون ضجة. أذا كان فصل الصحفيين مينارغ وريتشارد لابيفير في عهد سركوزي هو بسبب معرفتهم الدقيقة بالشرق الأوسط وعلاقاتهم به وتحليلاتهم الموضوعية للصراع والحروب فيه، فأن ابعاد دانيال ميرميه من الراديو الحكومي-تحت حكم الحزب الاشتراكي ؟- يعود لعدم رغبة الموؤسسة السياسية لبرنامج ينتقد ضيوفه من المفكرين واللغويين والاقتصاديين النظام الرأسمالي -الديمقراطي- ويفككوه. فمن هو دانيال ميرميه ؟


ميرميه هو أحد أبرز الصحفيين الفرنسيين العاملين في الأعلام وفي راديوا فرانس انتر منذ خمسة وعشرين عاما وبرنامجه هو Là bas si j’y suis يذاع يوميا ماعدا يومي العطلة الأسبوعية.بدأ البرنامج بتحقيقات صحفية بأسفار في أرجاء العالم وتطور تدريجيا ليصبح برنامجا يعالج قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية وتاريخية بأستظافة مفكرين وأساتذة وكتاب متخصصون اضافة الى أعطاء الكلام لعامة الناس . تنطلق حلقات برنامج ميرميه من باريس مدينة شعراء رامبو وارثو وإحيائها المهمشة التي تعبق بتاريخ الشعب الفرنسي ونضالاته وكومونه باريس الى الضواحي الفقيرة وعمالها ومهاجريها ومشاكل اندماجهم وطريقة عيشهم لدينهم ولمعاناتهم ، ينقلنا بعدها الى أحداث تاريخية ليلقي على زواياها أضواء بتحليل موضوعي وعلمي مختلف عما يقرأ في الكتب والأطروحات المتداولة او الرسمية مثل تناوله للحرب العالمية الأولى عبر مذكرات الجنود ورسائلهم والحرب الثانية من خلال معركة ستالينغراد ومقاومة الشعب الروسي للنازية والاستعمار بأشكاله وحرب العراق والمقاومات أمريكية لاتينية وفلسطينية وسوفيتية وفرنسية ومنشقين من جنود أمريكان وإسرائيليين ومن ثم ينقلنا الى أفريقيا ومذبحة رواندا ومآسيها وبعدها الى أفغانستان وابوغريب وغزة ،أنجز ميرميه مع المفكر والعالم اللغوي شومسكي حلقات مهمة حول الأعلام وتمدد الولايات المتحدة وحروبها ونهجها منذ غزو العراق وفعل الشيء نفسه مع الأستاذيين الأمريكيين جون ميرشايمر وستيفن وولت الذين ألفا كتابا حول اللوبي الصهيوني وتأثيره في الولايات المتحدة وقدم عدة حلقات عن المؤرخ الأمريكي الكبير هيوارد زين صاحب تاريخ شعوب الولايات المتحدة وانجز عنه وعن شومسكي فلمين . قام ميرميه وفريقه أيضا بتحقيقات حول الشركات الأمنية التي تعمل في العراق وذهب الى الولايات المتحدة لغرض تحقيق صحفي حول شركات المرتزقة العاملة في العراق وألتقى بجوليان أسانج صاحب موقع ويكيليس الذي كشف مئات ألآف الوثائق حول جرائم الحرب في العراق بينها افلام والمختبئ في سفارة الأكوادور منذ صدور قرار بإلقاء القبض عليه من قبل الولايات المتحدة ومن مفاجأت دانيال ميرميه هي تنظيمه لمحكمة صورية لعدد من السياسيين الفرنسيين لأدانتهم على ما فعلوا خلال فترات حكمهم مثل برنار كوشنر وزير الخارجية السابق واحد شخصيات المحافظين الجدد وعراب الدولة الكردية في العراق ونيكولا سركوزي حينما كان وزيرا للداخلية وكيف أستعمل الأعلام وموضوع الأمن لتخويف المواطنين الفرنسيين من المهاجرين العرب المسلمين للفوز بالرئاسة .وخلال السنوات الأخيرة التي عصفت بها الأزمة الاقتصادية ، شهد الفرنسيون كما الأوربيون عمليات بنكية مخيفة تطالبهم بتسديد ديون متخيلة هي بمليارات اليوروات سماها احد الاقتصاديين الفرنسيين بالديون غير الشرعية التي يطالب فيها الشعب الفرنسي بتسديدها وأرتفاع في الأسعار وخصخصة في كل مرافق الدولة لا تبشر بخير للمواطن الفرنسي الذي كافح لعقود من اجل حقوق انسانية في التعليم والصحة والعمل يبشره نظام العولمة الجديد بمزيد من النهب والتقشف وحتى وضع اليد على أملاكه ومدخراته مستقبلا في حالة الحاجة لها .وقف دانيال ميرميه عبر برنامجه مثله مثل غالبية الشعب الفرنسي ضد الدستور الأوربي وفكك ضيوفه غاياته التي تصب في مصالح رأس المال وتسحق الشعوب الأوربية وغيرها.وساهم في شرح الأزمة الاقتصادية من خلال برنامجه عددا من المختصين والكتاب الفرنسيين من بينهم فردريك لوردون الذي أسهم بتوضيح ما يجري للشعب الفرنسي بسبب النظام الرأسمالي وطرقه الملتوية وعزا الأزمة الاقتصادية التي ضربت أمريكا وأوربا الى أنها أزمة النظام الرأسمالي والبنكي المحتم سقوطه، ودعى فرنسا للخروج من عملة اليورو ومن الأتحاد الأوربي وفند فائدة العولمة وموضوع عدم الحماية التي تطبقها الدول الأوربية لصالح الشركات الكبرى ورؤوس الأموال وهو ما يعتبر هرطقة حقيقية وربما –ارهابا -بالنسبة للوضع الراهن وللنظام الرسمي الاقتصادي والسياسي العالمي الذي يسحق كل من لا يجاريه او يقف عائقا أمامه سواء بفكره او بقوته الاقتصادية او العسكرية. وما الشرق الأوسط الآ المسرح الكبير والمؤلم لكل جرائم هذا النظام العالمي الجديد الذي بدا بعد الحادي عشر من ايلول سبتمبر 2001 .

 

لقد طالت مطرقة النظام الجديد هذا البرنامج الأخير من نوعه في المشهد الإعلامي الفرنسي الحكومي لتزيح إعلاميا بقي وفيا لمبادئه ولقيم أخلاقية ولدت مع المقاومة الفرنسية خلال وبعد الحرب العالمية الثانية ودافع عنها رغم متغيرات الزمن والسياسة واعتبرته عائقا بينها وبين نسبة من الناس الذين لم تتلوث عقولهم بعد بتسليع الإنسان والثقافة لتخرجه من فضاء الخدمة العامة ملك الشعب الفرنسي الذي يموله من جيبه بضريبة الأعلام المستقطعة منه سنويا. لكن دانيال ميرميه لم يتراجع عن رغبته في مواصلة عمله هذا فقرر هو وفريقه بالانتقال الى الانترنت وإنشاء موقع خاص بالبرنامج وبث ما يسمى هنا 9/7 عبارة عن نوع من جريدة الجرائد للأخبار التي يستمع لها الفرنسيون صباحا والتي تقدم كلها طبقا واحدا فجميع محطات الراديو والتلفزيون متشابهة في المواضيع والوجوه التي تقدمها. وكما عرفه مستمعيه والمتابعين له فهو سيعطي دما جديدة وروحا أخرى لمفهوم الأخبار والمعلومة والمواطن والمستمع خاصة وان ورائه جمهور مخلص يتابعه منذ بدأ أذاعة برنامجه وهم كثر، فقد وصلت حملة التواقيع التي أطلقها فريقه لطلب مواصلة البرنامج على الراديو الحكومي الى 170 ألف شخص خلال ثلاثة أسابيع فقط وأستقبل هذا الجمهور إعلانه حول الموقع الجديد على الانترنت بأرتياح وابدوا دعما كبيرا .

 






الاحد ١٨ ذو الحجــة ١٤٣٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٢ / تشرين الاول / ٢٠١٤ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب ولاء سعيد السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة