شبكة ذي قار
عـاجـل










من طبائع الأشياء أن رؤساء الأركان في كل جيوش العالم لا يتحدثون بأمور السياسة إلا في حالة واحدة وهي أنهم يعلنون عن إجراء عسكري أعدت له قيادات البلد السياسية والعسكرية وأصبح على وشك التنفيذ بعد أن وصلت المساعي السياسية بشأن أزمة مع دولة أخرى إلى طريق مسدود ، ومن المعروف أن الحرب هي آخر صفحة من صفحات العمل السياسي بين الدول ولا يمكن الانتقال إليها ما لم تستنفد كل الخطوات الأخرى من مفاوضات ووساطات تقوم بها دولة أو دول ثالثة ، هذا عادة ما يجري في الدول العريقة بتقاليدها وعراقتها في الشؤون السياسية والدبلوماسية ، وهو بالتأكيد لا ينطبق على الدول التي خرجت إلى الدنيا حديثا فاختلطت عليها قواعد العمل بين المؤسسات المختلفة ، وظنت أن الظروف قد دانت لها وأصبحت طوع بنانها .


مؤخرا خلط رئيس الأركان الإيراني بين واجباته وواجبات وزارة الخارجية عن جهالة مركبة بالشأن السياسي والعسكري معا ، وحشر نفسه وبلاده في موقف لا هي قادرة على تنفيذ ما جاء فيه من تهديد سافر لدول الخليج العربي ، ولا هي قادرة على ابتلاعه وامتصاص ردود فعله السياسية والأمنية ، ليس على مستوى المنطقة بل على مستوى العالم الذي ينظر إلى هذه البحيرة العربية على أنها السبب الرئيس لاستمرار ماكنة الاقتصاد العالمي بالدوران ، وبالتالي فأن المرونة مع ما يجري فيها من أحداث تقترب من درجة الصفر ، فأثارت تصريحاته ردود فعل على العكس مما توقع من صممها ، ففي الوقت الذي كان مكتب الولي الفقيه في طهران يظن أن القلوب ستبلغ الحناجر وأن الأعصاب ستفلت من مكامنها ، إذا بالدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي ترتقي بمستوى علاقاتها درجة أعلى من التنسيق لمواجهة أطماع إيرانية موغلة في أعماق التاريخ ورقعة الجغرافية ، وإذا بالصوت العربي الخجول يغادر منطقته الرمادية ويرتقي إلى الحد الذي فاجئ إيران ، فلم تستغث المنطقة بقوى خارجية كما كانت تفعل على الدوام ، ففوتت على طهران حلما قديما بأنها تتعرض للتهديد الخارجي ، وقال الخليجيون إننا جاهزون للرد على منطق التهديد ، وأن الحديث المتجدد عن تجارب الصواريخ وتشغيل المفاعلات النووية وأجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم لم تعد كافية لإثارة القشعريرة في أبدان كانت طهران حتى وقت قريب تتلذذ برؤيتها على الجانب الآخر من الخليج .


حينما قال رئيس الأركان الإيراني بأن الخليج بأكمله ملك لإيران ، فإنه أراد شحن المنطقة بظروف أزمة لا يظن أحد أن إيران قادرة على الخروج منها كما خططت للدخول فيها ، فإثارة أزمة يمكن أن يصنعها مغفل جديد على عالم السياسة ، ولكن الخروج منها سيكون بحاجة إلى أكبر العقول الاستراتيجية وقد تصادف نجاحا ولكنها في معظم الأحيان تواجه الاخفاق فالأزمات قبل أن تنتقل من قاعات الحوار الدبلوماسي إلى ميادين القتال ، ربما تكون تحمل بذور حلها في أكثر صفحاتها تعقيدا ، ولكنها حينما تنتقل إلى ساحة صراع الإرادات بالقوة المسلحة ، فيمكن أن تكون عقدها الكبرى في أصغر ملفاتها وأقلها شأنا وإثارة للانتباه .


لكن هذا من وجهة نظر سياسية ليس من أخطر ما قاله فيروز آبادي رئيس الاركان الإيراني ، ربما لأن القوى الدولية الكبرى بما فيها الولايات المتحدة بل خاصة الولايات المتحدة ، لا يهمها لمن يكون الخليج العربي لإيران كما تطمع وتطمح بأن يكون بضفتيه ومياهه وما في جوفه ، أو للعرب بضفة واحدة بعد أن تضافرت عليهم أطماع إيران مع تواطؤ الغرب الشرق والغرب ، ولكن ما لم يفهمه الولي الفقيه ومن يوعز له بأن يطلق بالونات الاختبار ، أن التهديد لبلد عربي مثل المملكة العربية السعودية أو البحرين وأيا كانت الآراء بنظامهما السياسي أو بسياساتهما ، فإنها لا يمكن أن تمر مرورا عابرا دون أن تترك وراءها حشدا من التأييد العربي لبلد عربي من دولة أجنبية مجربة في عدوانيتها عبر التاريخ ، وعبر موقف عربي جماعي لا يريد استبدال ذئب غابر بذئب زاحف ، وفي أطماعها عبر سلوك راسخ ومستمر يعود لزمن قديم يسبق الرسالة الإسلامية السمحاء ، وحتى أكثر الأصوات نفاقا لإيران لا تستطيع تمرير مثل هذه التهديدات لأنها لا ترتبط بالسياسات وإنما ترتبط بخريطة الانتماء والجغرافية السياسية والمصير ، حتى وإن التقت النوايا والتحالفات في الجوانب السياسية والمذهبية .


فهل كان رئيس الأركان في كامل وعيه حينما أطلق تهديداته بتعريض أمن دول الخليج العربي التي لا تعترف لإيران بملكيته ؟ أو لا ترى بعائدية البحرين لدولة الولي الفقيه ، وهب العرب لتقديم النجدة لبلد عربي شقيق استغاث بأشقائه حينما وجد أن ما يتعرض له كان كبيرا وخطيرا وفي مراحله التنفيذية الأخيرة ، أم أن رئيس الأركان خاض في لعبة أكبر منه فارتدت عليه قبل أن تصل إلى ضفة الخليج العربي الغربية ؟ أو أنه كان مكلفا بالهرب إلى أمام من أزمة داخلية في مرحلة النمو والتصعيد بين التيار الإصلاحي والتيار المحافظ من جهة وداخل التيار المحافظ وحصرا بين الولي الفقيه ورئيس جمهوريته المسلوب الصلاحيات والذي يحاول أن يكتسب شيئا منها دون امتلاك أدواتها من جهة أخرى ؟


ما اعتمدته الزعامة الإيرانية منذ سقوط نظام الشاه حتى اليوم ، هو تسويق لأفكارها السياسية البالية من خلال خلط الأوراق وترك المراقب في حيرة عن حقيقة الموقف الرسمي الإيراني ، فالكل في طهران شغوف بالإدلاء بالتصريحات بصرف النظر عن تطابق المهمة المكلف بها ، فرجال الدين يتحدثون في شؤون الصحة وقادة البسيج يدسون أنوفهم في أمر الزراعة واستخدامات الطاقة الذرية ، ولكن ما يستخلصه المراقب هو أن هناك فوضى مدمرة ، لأن خواص الاختلاف المتفق عليه ما يزال حكرا على الدول ذات التقنيات السياسية العالية ولن تستطيع دول بمواصفات إيران ولوج هذا الطريق الوعر والمليء بالمفاجئات التي لا تنتهي بنتائج سعيدة .


تصريحات رئيس الأركان الإيراني فيها من استفزاز المشاعر أكثر مما فيها من قدرة الفعل على الماء أو الأرض ، وربما تعكس خيبة أمل من حلم غبي طلعت عليه الشمس قبل أن يكتمل منه شيء وظنته طهران قريب المنال وأن التفاحة البحرينية على وشك السقوط في أحد جيوب الولي الفقيه إن لم تسقط في حلقه ، وحينما يبني شخص أو نظام ما حساباته على فرضيات وردية ثم تنقلب الظروف رأسا على عقب ويعاني جراءها من عزلة ، فإن خيبة الأمل والانكسار النفسي تكون بحجم الهزيمة ، وحينها تفلت العبارات من الأفواه دون قدرة على التحكم بالمشاعر وتأتي الخطوات خائبة منفعلة تضيع رصيدا سالفا وتفضح نوايا بائتة .

 

 





الاثنين١٣ جمادي الاخر ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ١٦ / أيـــار / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نزار السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة