شبكة ذي قار
عـاجـل










قبل الإسلام لم يكن ليوم الجمعة هذه القيمة المعنوية والمادية العالية في حياة العرب وغيرهم من الأقوام التي اختارت الإسلام دين هداية وحق وعدل عن إرادة حرة ، حتى أن العرب كانوا يطلقون على هذا اليوم اسم يوم العروبة ( بفتح العين ) ، ولكن مكانة هذا اليوم تعاظمت بعد الإسلام وخصه الله سبحانه وتعالى بسورة في كتابه العزيز ، وحض على ترك أمور الدنيا والتوجه لذكر الله إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة ، فهو اليوم الذي يتداعى الناس ليتجمعوا بهدف التذاكر في أمور دينهم ودنياهم ، فهو يوم التقرب إلى الله بالطاعة وهو يوم الحشد للجهاد وهو يوم التكافل الاجتماعي ، ولكن الجمعة وبجهد منسق من أعداء الأمة وحكامها الطغاة الفاسدين فقدت دورها ولو إلى حين .


وما كان لإرادة الطغاة أن تستمر إلى الأبد على الضد من شرعة الله في خلقه ، فقد كانت الثورات عبر التاريخ تعبر عن يقظة الأمة ونهوضها حتى مع تعرضها لكبوات طويلة الأمد ، فقدر هذه الأمة أن تنهض بدورها الحضاري ورسالتها الإنسانية وواجبها الريادي على وفق ما رسمه لها الله بين سائر الأمم ، ولهذا عادت الجمعة يوما لثورة الغضب على الظلم والقهر والفساد ، تتجدد فيه صيحات الاحتجاج على الظلم الذي يسحق المواطن بعجلات السلطة وعلى تغييب إرادة الشعب والتلاعب بالمال العام والاثراء غير المشروع والذي حول المجتمعات العربية إلى مجتمعات ثنائية الطبقات فإما طبقة مترفة حد التخمة وتمسك بمقاليد السلطة وأجهزة القمع ، وإما طبقة مسحوقة جائعة مسلوبة الإرادة .


وشهدت أيام الجمعة في وطننا العربي ومنذ نهاية العام الماضي فعلا متجددا في الثورة على الحكام الفاسدين ، بدأت شرارتها الأولى من بلاد جامعة الزيتونة العريقة ذلك المركز الإسلامي الكبير الذي أضاف للحضارة العربية الإسلامية سفرا ضخما من العطاء المتجدد ، هذه البلاد التي عانت من التغريب الطويل على أيدي حكام تنكروا لأمتهم وتاريخها المجيد ففقدوا أصالتهم وأخفقوا في توطين الثقافة الغربية الدخيلة على الأمة ، فأصبحوا بلا هوية ولا لون غرباء في بلدانهم ، وهبت رياح التغيير حتى وصلت أرض الكنانة والجامع الأزهر مركز الإشعاع الثاني في تاريخ الأمة ، حيث أكبر بلد عربي إسلامي في المنطقة والذي يمتلك خاصية التأثير نهوضا أو كبوة على سائر بلاد العرب والمسلمين ، وانتصرت ثورة الجمعة المباركة في مدن الضياع العربية وتقافزت كرة اللهب في جهات الأرض الأربع حتى سقطت نظم مستبدة كان البعض ينظر إليها على أنها قدر مفروض لا خلاص منه ، ومعها سقطت مسلمات تاريخية نسبها الغرب لشعوبه واحتكرها لنفسه زمنا طويلا ، كالقول بأن الثورة الفرنسية في سبعينات القرن الثامن عشر والثورة البلشفية في روسيا عام 1917 هما آخر الثورات الشعبية في التاريخ ، وكادت النخب العربية المغربة أن تستلب من العقول العربية قدرتها على الخروج على القوالب الجاهزة التي صممت وأريد لها أن تكون من الحقائق التاريخية الثابتة ، فإذا بالثورة في تونس ومن بعدها في مصر تستقطب تحليلات المؤرخين بأنهما أعظم تأثيرا وأبعد مدى من كل التجارب التي سبقتها منذ ثورة الإسلام الأولى يوم صدع الوحي بكلمة اقرأ للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنهما عودة إلى النبع الصافي للرسالة المحمدية التي انطلقت من الجزيرة العربية ولتنتشر في بقاع الأرض ، أهل هذه الأرض ليس أقل حبا للحرية من غيرهم وليسوا أقل وعيا من الشعوب الأخرى بقيمتها لتفتق العبقرية الإنسانية ، فعندهم نبتت أولى الحضارات الإنسانية التي عرفها التاريخ ، وعندهم وضعت أولى التشريعات السباقة التي صاغها الإنسان لتنظيم علاقات الأفراد مع بعضهم وبينهم وبين الدولة وأهم من كل هذا فوق هذه الأرض نزلت الشرائع السماوية التي جاءت بها الديانات الثلاث .


وحاولت قوى مغربة تصوير ثورة الغضب في الوطن العربي على أنها ثورة للجياع من أجل رغيف الخبز وحسب ، ومع أن الثورة من أجل الخبز أمر مشروع شرعا وقانونا ، إلا أن هذا على أهميته لم يكن سببها الرئيس ، فالمواطن العربي الذي يعاني من كبت الحريات العامة والشخصية ومن تكميم الأفواه ومن فرض حكومات معمرة همها الوحيد البقاء في السلطة وليس البحث عن مستقبل أفضل للبلاد والعباد ، هذا المواطن جدير بنظم حكم أفضل مما أتيح له حتى الآن وضاعت منه فرص لا يقل عمرها عن قرن من الزمان ، هذا المواطن جدير بالاختيار الديمقراطي الحر ليختار عبره من يحكمه وليعزله متى خرج على العقد الاجتماعي والاخلاقي والقانوني الموقع بين الحاكم والمحكوم .


هذه الثورة لن تتوقف عند حدود الجغرافيا السياسية التي رسمتها دول الاستعمار الغربي لبلادنا وأمتنا ، ولن تتوقف عند رغيف الخبر وتحسين الظروف العاشية ، حدودها ما قاله الله سبحانه وتعالى ( ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) ، وحتى ينتصف الإنسان لنفسه من الطغاة والمستبدين والفاسدين وتقام على أرض الله دولة الحرية الحق والعدل والمساواة .


يوم الجمعة الماضي كان يوما مشهودا في تاريخ العراق الحديث ، فعلى الرغم من فتاوى ما تسمى بالمرجعيات وعلى الرغم من تهديدات المالكي للشعب العراقي إن هو خرج في التظاهرات التي تمت الدعوة لها ، على الرغم منن كل ذلك خرجت تظاهرات وسقط فيها ضحايا بأعداد كبيرة كشفت الوجه القبيح لمزاعم حقوق الإنسان من قبل الإدارة الأمريكية ومن قبل الغرب كله والمنظمات الدولية والحقوقية التي كانت ترفع صوتها عاليا بالشكوى على مواقف أجهزة الأمن الرسمية في تونس ومصر وليبيا ، ولكنها أصمت آذانها تماما عم جرائم تقع مسؤوليتها الأخلاقية والجنائية على القوات الأمريكية التي تستطيع لو أرادت أن تمنع القمع والانتهاكات التي نفذتها قوات مرتبطة بالمالكي نفسه ولو أرادت حقا لأوقفت الانتهاكات التي يتعرض لها المعتقلون السياسيون في سجون تحت إشراف المالكي أو حزبه حزب الدعوة ، ولكنها لم تفعل لأنها شريكة في الجريمة وسجلها خلف في العراق مليوني قتيل ومليون أرملة وخمسة ملايين يتيم وأكثر من أربعة ملايين مهجر وأكثر من نصف مليون معتقل . يوم الجمعة الخامس والعشرين من شباط / فبراير ، كان يوما من أيام الله في كتابة ميلاد جديد للأمة فيه تجدد نفسها وتؤكد أصالتها ، حيث انطلقت جماهير عريضة وفي أجزاء كثيرة من الوطن العربي في حشد للتعبير عن موجة الغضب ، وفي العراق المحتل كان الخامس والعشرين من شباط / فبراير يوم الاحتجاجات الكبرى على الاحتلال والعملية السياسية وعلى مصادرة الحريات وتزييف إرادة العراقيين والانتهاكات التي يتعرض لها العراقيون في سجون الحكومة والاحتلال وسط إصرار على تجاهل إرادة الشعب في تغيير حقيقي يقلب المعادلات السياسية الخاطئة التي ما تزال السلطة القائمة تجري تجاربها على شعب يمتلك وعيا عاليا ويأبى أن يوضع في مختبرات لقياس صبره ، فمن ثار وحطم قيوده ليس أكثر قدرة من شعبنا على فعل ذلك ومن قدم الكثير من التضحيات ليس أكثر إقداما من العراقيين .


ولكن التعامل الغربي عموما والأمريكي خصوصا مع ثورة الغضب التي اجتاحت الوطن العربي طرح تساؤلات مشروعة لدى المواطن العراقي إذ أن أيا من المسؤولين الأمريكان لم يكلف نفسه إطلاق تصريح لحث الحكومة في بغداد على ضبط النفس وسمع صوت المتظاهرين ومطالبهم ، وكذلك كان موقف المنظمات الدولية والإنسانية والحقوقية والفضائيات العربية المرتبطة بالمشروع الأمريكي وتتباكى على ضحايا حكام مختلفين مع حكام الدول التي تمول هذه الفضائيات الموجهة والتي يبدو أنها لا تعرف أين يقع العراق وماذا يقدم أبناؤه وذلك لأن ما قدمه كان نتيجة العدوان الأمريكي الذي انطلقت جيوشه من أراضيها ومطاراتها وبتمويلها ، على خلاف ما حصل مع كل ما جرى في أرجاء الوطن العربي الأخرى ، وهذا ما ألجأ المواطن العراقي إلى أن يفترض أن دمه رخيص جدا على تلك الجهات وهو ما يحصل منذ تسعينات القرن الماضي وحتى اليوم ، وهنا لا بد من طرح سؤالين محددين :


إذا كانت التجربة السياسية التي أقامتها الولايات المتحدة في العراق هي تجربة ديمقراطية حقا ، فهل في عرف الديمقراطيات الغربية أن للتجارب الديمقراطية أن تقتل وتنتهك القوانين الإنسانية وبالتالي يمكن أن تعفى من المسؤولية الأخلاقية والجنائية لمجرد أنها ترفع شعار الديمقراطية ؟


أم أن الموقف الأمريكي والذي يجر وراءه موقفا أوربيا يتعامل بمعايير مزدوجة ، يغض الطرف عما ترتكبه النظم المحسوبة على أمريكا والجهات والقريبة منها ومقابل صداقتها لأمريكا تحصل على جائزة الصمت من المساءلة القانونية أو السياسية عما تفعل أو حتى عدم الإشارة إليها إعلاميا ؟


هي أسئلة ليست مجردة وما يترتب عليها من نتائج ليس محدودا على نطاق الورق بل ستترتب عليه للعراقيين كثير من الحقوق على دول الاحتلال ومن وقف معها بالدعم أو بالصمت وأطراف العملية السياسية التي أثرت على حساب حق المواطن وسلبته حقه برفع صوته بالشكوى مما يعاني وهو كثير بكل المقاييس .

 

 

 





الثلاثاء٢٦ ربيع الاول ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠١ / أذار / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نزار السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة