شبكة ذي قار
عـاجـل










لست أدري لم تنتابني ألسنة لهب مثل النار الأزلية في كركوك ، حينما يخبو منها لسان في أحد المواضع ، اندلعت من مواضع الوجع العراقي الأخرى ألسنة أشد ضراوة ، كلما صرح واحد ممن كانت بيده ملفات عراقية ساخنة ، بكلمة فات وقتها كثيرا بل تجاوزها الزمن بعقود ، وكنا نتمنى أن يكون أكثر شرفا عندما تأتي الكلمة شهادة ضمير مستيقظ في الزمن والمكان اللذين يجب أن تكون فيهما ، ولكن كلمة في غير وقتها حتى لو جاءت بأكثر العبارات وضوحا ، فإنها حينما تأتي بعد ألا يكون لها قيمة ، تكون تعذيبا آخر للضحايا الذين وقفوا ينتظرون كلمة حق بوجه سلطان جائر ، ولكنهم حينما كانوا بأمس الحاجة إليها لم يحصلوا عليها .


كان هؤلاء الشهود حينما يحطون في مطارات العراق المغلقة أمام كل الطائرات الأخرى يثيرون مشاعر مركبة من الغضب والقلق قدر ما تفعله صواريخهم وطائراتهم التي تحمل فوق أجنحتها موتا جماعيا مخططا له في دوائر القتل الأمريكية باسم الحرية وحقوق الإنسان ، كانوا منظرهم يجرح عيون العراقيين الحقيقيين ، لأنهم كانوا لا يتورعون عن ولوج غرف النوم بحثا عن وهم ملعقة واحدة من مادة أسطورية قادرة على إرسال نصف سكان الأرض إلى العالم الآخر ، وهم يعرفون بخبرتهم المفترضة أن هذه كذبة كان يراد منها تسويق نوايا العدوان وحشد جيش المعتدين ، وفي كل مرة ينقبون في أي مكان يختارون ويدهمونه دون سابق إنذار ولكنهم حينما لا يجدون شيئا ، يعللون النفس بالقادم من حملات التعذيب في الهواء الطلق ، لم يقر أحد منهم بما توصل إليه ، لأنهم كانوا جزء من خطة العدوان وكانوا حريصين على إعطاء بوش وبلير فرصة تمرير الأكاذيب على الرأي العام في الولايات المتحدة وبريطانيا ، وعلى دول باعت أصواتها في مجلس الأمن لقاتل محترف يريد الحصول على براءة مبكرة عن جريمة سيرتكبها في وقت لاحق ، فتحول الكثير ممن يطلقون على أنفسهم صفة الكبار صغارا بحيث تسربت سمعتهم وخارطتهم من بين الأصابع دون أن يشعر بها أحد ، فشاركوا بالجريمة بالصمت وتحولوا إلى قتلة بالنفاق الصامت .


قبل أيام أدلى هانز بليكس رئيس لجان التفتيش الدولية عن أسلحة الدمار الشامل العراقية ، بشهادة أمام لجنة جون تشيلكوت للتحقيق في الدوافع التي أدت ببريطانيا إلى ركوب قطار العدوان الأمريكي على العراق ، باختصار شديد قال بليكس ( لقد تم جر بريطانيا للمشاركة في حرب لا يمكن الدفاع عنها ) ، هل هي صحوة ضمير كان لا يرتعش حينما لا يمتلك شجاعة قول كلمة الحق وبخاصة إذا عرف أن قولها سيعني حقن دماء مئات الآلاف على أقل تقدير ، أو سحب بساط المظلة الدولية عن أغنية الموت المحمول على أجنحة سوداء والتي كانت موسيقاها الصاخبة تتعالى في دهاليز البيت الأبيض ، صمت حينما كانت منه كلمة كفيلة بلجم جموح هياج الكاوبوي الأمريكي ، أو على الأقل تمنعه من استخدام اسم المفتشين الدوليين ذريعة لشن العدوان ، لم يكن هانز بليكس وحده هو من حمل على أكتافه وزر الدماء التي أريقت في العراق ، كان معه في جوقة الممهدين للعدوان مدير عام الوكالة الدولية للطاقة الذرية ، محمد البرادعي ، الذي كان يتعمد الغموض في ملف أكثر ما يحتاج إليه هو الوضوح ، بعد أن تم مسح العراق من أقصاه إلى أقصاه ، وبعدما تأكد لكل ذي بصيرة أن العراق خال من أسلحة الدمار الشامل بل ومن أي منشئات تعمل في هذا المجال ، حاول البرادعي استخدام مهاراته في الزوغان من قول الحقيقة ، لأن عينه كانت ترنو بشهوة داعرة نحو تجديد مهمته في الوكالة الدولية مرة أخرى ، كان الثمن المطلوب هو رأس العراق ، وحتى حينما غادر موقعه فإن روح الكراهية للعراق لم تجف منابعها في قلبه المريض ، وعلى الرغم من أن إيران تجاهر ببرنامج نووي يحمل نوايا استفزازية للوطن العربي والعالم أكثر مما يحمل لإسرائيل ، إلا أن العراق كان هدفا حاضرا لحملة الكراهية التي شنها البرادعي عليه ، فالعراقيون لا ينتجون السجاد الكاشاني الذي بإمكانه حذف الكثير مما تبطن إيران وتزويق ما تعلن ، وما يمكن أن يزيين غرف المرشح الجديد لرئاسة الجمهورية في أكبر بلد عربي ، ومع حرصي الشديد ألا أزج نفسي في شأن مصري داخلي لحساسية الشعب المصري من تدخل غيرهم في شؤونهم ، ألا أنني أتساءل فقط هل يصدق مع حوالي 100 مليون مواطن من تعمد إخفاء الحقيقة عن العالم لمجرد وعد بالتجديد له لمنصب مدير عام ، ترى ماذا سيفعل إذا أصبح رئيسا لأكبر جمهورية في الوطن العربي ؟


هؤلاء كانوا يتعمدون الغموض الذي يترك تأويلات جامحة لدى من يريد تفسير حركة الأشياء على وفق ما تسمح به مداركه ، هؤلاء في أرصدتهم أثمان الدم العراق المراق منذ عام 1991 وحتى يومنا الراهن ، هؤلاء في ضمائرهم إن وجدت ، مسؤولية الأرامل والأيتام وبقايا بلد كان اسمه العراق .


أعود إلى هانز بليكس ومن حق العراقي أن يسأل ، هل هو حق قديم للعراق ثابت في اللوح المحفوظ لا يجيد قراءته من لم يحسن فك رموز الكتابة المسمارية هو الذي أنطقه ؟ أم هو الشعور بالتضاؤل أمام صرح الحضارة الإنسانية التي تطاولت فوق جدران الزمن فاستعصت على معرفة أسرارها لكل من لا يحبها هو من أجل التصريح بالحقيقة حتى الآن ؟ أم هو الحق القديم نفسه ولكن الضمائر المتوحشة اشتاقت لرؤية فعل ماكنة الحرب الأمريكية وهوس بوش لفتح صفحات حرب صليبية جديدة فعقدت الضغائن ألسنتها وعصبت عيونها ، فأرادت أن تحضر وليمة تقديم النذر المقدس تحت أقدام الجنود اللاهثين وراء سراب النصر ؟


بليكس تعلم النطق متأخرا ، وقال كلمته ومشى وكان يريد غسل يديه من جمع الحطب لموقد إحراق إبراهيم ، ولكن غراب سفينة نوح حط فوق جثث الطوفان المتفسخة ولم يعط نوحا بشارة حياة جديدة فوق المعمورة ، حتى أطلق الحمامة في نهاية المطاف لتعود بغصن الزيتون ، حمامة العراق لن تكسر أجنحتها قوات الغزو الأمريكي ، وغربانه عليها أن تبحث عن جيف في أماكن أخرى ، ليس بشهادة بليكس أو بصمت البرادعي وإنما بشهادة عراقية لا تخطئها العين عندما تراها ، ولا توحشها الأذن حينما تسمعها .




نقلا عن صحيفة راية العرب الصادرة في بغداد





الثلاثاء٢٢ شعبـان ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٣ / أب / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نزار السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة