شبكة ذي قار
عـاجـل










كان الإنسان ومنذ أنْ وجد على سطح المعمورة ، يتطور في أساليب عيشه واستفادته من الموارد الطبيعية التي تحيط به ، وخاصة في مجال استخدام مصادر الطاقة ، وبإمكاننا أنْ نطلق وبلا تردد اسم حضارة النار ، على مسيرة الإنسان في تطوره عبر الحقب المختلفة .

 

وربمّا كان الحطب أول مصدر معلوم ، لجأ إليه الإنسان لتأمين احتياجاته في التدفئة وسائر الاستخدامات المنزلية والتي كانت تتسم بالبساطة ، وحينما تطورت حاجاته تبعا لتطور فعالياته ومداركه معا ، ودخول النشاط الاقتصادي على مستوى الجماعات ، دخلت قوة الريح في تسيير المراكب ، وقوة الماء لإدارة النواعير لرفع مناسيب الماء من الأنهار إلى الحقول المجاورة ، وهما من المصادر المتجددة والتي تصلح لإدارة جزء حيوي من عجلة الاقتصاد العالمي ، وخاصة في مجال توليد الطاقة الكهربائية .

 

وكان لاكتشاف قوة البخار في مطلع عصر النهضة ، قوة الدفع الكبرى التي أطلقت عمليات تنقيب كبرى عن الفحم الحجري ، الذي اختزنت منه أوربا والعالم الجديد الشيء الكثير ، وقد ساعد الفحم على تشغيل المحركات سواء في السفن التي طفقت تجوب أعالي البحار ، بحثا عن المزيد من الموارد الطبيعية التي تدخل في الصناعات التي أخذت طابع الإنتاج الكبير ، أو في تسيير القطارات بين المدن المختلفة والتي ربطت مصالح متعاظمة مع مرور الزمن ، سواء بجلب المواد الأولية للمصانع التي كانت تقام بوتائر متسارعة ، أو لتصريف المواد المصنعة والتي كانت تبحث لنفسها عن أسواق استهلاكية تناسب حجم إنتاجها .

 

وبعد اكتشاف أهمية النفط ومكامن وجوده ، اندلعت حروب من طراز جديد بين الشركات داخل البلد الواحد وبين البلدان التي وجدت أنّ مصالحها توجب عليها دعم شركاتها في حروب عقود النفط التي تم فرضها على الكثير من دول العالم ، والتي لم تكتشف أهمية ما تمتلكه من ثروة ستحدد مصير الخرائط السياسية لدول العالم ، ورغم أنّ النفط لم يحذف الفحم من لائحة مصادر الطاقة ، إلا أنّ النفط ونتيجة لدخوله في معظم المفاصل الأساسية للاقتصاد العالمي ، إنتاجا وتسويقا وتصنيعا ، ولسهولة استخداماته في كل المحركات ، فقد أصبح المصدر الأول للطاقة في عالم اليوم ، بحيث لا يضاهيه مصدر آخر ، كالطاقة النووية التي دخلت على خط الإنتاج للأغراض السلمية ، ولكنْ بحذر شديد نتيجة المخاوف من أخطارها على الجنس البشري وسائر الكائنات الحية ، ويمكن القول إنّ الطاقة النووية كانت تتقدم خطوة وتتراجع اخرى للأسباب المذكورة ، كما توسعت بحوث الطاقة البديلة وخاصة المتجددة ، فعاد الإنسان إلى الشمس باعتبارها مصدر كل الطاقات التي يمكن للإنسان الاستفادة منها وإنْ كانت بحوثها لم تحقق مكاسب ملموسة بما يتناسب مع طموح الإنتاج الواسع لها ، وكذلك إلى تطوير إنتاج الطاقة الكهربائية من مساقط المياه فأقام لهذا الغرض السدود الكبرى إضافة إلى ما توفره من مياه لأغراض الري ، أو الطاقة المنتجة من قوة الريح ، أو تطويع ظاهرة المدّ والجزر لإنتاج الطاقة الكهربائية ، ولعلّ التوسع في إنتاج الوقود الكحولي هو الأمل الذي تعلق عليه دول زراعية كبيرة مثل البرازيل ، لتقليص حاجتها للنفط المستورد ، ولكنّ ، هذه السياسة اصطدمت بردود فعل مناهضة نتيجة الآثار المترتبة على ذلك ، وخاصة في ارتفاع أسعار الغذاء على المستوى العالمي ، ويتوقع بعض العلماء أنّ الجهود يجب أنْ تتركز على بحوث إنتاج الهدروجين والأوكسجين من الماء بأرخص التكاليف وأيسرها من أجل الحصول على مصدر راسخ للطاقة وقد لا يعرف النضوب ، ولكنّ بحوث هذا المصدر ما تزال في نطاق التجارب المختبرية ولم تنزل إلى ميدان الاستخدامات التجارية .

 

وهكذا تمكّن الإنسان من التحول عبر الحقب الزمنية المختلفة ، من مصدر للطاقة إلى مصدر أو مصادر بديلة ، فإذا كان الإنسان قد طوّر الكثير من المصادر لاستخدامات الطاقة ، فإنّه ظل عاجزا عن إيجاد بديل آخر عن الماء في إدامة أسباب الحياة على سطح الأرض ، بل أنّ الإحصائيات تؤشر أنّ هناك عجزا فادحا في المصادر الطبيعية للمياه العذبة اللازمة لأغراض الاستهلاك البشري ولأغراض الزراعة والتوسع فيها تبعا للزيادات المطردة في عدد سكان الأرض ، ولمّا كانت الأنهار الدولية المشتركة بين أكثر من دولتين ، وخاصة في الدول النامية لم تجد لها حلولا قانونية حاسمة تمنع الخلاف والتفسيرات المتقابلة ، فمن المتوقع أنْ يكون القرن الواحد والعشرون قرن حروب الماء ، ما لم يتوصل العالم إلى حلول عادلة تضمن حقوق الدول المتشاطئة على حوض الأنهار الدولية ويمنع الدول التي تمنحها تضاريس مرور النهر القدرة على إلحاق الحيف بدول أسفله ، ولعلّ منطقة الشرق الأوسط هي من بين أكثر المناطق المرشحة لمثل هذه الحروب ، خاصة وأنّ إسرائيل تسعى لجلب المزيد من المستوطنين لغرض إسكانهم في صحراء النقب ، وهو هدف لا يمكّن تحقيقه ما لم تتوفر حصص مائية ثابتة ، ولمّا كانت فلسطين من الدول الفقيرة في مواردها المائية أصلا ، فإنّ إسرائيل سترنو بنظرها نحو مصادر المياه العربية في الجولان ولبنان ، ولأنّ ذلك غير متاح بصفة مستمرة ، أو غير كاف في حال توفره ، فقد وجدت إسرائيل أنّ أمنها يستوجب ربط أطراف إقليمية غنية بالمياه مثل تركيا ، بالمشروع الإسرائيلي بأوجه متعددة ، فكان مشروع الأنابيب المتوسطي الرابط بين ميناء جيهان التركي والموانئ الإسرائيلية ، وحتى قبل البدء بتنفيذ المشروع أو حتى قبل وضع تصاميمه النهائية ، بدأت الأفكار تتلاحق في تطوير مدياته ، فبدلا من شواطئ المتوسط كنهاية لخطه الجنوبي ، بدأ الحديث عن ضرورة إيصاله إلى ميناء إيلات على خليج العقبة ، كي يجعل من إسرائيل محطة وسيطة بين جهات مختلفة المصالح ، تسعى إلى أيجاد قواسم مشتركة في الطاقة والمياه والاتصالات ، وفيما بعد في شؤون الأمن ، وربمّا تولي إسرائيل هذا الجانب أهمية إستراتيجية ، لترابط الأمن الإسرائيلي بثبات موارد المياه والطاقة .

 

ومن حقنا بل من واجبنا أنْ نطرح سؤالا محددا عن دوافع الهند للبحث عن طاقة يجب أنْ تمر عبر المتوسط ثم البحر الأحمر ثم البحر العربي ثم المحيط الهندي حتى تصل إليها ؟ فإذا كان الحديث عن إحدى مزايا خط النفط القادم من ميناء سامسون على البحر الأسود والذاهب إلى جيهان التركي ثم إلى ميناء عسقلان ومن ثم إلى ميناء إيلات ، يمكن أنْ يختزل المسافة لنقله من ميناء جيهان إلى الموانئ الهندية من 50 يوما إلى 19 يوما ، فهل أنّ الهند قررت التحول عن نفوط الخليج العربي والتي يمكن أنْ تصلها من موانئ الخليج العربي في وقت أقصر من أقصر وقت تستغرقه الرحلة من ميناء إيلات إلى ميناء بومبي ، والتحول إلى نفط بحر قزوين ؟ والذي سيمر عبر ممرات لا يمكن أنْ تضعه في موقع تنافسي مع النفط الخليجي الأقل تكلفة بحكم قرب المسافة مقارنة بأي نفط آخر ، مع ما يترتب على ذلك من انخفاض كلف الشحن والتأمين ، أم أنّ للهند حسابات اخرى دفعتها لتفضيل نفط قزوين على نفط الخليج العربي ؟

 

قد تلتقي مصالح العالم الغربي خصوصا ومصالح الدول المستهلكة لمصادر الطاقة ، في إعطاء الدعم لمكامن النفط البديلة والتي تقلص أهمية النفط العربي وتقلص من دور منظمة أوبك في تجارة النفط الدولية ، وبالتالي تحويل مركز الدول العربية المنتجة للنفط إلى دول متسولة للصداقات الدولية ، بعد أنْ كانت دول العالم تجري وراءها كسبا لودها ، دون أنْ تتمكن دول النفط من توظيف ثرواتها في محافل الصراع الدولي .

 

منذ استقلال الهند وانفصال باكستان بشطريها الشرقي المعروف حاليا بدولة بنغلاديش ، والغربي والذي يمثل الدولة الباكستانية ، شهدت علاقات شبه القارة الهندية بالوطن العربي وإسرائيل إشكالية وثنائية معقدتين ، خاصة وأنّ استقلال دولتي الهند وباكستان قد جاء متزامنا مع إنشاء دولة إسرائيل بفاصلة قريبة ، فحيثما اتجهت بوصلة باكستان ، كانت الهند تتجه على الضد منها تماما ، ويمكن الاستدلال على ذلك بالتطور اللافت للنظر في علاقات الهند بالاتحاد السوفيتي والذي أخذ طابعا مركبا في توريدات السلاح والتبادل التجاري ، ورغم أنّ الهند كانت عضوا مرموقا في رابطة الكومنولث ، فإنّها كانت من الدول الرئيسة المؤسسة لحركة عدم الانحياز كما أنّ رئيس وزرائها البارز جواهر لال نهرو كان لولبا في مؤتمر باندونغ ، وكان هو والرئيس الراحل جمال عبد الناصر والرئيس اليوغسلافي هم الذين وضعوا تواقيعهم على البيان التأسيسي لحركة عدم الانحياز في مؤتمر بلغراد  .

 

بالمقابل فإنّ باكستان اختارت التحالف مع الولايات المتحدة والانضمام إلى حلف بغداد ، الذي رعته ووضعت حجر الأساس له كل من الولايات المتحدة وبريطانيا ، وكانت هواجس كل من الهند وباكستان تتجه نحو الاخرى بأعلى درجات الارتياب ، ولم يتمكن البلدان من التوصل إلى حلول مرضية للطرفين ، خاصة وأنّ ملف كشمير سيبقى قنبلة موقوتة على طريق تحسين علاقاتهما ، ويبدو أنّ الدول العربية قد توزعت في علاقاتها مع الهند وباكستان تبعا لطبية النظام الرسمي في كل دولة ، فقد انحازت الدول القريبة من العالم الغربي إلى جانب باكستان ، وربمّا كان للمال السعودي دور في انضمام إسلام آباد لعضوية النادي النووي ، على حين أنّ مصر عبد الناصر اختارت العلاقة الصميمية مع نيودلهي ، ولم تلعب القضية الفلسطينية إلا دورا صغيرا في رسم مساري هذه العلاقات وإنْ ترافق مع ضجيج إعلامي من كلا طرفي المعادلة العربية كل يدعي الدوافع القومية في علاقاته مع الهند أو باكستان ، وبعد هزيمة حزيران 1967 ، ورحيل عبد الناصر عام 1970 ، ورحيل نهرو وهزيمة حزب المؤتمر الهندي في الانتخابات اللاحقة ومجيء حزب جاناتا بزعامة مورارجي ديساي ، دخلت معادلات جديدة كان بالإمكان اعتبارها بداية التحول في علاقات الهند بإسرائيل وربط البلدين بشبكة مصالح متعددة المحاور بما في ذلك التعاون العسكري متعدد الصفحات ، وربمّا خرجت الهند بحسابات جديدة مؤداها أنّ مصلحتها تقتضي عقد علاقات خاصة مع الولايات المتحدة ، يمكن أنْ تضع علاقات باكستان مع واشنطن على أعتاب مرحلة جديدة من المفاضلة بين الطرفين ، ورأت نيودلهي أنّ المدخل المناسب لعلاقات تعاون متدرج مع الولايات المتحدة يمكن أنْ يجد مداخله الناجحة عبر البوابة الإسرائيلية ، ومضت في هذا الخيار إلى نهايته ، ولم تتوقف عند حد تلقي المقترحات لتوسيع آفاق التعاون ، بل أخذت تجهد نفسها في اقتراح كل جديد من أجل إيصال العلاقات إلى درجة عالية من الفاعلية ، لكنّ المثير في المشروع المقترح أنّه سيلحق ضررا مؤكدا بحليف قديم للهند وهو مصر ، فإذا سلمنا بأنّ من حق الباب العالي أنْ يستنهض الموروث التاريخي من التحسس من دور مصر محمد علي ، وأنّ مصلحة إسرائيل حتى وهي في أحسن أوقات علاقاتها مع مصر ، تقتضي إبقاء مصر ضعيفة في عناصر قوتها الاقتصادية الرئيسة وخاصة في قناة السويس ، فإنّ طبيعة الأشياء ستقودنا إلى التساؤل التالي ، ما هي مصلحة الهند في تحويل التجارة الدولية وخاصة النفط إلى ممرات اخرى غير قناة السويس ؟ قد ترى مصر تهديدا تشترك فيه أطراف دولية كثيرة لأمنها القومي في ثلاثة مفاصل حيوية ، الأول المشروع المقترح الذي يسعى أصلا لتحويل الخطوط الملاحية عن قناة السويس ، والثاني إطلاق يد بعض دول حوض النيل والتي قد تجد في الخطوة التركية سابقة يمكن تكرارها لفتح أبواب تجارة الماء أو مقايضته بسلع إستراتيجية ، هذا فضلا عمّا يمثله من سطو على حقوق سوريا والعراق في نهر الفرات خاصة ، حينما يتم تحويل جزء من موارده إلى أنابيب تحولها إلى إسرائيل وهي طرف لا صلة له بحوض النهر إلا من حيث الأسطورة التاريخية التي تقول إنّ حدود إسرائيل تمتد من النيل إلى الفرات ، ويعتقد خبراء المياه في العالم أنّ هذا القرن هو قرن حرب المياه ما لم تفعّل الاتفاقيات الدولية ذات العلاقة ، فهل تريد تركيا أنْ تفتح الصفحة الأولى في هذه الحرب في منطقة لا تنقصها أسباب إضافية للتوتر؟

 

والمفصل الثالث هو ما يشهده خليج عدن من تهديد لحركة الملاحة عبر قناة السويس ، مما قد يفرض على مصر تقديم المزيد من التنازلات السياسية لصالح الغرب وإسرائيل ، فقناة السويس تمثل شريانا لاقتصاد مصر ، وأية محاولة لخنقه ستبدو محاولة لضرب استقلال البلاد السياسي بعد تجريدها من عنصر استقلالها الاقتصادي .

 

لا بد من الإقرار أنّ المشروع المقترح والمتعدد الأهداف ، سيقدم خدمة لإسرائيل في ثلاثة محاور ، فهو سيوفر لها الطاقة المضمونة من نفط بحر قزوين وغازه ، وسيجعل منها ممرا لتجارة الطاقة مع ما يوفره ذلك من مداخيل كبيرة لخزينتها ، ثم أنّه سيجعل منها لاعبا رئيسا في سوق الطاقة الدولي ، وربمّا تنظر إسرائيل إلى هذه النقطة بالذات على أنّها أهم المزايا التي ستحصل عليها وستصبح الطرف الوحيد الذي لا موارد نفطية له ، ولكنّه يمتلك قدرة على التحكم بتجارة النفط أكثر بكثير من قدرة أكبر البلدان المنتجة له بحكم دور الرساميل اليهودية في شركات النفط العبرة للقارات .

 

أمّا تركيا فيبدو أنّها تريد أنْ تلعب دور الشريك الإستراتيجي لأطراف متعددة ، ولتكون عقدة المواصلات الرئيسة فيها إسرائيل ، مع كل ما يضفي ذلك من قابلية الجذب للمشروع بحكم درجة الإغراء الذي تمثله إسرائيل لبيوت المال الأمريكية والأوربية لتقديم القروض الميّسرة له يضاف إلى ذلك أنّ أزمة الطاقة العالمية التي طرقت أبواب الدول المتقدمة في خريف عام 2008 ، دفعت بالغرب ليسعى بكل قوته من أجل البحث عن بدائل نفطية ، خاصة وأنّ بحوث الطاقة البديلة لم تتوصل حتى الآن إلى طاقة مضمونة وعلى نطاق تجاري ، فكان نفط قزوين على ما صوره الغرب ، حقل النفط الذي لا يعرف النضوب ، وبسبب رفض الولايات المتحدة لمشروع ربط الهند بالغاز الإيراني عبر باكستان ، فقد اتجهت الأنظار نحو إيصال الغاز من مناطق إنتاجه في بحر قزوين والدول المستقلة عن الاتحاد السوفيتي إلى أوربا مع تطمينات للهند بأنهّا ستكون جزءا من مشروع طاقة دولي .

 

تتقاطع في منطقة المشروع المقترح خطوط مصالح إستراتيجية لقوى كبرى ، بعضها يتشبث بماض لا يريد له أنْ تغيب شمسه إلى الأبد ، وبعضها يحاول نفخ الروح فيه بقوة التجديد والمواصلة ، وبعضها يحاول أنْ يتنفس في منطقة غنية بالثروات والمشاكل على حد سواء ، فيأتي إليها تحت لافتة البحث عن حلول لمشاكلها ، والحق أنّه إنْ لم يسع لتعميق تلك المشاكل طلبا للبقاء الطويل ، فإنّه يحاول الاستدارة عن كل المطبات السياسية ، والبحث عن مصالح ومداخل لتوسيعها قدر المستطاع ، وتركيا كدولة تعتقد أنّها كانت دولة كبرى ليس في المنطقة فقط وإنّما على صعيد العالم ، تحاول استعادة جزء من دور مفقود ، والتقت في ذلك مع دولة طارئة على المنطقة ( إسرائيل ) ولا جذور لها فيها ، وتبحث عن كل فرصة للتنقيب عن أدلة ميدانية يمكن أنْ تعطيها مبرر القبول ، فوجد الطرفان منذ البداية التقاء الفرصة الضائعة مع الفرصة المولودة حديثا ، أمام طرف تم اختياره ليكون عدوا مشتركا .

 

وهكذا تواصل الخيار التركي في علاقات تنسيق على كل المستويات وأدق التفاصيل مع إسرائيل ، قالبة الظهر لتاريخ طويل من الانتماء لدين مشترك مع العرب ، تحت ذريعة أنّ العرب هم الذين اختاروا الاصطفاف مع أعداء الإسلام ضد دولة الخلافة ، وبصرف النظر عن وجاهة هذه الذرائع من عدمها ، لأنّّها ليست موضوعنا الآن ، فإنّ تركيا مضت في هذا الطريق مختارة أو بفرض من قوى دولية ، أو بتنفيس عن عقد التاريخ القريب ، فكانت الثغرة المميتة في جدار الرفض العربي الإسلامي للوجود الإسرائيلي في أولى القبلتين وثالث الحرمين .

 

ولأنّ الصواب لا بدّ أن يستعيد عافيته مهما طال الزمن ، فقد شهدت تركيا الحديثة في أوقات كثيرة ، تململا شعبيا يستنهض قيم الرابطة الإسلامية مع لغة مهبط الوحي ، ورافضا للرابطة مع الحركة الصهيونية ومن يدعمها في العالم ، وبعد عقود من التقلب بين القبول بالمنكر الغربي ، والتطلع إلى عالم الروح في الشرق العربي ، رست سفينة تركيا على شاطئ خط سياسي يربط بين الأصالة الإسلامية والمعاصرة الغربية ، حينما أفرزت صناديق الاقتراع حقيقة الإرادة الشعبية التي اختارت حزب العدالة والتنمية ، الذي بدا وكأنّه في سنواته الأولى يحبو في حقل ألغام يحيط به من كل الجهات ، ولأنّ حزب العدالة والتنمية رفع شعارات إسلامية منذ البداية ، فقد كانت المخاوف تنصب على دور الجيش الضامن دستوريا لنهج أتاتورك ، ولهذا لاحظ المراقبون حرصا مبالغا فيه من الحزب على الدعوة للانضمام إلى الإتحاد الأوربي رغم معرفته ومعرفة تركيا كلها أنّ هذا هو الحلم المستحيل على الأقل في الأفق المنظور ، وذلك للطابع المسيحي المعروف للإتحاد الأوربي ، ومع ذلك فإنّ حزب العدالة والتنمية ، أراد أنْ يلجم الجيش التركي بهذا الحلم ، فالإتحاد الأوربي كان يركز على تقليص دور الجيش في الحياة السياسية في تركيا كشرط رئيس لقبولها في عضويته ، وتناغم هذا الشرط مع رغبات حزب العدالة والتنمية .

 

لكنْ للإتحاد شروطا اخرى كانت تتقاطع مع مصلحة وحدة تركيا يأتي بالمقدمة منها موضوع حقوق الأقليات والأكراد منهم في المقدمة ، ومجزرة الأرمن التي تتهم بها الدولة العثمانية ، وكذلك موضوع العلاقة مع إسرائيل ، ورغم أنّ تركيا ليست بحاجة إلى من يحثها على العلاقة مع إسرائيل ، إلا أنّ وضعه كشرط خارجي قد يختلف عنه كخيار داخلي من جهة ، ومع توجهات حزب العدالة والتنمية الذي يطرح برنامجا إسلاميا ، لتطوير علاقات تركيا مع العالم الإسلامي وفي المقدمة منه الوطن العربي ، كان لا بد من إعادة نظر في صياغة الموقف المعلن على الأقل بخصوص العلاقة مع إسرائيل ، وهذا ما يتقاطع مع تقاليد علاقات البلدين من جهة ويتعارض كليا مع شروط الاتحاد الأوربي لقبول تركيا في عضويته ، فكان طبيعيا والحال هذه أنْ تقلب أنقرة ملفات التعاون القديم منها والجديد لتأكيد أنّ الحديث عن افتراق بين تركيا وإسرائيل ، والذي تزامن مع مجيء حزب العدالة والتنمية ، مجرد تقارير صحفية لا تستند على أساس ، ذلك أنّ تركيا التي أرادت إدخال موازنة دقيقة في علاقاتها مع محيطها الإسلامي مع علاقاتها بإسرائيل فإنّها لم تكن تخطط لمغادرة محور ، لتدخل في محور آخر ولم تكن لتستبدل حلفاء الأمس بحلفاء اليوم .

 

لقد مرت علاقات تركيا مع الولايات المتحدة بخريف صعب نتيجة رفض أنقرة استخدام الأراضي التركية في الحرب على العراق ، ولكنّ دخول قضية حزب العمال الكردستاني وما يلقاه من دعم مباشر من حزب مسعود البرزاني وسط تأييد أمريكي صامت ، وهو ما فسرته أوساط تركية بأنّه انحياز لا معنى له إلى جانب طرف يريد زعزعة وحدة أراضي دول المنطقة ، ومع الوقت اكتشفت تركيا أنّ إسرائيل دخلت على خط الحركة الكردية ونشطت بقوة في تقديم الدعم لأكراد العراق ، ويبدو أنّ إسرائيل تسعى لممارسة المزيد من الضغط على تركيا من أجل تعاون أقوى ، وعدم المضي في علاقاتها العربية إلى مدى قد يكون على حساب إسرائيل .

 

 تركيا إذن تريد رسم مسار جديد لعلاقاتها مع جميع القوى الإقليمية والدولية ، وهكذا فتحت أنقرة صفحة جديدة من التعاون مع  سوريا وإيران ، وحتى بالنسبة للقضية القبرصية فقد تعاملت تركيا مع ملفها بمرونة عالية ، وكي لا يبدو ذلك وكأنّه خيارها الإستراتيجي ، فقد حصل الاتفاق الثلاثي والمتعدد الغايات بين إسرائيل وتركيا والهند ، ليرسم أبعاد صورة جديدة لتعاون إقليمي ودولي ، لا بد أنْ يترك تأثيرات سلبية على معظم دول الإقليم .

 

 





السبت٢٨ رجــــب ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ١٠ / تموز / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نزار السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة