شبكة ذي قار
عـاجـل










مقدمة : -

منعت المادة 23 من اتفاقية لاهاي لعام 1907والخاصة بقوانين الحرب ، إجراء أي تغيير في أي قانون أساسي مثل الدستور من قبل سلطة الاحتلال لبلد احتلته ، وقد تم دمج هذا المنع بألفاظ قوية في الفقرات 353  و 358 و 363 و 366 من الدليل الميداني للجيش الأمريكي رقم 27/10 لسنة 1956 ، ومع ذلك فقد جاء الاحتلال الأمريكي للعراق محملا بنزعة تنسف ما وضعه من أسس في طرق التعامل مع الأقاليم المحتلة ، فحينما تم تعين بول بريمر حاكما للعراق خلفا لجي كارنر ، فإن أول قرار اتخذه بعد توليه لمنصبه هو قانون رقم واحد والخاص باجتثاث البعث ، ليكون الوصفة الناجحة لكثير من الأزمات المتناسلة .

 

فقانون اجتثاث البعث استخدم سيفا مسلطا على رقبة كل طرف يراد قمعه أو إسكات صوته ، سواء كان بعثيا أو لم يكن ، فقد أطيح بمئات الآلاف من الرؤوس بسيف اجتثاث البعث ، وتم استبعاد الآلاف من السياسيين من واجهة الأحداث باسم القانون لمجرد الرغبة بإقصائهم حين الإحساس بالعجز عن مجاراتهم في ساحة المنافسة ، وهذا ما نلحظه في القوائم المتتالية التي أصدرتها هيئة المساءلة والعدالة ، والتي تفتقد للعدالة بكل المقاييس المعروفة دوليا ، فأصبح مجرد التفكير بصوت عال جريمة يحاسب عليها القانون ، وأصبحت المقارنات الموضوعية بين الحقبة التي عاشها العراق إبان الحكم الوطني ، وما بعد الاحتلال تهمة تعني في أقل الأوصاف ترويجا للإرهاب والعنصرية والتكفير والتطهير الطائفي ، كما نصت الفقرة الأولى من المادة السابعة من قانون اجتثاث البعث ، وذهب الكثيرون إلى تقديم فرضية أن قانون اجتثاث البعث كان مجرد حيلة وضعها بريمر بيد الكتل السياسية الحاكمة والتي جاءت بعيد الاحتلال لضرب طيف كامل من الشعب العراقي ، لاسيما وأن هناك دعاوى ترتفع حينا وتخبو حينا آخر عن استعادة الشيعة لحكم فقدوه منذ 1400 سنة وأن عليهم عدم إضاعة هذه الفرصة التاريخية  .

 

ولم يقف بريمر عند هذا القانون بل امتدت يده إلى الجيش العراقي والأجهزة الأمنية ووزارة الإعلام والمخابرات وجهاز الأمن الخاص وهيئة التصنيع العسكري وكيانات اخرى من أجهزة الدولة العليا فوضعها على لائحة الشطب من سجلات الدولة العراقية ، وربما كان بول بريمر شخصيا يخطط لبقاء طويل في العراق ، وربما لم يكن ليظن أن بلاده يمكن أن تنسحب من العراق في أي يوم من الأيام أو على الأقل في الأفق المنظور ، ولكن الولايات المتحدة التي خططت للصفحة العسكرية في غزو العراق ، أغفلت تماما ما ينبغي عليها أن تفعله لإدارة بلد يحمل تراثا حضاريا عميقا ، وسجلا تاريخيا في مواجهة الأخطار الخارجية بما لا يتيح فرصة لمحتل أن يستقر فوق أرضه دون ثمن يدفعه ، وهذا ما حصل فقد انطلقت مقاومة مسلحة وعلى نحو فاجئ الولايات المتحدة ، فبدأت الإدارة الأمريكية بسلسلة من التدابير التي لا تقل سوء عن قرار الحرب ، فجاء قانون إدارة الدولة العراقية وتشكيل مجلس الحكم ليراكم المزيد من الإخفاقات الأمريكية ، وليضيف تعقيدات مستحكمة على كل الملفات السياسية في العراق ، وهو ما بدأت إفرازاته تظهر تباعا ، وهذا ما سنحاول التعرض له .

 

خلفيات قريبة : -

إذا كانت انتخابات عام 2005 قد جاءت متساوقة مع نهج المحاصصة الطائفية العرقية الذي وضع أساسه الحاكم الأمريكي بول بريمر في قانون إدارة الدولة العراقية ، وتم تثبيته في الدستور المعمول به حاليا ، فإنها أدت لاحقا إلى حصول شطر عمودي داخل الائتلاف الموحد تسبب بانشقاقه فيما بعد إلى كتلتين ستتضح صورتهما بعد ثلاث سنوات في انتخابات مجالس المحافظات في 31 كانون الثاني / يناير 2009، وكذلك أدت نتائج الانتخابات النيابية إلى استبعاد إبراهيم الجعفري من زعامة حزب الدعوة ومجي نوري المالكي محله في زعامة الحزب ورئاسة الحكومة وتعرض الحزب إلى انشقاق جديد .

 إن انتخابات عام 2005 ، أفرزت ظاهرتين بدتا غير منسجمتين مع بعضهما ومع حقيقة المشهد السياسي السائد في العراق ...

 

 الأولى : سيطرة الائتلاف الشيعي المدعوم من إيران على مركز صنع القرار الإداري والمالي في المؤسسات الحكومة عموما والأمنية خصوصا من حيث الفرز الطائفي وحث الخطى لمواصلة تهميش دور وثقل طيف كبير من الشعب العراقي وذلك بإطلاق يد مليشيات تكونت في إيران أو التحقت بها بعد الاحتلال لتمارس حرب إبادة جماعية وتطهير عرقي وصلت ذروتها بين 2006 و2007 .

 

والثانية : استعادة الخلافات القديمة بين الأطراف المكونة لقائمة الائتلاف العراقي الموحد لعافيتها في رسم صورة العلاقة فيما بينها ، ولتضاف إليها خلافات ناشئة عن ممارسة السلطة وما تفرضه من دور ووجاهة وامتيازات تستثير الكثير من ردود الفعل الصامتة حينا والمعلنة في أحيان اخرى حتى إذا أخذت مبررات بعيدة عن الأسباب الحقيقية ، فتلك الأطراف متفقة على برنامج مشترك للتعاطي مع كل الأطراف من خارج الائتلاف ، ولكنها تعيش خلافات لم تبق حبيسة الصدور أو غرف الاجتماعات المغلقة ، وإنما انتقلت إلى ساحات مفتوحة ، بدأت أولى صفحاتها برفض حزب الفضيلة المشاركة في حكومة المالكي نتيجة إصراره على الحصول على حقيبة النفط مما ترك تساؤلات عن الأسباب التي تقف وراء ذلك ، وتبع ذلك انسحاب التيار الصدري من وزارة المالكي وتحول علاقة الحليف الذي أصر على تولي المالكي لرئاسة الوزارة إلى أكثر خصومه ضراوة حتى وصل الأمر بينهما إلى مواجهة دموية ذهب ضحيتها الآلاف كما حصل في العمليات العسكرية ضد جيش المهدي عام 2008 حتى وإن حرص المالكي على طرح فكرة أن العمليات العسكرية كانت ضد الخارجين على القانون .

 

تهاوت تحالفات كثيرة وتصدعت تحالفات اخرى حتى لم يكد تكتل ينجو من التشرذم وليخسر من رصيده بعض عناصره ، على حين حاولت جميع القوى رسم مسارات جديدة لنفسها دون التخلي عما تعتبره ثوابت مقدسة لاسيما الأحزاب الدينية ذات البرامج الطائفية ، وبقيت الأحزاب الكردية وحدها تبدو وكأنها فوق أي تصدع أو اختلاف ، كانت تختزن في جوفها الكثير من عناصر التشرذم ولكنها كانت تريد الظهور بمظهر موحد مع ( الخارج ) كي لا تضيع عليها الفرصة التاريخية في تكريس المكاسب التي حصلت عليها بدعم أمريكي منذ عام 1991 أو تلك التي تم تثبيتها في قانون إدارة الدولة وتم ترحيلها إلى دستور 2005 ، لاسيما وأن الدعم الأمريكي لمطالب الحركة الكردية كان يسير باتجاه منسجم مع وحدة موقف الحركة  تجاه ( الخارج ) والذي هو هنا تحديدا وحدة العراق أرضا وشعبا ، ولكن الوقت كان يترك المزيد من عوامل التعرية على جدران السرية التي أقامها كل حزب كردي حول نفسه أو لعلاقاته المشحونة بالتوتر مع الأحزاب الاخرى ، وطفت على السطح أخيرا حركة يسميها قادتها بأنها حركة تصحيح داخل الاتحاد الوطني الكردستاني ، وحتى بفرض عدم وجود صلة بين هذه الحركة والخصم التاريخي اللدود لجلال الطالباني وهو الحزب الديمقراطي الكردستاني وحصرا عائلة البرزاني ، فإن ظهور حركة التغيير بقيادة نوشيروان مصطفى ، وبقدر ما يحمله من مشاعر التململ داخل الاتحاد ، فإنه ودون أدنى شك سيحظى بترحيب صامت من جانب العدو الذي ما من صداقته بد ، الحزب الديمقراطي الكردستاني ، أما عموم الأكراد فإن حالة التململ التي يعانون منها ويتعرضون فيها لقمع تحت لافتة الدفاع عن مكاسب الشعب الكردي وحقوقه القومية إضافة إلى تفشي حالة الفساد المالي والإداري وملاحقة الناشطين الأكراد الذين يسلطون الأضواء عليها ، كلها من دواعي التذمر المتزايد في المنطقة الشمالية من العراق .

 

وبدأ خطاب إعلامي جديد يفرض نفسه على الشارع السياسي الحكومي في ضوء نتائج انتخابات مجالس المحافظات في كانون الثاني 2009 ، فقد أخذت شعارات معلنة جديدة تشق طريقها إلى خطاب نوري المالكي ، من قبيل ما قاله في 30 آذار / مارس 2009 ( وحدة العراق وعروبته وسيادته خطوط حمر ) وكأنه كان يرد على دعوات المجلس الإسلامي الأعلى الفدرالية ، وهو حليفه اللدود في انتخابات 2005 ، وخصمه العنيد في انتخابات مجالس المحافظات ، وخاصة بعد سقوط شعار فدرالية الوسط والجنوب وهو الحلم الذي مات عبد العزيز الحكيم ولم يتمكن من رؤيته ، بعد أن خذل أهل الوسط والجنوب تحالفه وصوتوا لمرشحين منافسين من ضمنهم قائمة رئيس الوزراء ( ائتلاف دولة القانون ) ، كما أن الحديث المتكرر للمالكي عن ضرورة إعادة النظر بالدستور لجهة ترجيح صلاحيات المركز على الأطراف ناغت مشاعر الكثيرين ممن يتطلعون إلى فرض هيبة الدولة المركزية .

 

وبصرف النظر عن صحة الطعون التي طرحت على النتائج ، نتيجة استخدام المال السياسي وسلطة أجهزة الأمن والإدارة ، فقد أقر زعماء المجلس الإسلامي بالهزيمة وعزوها إلى انزوائهم وعدم تفاعلهم مع سكان المنطقة وهمومهم ومطالبهم والجهل بحقيقة توجهات المواطنين ، ولكن المالكي لم يتمكن من الحفاظ على الخط الذي ادعاه لنفسه وحزبه وقائمته لزمن طويل ، إذ سرعان ما عاد إلى المربع الأول سواء بالخطاب المعلن أو بالممارسات القمعية لأجهزة الأمن المرتبطة به ، وخاصة قيادة عمليات بغداد .

 

الواقع الراهن : -

يبدو أن نتائج الانتخابات المحلية أعطت نوري المالكي ثقة بالنفس ربما تفوق بكثير الوقائع على الأرض ، ومنذ تلك اللحظة بيت حزب الدعوة الذي يحمل موروثا معروفا من الضغائن مع المجلس الأعلى للثورة الإسلامية منذ أيام التواجد المشترك في طهران ، على أن يخوض انتخابات عام 2010 بقائمته الخاصة ( ائتلاف دولة القانون ) مستفيدا من العوامل التي جعلته يشعر بالنصر في انتخابات المحافظات ، مستغلا شعار سيادة القانون ووحدة العراق وعروبته ، لما تبين لها أنها شعارات تلامس ما استقر في أعماق المواطن العراقي الذي لم تلوثه هاوية الحرب الأهلية التي كاد العراق ينزلق إليها عام 2006 ، وربما جازف المالكي حينما خاض معركته ضد أكبر قوة هلامية على صعيد الشارع الشيعي ، وهي التيار الصدري الذي فرض المالكي نفسه رئيسا للوزراء كما فعل مع سلفه إبراهيم الجعفري والذي واجه فيما بعد حربا طاحنة في ربيع 2008 حينما امتدت المعارك ضد جيش المهدي من البصرة في أقصى جنوب العراق لتصل إلى الثورة والشعلة في بغداد مرورا بمدن الجنوب والفرات الأوسط ، والتي كانت تعتبر مناطق مغلقة للتيار الصدري على وفق ما يطرح الصدريون عن أنفسهم .

 

في غمرة ما اعتبره نوري المالكي نصرا شخصيا في انتخابات مجالس المحافظات بدأ يسوق شعارات مبكرة للانتخابات النيابية في عام 2010 ، ويمكن إجمال المحاور الرئيسة لها بما يلي :

 

1 – الدعوة لنبذ الطائفية والعرقية والمحاصصة ، واعتماد خطاب وطني شامل في أداء المؤسسات الدستورية .

2 – الدعوة لتعديل الدستور بما يؤمن للحكومة المركزية من أداء مهامها بصورة انسيابية ، وربما ستكون هذه الدعوة ملازمة لكل من يتصدى لمسؤولية مركزية ويشعر أن الدستور يحد من صلاحياته .

3 – الدعوة إلى حكم الأغلبية ، وهذه الدعوة بالذات أثارت الكثير من التساؤلات عما يعنيه المالكي ، هل هو حكم الأغلبية الحزبية ؟ أم أغلبية القائمة ؟ أم الأغلبية السكانية المفترضة ؟

4 – الدعوة للمصالحة الوطنية وتوسيع نطاق المشاركة في العملية السياسية .

5 – المضي قدما في خيار الديمقراطية والتعددية .

 

ومع أن هناك تناقضا بين النقاط الخمس التي وردت على لسان المالكي ، إلا أن الواقع يشير إلى أنها كانت قد أطلقت في ظروف سياسية ونفسية مختلفة ، مما يعزز القناعة بعدم وجود برامج بعيدة المدى لدى المالكي شخصيا ولدى حزب الدعوة وأن النمط التجريبي ما زال سيد الموقف ، كما أكد أن المزاج الشخصي يلعب دوره الكبير في رسم مسار التقلبات الموسمية لمعظم السياسيين في عراق ما بعد الاحتلال الأمريكي .

 

أن الممارسات اللاحقة التي طبعت سلوك حكومة المالكي ، لم تتطابق مع الشعارات المرفوعة التي ابتلعتها دهاليز الصراعات السياسية الساخنة بين أطراف جمعتهم في مركب واحد ظروف وربما ضغائن ضد طرف أو أطراف اخرى ، ومن المؤكد أن الضغائن لا تصلح تحت أي ظرف لتكون أساسا لتحالفات سياسية ناجحة وخاصة في بلد مثل العراق ، الذي يريد كل طرف إزاحة الآخرين من طريقه ، مترافقا مع ضجيج عال بالدعوة إلى المصالحة وتوسيع دائرة العملية السياسية وإدانة الاستئثار بالسلطة وتغييب الديمقراطية .

 

المالكي لم يكشف خططه لخوض الانتخابات منفردا حتى اللحظة الأخيرة ، وترك حلفاء الأمس يجرون وراء نصره السابق خشية من أن يتمكن من ابتلاعهم في الانتخابات القادمة ، رغبة بالتحالف معه مع استعداد لتقديم تنازلات جدية لائتلاف دولة القانون ، ولكن العقبة الرئيسة التي حالت دون إتمام عقد الزواج مجددا كانت منصب رئاسة الحكومة وهو الشرط الأول الذي أصر عليه المالكي معتبرا أن من حقق الانجازات الأولى عليه هو وحده أن يكملها أو أن يسجلها باسمه ، كما أن نسبة كل طرف من التحالفين السابقين في الائتلاف الجديد كانت تطرح بين آونة واخرى من أجل إضافة عراقيل جديدة لمنع سطو الخاسرين على إنجازات غيرهم .

 

ولكن المالكي وهو في غمرة مشاعر النصر ، ارتكب خطيئة تجاهل الرقم الكردي في المعادلة الانتخابية ، ودخل في صراعات سياسية خفية أحيانا وعلنية أحيانا اخرى ، ولكنها قوية مع قيادة الحركة الكردية الممسكة بمقاليد الوضع في شمال العراق ، ونسي المالكي أنه وقد أشاح بوجهه عن حلفاء الأمس ضمن قائمة الائتلاف العراقي الموحد ، فإن هؤلاء لا بد لهم عن البحث عن موضع الألم في جسم قائمة ائتلاف دولة القانون للضغط عليه بقوة من أجل إثارة الأوجاع حد الصراخ ، فباشرت قائمة الائتلاف الوطني العراقي وهو التحالف الشيعي الوريث للائتلاف الموحد ، اتصالات مع اللاعبين الذين لا يمكن تجاهلهم حتى من قبل أعدائهم في أية صفقات سياسية مستقبلية ، أي التحالف الكردي ، وحاول المالكي في الوقت الضائع تدارك ما ارتكبه من خطأ ، فقد زار النجف واجتمع بالمرجع الشيعي علي السيستاني ، وبعد اجتماعه غير المعروف التفاصيل ، قال بأنه يتطلع لتشكيل تحالف مع قائمة الائتلاف الوطني ، وهي القائمة التي أجلت الإعلان عن نفسها أكثر من مرة رغبة باستدراجه إليها ولكنه أصر على النأي عنها إلى خيار القائمة المنفردة غير أن دعوته سرعان ما جوبهت بالرفض القاطع من قبل قياديي الائتلاف الوطني ، وفي خطوة لافتة وصل عمار الحكيم إلى السليمانية وأربيل في حركة التفاف بعيدة على قائمة المالكي ، وأعلن من هناك أن الآراء متفقة على تشكيل تحالف بين الائتلاف الوطني والتحالف الكردستاني ، لتشكيل الحكومة التي ستفرزها الانتخابات المقبلة ، ويبدو أن هذه الخطوة لم تأخذ نصيبها من الأهمية عند المالكي ، وفي تصريحات علنية قال الطالباني إن التحالف بين الشيعة والأكراد هو الخيار المتاح لقيادة البلد نحو الأهداف المرسومة .

 

ومن المحتمل وقد تقطعت كثير من خيوط تحالفات المالكي الخارجية ، ولتضاف إلى مأزقه الداخلي ، أن يكون رحيله أمرا مرغوبا به ليس من قبل حلفاء الأمس في الداخل فقط ، وإنما حصل التقاء بين مصالح قوى أثقلها وجود المالكي في منصبه لأربع سنين ، وعلى الرغم مما رافق تجربته من مرارة ، فإنها ترى في فرصة جديدة له في رئاسة حكومة عراقية لأربع سنوات أخرى وكأنه كابوس ثقيل لا يطيقه لا الداخل ولا الخارج .

 

المستقبل المفترض : -

هل من الممكن وفي ضوء قرارات الاجتثاث التي أعلنتها هيئة المساءلة والعدالة ، والتي شملت 15 كيانا انتخابيا ، أن تستقيم الأوضاع للعملية السياسية التي تم تصميمها على أسس خاطئة ؟

وهل تستند إجراءات تلك الهيئة على أساس قانوني ؟ وهل يجب ألا يشق العراق طريقا له غير طريق الانتقام ؟

 

تم حل هيئة اجتثاث البعث وتم إحلال هيئة المساءلة والعدالة محلها ، ولكن مجلس النواب لم يتوصل إلى اتفاق بشأن أعضاء الهيئة الجديدة ، وهكذا يبدو وكأن المادة السابعة من الدستور وكذلك قانون اجتثاث قد دخلا في حالة انعدام وزن لعدم وجود جهة متخصصة بتنفيذهما ، وبدلا من أن تستغل حكومة المالكي هذا الوضع القانوني لإظهار المزيد من التسامح مع خصومها الذين حاولت إلباسهم ألبسة البعث ، فإنها تعسفت وبحدود غير متوقعة في توسيع نطاق القانون ليضرب كل الخصوم وخاصة من طيف محدد من العراقيين ، بهدف إزاحتهم من ساحة المواجهة حتى إذا عجزت عن إزاحتهم عن الخارطة السياسية ، واللافت أن رئيس الهيئة هو أحد المتنافسين وكذلك مديرها المعني بإصدار القوائم ، واللافت أكثر أن رموز الائتلافين ، الوطني ودولة القانون ، لم يجدا ضيرا في إمضاء قوائم الاجتثاث الجديدة .

 

من أجل تكوين صورة قريبة من الواقع الذي سيكون عليه العراق بعد الانتخابات ، لا بد من قراءة متأنية للظروف السياسية والقانونية التي فرضت نفسها على المشهد الانتخابي برمته .

 

شهدت مرحلة تشريع قانون الانتخابات تجاذبات ساخنة بين القوى التي نظر كل منها إلى القانون من زاوية المصلحة والمكاسب التي يؤمنها لها أو الضرر الذي يدفعه عنها ، وعكس الجدل الحاد الذي رافق جلسات مجلس النواب احتقانا سياسيا وفرزا طائفيا وعرقيا أعاد إلى الواجهة ما جرى في بداية تشكيل العملية السياسية ، وعلى الرغم من أن القانون هو نسخة معدلة من القانون الذي أجريت انتخابات عام 2005 بموجبه وهو القانون رقم 16 لسنة 2005 ، إلا أن إعادة إنتاجه تطلبت وقتا طويلا أدى إلى استخدام نائب الرئيس طارق الهاشمي حقه الدستوري بالنقض على المادة الأولى من القانون ، وإمعانا في تجاهل مجلس النواب للصلاحيات الدستورية للسلطات الثلاث ، فقد أدخل تعديلا على المادة الثانية وأبقى المادة الأولى على ما هي عليه ، هذا التباين في النظر إلى قانون واحد عكس إلى حدود بعيدة اختلافا في الموقف السياسي بين كتل كلها تدعي بالوصل بليلى ( العراق ) ، ولكنها في واقع الحال كانت تستميت في تجيير المنافع لنفسها ومنعها عن الكتل الاخرى الحليفة والمنافسة على حد سواء ، كان الشرخ أكبر من القدرة على التستر عليه ، بحيث كان من حق المراقب أن يطرح تساؤلا جديا عما إذا كان هؤلاء ينتمون إلى بلد واحد .

 

لقد فتح الخلاف على قانون الانتخابات القديم الجديد ، جدلا سياسيا حاميا حول أهدافه ومراميه ، وخاض الجميع في كل شيء إلا في قواعده القانونية وفي سلامتها لتغطية حقبة ساخنة من تاريخ العراق ، وأطلت المحاصصة على المشهد السياسي بقوة لتؤكد أن الطبقة السياسية أكثر تمسكا بها من الشعب العراقي ، لأن هذه المحاصصة هي التي تتيح الفرصة لمن بيده شيئا من سلطة التحكم بالقرار والمال العام ألا يتنازل عنها بأي حال ، وهو مستعد لاستخدام هذين العاملين لقمع الآخر وقطع لسانه حتى عن مجرد المطالبة بما يعتقده حقا ثابتا له ، وشنت حملة تشنيع وكراهية متبادلة .

 

وبمجرد انتهاء معركة قانون الانتخابات بالصورة الرضائية ، امتلأت ساحة الصراع السياسي والإعلامي بشعارات ومطالب جديدة ، بدأ فصلها الأول في الدعوة التي أطلقتها رموز قائمة الائتلاف الوطني لجعل حكومة المالكي حكومة تصريف أعمال ، من أجل التأكد من عدم استخدام المال العام في الدعاية الانتخابية ، واجه هذا المقترح رفضا قويا من قبل حزب الدعوة ( حزب رئيس الوزراء ) وقطعا لا بد أن يأخذ الرفض قالبا دستوريا وهذا ما حصل ، كما أن الضغط السياسية التي مارستها حكومة المالكي على مجلس النواب أدت إلى عدم تمرير قانون السلوك الانتخابي .

 

ولكن الأزمة بدأت عندما تم الإعلان عن اجتثاث صالح المطلك وكتلته بالإضافة إلى 14 كيانا آخر من قبل هيئة المساءلة العدالة وهي النسخة الثانية من ( هيئة اجتثاث البعث ) ، رغم أن أبرز الوجوه المجتثة ، كانت جزء فاعلا في العملية السياسية ، بل أن المطلك كان قد ساهم بكتابة دستور عام 2005 والتي استخدمت مادته السابعة في استبعاد المطلك ومن معه ، مما سيطرح تساؤلات جدية حول مدى مصداقية الشعارات المرفوعة عن توسيع نطاق المشاركة في العملية السياسية من خلال دعم مسيرة المصالحة الوطنية ، فإذا كان من ساهم بإرساء دعائم العملية السياسية وكان عضوا في لجنة كتابة الدستور ، وعضوا في البرلمان لدورة برلمانية كاملة ، قد تعرض لهذا الإجراء الاقصائي وبطريقة لا تخلو من السذاجة والغرض السياسي ، فكيف يمكن أن يطمئن من يريد الانخراط في هذه العملية بعد أن أكلت الكثير من أبنائها تباعا ، بل عرضتهم لخطر مواجهة تهم قد تعرض حياتهم للخطر وليس مجرد استهداف حياتهم السياسية ، وألا يؤكد ذلك مصداقية من وقف بقوة ضد العملية السياسية ودعا إلى حجب الشرعية عنها منذ البداية ؟

 

إن الانتخابات التي تجري في ظل استعدادات أمريكية للانسحاب من العراق ، لا بد أن تطرح بقوة سؤالا محددا ، عما إذا كانت قادرة على طرح البديل عن الأخطاء التي رافقت تجربة الحكم منذ عام 2003 وحتى الآن ، ورافقت محاولات رئيس الحكومة للاستفراد بالحكم ، وفرض وجهات نظره عن طريق تشكيل قوى مسلحة مرتبطة بمكتبه ، تنفذ أوامره بصرف النظر عن تطابقها مع نصوص الدستور الذي منع قطعيا استخدام الجيش في مهمات داخلية لقمع أبناء الشعب العراقي ، ولهذا رأينا أن القوات المسلحة ومنذ تأسيسها من مليشيات طائفية ، لم تنفذ واجبا واحدا دفاعا عن الأراضي العراقية وسيادة البلد ووحدة أراضيه ، وهل أن الانتخابات ستجري بنزاهة وشفافية ؟ وهل أن الشعارات الطائفية والعرقية ستختفي من الواجهة ؟ وبالتالي هل أن النتائج ستنقل العراق من حال إلى اخرى أم أنه سيتدحرج إلى هوة سحيقة ؟ وهل ستتوسع الدائرة الضيقة التي احتكرت صنع القرار طيلة السنوات التي أعقبت الاحتلال ؟

 

الاستنتاجات النهائية

يمكن بثقة وصف الوضع في العراق كما يلي : لا توجد سلطة قادرة على إصدار قوانين منظمة للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلد ثم تكون قادرة على فرض احترامها ( القوانين ) على الشارع ، بل توجد كتل متناحرة على كل شيء من منطلقات عرقية وطائفية وحزبية داخل كل طائفة أو عرق ، فمن حكم العراق منذ نيسان 2003 وحتى الآن ، هم من الذين عاشوا في الخارج لسنوات طويلة حصلت فيها تغييرات جوهرية على الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي ، حتى بدا وكأن الولايات المتحدة حرصت على معاقبة العراقيين مرتين ، مرة حينما غزت بلدهم ودمرت بنية الدولة ومؤسساتها ، ومرة اخرى عندما فرضت عليه حكاما يحملون منطقا ثأريا من جهة ويجهلون طبيعة المجتمع العراقي من جهة اخرى .

 

وإذا سارت الانتخابات كما ترسم لها هيئة اجتثاث البعث والأجندة التي تقف وراءها وبصرف النظر عن المسميات ، فإن من العسير التنبؤ بنتائج قاطعة ، إلا أن صورة قريبة يمكن رسم معالمها على أية حال .

 

لابد من التذكير بواحدة من حقائق الواقع السياسي الجديد لعراق ما بعد الاحتلال الأمريكي ، وهي أن التحالف الكردستاني رقم لا يمكن استبعاده من معادلة أية حكومة يتم تشكيلها في بغداد ، لأن الحكومة ستسير في هذه الحالة على قدم واحدة أو في أحسن أحوالها ستكون بحاجة إلى عكازة خارجية لفرض واقع آخر فأي استبعاد للتحالف الكردستاني من أية تشكيلة وزارية سيدق ناقوس الخطر الذي يهدد وحدة العراق ويعد الأرضية المناسبة لتحويل الأمر الواقع في شمال العراق إلى حقيقة قانونية ، أو أن يحصل تغيير في توجه زعامة الحزبين الكرديين لجهة التعاطي مع الملف العراقي بطريقة جديدة ، أما إذا دخل التحالف الكردستاني الحوار مع القائمة أو القوائم المهيأة لتشكيل الحكومة ، فإنه سينتزع أكبر قدر من التنازلات بشأن الملفات المرحلة من البرلمان الحالي إلى البرلمان المقبل ، وربما يقع في المقدمة منها موضوع كركوك بالدرجة الأولى والمناطق التي يطلق عليها وصف المناطق المتنازع عليها وبخاصة إذا ما دخل بائتلاف مع قائمة الائتلاف الوطني العراقي ، التي تعد العدة للمضي بصفقة مع التحالف الكردستاني ، كركوك مقابل فدرالية الوسط والجنوب .

 

 نرى أن أيا من القوائم المتنافسة لن يكون بوسعها الفوز بأغلبية تمكنها من التفاوض مع الجانب الذي يحتكر تمثيل الأكراد من أجل تشكيل الحكومة المقبلة ، وفي حال تحقيق أي من قائمتي الائتلاف الوطني أو ائتلاف دولة القانون نتائج كاسحة ، فإنهما ستبتعدان عن بعضهما أكثر من ذي قبل ، أما إذا جاءت نتائجهما متواضعة فإنهما ستحاولان ترصين وضعهما المشترك بتحالف ما بعد الانتخابات ، مع زمن ليس قصيرا للتوصل إلى اتفاقات محددة تفرض التزامات مشتركة بينهما يمكن أن يكون منصب رئيس الوزراء واحدا من أبرز نطاق الاحتكاك وقد تخرجان بحل توفيقي وهو تقاسم المنصب لممثل من الائتلافين كل سنتين ، أما إذا برزت قائمة على غيرها دون أن تتمكن من المضي في طريق تشكيل الحكومة ، فإن الكتل الصغيرة ستلعب أدوارا رئيسة لزمن حتى تتحلل تحالفات وتنشأ على أنقاضها تحالفات جديدة ، أما القائمة العراقية إذا تمكنت من قطف ثمار أزمة اجتثاث بعض رموزها من خلال التعاطف الشعبي وتداعي الخطاب الطائفي وبروز خطاب وطني جامع ، فإنها قد تمد اليد لقائمة جواد البولاني بحثا عن تحالف قوي يمكن أن يقف بوجه رفع سقف طموحات الحركة الكردية التي تسعى للنفوذ من أية ثغرة عربية .

 

ومع ذلك فإن تحالفات الصراع الانتخابي هي غيرها تحالفات ما بعدها ، فلكل مرحلة قواعدها واشتراطاتها ، غير أن ذلك كله وأيا كانت النتائج لن يحمل عصا سحرية قادرة على حل مشاكل العراق أو حتى جزء من مشاكل العراق ، فالبرلمان الجديد سيرث إخفاقات البرلمان الحالي بسبب التجاذبات الحزبية المرتكزة على خلفيات طائفية أو عرقية ولن يتمكن من تمرير قانون واحد دون العودة إلى زعامات الكتل من أجل التوصل إلى توافقات الغرف المغلقة ، حتى ليبدو البرلمان وكأنه واجهة لتمرير صفقات تعقد خارجه ، أما الحكومة فستبقى ضعيفة لدورة انتخابية قادمة على الأقل ، لأن مظلة الكتلة ستبقى فوق رؤوس الوزراء لحمايتهم من عواقب الإخفاق ومن سلطة مجلس النواب وهيئة النزاهة بل ومن الرقابة الشعبية كلها .

 

الخاتمة : -

إن إجراء الانتخابات مع عدم وجود قانون للأحزاب يوضح مصادر تمويلها وطبيعة برامجها السياسية ، سيؤدي إلى ضخ أموال طائلة لشراء الأصوات ، كما أن عدم تشريع قانون السلوك الانتخابي سيعد سببا في استغلال الموقع الحكومي والمال العام في الدعاية الانتخابية ، يضاف إلى ذلك الثغرات الأساسية في قانون الانتخابات وهي اعتماده على القائمة المفتوحة دون غلق الباب على القائمة المغلقة في وقت واحد ، وهذه الازدواجية ستمثل عقبة كبيرة في اعتماد الكثير من الفاشلين على رصيد بعض الرموز السياسية أو الدينية ضمن قوائمهم ، وأخيرا فإن توزيع المقاعد التعويضية سيلحق حيفا كبيرا بالقوائم الصغيرة لصالح القوائم الكبيرة ، وسيكون إصلاح الضرر بعد وقوعه أقل نفعا من تجنب الوقوع في الخطأ ، وكان هذا متاحا ولكن إرادة حقيقية لتجاوزه لم تؤكد نفسها في أي وقت من الأوقات .

 

 





الجمعة٢٧ رجــــب ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٩ / تموز / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نــزار السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة