شبكة ذي قار
عـاجـل










البعــث بــــاق والطــريــق طــويلــــة / ج ٥

أبو مجاهد السلمي

 

لم يكن البعث حزباً بلا نظرية أو منهج يستند عليه ، و يكون دليله في تحقيق الأهداف التي ينشدها ويريد الوصول إليها ، بل أن له منهجا ونظرية وهذا ما يميزه عن باقي الأحزاب وخاصة الموسمية منها ، التي كانت ولا زالت تظهر اليوم وتختفي غدا ، فالقضية العربية التي مرت بسبات طويل منذ سقوط الدولة العربية العباسية في العام 656 هـ الموافق 1258 م ، والتي أطلق عليها المؤرخون بالفترة المظلمة عانت من القهر والظلم والاستعباد على يد الغرباء الأجانب، وتفككت أجزاء هذه الإمبراطورية الواسعة الأطراف إلى شكل دويلات وممالك ، كان من نتائجها استيلاء الدولة العثمانية على هذه الأجزاء بعد أن ظهرت كقوة في منطقة الشرق الأوسط ، لتبسط نفوذها على مدى أربعة قرون على أراضي وأبناء الأمة العربية ، وخلال هذه الفترة لعبت اللغة العربية التي وحدها القران الكريم دورا بارزا في صيانة الكيان القومي العربي، كما إن الغزو العثماني للأقطار العربية لم يحل محل حكم عربي وإنما حل محل سيطرة أجنبية كانت قائمة فعلا ، وبالرغم من ظهور الأفكار التي تنادي بالحرية والإصلاح في أوربا إلا أن ذلك لم يكن له اثر واضح في استعداد الأمة على النهوض مرة أخرى لتنتفض على هذا الواقع المرير وتبني نفسها من جديد ، وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر ظهرت الشيوعية وأطلق ماركس بيانه الأول بعد أن اتفق مع أنجلز في إرساء أسس هذه النظرية ، وقد دخلت هذه الأفكار إلى أقطار الوطن العربي في بدايات القرن العشرين ، وكان لها رواجا في مصر والعراق وبلاد الشام ، ورغم أنها ساهمت في إذكاء الوعي السياسي لدى أوساط المثقفين العرب الذين بدأوا في تشكيل الحلقات الأولى الخاصة بالحزب الشيوعي ، والتبشير بهذه المبادئ التي اعتمدت على المنهج العلمي الجدلي المادي، أي إنها أعطت للمادة الأهمية الكبرى في تفسير الظواهر الطبيعية والاجتماعية ، فمن النمط الصناعي ينتج نمط صناعي جديدا يكون هو السبب في تغيير الأنماط الاجتماعية الجديدة ، وألغت كل ما يتعلق بالأديان والتراث والتاريخ بل قالت إن الدين أفيون الشعوب، وان هذا الحزب ومنهجه لم يرتق بالعرب إلى مرتبة التوحد والتقدم وبناء النهضة الجديدة، لأسباب عديدة أولها انه لم يلد من رحم هذه الأمة ولم يكن منسجما مع خواصها، وبالتالي فهو مرتبط بالدولة التي توجه وتشرف على كل الأحزاب الشيوعية المحلية في دولها وتتأثر آراؤهم ومواقفهم بضوء سياسة ومواقف تلك الدولة ، فعندما انضم الاتحاد السوفيتي إلى دول الحلفاء في الحرب العالمية الثانية كان للحزب الشيوعي العراقي موقفا آخر تجاه الاحتلال البريطاني للعراق ووصف ثورة مايس التحررية بقيادة الضباط الأحرار بأنها مع المحور ومع الفاشية النازية ، كما أن موقفه تجاه القضية الفلسطينية كان متأثرا بموقف الاتحاد السوفيتي أيضا عندما اعترف بالكيان الصهيوني في العام 1948..

لكن الأمة العربية لم تكن عاجزة عن إنجاب الحزب المعبر عن آمالها وأمانيها وطموحاتها في الحياة الحرة الكريمة، فكانت ولادة البعث إيذانا بتحدي التجزئة وتحدي التبعية للأجنبي وتحدي القهر والتسلط والذل والمهانة التي تتلقاها الأمة على يد مستعمريها وإيذانا بحلول العصر الفكري للأمة وهي ترسي أهدافها وترسي نظريتها الفكرية الجديدة لقد بنى البعث فكره على المنهج ( العلمي الجدلي التاريخي ) خلافا للمنهج ( الجدلي العلمي المادي ) الذي بنت الشيوعية فكرها عليه فاكتشف في هذا المنهج قدرة الأمة على بعث رسالتها واكتشف إن هذه الرسالة خالدة خلود الدهر، كما حدد الطريق للوصول إلى هذه الرسالة وفي عدة أطوار يمتد كل طور على أساس المهام الموكلة لهذه الأمة والى قيام الساعة ، فالطور المطلق الذي بدا باختيار الله سبحانه وتعالى الأمة العربية بحمل رسالة السماء الخاتمة بدا مع وقت التنزيل ولا زال قائما وسيمضي إلى يوم البعث الموعود ، لان ما من امة تفهم وتدرك وتتفقه في هذا الدين أكثر من امة العرب المختارة في البداية لحمل الرسالة ، أما الطور الثاني فقد بدا منذ اكتشاف الأمة لنفسها أنها تعرضت إلى كثير من الطعن والاحتراب الذي كان سببا في تمزيقها والقضاء على وحدتها وخلافتها الأخيرة ، التي حكمت باسم الإسلام واتخذت بغداد عاصمة لها ، وسلبت منها حريتها وفرضت عليها الفترة المظلمة فرضا من أعدائها، فلما استفاقت بدا طورها الثاني وكان عبارة عن كتابات وافكار يتغنى بالماضي ويريد صناعة للحاضر لكن دون رؤية ودون مستلزمات ودون طريق ودون فكر نير يهتدى به ، فلما ولد البعث في السابع من نيسان / 1947 كان هو البداية لهذا الطور ، وربما يقول قائل وما مدة هذا الطور ؟ قرن أو قرنين وثلاث وللإجابة نقول إن هذا متروك لزمن تحقيق الثلاثية التي طرحها البعـــــــــــث وهي ( الوحدة والحرية والاشتراكية ) فعندما تتحقق هذه المبادئ يكون الطور الثاني قد شارف على نهاية حقبه ليبدأ طور ثالثا مستمدا من المنهج الذي اشرنا إليه في البداية وهو المنهج العلمي الجدلي التاريخي سماته ليواصل فعالياته وبناءاته الفكرية والسياسية والاجتماعية لماذا ؟ لان الرسالة بعدها لم تنتهي ولابد من ترسيخ منهج الأمة في ضوء معطيات المستقبل وإفرازاته وصياغة الأحكام التي تتعامل معه حفاظا على الرسالة الخالدة وفي جانبها الإنساني الكبير، فالبعث لم تكن له نظرية ذات أبعاد منتهية وإنما نظريته بنيت على أساس قانون الأبعاد المفتوحة النهايات أي في علم الرياضيات المجموعة غير المنتهية في الزمان لكنها تتحدد بالمكان فمكانها هو ساحة الأمة وترابها ، وباستطاعة الأمم الأخرى أن تتفاعل مع هذا الفكر الإنساني البارع لتستفيد منه في بناء تجربتها بعد أن تجد إن هذا الفكر له أبعاد إنسانية عميقة وقادر على مواجهة الحياة من أوسع أبوابها ، وهكذا تتجدد نهضة الأمة في كل طور، وبما أن تجارب الشعوب وثقافتها هي أممية الفائدة ولا حكر موجود عليها فالأمة العربية أيضا قادرة على التفاعل مع ثقافات ونتاجات الأمم الأخرى لكن بعين مبادئها وخواصها ، وهكذا تكون المتوالية الهندسية للأمة تتجدد في كل طور ودهر وان سر بقائها وديمومتها يكمن في روح هذا التجدد والابتكار على مستويات الفكر والعلم والاجتماع .

سنكمل في الحلقة القادمة.

 

                ٢١ / ١ / ٣٠٢٣






الاثنين ١ رجــب ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٣ / كانون الثاني / ٢٠٢٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أبو مجاهد السلمي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة