شبكة ذي قار
عـاجـل










الشاعرة العراقية ترى أن ما جرى في بلادها من سحقٍ للإنسان والأوطان سيظل مصدراً مهماً من مصادر تناسل الأسئلة الوجودية التي تقود إلى تجديد التشكلات الفنية.

شاعرة يمتزج صوتها بنداءات الموصل البعيدة

لا تذكر مدينة الموصل العراقية إلا وتذكر شاعرتها بشرى البستاني، ولا تذكر بشرى البستاني إلا وتذكر الموصل، لذلك فالحديث مع البستاني يطغى عليه ذكر الموصل، ولكن، منذ نيسان 2003 وحتى هذا اليوم، وبضمنها مجازر داعش في الموصل. البستاني المذبوحة بين مشهدين؛ مشهد العراق زاهياً بتقدمه العلمي والعمراني ومحط أنظار وآمال العرب النبلاء في الوطن العربي والعالم، وبين دم العراق والعراقيين وأبرياء الموصل المسفوح ظلماً، وأشلاء آثارها الحضارية والعمرانية المتناثرة على الأيادي القذرة لمؤامرات الكيد الأميركي الصهيوني الفارسي الداعشي.

وعلى الرغم من هذا التلازم الوثيق بين الشاعرة والمدينة وجدت بشرى البستاني نفسها مرغمة على مغادرة مدينتها والإقامة في العاصمة الأردنية عمان بعد أن ساد المدينة إجرام تنظيم داعش الإرهابي واستهدف إنسانها وحجارتها، التي عمرها آلاف السنين.

حراب داعش وموسليني
تقول الشاعرة بشرى البستاني إن الموصل أول مدن العراق تاريخياً وأقدم حضاراته وأثرى مكتباته ومتاحفه، هي المدينة التي أهدت العالم حريرها الموصلي “الموسليني” فأهداها حِرابَ داعش، عراقيةٌ زاهية بين ربيعين حيث دجلةُ الهادرُ بعنفوانِ الفرسانِ يقتحمُ الزمنَ لاوياً أعنةَ الغزاة، حتى التقمها حوتٌ ليس كالحيتان، أربعةٌ وثلاثون شهراً وأهلوها في شباك القتل بلا رواتب ولا دخول ولا ماء ولا كهرباء، لا أحد يسألُ كيف لتلك الملايين البريئة الفقيرة أن تعيش في ظل السحق الاقتصادي الظلامي.

تلك هي مكتبة آشور أعظم مكتبات الدنيا وأقدمها، قبل الميلاد بسبعة قرون، يعني أنها أقدم من مكتبة الإسكندرية بأربعة قرون. وذلك الثور المجنح (721 ق.م) وهو يبتسم لأنامل الموصليِّ التي صاغت ابتسامته، ثورٌ بأجنحة أسطورية تقي أمجادهم وسلطانهم من الحسد، وبعد ذلك كله، هو ثورٌ بوجه إنسانيّ يتبسّم، هل عرفت مخيلة العالم قبل العراقيين الموصليين ثوراً يتبسَّم؟

وتضيف “أرادوا إبادتها قتلاً لروح التاريخ في ذاكرة العراقيين وإنهاء لحسّهم الحضاري، كما أكد كيسنجر عراب السياسة الأميركية، فسحقوا بنيتها التحتية وحطموا مدارسها ومعاملها وأوقفوا أبناءها عن مواصلة تعليمهم ثلاث سنوات والعالم يتفرج. وقبل ذلك كله هدموا تراثها بسرقة آثارها وتكسير معالم فنونها، وباسم الفتن الطائفية والدينية المفتعلة شتتوا أهلها سعياً لإلغائها، لكني ابنة المدينة وأعرف أهلي العصيّين على الإبادة، كونهم مثالاً للجد والمثابرة والإخلاص للحياة واحترام عوامل الإيجاب فيها.

من هنا أجدني على يقين باندحار أعداء الموصل ومن خانوا العراق ولحمة شعبه وأعلنوا العداء لهويته العربية، وعلى يقين من انتصارنا على حقد الحلفاء والميليشيات الإيرانية الداعشية التي قتلت أعلام الموصل وعلماءها وقياداتها العسكرية وألحقت بإخوتنا المسيحيين أشرس الأذى والعدوان واغتصاب الممتلكات، وهم شركاء الأرض والوطن وأخوة المصير، لكنّ الموصل ستنتصرُ بقيمها السامية بالرغم من عوامل السلب والطغيان”.

الموصل بعد بغداد في عدد أدبائها ومثقفيها لكن أصواتهم ضاعت بين أصوات الرصاص والقنابل والصواريخ، في محنة تمر بها المدينة وهي أشد وأقسى من محنتها خلال الحصار الذي ضربه حولها الملك الفارسي نادر شاه قبل 274 سنة.

مثقفو الموصل مهجرون
لكن البستاني ترى مسوغاً لغياب أصوات مثقفي الموصل، فهي تقول “مثقفو الموصل وكتابها ونخبها وكفاءاتها ومعظم أكاديميّيها والإعلاميين فيها من صحافيين ومذيعين منذ الاحتلال الأميركي والداعشي تعرضوا لاضطهاداتٍ شتى من اغتيال وملاحقات وخطف ومداهمات لبيوتهم، فخرج معظمهم تاركين مدينتهم إلى المنافي خارج العراق وداخله، فهم الآن في الشتات، لكنهم لم ينسوا الموصل ولا ما حلَّ بها من دمار، وظلوا يفكرون بأهلهم في نينوى، وظلت قصائدهم تتغنى بصمودها عبر المحن التاريخية، التي مرت بها وبدجلتها الخالد وبآثارها الحضارية التي تعدّ الطليعة في الرموز الإنسانية، وبالربيعين فيها وبمنارتها الحدباء التي مازتها عن منائر العالم الإسلامي وجعلت جامعها النوري الكبير قبلة زوارها والمحتفين بعراقتها وعراقيتها، وقد قرأتم عن حملاتهم خارج العراق لإغاثة مكتبة جامعة الموصل وإعادة مجد كتبها ومصادرها بعد أن أحرقها داعش”.

الشاعر العراقي بين منفيين مذ غدت الأرض العراقية وإنسانها ضحية للبطش والنيران، ولذلك صار الشاعر في منفى الخارج ضحية الاغتراب والتلفت والشعور بالفقدان، من أجل هذا تطالب البستاني القصيدة، سواء كتبت في الداخل أم الخارج، أن تفي باشتراطات فنها وأن تكون قادرة على تجاوز راهنيتها

تعتقد البستاني أن تيارات الأدب وتوجهاته لا يمكنها الابتعاد عن بلورة ظروفه ومجمل الوقائع، ومن هنا ستبقى ذاكرة الأدب الموصلي وفنون هذه المدينة تحمل صور الكارثة التاريخية الكبرى التي تمر بها المدينة؛ عربات الدفع الخشبية المتجولة مغطاةً بالبطانيات يكشفها الرجلُ صارخاً هؤلاء أولادي وزوجتي وأمي. مكدسين كانوا على شاشة التلفاز، يبحث الشباب لهم عن قبور تواريهم.. أطفالٌ يموتون جوعاً لانعدام الحليب، بيوت بالمئات تحولت إلى أنقاض وتحتها بشر يستغيثون ولا مُغيث. المئات من الشهداء الأبرياء دُفنوا في حدائق بيوتهم وفي السراديب الموصلية، انعدام الأدوية ومن يستطيع أن ينسى؟

وهل للأدب غير المخيلة؟ وهل للمخيلة غير مطارق الذكرى وما يتيحه الواقع من إشارات كلما كان وجعها ضارياً تجذّرت وبحثت عن انفراجات وصارت مادة للقول والكتابة والفنون؟ إنّ كارثة الموصل تكشف عن زيف منظمات حقوق الإنسان وكذبها وأدلجتها لصالح المعتدين.

البستاني وفضاءات اللغة والحياة
ترى البستاني أن ما جرى في العراق من سحقٍ للإنسان والأوطان سيظل مصدراً مهماً من مصادر تناسل الأسئلة الوجودية والواقعية والإنسانية التي تقود بمجملها إلى تجديد التشكلات الفنية، ومن الموضوعية القول إن الشعر العراقي وفنونه كثيراً ما يفتقد الفرح لبشاعة المناخات الكارثية التي تكتنف وجوده وهيمنة الشعور بالفقدان عليه، فقدان الوطن والبيت وغياب الأحبة، إلا أن وعي الشاعر التاريخي وحسّه الحضاري كانا على الدوام كفيلين بضبط التوازن بين فعاليات الحدث الشعري، فظلت تجاربه الحقيقية متوهجة وهي مُشتتة للأسف.

وظلت لغته تكتنز طاقة تتّسم بالرمزية العالية والانزياحات المركّبة التي تثري مستويات تشكيله وتفتح قراءاته على التعددية، فضلاً عن الانحياز للحياة بالرغم من هيمنة عوامل السلب على الواقع العراقي المكسور بالحروب والاحتلالات، والحرص على الجهاز التنفّسي للشعر من التلوث بقيود الأدلجة الخانقة والبقاء في فضاء قضايا الإنسان والحرص على سلامة حياته وكرامته، لكن هذا النوع من الشعر لم يستطع أن ينال أيّ اهتمام بحثي مؤسساتي يحتفي به ويجمعه توثيقاً وتحليلاً ودراسة، بينما نجد الشعر الهلامي ومتواضع القدرات هو السائد على المستوى الإعلامي.

الشاعر العراقي بين منفيين مذ غدت الأرض العراقية وإنسانها ضحية للبطش والنيران، وصار الشاعرُ في منفى الخارج ضحية الاغتراب والتلفت والشعور بالفقدان، لذلك تطالب البستاني القصيدة، سواء كتبت في الداخل أم الخارج، ولكي تفي باشتراطات فنها أن تكون قادرة على تجاوز راهنيتها والعبور على اللحظة المحكومة بظرفها وملامح مرجعيتها الواقعية من أجل الوصول إلى هدف الفن الأسمى والأوسع أفقاً وهو يسعى للدفاع عن قضية الإنسان، من خلال القدرة فنياً على إقناع الآخر بعدالة تلك القضية لكن بطرائق شعرية. المهم، هنا، كيفية تحويل المكان إلى فعلٍ شعري في القصيدتين، وهل استطاعت عملية التحويل الشعري التي تعدُّ أهم السمات الإبداعية من إنجاز ذلك.

تقول البستاني “ظل الإنسان يُخضع العلاقات والنظم لفاعلية المكان ويلجأ إلى اللغة لإضفاء فاعليةٍ مكانية على التصورات الذهنية مما يجعل الأمكنة جزءاً مهماً من الشخصية الإنسانية، وعاكساً لسمات تلك الشخصية على المكان كذلك، بمعنى أننا ندافع في الحروب عن الأرض والطبيعة والشجر والمياه لأنها جزءٌ من إنسانيتنا. إننا نمنحها قدراً مهماً من طاقتنا وجهدنا وزمننا فتمنحنا بالمقابل ما يعمل على إدامة الحياة، فضلاً عن مدّنا بالطاقة الجمالية التي لا تقل أهمية عن الماء والغذاء”. مشيرة إلى أن طاقة هذه المعاني تتأتى من طاقة التشكيل وهو “يضمّ في داخله رؤى المبدع وذاكرته وأفق تلقيه، وذلك يعني بإيجاز حركية الحدث الإبداعي التي لا تجد فضاءها إلا بين اللغة والحياة”.

الأكاديمية في مواجهة الظواهر
ملأت البستاني الحياة الثقافية العراقية في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي بإبداعها الشعري، ثم انزوت مؤخراً، حتى قيل إنها هجرت الشعر، ولكنها تنفي ذلك وتؤكد “في سبعينات القرن الماضي كنت متفرغة للشعر والعمل الصحافي والجماهيري الذي تعلمت منه الكثير، لكني حالما التحقتُ بالدراسات العليا والعمل الجامعي في بداية الثمانينات تغيّر الأمر، ولم يعد زمني ملكاً للشعر وحده، وإن كان الشعر هو الهاجس الأصيل الذي حرّك ويحرك اشتغالاتي كلها."

البستاني تقول إن الموصل ستنتصر بقيمها السامية رغم عوامل السلب والطغيان، وكارثة الموصل تكشف عن زيف منظمات حقوق الإنسان وكذبها وأدلجتها لصالح المعتدين ( آخر ما تبقى من سور الموصل قلعة باشطابيا التاريخية ).

في هذه العشرية صدر لي ديوانان "زهر الحدائق" (1984 بغداد) الذي عبّر عن مشهد الحرب العراقية الإيرانية يوم تحوّل شباب العراق وأزهاره من حدائق العمل والبناء إلى جبهات القتال، و’أقبِّلُ كفَّ العراق’ (1988 بغداد) الذي شهد خروج العراق من تلك الحرب الطاحنة.

أما في العقد التسعيني من القرن العشرين فقد أخذني العملُ الأكاديمي كليّاً من الشعر والحياة العامة، فتفرغتُ لمواكبة المعرفة في الاختصاصين الدقيق والعام، وصارت لي قضيةٌ جديدة في الدراسات العليا هي قضية الطلبة ومواكبة مواضيعهم التي يجب أن تخرج من تقليديتها ومن الركود الذي كان يكتنف الأكاديميات في ذلك الوقت، فضلاً عن انصرافي لما يتطلبه العمل الأكاديمي المأزوم بفعاليات شتّى من بحث وتأليف وتقويم بحوث ومناقشة أطاريح وعمل في اللجان والمؤتمرات العلمية، وهكذا مرّ أكثر من أحدَ عشر عاماً من دون أن يصدر لي ديوان، لكنّ الشعر كان من أشدّ همومي المضمرة".

تروي “صادف يوماً أنْ التقيت في أحد المؤتمرات الأستاذ عادل إبراهيم مدير عام الشؤون الثقافية آنذاك، فبادرني بسؤال عددته فيما بعد أجمل تحية. أين هو الشعر، ارفضي استحواذ الأكاديمية على الشاعرة. وكانت هذه التحية مبادرة العودة إلى الشعر والاهتمام بحضوره موازياً للاهتمامات الأخرى، حينها تفرغت لجمع ديواني الذي صدر مطلع العام 2000 موسوما بـ’البحرُ يصطادُ الضفاف” (بغداد). وبعده كانت الهجمةُ الأمبريالية تشتدُّ على وطني وشعبي فكان ديوان ‘مكابدات الشجر’ (بغداد، 2002). أما ديوان ‘ما تركته الريح’ فصدر بطلب من اتحاد الأدباء والكتاب العرب في دمشق 2001″.

استشراف الهاوية
السيرة العلمية والأدبية للشاعرة البروفيسورة البستاني أستاذة الأدب والنقد في كلية الآداب بجامعة الموصل زاخرة بالإبداع والإنجازات الكثيرة، حصدت منها ألقاباً وأوسمة وتكريمات، مثل وسام الأستاذ المتميز الأول على الأكاديمية العراقية من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي للعام 2012، ووشاح الإبداع من رئيس جامعة الموصل لعام 2014. ووسام الأستاذ المتميز الأول على جامعة الموصل 2011، ووسام الأستاذ المتميز الأول على كلية الآداب 2000، ودرع الإبداع من رابطة الأكاديميين فرع نينوى 2014.

وسبع شارات للعلم والإبداع من وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ووزارة الثقافة والفنون ومن الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق ومن الاتحاد العام لنساء العراق ومنظمة حقوق الإنسان، وعشر دروع للإبداع من جامعات مختلفة، وصدر لها 16 ديواناً ومجموعة شعرية، بالإضافة إلى ثلاثة دواوين شعرية مشتركة، وعشرة كتب أكاديمية مشتركة، عدا عشرة كتب في النقد والحادي عشر “الشعرية وفتنة التشكيل” هو قيد الطبع الآن.

"إن أبشع ما يعيشه الإنسان في الأزمات هو استشراف الهاوية” تقول البستاني. وتضيف “إنني أحتاج إلى قدرة هائلة لمواصلة المقاومة ضدّ الانجرار وراء موجات اليأس الطاغية التي يعيشها الكثيرون في الأمة العربية المنكوبة بكوارثَ تكتنفها في الداخل وضربات متلاحقة تأتيها من الخارج، وضدَّ مشاعر الإحباط جرّاء الوقائع الجسيمة التي يعيشها أهلي في الموصل، وأهم طريقة لتجنب الاستسلام للكارثة هي الانهماك بالعمل”. انتهت البستاني من إعداد ديوان جديد للنشر بعنوان “هذا القرنفلُ ليس لي”. ولها في سلسلة “لأن” الأكاديمية التي تصدر عن دار السياب كتاب “الرواية العربية وتحولات ما بعد الحداثة” الذي انتهت البستاني من تحريره كما أنهت كتابها "الشعرية وفتنة التشكيل".





الاثنين ٢٩ جمادي الثانية ١٤٣٨ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٧ / أذار / ٢٠١٧ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب سلام الشماع نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة