شبكة ذي قار
عـاجـل










المقدمة


منذ منتصف كانون الأول عام 2010 والوطن العربي يتعرص لأكبر إعصار سياسي منذ نشوء الدولة الوطنية الحديثة على أشلاء الدولة العثمانية أو الحقبة الاستعمارية الغربية اللتين عانى منهما لزمن طويل جدا ، ولقد سادت في أقطار الوطن العربي نظم حكم متباينة التوجهات السياسية منها الملكية المحافظة ومنها الثورية التي وجدت لها رواجا بعد احتلال فلسطين وحصول ردات الفعل على النكبة في أكثر من بلد عربي لاسيما ما حصل في مصر في الثالث والعشرين من تموز / يوليو 1952 بقيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ، على حين ظل عدد غير يسير من الأقطار العربية خاضعا للسيطرة الاستعمارية المباشرة كما هو الحال في بلاد المغرب العربي وجنوب الجزيرة العربية والخليج العربي ، فاسترد البعض استقلاله بالتفاوض مع المستعمرين كما حصل في تونس والمغرب وليبيا على حين شهدت الجزائر ثورة مسلحة طويلة الأمد أصبحت هي وثورة مصر مصدر الهام لكثير من الثوار العرب في تغيير نظم الحكم الملكية القائمة إلى نظم حكم جمهورية ثورية ، تهدف على وفق الشعارات التي طرحتها إلى تحرير الإنسان من العبودية التي عانى منها تحت ظل نظم الحكم الفاسدة وتحرير الاقتصاد الوطني من السيطرة الأجنبية وكذلك إعادة توزيع الثروة على أبناء الشعب بعدالة ، ونتيجة عوامل ذاتية أو موضوعية أخفقت تجارب وحققت تجارب أخرى نجاحا أو نصف نجاح ، وهذا ما ترك انعكاسات متباينة لدى الشارع وانتعشت الأحزاب السرية في نشاطها ضد الحكومات القائمة فكان القمع الذي واجهت به الحكومات النشاط السياسي سببا في شيوع حالة العنف طريقا للوصول إلى الأهداف السياسية ، وبين العنف والعنف المضاد أضاع الوطن العربي عدة عقود من عمره دون أن يحقق تقدما اقتصاديا حقيقيا وانفتاحا سياسيا يستوعب كل الطاقات والفعاليات السياسية القادرة على الاسهام بعملية البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي .



التململ أول خطوة على طريق التغيير


بعد عقود طويلة من التقلب بين خيارات سياسية متباينة ومن نظم حكم تقادم عليها الزمن ، بدأت رياح جديدة تهب على الوطن العربي الذي خضع للجمهوريات الملكية والتي كلما طال أمد بقائها في الحكم كلما تعمقت أخطاؤها وانتشر فسادها وتأكد عجزها عن حل المشكلات القديمة أو المتولدة أو الناشئة ، وخاصة على صعيد حل الأزمات المعاشية للمواطن ، فقد ازداد الأغنياء غنى وأزداد الفقراء فقرا وحصرت الثورة بيد فئة محدودة من المقربين من القصور الرئاسية أو في ساكنيها ، ومع ثورة الاتصالات التي اختزلت المسافة بين مراكز التوجيه والمتلقي وعوضت لحدود كبيرة دور الأحزاب السياسية في التوعية والتحريض اليومي ومع شعور المواطن العربي بالقهر والظلم وأنه يستحق نظاما سياسيا أفضل مما هو متاح له ومع احساس طاغ بأن الفقر الذي تعاني منه الغالبية الساحقة من المواطنين ناجم أصلا عن الفساد المالي والإداري وعن مظلات الحماية التي توفرها النظم للحواشي والمقربين اندلعت أولى الاحتجاجات الصاخبة في تونس وبصورة عفوية حين أحرق بائع متجول هناك نفسه حتى الموت احتجاجا على اهانة كان تعرض لها على يد موظفي البلدية الذين صادروا عربته التي يبيع فيها الفاكهة والخضار ، وقعت حالة الاحتجاج تلك وسيكون لها ما بعدها من تأثيرات تجاوزت الحدود السياسية التي رسمها المستعمرون البريطانيون والفرنسيون بين أقطار الوطن العربي على الرغم من أن محمد بو عزيزي ذهب ولم يعرف أنه أحرق بلدانا كانت تنتظر فرصة الخلاص على يد مسيحها الجديد الذي يحمل صليبه على كتفه ، ومع انتشار أجهزة التقاط الفضائيات فقد أصبح التواصل ممكنا بين المحتجين من جهة وبينهم وبين المواطن العربي في كل مكان ، فسقط الرئيس التونسي بقوة الضغط الشعبي الجارف الذي كان يتأجج حماسه عندما كان الحكام يجدون أن سلطتهم في القمع أصبحت تحت الرصد اليومي ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة ، فتهاوت قبضة الحكام بمرور وقت قصير جدا وترك بن علي بلاده خلسة دون وداع ، ولم تمض مدة طويلة إلا وسقط الرئيس المصري حسني مبارك نتيجة ثورة شعبية كبرى تواصلت دون انقطاع برهن فيها المصريون على وعي سياسي عال حينما حافظوا على المتحف المصري والممتلكات الخاصة والعامة .


لم تكن مصر تحت الاحتلال وكذلك الحال مع تونس ، ولم يعان أي منهما مما تعرض له العراق من محاصصة طائفية عرقية ، كما أن الفساد المالي الذي عاني منه العراق في ظل الاحتلال وعمليته السياسية وضعه بجدارة على رأس قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم ، مما يعني أن أسباب الغضب في العراق هي أكثر عمقا من أي بلد آخر ، وأن الظلم في العراق لم يسجل مثله في أكثر البلدان ممارسة للقمع وخرقا لمبادئ حقوق الإنسان ، فكان طبيعيا أن تصل إليه رياح التغيير التي هبت على المنطقة بقوة ، بل أن الأصل أن تنطلق منه لتهب على الآخرين خاصة وأن مقاومته المسلحة انطلقت لمواجهة الاحتلال وتداعياته السياسية بعيد الاحتلال مباشرة ، فلماذا تأخرت انتفاضة الشعب العراقي كثيرا عن بقية الانتفاضات في الوطن العربي ؟ للإجابة على هذا السؤال لا بد من العودة إلى طبيعة الخطاب الطائفي الذي ساد الشارع العراقي بفعل القوى السياسية التي سلمها المحتلون الأمريكيون مقاليد السلطة في العراق بعد الاحتلال ، فقد أشاعت جوا مشحونا بالبغضاء والشحن الطائفي يحاول أن يكرس تصورا خاطئا بأن أي تحرك على مستوى الشارع الشيعي سيكون بمثابة انتحار سياسي للطائفة وتخليا عن المكاسب التي تحققت لها وعودة إلى أجواء المظلومية التي عانى منها المذهب طويلا ، ولكن المعاناة المشتركة والظلم والفقر الواقع على المجتمع العراقي كله لم يدع فرصة للحكومة أن تتحكم بردود الفعل الشعبية إلى الأبد ولهذا كان مفاجئا لها أن تنطلق التظاهرات والاحتجاجات في الكوت والتي سقط فيها ثمانية قتلى ومنها انتقلت إلى البصرة والشطرة ومدن كلها في جنوب العراق ذي الأغلبية الشيعية مما اضطر رئيس الحكومة إلى الطلب من المحافظين تقديم استقالتيهما ، وكان طبيعيا أن تأخذ التظاهرات في مراحلها الأولى قضايا مطلبية مثل توفير الخدمات العامة كالكهرباء والماء الصالح للشرب ونشر التعليم وتحسين مستوياته والخدمات الطبية الوقائية والعلاجية ، ولكنها ومع الزمن ستتحول تدريجيا إلى احتجاجات ذات أهداف سياسية لاسيما وأن الاجراءات القمعية ومواجهة التظاهرات بالقمع والغازات المسيلة للدموع وقيام الطائرات المروحية برش الغبار الملوث وكذلك رش السيارات الحوضية للماء الساخن والمخلوط بمواد كيمياوية كريهة الرائحة على المتظاهرين تلك الممارسات التي قامت بهاذ أجهزة السلطة لم تترك خيارا للشارع إلا مواجهة ارهاب الدولة بشعارات سياسية تضع في مقدمتها إيقاف الاعتقالات العشوائية وإطلاق سراح المعتقلين وإغلاق السجون السرية وتسريع محاكمة المتهمين ، وإطلاق الحريات العامة وإعادة الحقوق للمفصولين وحل أزمة السكن والقضاء على الفساد المالي والإداري المستشري في هياكل الدولة والقضاء على أزمة البطالة التي بدأت تنخر المجتمع وتودي به إلى الجريمة المنظمة ، لقد جرى كل ذلك بتزامن مع تظاهرات الاحتجاج التي اندلعت في ستين مدينة عراقية توحد الخطاب الوطني فيها منحيا الخطاب الطائف والعرقي جانبا ولمواجهة هذا التطور الايجابي العميق تراوحت ردود الفعل التي بذلتها السلطة بين دعوة جلال الطالباني لاعتبار كركوك قدس الأكراد وذلك لاستدراج ردود فعل مضادة عساها أن توحد موقف الأكراد حول قضية كان ينظر إليها على الدوام من قبل جميع الأطراف على أنها قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في أية لحظة ، ولكن الثقل الكردي الجديد المتمثل بشباب الانتفاضة التي انطلقت من السليمانية وانتشرت في كثير من المدن الكردية كانت بالمرصاد لهذه الدعوة المشبوهة فقد ردت حركة التغيير على دعوة جلال الطالباني بأن كركوك مدينة عراقية لا يجوز توظيفها للكسب السياسي ، أما الأحزاب الطائفية فقد وجدت في أحداث البحرين ودخول قوات درع الجزيرة بموجب ميثاق مجلس التعاون الخليجي فرصة لإعادة الاصطفافات الطائفية الكفيلة بنسف الخطاب الوطني الذي طغى على كل الخطابات التقسيمية لبنية المجتمع العراقي ، فقرر مجلس النواب وفي خطوة مسرحية ارجاء جلساته لعشرة أيام تضامنا مع ما أسماه بثورة الشعب البحريني ، لكن هذه الخطوة وما رافقها من استعراضات بكائية لم يستمر إلا ليوم أو بعض يوم إذ واجه العراقيون الغاضبون في النجف بالذات ومدن الفرات الأوسط والجنوب ذلك القرار بالاحتجاج الشديد والاستخفاف مؤكدين على أن الاهتمام يجب أن يتركز على قضايا العراق المطروحة .


وتعرض المتظاهرون في كل المدن العراقية إلى مضايقات منعت الآلاف منهم من الوصول إلى مراكز التجمع الرئيسة ومنع الصحفيون من تغطية أخبار الاحتجاجات وتم احتلال مبنى قناة الديار واحتجاز العاملين فيها وتحطيم بعض معداتها الفنية وتم العبث بمحتويات مكاتبها حينما اكتشفت أجهزة الأمن أن تلك القناة تقوم بتغطية الحدث عن طريق نصب أجهزة التصوير على سطح بنايتها الواقعة على نهر دجلة في منطقة كرادة مريم مجاور جسر الجمهورية ، وفي سابقة غير معهودة قام أحد أعضاء مجلس النواب من حزب الدعوة ومقرب من رئيس الوزراء نوري المالكي بالإشراف المباشر على توجيه أجهزة الأمن لتوجيه آلياتها في قمع المتظاهرين الذين سقط منهم في ساحة التحرير أربعة قتلى بينهم صحفي وعشرات الجرحى ، ويبدو أن اجراءات الحكومة في إغلاق الجسور والطرق المؤدية إلى ساحة التحرير كانت بمثابة إجراء عصبي على تمرد المتظاهرين على الفتوى الدينية وقرار المالكي شخصيا بعدم التظاهر في خطاب علني وغاضب ، فقد وجدت الحكومة في خروج التظاهرات تحديا قويا لسلطتها المعنوية والسياسية .


وفي الموصل وأربيل وسامراء وقعت مواجهات عنيفة بين المتظاهرين وقوات حكومية مرتبطة بالقائد العام للقوات المسلحة ، وقامت تلك القوات وبشكل متعمد بالاعتداء على الممتلكات العامة من أجل أن تحصل على المبرر اللازم لتوجيه ضربة للتظاهرات ، ولكن محافظ نينوى فضح دور الفرقة الثانية ودور قائدها في إصدار الأوامر لاقتحام مبنى المحافظة وإحراق قسم العقود فيه ، وسقط نتيجة ذلك عدد من القتلى والجرحى ، وعلى العموم يمكن حصر الخسائر البشرية خلال تظاهرات الاحتجاج العراقية المتواصلة بحدود 22 قتيلا على وفق الأرقام الرسمية التي كما هو معروف عنها تخفي الأرقام الحقيقية ولا تسرب إلا القدر القليل من المعلومات بحيث أصبحت أحاديث رئيس الوزراء والمتحدث باسم قيادة عمليات بغداد محلا لتندر العراقيين ، لأنهما يتعاملان مع الرأي العام وكأننا نعيش في بداية القرن العشرين وليس بداية القرن الحادي والعشرين ، فالمكابرة التي يحملها المتحدثون الرسميون باسم الحكومة تفوق في صلفها تاريخ وزير دعاية هتلر الذي كان يؤكد على اعتماد منهج الكذب في ما يطرح ويريد من الآخرين تصديقه .

أما المعتقلون فقد بلغوا المئات أثناء التظاهرات نفسها وتم اخفاء عدد من الصحفيين والناشطين السياسيين بعد اختطافهم من وسط التظاهرات ليضافوا إلى الآلاف في سجون سرية تخضع بصورة مباشرة لمكتب المالكي مثل سجن مطار المثنى وهو المقر الرئيس لحزب الدعوة ( حزب رئيس الوزراء ) أو سجن الشرف الواقع تحت كراج سيارات رئاسة الوزراء في المنطقة الخضراء ، ومن مفارقات الزمن الديمقراطي أن وزير العدل حسن الشمري وهو من التحالف الذي جاء بنوري المالكي لرئاسة الحكومة ، لم يكلف نفسه عناء البحث عن حل جذري لمشكلة مئات الآلاف من المعتقلين في السجون العلنية والسرية بفتح ملفاتهم أمام القضاء النزيه ، بل اختار اقصر الطرق وهو بناء المزيد من السجون الجديدة لاستيعاب العدد الهائل من المعتقلين الذين ضاقت بهم السجون الحالية ومعظمهم مضى عليه وراء القضبان وتحت تعذيب منهجي رهيب بأوامر عليا عدة سنوات .


الخاتمة


هذا حال العراق فما هو المتوقع بشأن تظاهرات الاحتجاج الشعبية ؟ وهل تنفع معها وعود غامضة بالإصلاح ؟ وهل يستطيع المالكي خلال 100 يوم من تحسين أداء أفراد حكومته ؟


غالب الظن أن الاحتجاجات ستستمر لأن أسبابها ما تزال قائمة ولأن السلطة القائمة بدلا من أخذ مطالب المحتجين على محمل الجد فإنها استخفت بهم وبمطالبهم وذهبت إلى خيار القمع الذي أدى إلى سفك الدماء ، ولأن الدم يجر وراءه دما كثيرا فمن غير المتوقع أن تذهب دماء الضحايا سدى خاصة عند شعب كالشعب العراقي الذي ينتمي أبناؤه إلى عشائر ستبقى تحتفظ بحقها للثأر لمن فقدته من أبنائها على الرغم من الرشاوى التي دفعها المالكي لبعض شيوخ العشائر ومشايخ الدين طمعا في وقوفهم إلى جانبه في اختبار قوة الإرادات الذي جاء دون استعداد مبكر ، واستطاع تحييد البعض منهم ولكن معظمهم رفض خيانة الدور المناط به والمسؤولية الأخلاقية التي تقع على عاتقه ، ولم تنفع اجراءات حظر التجول وإغلاق الطرق والجسور وجعل يوم الجمعة يوم دوام رسمي في تقليل عدد المشاركين في تظاهرات أيام الغضب ، فأسباب العراقيين للتظاهر أكبر وأكثر بكثير من الأسباب التي جعلت الشعب التونسي يسقط رئيسه زين العابدين بن علي ومن الأسباب التي جعلت الشعب المصري يرابط في ميدان التحرير حتى أسقط الرئيس حسني مبارك ، فهل تحمل تظاهرات العراق هدفا محددا بشأن العملية السياسية التي جاء بها المحتلون الأمريكيون ؟ أم أن آخر مدى ستصل إليه المزاوجة بين المطالب السياسية والخدمية تسمح ببقاء المالكي أربع سنوات أخرى ؟


يطرح المراقبون سؤالا مشروعا عن موقف الولايات المتحدة حول ما يجري في دول عربية متعددة ، فلماذا جيشت الولايات المتحدة قواتها وقوات حلف شمال الأطلسي لمهاجمة ليبيا بحجة حماية المدنيين ، ولماذا وقفت مع تظاهرات البحرين ولم يسقط فيها إلا أربعة قتلى وتجاهلت سقوط أكثر من عشرين قتيلا في العراق ؟ ولماذا وقفت إلى جانب تظاهرات الشعبين التونسي والمصري وطالبت رئيسيهما بسماع صوت شعبيهما ولم تفعل ذلك مع العراق ؟


من المفهوم أن الولايات المتحدة ما تزال تتحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية عن تجربة العراق وهي تزعم أن هذه التجربة من بين أنجح التجارب الديمقراطية في العالم ، وعلى ذلك فإنها مضطرة وبحكم سيطرتها على ماكنة الإعلام العربية والدولية أن تطمس معالم الثورة العراقية ما استطاعت إلى ذلك سبيلا ، حتى إذا اضطرت للكيل بألف مكيال ، لأنها لا تستطيع أن تعترف بإخفاق تجربة راهنت عليها طويلا وجازفت بسمعتها ووضعتها في الميزان .




* ورقة مقدمة لندوة المركز العراقي للدراسات الاستراتيجية المنعقدة بعمان في 22/3/2011

 

 





السبت٢١ ربيع الثاني ١٤٣٢ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٦ / أذار / ٢٠١١م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نزار السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة