من مقدمة كتاب (الرِّهان الثَّالث)
الصادر في صنعاء، عام 2012م
أ. د. أحمد قايد الصايدي
بما أن الكلمة هي أحد الأسلحة، التي يمكن مقاومة الباطل بها وتغييره، فإن الواجب يحتم على كل ملتزم بقضايا وطنه أن يستخدمها، دون تردد. صحيح أنها قد امتهنت في زماننا هذا، وسُخّرت للدجل والنفاق والكذب والتضليل والتزوير، لكنها تبقى بطبيعتها سلاحاً محايداً، يمكن أن يسخر لخدمة الباطل، ويمكن أن ينتصر به الحق. فإذا كان الكاتب قد حدد موقفه واختار موقعه منذ البدء، ووضع نصب عينيه هدفاً، يستحق أن توظف الكلمة لخدمته، وهو الوطن بمعناه الخاص (اليمن)، والوطن بمعناه العام (الوطن العربي الكبير)، فإن الكلمة تصبح بالنسبة له سلاحاً وصدى في آن واحد: سلاح مقاومة، وصدى لموقف.
لقد أُشرعت آلاف الأقلام، على امتداد ساحة الوطن اليمني والعربي، محددة خياراتها مدركة رسالتها، فخاضت غمار المقاومة، جنباً إلى جنب مع أشرف من أنجبتهم الأمة، في هذا الزمان الجائر، أولئك الذين، بدلاً من حمل أقلامهم، حملوا أرواحهم على أكفهم في ساحات العز والخلود، في العراق وفلسطين ولبنان وغيرها من ساحات الوطن العربي، فكانوا أشرف حامل لأغلى محمول، في زمن أصبحت المقاومة، بمختلف أشكالها، حبل النجاة الوحيد لهذه الأمة، وطريق الأمل، نحو انتشالها من واقعها المتردي، وإخراجها من ليلها الذي طال، إلى فجرها المرتقب.
لقد حاولت، كما حاول كثيرون غيري، على مدى عقود من الزمن، أن أستخدم الكلمة وسيلة للمقاومة والتغيير، حيث بدا لي أن استخدام اليد، في ظل وعي سياسي متدني ووعي ثقافي أكثر تدنياً، وبنية اجتماعية، ينتمي معظمها إلى ما قبل المجتمع المدني، تحركها عصبياتها وانتماءاتها القبلية أو المناطقية الضيقة، أكثر مما يحركها وعيها وانتماؤها الوطني العام، بدا لي استخدام اليد في أوضاع كهذه الأوضاع، محفوفاً بالمخاطر وغير مضمون النتائج. ومع أن التغيير باليد هو أعلى في سلم الإيمان من التغيير بالكلمة، فإن الكلمة في سلم التدرج العملي تسبق اليد، فلا تستخدم اليد إلا عندما تعجز الكلمة عن أداء دورها ويضع الطرف المهيمن الطرف الأضعف في زاوية ضيقة، يحشره فيها ويسد أمامه كل سبيل للتغيير.
وقد تراوحت كتابات المخلصين في لهجتها، بين الحدة وبين الهدوء، بين الشدة وبين المرونة التي بلغت مستوى مخاطبة الحاكم بالنصح والموعظة الحسنة. ولئن بدت نبرة كلماتنا غير هادئة، أحياناً، فإن هذا أمر يمكن فهمه. فحدة الكلمة ومرارة العبارة إنما هما تعبير عن حجم الألم، الذي يعتمل داخل إنسان يرى أحلامه الوطنية تذبح كل يوم وحاضره يسرق ومستقبل أبنائه يصادر مسبقاً.
نعم استخدمت سلاح الكلمة، على مدى عقود من الزمن، في مقالات، ماتزال مضامينها صالحة اليوم، كما كانت صالحة عند كتابتها، بل تأكدت صحة مضامينها مع مرور السنين، وتراكم الأخطاء وتضخم المشكلات. ومع أن سلاح الكلمة، حتى الآن، كما يبدو، لم يقطع أرضاً ولم يبق ظهراً، فإن بصيصاً من الأمل مايزال يلوح في الأفق، يغذيه إحساس بأن من بيدهم سلطة التغيير السلمي الهادئ، لن يلبثوا أن يدركوا بأن بقاء الحال من المحال، وأن استمرارهم على نفس النهج سيدفع حتماً باتجاه التغيير باليد، بما ينطوي عليه من كوارث للشعب والوطن، للحاكم والمحكوم.
لقد بذل الخيرون في هذا الوطن، وما أكثرهم، جهوداً لإيقاظ العقل وتحفيزه على العمل، بعيداً عن الفعل ورد الفعل المنفعل، مدركين بأن التغيير السلمي هو وحده الذي سيجنبنا ويلات، أصبحت نذرها تدق الأبواب، وأن الوطن أغلى وأثمن من كل المصالح الفردية والأنانيات الضارة والطموحات غير المشروعة. فبدون الوطن الواحد ودولته القوية، دولة النظام والقانون والعدل، لا مصالح ولا طموحات ولا أمجاد ولا حياة كريمة لأحد.
وفي تقديري أن من بيدهم الحل والعقد في مواقع السلطة، في اليمن وفي الوطن العربي عموماً، لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يكترثون بما يقرأونه، ولا يأخذون بمأخذ الجد آراء غيرهم، ممن يشغلهم هم الوطن ومستقبل أبنائه، لاسيما آراء من لا يأبهون بمنصب ولا يطمعون بثروة ولا يتزلفون لحاكم، وهم كثر في هذا الوطن، والحمد لله. وقد آن الأوان، لمصلحة الوطن ولمصلحة ذوي السلطان أيضاً، إن كانوا يعقلون، أن يغيروا من نهجهم، تفكيراً وعملاً، وأن ينظروا إلى الدولة ووظائفها نظرة أخرى، ترتقي إلى النظرة الحديثة، باعتبارها جهاز خدمات عامة وتنمية وعدل وأمن، لا أداة هيمنة ومصدر إثراء لقلة قليلة من الناس، على حساب الشعب كله.