في سبيل البعث
الجزء الأول
في الاشتراكية العربية
موقفنا من النظرية الشيوعية
ان قوة النظرية الشيوعية في البلاد العربية ناتجة عن ضعف الفكر بصورة عامة، وعن ضعف الفكرة القومية بصورة خاصة.
وسنتناول فيما يلي بعض النقاط التي تتعارض فيها الشيوعية مع الفكرة العربية. ونحن نعتقد ان تأثيرات النظرية الشيوعية ستبقى سلبية على القومية العربية، ما لم تعبر هذه القومية عن نفسها بنظرية علمية متماسكة شاملة، قابلة لان تتحقق في العمل المنظم.
1– الشيوعية غربية
الشيوعية هي وليدة الفكر الأوربي والأوضاع الأوروبية الحديثة. وكل الذين تناولوا الماركسية بالشرح والتصحيح أرجعوها إلى أصولها الأوروبية الصرفة، فهي في نظرهم تمثل النزعة “الانسانية“ التي ظهرت في اوروبا في القرن السادس عشر كبعث وتجديد لروح الحضارة الاغريقية اللاتينية. وهي وليدة القرن الثامن عشر وفلسفته العقلانية المجردة التي تلخصت في مبادئ الثورة الافرنسية. وهي اخيرا نتيجة لتقدم الصناعة العجيب في القرن الماضي ولما رافقه من نظريات اقتصادية ومذاهب اجتماعية.
فالشيوعية تتصل بألمانيا بواسطة فلسفة “هيجل“ وبفرنسا بواسطة مبادئ الثورة والمذاهب الاشتراكية التي تفرعت عنها، وبانكلترا بواسطة الثورة الصناعية وما انتجته من نظريات في الاقتصاد. اما في روسيا فللشيوعية صلة بروحها القومية الخالصة، يعرف ذلك من اطلع على كتابات تولستوي ودوستويفسكي. والحق ان الشيوعية في روسيا هي مزيج من التصوف الروسي والعلم الاوروبي.
2– الشيوعية رسالة تنفي الرسالة العربية الخالدة
ان الشيوعيين اذ يدعون العرب الى نظريتهم، يتجاهلون حقيقتين:
1 – ان للامة العربية تاريخا مستقلا عن التاريخ الغربي الاوروبي وان النظريات والانظمة المنبعثة من حضارة الغرب واوضاعه لا تلبي حاجات البيئة العربية ولا تلقى فيها تقبلا.
2- ان الامة العربية ليست كأية امة صغيرة ثانوية، يمكنها ان تتبنى رسالة غير رسالاتها الخاصة، وان تسير في ركاب امة اخرى وتعيش من فضلاتها.
الشيوعية ليست مجرد نظام اقتصادي بل هي رسالة، رسالة مادية اممية تنفي حقيقة القوميات في العالم وتنكر الأسس الروحية والوشائج التاريخية التي تقوم عليها الأمة، فالعرب اذن مخيرون بين الاممية المصطنعة وبين انسانيتهم الحية المتحققة ضمن قوميتهم كنتيجة لنضج هذه القومية وتكاملها. وان حرص العرب على رسالتهم الخاصة بهم وعلى استقلال شخصيتهم لا يعني منهم تعصبا ورغبة في الانعزال والجمود، ففي حاضرهم وماضيهم ما يكذب هذه التهمة. ولكنهم مقتنعون بأن كل اصلاح او تقدم لحياتهم لا يستمد دوافعه وغايته من عقيدتهم القومية، ومن الايمان بوجود رسالة عربية خالدة سيكون تقدما سطحيا يعجز عن توحيدهم ورفعهم الى مستوى الابداع والبطولة، ويتركهم افرادا متنافرين، تستعبدهم الانانية وشهوة المادة.
3– الشيوعية تربط العرب بالعالم ربطا متحزبا خطرا
يقرر الشيوعيون ان العرب عاجزون عن تحقيق استقلالهم ونهضتهم القومية اذا لم يربطوا مصيرهم بمصير العالم، ولم يأخذوا بأسباب الحضارة الحديثة، ثم يستنتجون من ذلك نتيجة خاطئة مغرضة: وهي انهم وحدهم يستطيعون ايجاد هذا الارتباط المزدوج، بأن يلحقوا العرب فكريا بالنظرية الشيوعية وان يلحقوهم سياسيا بمنظمات الاممية الثالثة أي بسياسة الاتحاد السوفييتي. ولكن العرب لا ينكرون ضرورة اتصالهم بالعالم الحديث، الا انهم لا يرون امكان الافادة من الاتصال الثقافي الا اذا تكونت شخصيتهم القومية وبلغت حدا كافيا من النمو والوضوح والوعي لخصائصها يسمح لها بتمثل الافكار الاجنبية وتحويلها الى ما يزيد في نموها وتوضيح اتجاهها. لذلك هم يشعرون بخطر الارتباط الفكري المتحزب عليهم، لانه من جهة يهدد بطمس شخصيتهم القومية او على الأقل يعوق تفتحها، ومن جهة اخرى يفرض على الفكر العربي الحديث، وهو بعد في اول يقظته، نظرة متحزبة تقضي على حريته ونزاهته، وتدفعه في طريق التعسف والتعصب والخطأ. اما من جهة الاتصال السياسي فالعرب لا يطلبون اكثر من ان يكون تحالفهم مع الدول حرا، وان يستلهموا فيه مصلحتهم القومية قبل كل شيء.
4– الشيوعية لا تفهم امراض المجتمع العربي
النظرية الشيوعية وليدة الغرب وقومياته المتعصبة المتناحرة، وصناعته المتضخمة. لذلك فهي في البلاد العربية تحارب امراضا غير موجودة، أي انها تلهي العرب عن محاربة امراضهم الحقيقية. فالشيوعية تريد ان تهدم العصبية القومية في امة لم تتكون قوميتها بعد، وتخشى من هذه العصبية على الامم الاخرى وعلى السلام العالمي في وقت لا يزال العرب فيه محكومين من قبل غيرهم.
واخيرا فالشيوعية تمنع العرب من التفكير في اشتراكيتهم والاهتداء اليها، لأنها بادعائها ان الاشتراكية هي الماركسية، وان لا اشتراكية الا فيها وبها، قد شوهت الاشتراكية الصحيحة التي يحتاجها العرب. والماركسية، كما رأينا، نظام كلي أممي يتجاوز السياسة والاقتصاد الى الاخلاق والدين وكل ناحية من نواحي الحياة، في حين ان الاشتركية ليست اكثر من نظام اقتصادي مرن متكيف مع حاجات كل امة. وليس بعسير على العرب ان يهتدوا الى اشتراكية عربية مستمدة من روحهم وحاجات مجتمعهم ونهضتهم الحديثة، تقتصر على ايجاد تنظيم اقتصادي عقلاني عادل يحول دون الاحقاد والنزاعات الداخلية ودون استغلال طبقة لأخرى وما ينتج عن هذا الاستغلال من فقر وجهل وشلل لنشاط أكثرية افراد الشعب العربي، وهكذا تكون هذه الاشتراكية خادمة للقومية العربية، وعنصرا هاما في بعثها وتحقيقها.
عام 1944
معالم الاشتراكية العربية
اذا اردنا ان نعرف اشتراكيتنا تعريفا يميزها عن الاشتراكية الغربية، لا بل لنا من ان نلقي نظرة على نشأة الاشتراكية في اوروبا وعلى الشروط الفكرية والروحية والاقتصادية التي ادت الى ظهورها، ثم ننتقل بعد ذلك الى الكلام عن مجتمعنا العربي فنميز وضعه وشرطه وننظر فيما اذا كان الحل الذي يصلح للامم الغربية يمكن ان يكون صالحا لنا ايضا، لان اشتراكية البلاد العربية يجب ان تلبي الحاجات العربية وتراعي جميع الشروط والظروف المحيطة بالأمة العربية في مرحلتها الحاضرة.
ظهور الاشتراكية الغربية- ظهرت الاشتراكية في الغرب كحركة منظمة على اثر ظهور الصناعة الكبرى. والصناعة الكبرى وليدة الاختراعات الحديثة، بصورة خاصة اختراع الآلة، فنتج عن ذلك ان نشأت المصانع الكبيرة واجتذبت اليها العدد الغفير من العمال، وتوسعت المدن وتشكلت هذه الجماهير من العمال التي تميز العصر الحديث في الغرب خاصة وفي العالم بصورة عامة. فقد كان لا بد لهذه الصناعة الكبرى من أيد عاملة كثيرة، فترك الفلاحون قراهم وزراعتهم، وهاجر صغار الصناع واصحاب الحرف الصغيرة المستقلة صناعتهم وحرفهم اضطرارا نتيجة للمزاحمة القاسية التي فرضتها عليهم الصناعة الكبرى ذات رؤوس الاموال الضخمة المكتلة، واضطروا الى ان يشتغلوا كعمال مأجورين، بعد ان كان للفلاح أرضه وأسرته ووسطه الاجتماعي وتقاليده الروحية، وبعد ان كان للصانع الصغير المستقل حريته ولذته في العمل.
لقد اصبح جميع هؤلاء بمثابة آلات بشرية تخضع لمقتضيات الصناعة الكبرى الضخمة، وكان عليهم ان يهجروا حياتهم الماضية ويرضوا بهذا المصير البائس، فنشأت في المدن جماهير تميزت بفقدان الأواصر الاجتماعية، واتصفت بالنقمة واليأس، ثم دخلها المهاجرون المشردون من شتى الآفاق والبلدان، فلم يكن يجمع بين هذا العدد الكبير من العمال أي رابط كرابط الجنس والتاريخ والبيئة الاجتماعية، والصلة الوحيدة التي كانت تضمهم هي شيء سلبي الا وهو اليأس والنقمة.
من وحي هذا الوسط السلبي ظهرت النظريات الاشتراكية فانطبعت بطابعه وأفصحت عن حاجاته، فكانت النظريات الاشتراكية نظريات أممية لا تعترف بالوطن، منفصلة عن كل رابطة تاريخية او اجتماعية، متمردة على الدين السائد والاخلاق المعروفة، وبالجملة كانت ثورية الى ابعد حد، وكانت على حق في اتخاذها هذا الشكل، وفي اتجاهها في هذا السبيل.
ومنذ أوائل القرن الماضي بدأت البلاد الغربية والدول الكبرى مرحلة توسع وتخمة بعد ان استكملت شروطها القومية، وكانت الغاية من هذا التوسع في العالم هي ايجاد مصرف لنشاطها العسكري والاقتصادي. وكانت الطبقات الرأسمالية المتمولة هي المسيطرة على الدولة، والحكومة ليست الا ممثلة او مندوبة من قبل هذه الطبقة فنتج عن ذلك افتراق تام بين طبقتين من المجتمع، الطبقة المتمولة المستثمرة، والطبقة الفقيرة المستثمَرة، وأدت نقمة هذه الطبقة الاخيرة على المتمولين واصحاب الصناعات الكبرى الى النقمة على الأمة كلها وعلى الوطن، فاصطبغت الاشتراكية هناك بالصبغة الاممية المعادية للفكرة القومية. وقد خاطب ماركس عمال العالم وهو يقصد عمال اوروبا بصورة خاصة فقال: ليس للعامل وطن، يا عمال العالم اتحدوا.
فالاشتراكية قد توجهت اذن نحو بيئة ونوع من البشر فقد روابطه بالوطن فعلا، وقضت عليه الأزمة الاقتصادية والتنافس الرأسمالي القاسي بان يكون مبتورا عن مجتمعه قد قطعت جذوره من أرضه وقوميته، فلم تبق له الا تلك الصفة الحيوانية التي تقتصر علي الغذاء فقط، لم يعد العامل غير مخلوق لا يهتم الا بما يغذي جسمه وينقذه من الجوع.
اما المؤسسات الفكرية والروحية في الامم الغربية فقد وقفت على الغالب في صف الرأسمالية المستثمرة. فالدين انحاز الى الحكومات الرأسمالية واخذ يحميها بنفوذه ويدافع عنها، والفكر بصورة عامة انحاز الى الطبقة المحافظة، اي ان الكتاب وممثلي الفكر اخذوا يدافعون عن الوضع الراهن والماضي ويطلبون المحافظة عليه والدفاع عنه، فادى هذا الى حدوث تلك الموجة الطاغية من الثورة والتطرف اللذين حملت الاشتراكية لواءهما.
والخلاصة، ان الاشتراكية في الغرب كانت مضطرة الى ان تقف ليس ضد الرأسمالية فحسب، بل ضد القومية ايضا التي حمت الرأسمالية، وضد الدين الذي دافع عنها، وضد كل فكرة تدعو الى المحافظة وتقديس الماضي، كل ذلك لان الرأسمالية قد استغلته للدفاع عن مصالحها، فكان ضد مصلحة الحركة الاشتراكية.
العرب والمجتمع المغربي– لنعد الآن الى المجتمع العربي ولننظر الى شروطه الحاضرة، الى مميزات المرحلة التي يجتازها العرب. اننا نرى اولا ان البلاد العربية لا تشبه في شيء حالة الامم الغربية في مطلع القرن التاسع عشر فهي –اي الامم الغربية– قد انهت دور تشكيلها واستكملت شروطها ودخلت في دور جديد هو التوسع، في حين ان الأمة العربية لا تزال الى حد كبير فاقدة لحريتها وسيادتها وهي علاوة على ذلك فاقدة لوحدتها القومية، تشكو من تجزئة اقطارها.
والبلاد العربية من جهة ثانية ليست في حالة الامم الغربية من حيث المحافظة الروحية او الفكرية او الاجتماعية لان الأمة العربية تشعر وتدرك تمام الادراك ان حياتها تتوقف على نبذ القديم والدخول في مرحلة تجدد قوي حاسم، وتعرف ان ليس في حياتها الحاضرة شيء حسن يستحق ان تحافظ عليه، بعكس الامم الغربية التي كان تاريخها تاريخا صاعدا يتكامل، لذلك فهي مطبوعة بطابع المحافظة، كما ان الأمة العربية ليست امة طامعة الى الاستعمار والتوسع حتى تكون في صف معاكس للاشتراكية. فوضع الأمة العربية السياسي والروحي والحقوقي هو وضع انساني، يتوافق كل التوافق مع سير قوميتنا في اتجاه الانسانية لان الحقوق التي نطالب بها وندافع عنها هي عين الحقوق الانسانية. وكذلك فانه ليس من مبرر لاصطباغ اشتراكيتنا بالصبغة المادية، فالروح في الغرب قد وصمت وصمة كبيرة لانها وقفت الى جانب الاستغلال والظلم والرجعية والى جانب شهوة التوسع والاستعمار، فكان لابد للاشتراكية وهي الحركة التحررية من ان ترفع لواء المادة في وجه تلك الروح المحافظة الرجعية، كما كان لا بد لها أيضا حتى تستطيع الصمود واقتحام تلك الصعوبات التي تقف في وجهها فتجابه ذلك الخصم العنيد الا وهو المال وكل المؤسسات التي تدافع عنه، من ان تظهر بمظهر الدين الجديد، فجعلت من المادة فلسفة عامة للكون ونظرة للحياة. اما نحن فليس هناك ما يوجب علينا ان نتبنى الفلسفة المادية حتى نكون اشتراكيين لان الروح بالنسبة الينا هي الأمل الكبير والمحرك العميق لنهضتنا، وهي التي تتجاوب اعمق التجاوب مع أمانينا في الحرية والتجدد والعدل والمساواة. انها روح سليمة غير مشوبة بالظلم كما في الغرب. والاشتراكية بالنسبة الينا فرع ونتيجة لحالتنا القومية ولضرورات قوميتنا، فلا يمكن ان تكون الفلسفة الاولى والنظرة الموجهة لكل الحياة، انها فرع خاضع للأصل الذي هو الفكرة القومية.
اشتراكيتنا ايجابية– ان نظرة نلقيها على الصورة التي رسمناها للمجتمع الغربي الذي نشأت فيه الاشتراكية يمكن ان تنبئنا بالفروق التي تميز حياتنا ومرحلتنا عن ذلك المجتمع. فنحن امة تتأهب لاستقبال حياة جديدة، وتناضل لاستكمال حريتها ووحدتها، فالدافع الذي يحدو بها هو الامل في المستقبل والشعور بروابط الماضي والتاريخ ووحدة المجتمع، فليس لدينا ذلك الوسط السلبي الذي يخاطبه ماركس والذي لا يعرف له اصل او روح. لذلك فان حركتنا ايجابية بعكس الاشتراكية الغربية المطبوعة بطابع السلبية، ويمكننا ان نقرر بان القومية العربية مرادفة للاشتراكية في وقتنا الحاضر، فلا تناقض ولا تضاد ولا حرب بين القوميين والاشتراكيين. فالقومي العربي يدرك ان الاشتراكية هي أنجع وسيلة لنهوض قوميته وأمته، لأنه يعلم بان نضال العرب في الوقت الحاضر لا يقوم الا على مجموع العرب، ولا يمكنهم ان يشتركوا في هذا النضال اذا كانوا مستثمَرين منقسمين سادة وعبيدا. فضرورات النضال القومي توجب النظرة الاشتراكية، اي ان نؤمن ان العرب لا يمكن ان ينهضوا الا اذا شعروا وآمنوا بان هذه القومية ستضمن العدالة والمساواة والعيش الكريم للجميع. القوميون العرب هم الاشتراكيون، فهذا النضال الذي تقومون به ضد الطبقة المستغلة التي فشلت في نضالها، وشوهت النضال وانحرفت به عن طريقه واستغلته اي استغلال، ان هذا النضال الذي يقوم به الجيل الجديد هو في الوقت نفسه نضال في سبيل تحقيق الاشتراكية، لان القضاء على الطبقة المستغلة للقضية القومية، هو ايضا قضاء على الاستغلال الطبقي الاجتماعي، اي تحقيق للاشتراكية.
مشكلتنا هي القضية القومية– لكل أمة في مرحله معينة من مراحل حياتها محرك اساسي يهز اعماقها ويفجر فيها ينابيع النشاط والحيوية والحماسة ويتفتح له قلبها وهو بمثابة نقطة يتركز فيها انتباه الأمة، وتكون مفصحة عن اعماق حاجاتها في مرحلة ما.
فاذا نظرنا الى العرب في الماضي وجدنا ان هذا المحرك الاساسي كان في وقت ما عند ظهور الاسلام هو الدين. فقد قدر وحده على استثارة كوامن القوى في النفس العربية واستطاع ان يحقق الوحدة والتضامن وان يلهب النفوس ويفتح القرائح وان يحقق بالتالي تلك النهضة. في ذلك الوقت، دعي العرب الى الايمان بإله واحد، فقادهم ذلك الايمان الى تحقيق الانقلاب الاجتماعي الاقتصادي الذي كانوا بحاجة اليه. فالاصلاح الاجتماعي كان فرعا ونتيجة للايمان العميق بالدين. اما اليوم فان المحرك الاساسي للعرب في هذه المرحلة من حياتهم هو القومية، التي هي كلمة السر التي تستطيع وحدها ان تحرك اوتار قلوبهم وتنفذ الى اعماق نفوسهم وتتجاوب مع حاجاتهم الحقيقية الاصيلة. فهم مكلومون في حريتهم وسيادتهم ووحدتهم لذلك لا يمكنهم ان يفهموا لغة غير لغة القومية.
وكما استجابوا في الماضي لنداء الدين فاستطاعوا ان يحققوا الاصلاح الاجتماعي فانهم يستطيعون اليوم تحقيق العدالة الاجتماعية و المساواة بين المواطنين وضمان الحرية بين العرب جميعا، نتيجة للايمان القومي وحده.
فالفرق بيننا وبين الغرب هو ان الامم الغربية، والكبيرة منها بصورة خاصة، انها امم ذات قوميات قائمة مستكملة الشروط، فليست القومية هي المحرك الاساسي بل الاقتصاد لان المشكلة الاجتماعية تحتل المكانة الاولى في حياتها. فهم لا يختلفون على استقلال البلاد وحريتها ووحدتها، لانها مستقلة موحدة، بل على تعريف المواطن وحقوق المواطنين، وهم لا يتنازعون على تاريخ الأمة وماضيها ومستقبلها، وانما على توزيع الثروة.
انهم يختلفون على حق كل مواطن في ان يستمتع بالشروط المادية اللازمة، لتحقيق مواهبه وضمان كرامته في الحياة. ونحن بالرغم من ان المسالة الاجتماعية والاقتصادية لها خطورة كبيرة في حياتنا فهي المشكلة الاولى غير انها تابعة لمشكلة اهم واعمق هي المشكلة القومية. ولا نستطيع ان نضمن للمشكلة الاقتصادية حلا الا اذا اعتبرت فرعا ونتيجة لازمة للمشكلة القومية.
اذا القينا نظره اخيرة على وضع الأمة العربية اليوم نشاهد ان الفكر العربي اخذ يستفيق من نومه الطويل ويتأهب لخلع القيود ولانطلاق والابداع ويظهر استعداده لاسترداد حريته وحيويته الماضية، غير ان النظريات الاشتراكية الغربية تهدده بان تخنق يقظته في مهدها لانها مركبة تركيبا مصطنعا، وهي لا يمكن ان تحدث في الغرب الاضرار نفسها التي يمكن ان تحدثها في بلادنا، لان الفكر الغربي نشيط قوي ذو تراث حي متصل.. ومهما كانت النظريات الاجتماعية والسياسية مصطنعه فانها لا تستطيع القضاء على حرية الفكر الغربي وعلى نزاهته وعلى القواعد الاساسية التي يقوم عليها، في حين انه لم يمضي زمن طويل على تحررنا من العقلية السحرية والاوهام والخرافات، بل اننا لا نزال خاضعين لها الى حد ما. فكيف يكون مصير الفكر العربي اذا احتوته نظرية مصطنعة تفسر الكون والحياة وكل مظهر من مظاهر النشاط الانساني، وفي هذا التفسير ما فيه من تعسف وتعصب.
فالفرد العربي اليوم يحاول بعد خضوع مئات السنين للمجتمع ولقيوده البالية ان يسترد حقوقه شيئا فشيئا، والمجتمع الصحيح لا يقوم الا على الافراد الاحرار، فحرية الفرد شرط اساسي لتحريك المجتمع ولإنقاذه من الجمود، لانها هي التي تسمح بظهور العباقرة والمصلحين. اما الاشتراكية الغربية، فلا تعترف لهذا الفرد الذي نعلق عليه نحن الآمال الكبار، بأي حق او بأية حرية. فكيف يمكننا نحن الذين لم نكد نخرج بعد من جمود المجتمع القديم، ولم نكد نتحرر من سيطرة طغيان المجتمع ان ندخل ثانية في أسر مجتمع ليس للفرد فيه مكان غير مكان الآلة او مكان خلية سجينة في نظام ضيق محكم.
اما الخطر الثالث فهو على الروح العربية. فهي آخذة بالاستيقاظ، تحن الى البطولات الماضية وتتشوق الى بطولات جديدة، والتفكير المادي كما هو سائد في الغرب يهدد هذه الروح بالعقم والجفاف والنضوب.
اشتراكيتنا قومية– عندما نقول اننا نحتاج الى اشتراكية عربية، نقصد فقط ان تراعي الشروط الخاصة بنا كعرب في هذه المرحلة من الحياة. ونحن لا نختلف على مبدأ الاشتراكية وانما على اسلوبها، وعلى الموضع الذي يجب ان تحتله من حياتنا، فلا نقبل ان تكون قوميتنا مرحلة عارضة طارئة من مراحل التطور الاقتصادي كما تدعي الاشتراكية الغربية بل ان على الاشتراكية ان تتلاءم مع امتنا ومع نضالها القومي فلا تكون أداة للتآمر على الوطن، وعامل تفرقة او ستارا لحركات شعوبية.
نريد من الاشتراكية ان تخدم قضيتنا القومية، فعليها ان تزيدنا جرأة في الإقدام على حرية التفكير وعلى المناداة بحرية الفرد والدعوة إلى خصب الروح وغناها، لا ان تقضي على حريتنا الوليدة في مهدها.
دعوتنا الروحية دعوة واقعية– يجب ان لا يفهم من الدعوة الى الروح اننا ندعو الى المحافظة على الاوضاع الفاسدة، او اننا نتوهم ان الاصلاح الاجتماعي يمكن ان يتم بسهولة وذلك بمجرد توفر الرغبة وحسن النية، وان يظن اننا ننبذ التفكير الواقعي ونهمل ضرورات العلم ومقتضيات التفكير العلمي.
اننا بعيدون عن مثل هذه الاوهام، لأننا نؤمن بان واجبنا هو ان نكون واقعيين في تفكيرنا كما لو كنا ماديين، لان العودة بالمجتمع الى الوضع السوي المنشود لا تكون بالوهم، والسحر، والغموض، وانما بمشاهدة الواقع والتحقق من أمراضه ومداواتها مداواة حقيقية. فالطبقة المستغِلة المستثمِرة لن تتنازل عن ثروتها ومصالحها بمجرد ان ندعوها الى ذلك باسم القومية او باسم الروح والتقدمية، فلا بد من النضال والتكتل السياسي والتفكير الجدي. ان القومية في الغرب أصبحت وسيلة لاستثمار الشعب واستعباده وأداة للتعدي على الشعوب الاخرى والدين وقف الى جانب المستثمرين يدافع عنهم، والفكر اخذ يدعو الى المحافظة ومحاربة التجدد، لذلك فقدت الدعوة الروحية كل قيمة لها، وظهرت الدعوة المادية بمثابة المنقذ والمخلص. فالروح إذا آل أمرها الى ان تعجز عن معالجة الواقع، وصارت شعارا للجمود والنفعية والجهل، عندها تكون الدعوة الى المادة هي الدعوة الحقة.
فنحن مهددون بان تحل المادة محل الروح وان يحتل الإلحاد مكان الإيمان والانفلات والتطرف محل الاخلاق، اذا لم يع الشباب مسؤوليته الخطيرة وهي في ان يعطي هذه المفاهيم الروحية والقيم السامية معناها الحقيقي حتى تعود الروح فتسيطر مرة ثانية على الواقع وتفهمه وتستجيب لضروراته. فاذا ارجع الشباب الى هذه القيم الروحية معانيها الاصيلة الحقيقية أنقذ أمته من أخطار العقلية المادية التي تهددنا في اخلاقنا وحيويتنا وحرية فكرنا وافرادنا، كما تهددنا في قضيتنا القومية.
عام 1946
العمال والاشتراكية
ان بين(1) الشباب العربي والشعب العربي فرقة لم يقصدها احد من الطرفين وانما وقعت بحكم الاضطرار. فلا الشعب اراد ان يبتعد عن ابنائه ولا الشباب أرادوا أن يبتعدوا عن الشعب، ولكن حالتنا غير طبيعية، ولو كانت الاوضاع سليمة صحيحة شأن البلاد الراقية لكان هذا الاتصال أمرا ميسورا ولما كنا سمينا شعبا وشبابا وفرقنا بينهم لأن الشباب هم من الشعب ابناؤه واخوته.
ولهذه الحالة غير الطبيعية اسباب ومبررات، فوجود افراد وفئات تستغل موارد البلاد ومواهب الشعب تستعبده لكي يسهل عليها استغلاله لا يوافقها أبدا ان يكون هناك اتصال بين الشعب وابنائه المخلصين الذين يفهمون حاجاته ويطمحون للتعاون معه لبلوغ الغاية المشتركة لمصلحة الجميع.
ان موضوع حديثنا هو الاشتراكية. والاشتراكية بصورة بسيطة كما يفهم من لفظها هي أن يشترك جميع المواطنين في موارد بلادهم بقصد أن يحسنوا حياتهم وبالتالي حياة أمتهم، لأن الإنسان الفرد لا يقبل ان يجعل نفسه غاية في الحياة. حتى ان ادنى المخلوقات البشرية في الاخلاق والتفكير نرى فيها هذا الميل وهذه الحاجة الى ان تجعل لحياتها غاية ابعد من مصلحتها الشخصية، فبالأحرى الإنسان الراقي الذي لا يستهدف سوى نجاح امته وازدهارها. والاشتراكية يمكن ان تفهم أيضا بأنها نظرية اقتصادية حديثة ظهرت في قسم من بلاد العالم في هذا العصر، ولها تعاريف وأصول وأنظمة معروفة، غير انها كلها ترجع الى هذا التعريف البسيط الذي ذكرناه، أي اشتراك المواطنين في موارد البلاد التي هم منها.
لكن علينا أن نعرف بأن للاشتراكية معنى آخر غير معنى نظرة معينة ظهرت في الغرب. لها معنى طبيعي مستساغ من النفس البشرية والعقل والضمير، وهي بهذا المعنى لا تخص أمة بعينها او تخص عصرا او زمانا بذاته. هي شيء أعم وأثبت من النظرية.
أيها الاخوان: الحقائق هي دوما بسيطة. ماذا نريد من الحياة لأنفسنا ولأمتنا وللارض التي نعيش عليها؟ هل نريد لها الا الخير والتقدم؟ هل نريد لها الا ان يكون الواحد منا ضامنا لحاجاته، وان تكون السبل مفتوحة أمامه لكي يظهر مواهبه وينشط ويعمل وينتج في النواحي التي يجيدها، وان يضمن مثل هذا السبيل لأولاده؟ وبالتالي نريد لأمتنا ان تكون أمة يسودها الخير والعدل والانتاج النشيط الراقي. وان تكون حالتها الاجتماعية على ارقى شكل ممكن في العلوم والفنون، وهذا ما يريده الفرد وما يريده المجموع فكيف يمكن ان تحقق هذه الغاية؟ ان أقلية من الناس تملك معظم الثروات وتسيطر على السلطة وتتصرف بها حسب رغباتها، وهي لا تكتفي بذلك بل تطلب المزيد. والنتيجة الطبيعية هي أن تحرم أكثرية الشعب من حقوقها. ولو كان الاسياد يستطيعون أن يحرثوا الارض بأنفسهم او يشتغلوا بالمصانع لحرموا الشعب من كل حقوقه، لذلك فانهم يجدون انفسهم مضطرين الى ان يعترفوا للاكثرية بحق بقاء الرمق حتى يستطيع الشعب العمل للاسياد.
في هذه الحالة من الاستثمار والاستغلال لا يكون الغدر واقعا على افراد او فئة من الناس وانما تكون الجناية على الأمة بأسرها. والبلاد المتخلفة هي تلك التي يكون افرادها محرومين من اكثر حقوقهم متأخرين في صحتهم وعملهم وانتاجهم الاقتصادي. ان هذا الوضع الشاذ، أي سيطرة أقلية من أبناء البلاد على ثورتها، وحرمان أكثرية الشعب من الحقوق الطبيعية المشروعة، يحول دون تقدم الوطن.
فهذه المنافع التي يجنيها المستغلون تخنق مجموع الشعب وتحكم على الأكثرية الساحقة التي هي مجموع الأمة تقريبا بأن تدفن وهي حية، فالشعب الذي يستطيع ان يصنع وينتج ولا يسمح له الا بانتاج بسيط ولا يعطى الا مدى ضيقا محدودا جدا في الحياة، ويفرض عليه الجهل والمرض والخوف والعبودية، هذا الشعب هو في حكم الميت وان كانت روحه في صدره.
فاذا فهمنا الاشتراكية بهذا المعنى وهي اننا نريد ان نرجع الى الحالة الطبيعية المشروعة وان ينال كل ذي حق حقه حسب جدارته وكفاءته ويسمح للشعب بأن يظهر مواهبه ويستفيد منها، عندها يمكن ان يرتقي الشعب أي المجموع، فالطبقة الشعبية تساوي الامة تماما لانها الاكثرية الساحقة والعنصر المنتج حقا.
الاشتراكية اذن ليست شيئا غريبا صعبا اتانا من بلاد نائية، وليست نظريات معقدة. انها الشيء البسيط المشروع الذي يطلبه كل عقل سليم وضمير حي، ولا يمكن لأي فرد أو فئة أن يكون مخلصا لوطنه، يشعر شعورا صادقا نحو أمته ويأبى في الوقت نفسه على الشعب هذا الحق، لان القومية، التي هي الغيرة على مصلحة الأمة، والاشتراكية تكادان تكونان شيئا واحدا.
فتحقيق الاشتراكية في حياتنا شرط اساسي لبقاء امتنا ولإمكان تقدمها، اذا لم تعمم الاشتراكية ولم نسع الى تحقيق العدل الاجتماعي لجميع الافراد، ولم ينقلب الشعب العربي الى شعب منتج الى اقصى حدود الطاقة، اذا لم يتحقق كل هذا يكون كل كلام عن حرية العرب واستقلالهم ضربا من اللغو ونوعا من التضليل.
ان مصلحة القومية وبقاء الأمة ومجاراتها للأمم الراقية وصمودها في تيار التنافس بين الدول متوقف على تحقيق الاشتراكية، أي السماح لكل عربي دون تمييز او تفريق بأن يصبح حقيقة ملموسة منتجة ولا وهما من الأوهام.
عام 1950
(1) حديث ألقي في إجتماع عمالي.
دور العمال في تحقيق الوحدة و الاشتراكية
ليس مستغربا(1) في نظرنا ان تشهد ميلاد هذا الحدث التاريخي الذي هو تأسيس أول اتحاد لنقابات العمال العرب في هذا العام بالذات، الذي حفل بالاحداث الخطيرة وبوثبات الشعب العربي الفذة في ميادين التحرر والاستقلال والوحدة القومية. فلقد بنينا عملنا ونضالنا في هذا الحزب منذ خمسة عشر عاما على مسلمة اساسية بسيطة هي ان القضية العربية كل لا يتجزأ. وربطنا بين تحرر الأمة من الاستعمار الخارجي وبين تحررها من الاستثمار الداخلي وبين تغلبها على التجزئة وتحقيقها لوحدتها القومية، وها أن الحوادث والوقائع تجيء عاما بعد عام ويوما بعد يوم مصداقا لسلامة تلك النظرة ومتانة ذلك الأساس الذي بنينا عليه نضالنا. فأية خطوة يخطوها الشعب العربي في سبيل انتزاع حريته وسيادته من الأجنبي الغاصب، تؤدي حتما وبالضرورة الى خطوة او خطوات في طريق تحرر هذا الشعب من الاوضاع الاقتصادية الجائرة المتأخرة، كما تسهل عليه توحيد نضاله في مختلف اجزاء وطنه العربي لتؤدي الى توحيد هذه الاجزاء نفسها.
في العمال العرب تتجسد وحدة القضية العربية– على أن هذه النظرة الموحدة لقضيتنا ظلت حتى الماضي القريب تقابل من الحكومات ومن أكثر السياسيين في بلاد العرب بالاستهجان والتجريح والمقاومة. ولا نستطيع أن نقول أنها ظفرت اليوم ظفرا تاما بل نعلم انه ما يزال امامها كثير من العقبات التي تقيمها في وجهها المصالح الخاصة وأنانيات الحكام ورواسب عقلية التجزئة. واذا كان في وطننا العربي فئة مهيأة لان تتحرر قبل غيرها من هذه المصالح والرواسب، وأن تجسد في تفكيرها ونضالها وحدة القضية العربية، فانها تكون فئة العمال العرب بصورة خاصة وجماهير الشعب العربي الكادحة بوجه أعم، لان هذه الجماهير تعاني بالتجربة اليومية الحية هذه الحقيقة الناصعة وهي أن أعداءها هم أنفسهم أعداء الأمة العربية. فالاستعمار الأجنبي وربيبته إسرائيل والرجعية العربية والحكام الانفصاليون، كل هؤلاء، لئن كانوا متحالفين متضامنين في تآمرهم على حرية الامة العربية وانبعاثها وبقائها، فانما ذلك يعود في النهاية الى غرض واحد هو استثمار جماهير الشعب العربي وتسخيرها لمصالحهم الاستعمارية والاقطاعية والرأسمالية، ومعنى ذلك ان مقاومة جماهير شعبنا لهذا الاستثمار الاجنبي والداخلي هي في حقيقة الامر مقاومة الامة العربية للفناء ودفاعها عن بقائها ووجودها.
الوحدة و الاشتراكية– بالامس كنت أتحدث في بيروت أمام حشد من الجامعيين، فوجه الي بعضهم هذا السؤال: لماذا نهتم الان او منذ الان بالاشتراكية قبل ان نحقق الوحدة العربية. ألا يكون النضال الاشتراكي عائقا في سبيل توحيد أقطارنا ومبعثرا لجهودنا، أليست الوحدة، عندما تتحقق، كفيلة بتحقيق كل ما ينشده الشعب العربي من حرية وعدالة ورخاء؟ ولا بد لي أن أذكر ان هذا السؤال كان يطرح علينا قبل عشر سنوات على شكل اخر من الحكام وأحزابهم وأنصارهم، اذ كانوا يسألون عن مبرر العمل للاشتراكية وللوحدة العربية قبل ان يتم التحرر من الاجنبي.
و قد أجبت الجامعيين في بيروت بأن الوحدة العربية ليست عملية سياسية ومفاوضات واتفاقات تقوم بين الحكومات بل هي عملية ثورة ونضال يقوم بها الشعب لانه وحده محتاج اليها، مخلص في طلبها، ولذلك فأن النضال في سبيل الوحدة العربية لا يكون واقعيا ومجديا إلا إذا امتزج بنضال جماهير الشعب العربي في سبيل حقوقها الحياتية ورفع مستوى معيشتها. ويجب ان نعلم ان اعداء الوحدة الكثيرين هم الاستعمار وإسرائيل التي لم توجد الا لتعطيل الوحدة وعرقلتها، والمصالح الرجعية الداخلية وكل ما في مجتمعنا من امراض وعصبيات وجهل وتأخر. ولا يمكن التغلب على هذه الكثرة المخيفة من الأعداء بالعمل الحكومي وحده، خاصة اذا عرفنا ان الحكومات ما زالت في اكثرها ممثلة لهذه المصالح المعادية للوحدة. ولا بد اذن من ان ينهض بعبء الوحدة شعب بكامله يرى فيها خبزه اليومي وتحرر وطنه من الاجنبي ويستميت بالتالي في طلبها لانها سبيل حريته وكرامته الانسانية.
فعندما ربطنا الوحدة بالاشتراكية لم نتعسف ولم نرتجل، بل وجدنا في ذلك السبيل الوحيد لكي تصبح الوحدة في حياتنا حقيقة حية متحركة، يطالب بها كل عامل عندما يطالب بخبزه وبزيادة أجره و بالدواء لأبنائه، وعندما يطالب كل فلاح فقير ومظلوم باسترداد حقه في انتاجه ويرفع الظلم و الاستعباد عن كاهله. هكذا جعلنا الوحدة العربية مطلبا حيا واقعيا يداخل حياة افراد الشعب العربي في ظروف حياتهم اليومية وفي ابسط شيء في حياتهم و هو حاجاتهم المادية.
نهضة مصر من ارادة الشعب ـ الم تروا أيها الاخوان الى هذه النهضة في قطرنا الحبيب مصر، كيف حاول السياسيون والمتزعمون الى جانب الاستعمار المجرم عشرات السنين عزله عن أمة العروبة وعن قضيته الحقيقية ومصلحته الواقعية. حتى اذا ارتفع كابوس الاستعمار وتطهرت ارض مصر من فساد الدخلاء والاجانب ومن عبث المستثمرين الداخليين، جاء الاندفاع للفكرة العربية عفويا، سهلا، بسيطا، لان العروبة لا تستيقظ الا في جو النضال وعندما يسترد الشعب شعوره بمسؤوليته وكرامته.
وليس ما حدث في مصر من قبيل المصادفة وليس هو عمل أفراد، وان كان لهؤلاء الافراد الذين قاموا بالثورة في مصر فضل كبير. ان هذا الرجوع الى الطريق الصحيح كان من وحي الشعب ومن ارادة الشعب ومن هذا الجو النظيف السليم الذي تحقق لمصر بعد ان تغلبت على الاستعمار وعلى الفساد.
اننا مع استبشارنا باتجاه رجال الثورة الجديد، نرى من الواجب ان نطالبهم بالمزيد من الجرأة في هذا الاتجاه. و ليثقوا بأن كل خطوة يخطونها في طريق الوحدة العربية والعمل الموحد للقضية العربية اذا كانت ستكلفهم بعض التضحيات الانية المحلية، فانها ستفجر امامهم مقابل ذلك امكانيات دفينة في الشعب العربي قد تبلغ حد المعجزات.
النضال في سبيل القضية العربية الواحدة– ان الشعب العربي يثبت في مختلف اقطاره في نضال المغرب الدامي، في نهضة مصر وفي وثبة الاردن، وحتى في العراق الذي لم يجرؤ حكامه ان يتركوا المجال لخروج افراد قلائل يمثلون المحامين في مؤتمرهم في القاهرة والعمال في هذا المؤتمر، وهذا دليل على ان غضبة الشعب العربي في العراق قوية جدا حتى أخافت الحكام الأذلاء إلى مثل هذا الحد.
وانني في نهاية هذه الكلمة احمل اخواني اعضاء الوفود النقابية تحية الاعجاب والتفاؤل والعهد المقيم على النضال المستمر في سبيل قضيتنا العربية الواحدة التي لا نفرق فيها بين ما هو اجتماعي اقتصادي وبين ما هو قومي لان نجاح هذه القضية رهن بابقائها وحده….
آذار 1956
(1) كلمة ارتجلت في المهرجان الذي اقيم في مكتب الحزب عند زيارة وفود اتحاد نقابات العمال العرب للحزب بمناسبة انعقاد مؤتمرهم الاول في دمشق.
نظرتنا للرأسمالية و للصراع الطبقي
لا احسب ان ثمة حاجة للتفصيل في ان كل نظرة الحزب وما كتب خلال هذه السنوات تفيد اننا رفضنا منذ البدء ونهائيا النظرة الرأسمالية، او اننا رفضنا كل مفهوم يجعل الاشياء اعلى من الإنسان لانه هو القيمة العليا في نظر حزبنا والرأسمالية بجملتها قائمة على العكس.
ليست الرأسمالية فلسفة انما هي واقع: انها تنازل الانسان وتراجعه امام الأشياء التي خلقها والتي أبدعها وأنتجها. واذا فهم من الرأسمالية التسليم بالحرية التي لا حد لها للتملك الفردي و لما ينتج عنه من نتائج، وان هذه الحرية بهذا الشكل مقدسة لا يجوز للانسان او للمجتمع او للدولة ان تمسها او تعرقل سير نظامها، فهذه نظرة لا يوجد اليوم من يدافع عنها حتى في الدول الرأسمالية ذاتها، اذ أن هذه الدول أو المجتمعات الرأسمالية نفسها اخذت تعترف اخيرا بأن التملك الفردي المطلق من كل قيد ليس مقدسا ولا يعطي دوما النتائج الصحيحة ولا ينسجم دوما مع المصالح العامة وانه لا بد من تدخل الدولة ومن ان يحسب لمصلحة المجتمع حسابها. اما الذين يريدون ان يفهموا من الرأسمالية بل الاشتراكية التي ننادي بها نحن والتي تنادي بها شعوب كثيرة: اشتراكية حية واقعية غير مصطنعة لا تريد ان تبدل مرضا بمرض ولا تريد ان تقضي على صنم الرأسمالية لتقيم مقابله صنم المجتمع الذي يستعبد الافراد و يقتل فيهم الاندفاعات الخيرة. فهذه هي الاشتراكية، الاشتراكية التي تعتبر الانسان كما قلنا القيمة العليا وانه يبقى دوما مسيطرا على الاشياء التي خلقها وانه بالتالي يجب ان توجد تلك الصيغة الحقيقية الحية الحكيمة التي تقضي على الاستغلال بكل اشكاله دون ان تقتل حرية الافراد.
واتطرق بهذه المناسبة الى سؤال عن الطبقية و هل يؤمن بها الحزب ام لا؟ ليس في فكرة الحزب طبقية بالمعنى الذي تفهمه الماركسية ولكن فيه طبقية. أي اننا نعترف بها وان كنا لا نتبنى المفهوم الماركسي لها. فالماركسية اقرت حقيقة واقعة عندما قالت بأن الصراع في هذا العصر هو بين الطبقات وجعلته بهذا قانون التطور التاريخي وهي محقة في تعليلها واستقرائها لمميزات هذا العصر. اذن هنالك صراع بين الطبقات لا يجوز تجاهله، الا ان الماركسية انطلقت من نظرة وجعلت هذا الصراع على النطاق العالمي الاممي وتجاهلت الى حد بعيد اذا لم نقل انها تجاهلت تماما، هذا التكوين التاريخي الحي للقوميات حين اعتقدت بأن الروابط التي تجمع الطبقة العاملة والمستغلة في جميع بلدان العالم هي اقوى بكثير من الروابط التي تجمع طبقة معينة في امة معينة بقوميتها.
مما لا شك فيه ان هناك ضمن الامة الواحدة صراعا بين الطبقة المالكة لوسائل الانتاج والطبقة المحرومة منها. الا انه حتى في نطاق الامة الواحدة لا يمكن ان ينظر الى هذا الصراع بالشكل الحرفي الضيق الذي صورته الماركسية. فنحن اولا رفضنا الاممية بشكلها الماركسي وقلنا بتعاون حر بين الشعوب الاشتراكية الحرة، اذن فنحن نتعرف بصلتنا –صلة الشعب العربي– بالشعوب الاخرى وبامكان الالتقاء على صعيد واحد.
فنظرتنا اقرب الى الصواب والى الواقع حين جعلنا التعاون بين الشعوب تعاونا حرا، بين شعوب اختارت النظام الاشتراكي الحر ايضا. اما في داخل الوطن العربي فنحن طرحنا المشكلة على شكل مختلف: طرحنا المشكلة القومية كوحدة لا تتجزأ ولم نأخذ منها جزءاُ فقط كما فعلت الماركسية حين اخذت الناحية الطبقية، ناحية الصراع بين المالكين و المحرومين. مشكلتنا اوسع من ذلك واعمق بكثير: مشكلة وطن مجزأ مستعمر في بعض اجزائه، والتجزئة هي اكبر عائق في طريق نهضته، وهي مشكلة وطن متخلف في شتى النواحي: في الفكرة والاقتصاد والسياسة، وفي كل شيء، ويحتاج الى ان نبني فيه كل شيء من جديد. لذلك جعلنا الشعب العربي في صف والذين يعادون ويعرقلون القضية القومية ويقفون في سبيلها، جعلناهم في صف آخر. فليس فقط الرأسماليون والاقطاعيون هم اعداء الشعب العربي، بل ايضا هم السياسيون الذين يتمسكون بالتجزئة لانها تفيدهم شخصياٌ، وليس هؤلاء فحسب بل اولئك الذين يسايرون الاستعمار بشكل من الاشكال، وأولئك الذين يعادون الفكر والعلم والتطور والتفتح والتسامح والذين يقاومون او يحولون دون تحرر أمتنا، وضعناهم في صف ومجموع الشعب العربي في صف آخر… فنحن اذن لا نستطيع ان نقول اننا قسمنا امتنا الى طبقات او طبقتين: ان رجل دين مثلا يبذر بذور التعصب وهو فقير لا يملك ثروة يسيء الى الشعب بقدر ما يسيء الرأسمالي المستغل للعمال والاقطاعي للفلاحين…
ان على هذه الوحدة في قضيتنا وهذه النظرة القومية التي ترفع مشكلتنا الى صعيد أرقى واصدق من الصعيد الاقتصادي البحت ان لا تنسينا ان المشكلة الاجتماعية في اللب والصميم، واننا اذا تساهلنا أي تساهل بحجة القومية مع طبقة المستغلين والرجعيين نكون قد افقدنا نضالنا العصب الفعال. فهذا الصراع بين جمهور الشعب المحروم وبين الطبقة المستغلة والمستعصية على كل تطور وكل استجابة الى المصلحة القومية ليس فيه الا الخير، ويجب ان لا نخاف منه اذ منه تخرج النهضة القومية. من تحرير الشعب المحروم يتكون المواطن العربي الصالح الذي يستطيع ان يفهم قوميته وان يحقق قيمتها لان القومية تبقى مجرد الفاظ مع الظلم والفقر والحرمان.
فالمشكلة ليست سهلة كما تظنون، ان علينا، هنا كذلك، ان نبقي التوتر بين طرفي المشكلة. ولنحذر دوما ان نضيع الفكرة القومية وتلتبس مع المصالح الطبقية المجرمة حين يتغنى اصحاب هذه المصالح كذبا و بهتانا بالمصلحة القومية لينقذوا جلودهم، واقوالهم عندما يحاولون ان يؤثروا علينا: ألسنا ابناء شعب واحد؟ كل هذه الحيل الخبيثة يجب ان يبقى المناضلون فوقها وبمنجاة من التأثر بها. ان مفهوم القومية الشائع سواء في بلادنا او في بلاد الغرب هو في معظمه مفهوم سلبي زائف تدخله المصالح الرجعية و الاستغلالية، فعلينا ان نعري هذه القومية الزائفة من الزوائد السلبية الخبيثة، ونحن لا نخشى كثيراُ من هذه التعرية لانه يبقى دوما شيء قد يكون بسيطا جدا ليس له وزن مادي و لكنه شيء اساسي جدا، هذه هي القومية: انها ليست غرورا او استعلاء وليست تعصب امة ضد الامم الاخرى، انما غريبة تماما عن كل مصلحة مادية لفئة من الفئات في الامة، وهي الانسانية بالذات متحققة في واقع حي هو الامة…
اذن نحن لا نعترف الا بما في القومية من ايجابي يبقى بعد طرح كل العصبيات وكل الامور السطحية، انه عبارة عن الرابطة الروحية والتاريخية بين افراد الامة الذين طبعهم التاريخ بطابع معين و لم يغلقهم على الانسانية وباقي الامم وإنما اعطاهم لونا خاصا وتجسيدا خاصا لهذه الانسانية لكي يكونوا جزءا فعالا منها ومبدعا ومتجاوبا معها. هذه هي قوميتنا، لا تقوم على الحقد تجاه الاقوام الاخرى ولا تقوم على الحقد ضمن ابنائها. فالصراع الذي اقمناه في داخل امتنا ليس موسوما بالحقد وانما هو موسوم بالحق والخير. والحب في حقيقته قاس لاننا عندما نحب امتنا وافراد شعبنا ونريد لهم المستقبل الزاهر والحياة الكريمة، لا نتهيب من استعمال القوة ضد كل الذين يحولون دون هذا الارتقاء والنمو. فأصحاب المصالح المادية والمعنوية من حكام وغيرهم الذين يعرقلون وحدة الامة يجب ان يناضلهم الشعب نضالا عنيفا وحاسما.
عام 1956
الطبقة العاملة طليعة الكفاح العربي
أيها الإخوة(1)
أحمد الله ان حقق لي حلما كان يراودني منذ الصبا، وهو ان أرى هذه الارض العربية الكريمة، ان ارى هذا الشطر الغالي من وطننا الأكبر.
هذا الحلم نشأ عندي ايام الدراسة ايام جمعتنا الدراسة من كل قطر عربي وخاصة من اقطار المغرب العربي فتعرفت منذ سنين طويلة الى النفسية النضالية القوية التي يتصف بها شباب المغرب العربي عامة. وكنت منذ ذلك الحين لا يخالجني شك في ان المغرب العربي يعاني تجربة انسانية فريدة من نوعها غنية بالمعاني، وانه سيقدم الى العروبة والى الانسانية ثمار هذه التجربة، فيغني بها النهضة العربية الحديثة ويغني بها الثرات الانساني العام.
كنا طلابا نتداول في شؤون وطننا وفي مستقبلنا، كان يساورنا قلق وطموح بأن نسهم في الارتفاع بمستوى القضية العربية، وفي اخراجها من ذلك الطور الابتدائي الغامض المعالم الفارغ المحتوى، الذي طبعها به رجال طبقة وجيهة تصدت لزعامة النضال ضد الاجنبي قبل عشرات من السنين، ولم تكن هي المهيأة فعلا لان تمثل روح امتنا وان تمثل طموح بيئتنا وان ترسم الخطوط لمستقبلنا العظيم.
فكان قلق الشباب اذ ذاك الا يكتفوا بذلك المستوى المنخفض الذي يترك معظم امكانات الشعب العربي مهملة ومهدرة لانه لم يكن ثمة تجاوب مخلص بين طبقة الزعماء وبين جماهير الشعب.
فظهر لنا اول خيط من خيوط النور، من خيوط الخلاص، ظهر لنا ان الخلاص لن يكون الا على يد الشعب، على يد الكثرة الساحقة من ابناء شعبنا، على يد الكثرة الكادحة والمظلومة المستغلة، ليس لأنها اكثرية فحسب بل لأنها تعاني الظلم والاستغلال وفقدان الحرية وجرح الكرامة في جميع النواحي: الانسانية والقومية. اذن فظروفها واوضاعها وقوتها قد هيأتها لان تكون هي محرك التاريخ في هذه المرحلة، لان تكون هي المنقذة للأمة، لان تكون طليعة الامة المناضلة وصورتها الصادقة.
فلم يأت تفكيرنا الاشتراكي من الكتب، من الأفكار المجردة، من النزعة الانسانية العامة، النابعة من مجرد شعور بالشفقة، وانما أتى من صميم الحاجة -اتى بدافع الحاجة الحيوية- لننقذ امتنا من الفناء، لان معركة الامة العربية مع مستعمريها واعدائها كانت معركة بقاء او فناء. فكان التفكير الاشتراكي وكان اكتشاف دور الطبقة العاملة العربية في هذه المرحلة التاريخية من حياتنا بدافع الدفاع عن البقاء.
لطالما تأملنا وشعرنا بالخجل، وشعرنا بالامتعاض عندما كانت القيادة التقليدية القديمة تسبغ على قوميتنا صفاتها هي، وروحها هي:
صفات الطبقة المترفة وروح الطبقة الشائخة الهرمة، فكانت القومية العربية والكفاح القومي في ذلك الحين على ايدي اولئك الزعماء الذين كانو يمثلون عصرا قد مضى ويفقدون قوة التأثير وقوة الجاذبية لجماهير الشعب ولجمهور الشباب، وكانت القضية القومية التي هي قضية حياة او موت، في مستوى متخلف لا قيمة للفكر فيه ولا صلة له بالعصر الذي نعيش فيه عدا عن مظهره المنفر، مظهر القومية المتغطرسة، القومية السلبية، التي لا تشعر بنفسها الا اذا خاصمت غيرها.
وكنا نشعر بأن هذا ليس حقيقة قضيتنا وليس حقيقة امتنا. وكان لا بد ان ننتقل الى مستوى يتناسب مع العصر الذي نعيش فيه، مع امكانيات شعبنا العظيم وشبابنا المنفتح للنور.
فكانت محاولة اسهم فيها جيل بكامله لا ينحصر في قطر من الاقطار العربية وانما هو موجود في كل قطر. هذه المحاولة أسهم فيها الشباب المثقف واسهمت فيها طبقة العمال الكادحة المناضلة، واذا بقضيتنا تخرج من سجن الغموض والفراغ وتمتلىء بالحياة، بالواقع الحي، ويدخلها الوضوح وبالتالي تستطيع ان تتحقق وان تنتصر.
ايها الاخوة،
ان القضية القومية كل لا يتجزاء فهي حياة الشعب المادية وهي حياته الروحية، هي مطالبه الاقتصادية العادلة ومطالبه الاجتماعية العادلة، وهي حقوقه ومطالبه القومية المشروعة، هي خبزه ورفاهه وهي استقلال وطنه وسيادته، وهي وحدة وطنه وتوحيده من بعد التمزيق والتجزئة.
فعندما ننظر الى قضية شعبنا بهذا المنظار الشامل الحي الذي لا تعسف فيه ولا اصطناع، لأن المطالب القومية هي حقيقية وواقعية مثل طلب الخبز والعيش، عندما ننظر الى هذا الترابط بين هدف التحرر وهدف العدالة الاجتماعية وهدف الوحدة القومية الشاملة، عندما ننظر الى ذلك كله كأنه اوجه متعددة من شيء واحد، عندما نستطيع ان نوجه نضال الشعب في الطريق السليم المثمر الذي لا يبقي امكانية من امكانيات شعبنا الا ايقظها واستفاد منها. فملء فكرة القومية العربية بالمحتوى الوحدوي الى جانب المحتوى التحرري والاجتماعي هو الذي يفسر الى حد كبير تلك الخطوات التي قطعناها حتى الان في طريقنا الطويل نحو حرية امتنا ونحو بناء مجتمعنا الجديد ونحو بلوغنا المستوى الذي يؤهلنا لتحقيق رسالتنا بين مجموع الأمم.
انكم تعلمون، ولا شك، كيف كان النضال التحرري متقطعا، فاقدا بعض وضوحه، وكيف كانت الوحدة العربية على الاخص فكرة نظرية خيالية تقال دونما ثقة بقدرتها على التحقق، تقال اما بدافع التقليد، او بدافع العاطفة فحسب.
ولكن عندما سُلّمت قضية التحرر القومي، وعندما سلمت قضية الوحدة القومية الى جماهير الشعب العربي وربطت هذه الجماهير بين مطلب التحرر والوحدة وبين كفاحها اليومي من أجل الرزق وبلوغ مستوى كريم من العيش -عندها دخلنا في طور التحقيق، عندها أمكن أن نحقق الانتصارات على الاستعمار، عندها لم تعد الوحدة العربية فكرة خيالية. حدث ذلك كله لاننا سلمنا هذه الأهداف الغالية إلى اصحابها إلى الطبقة الكادحة.
ان مطلب الوحدة العربية ظل زمنا طويلا ضحية الجهل، ضحية الغموض، ضحية الالتباس… وكان يتبناه ويستغله أبعد الناس عن الاخلاص له او الايمان به، فكان حجة وذريعة او كان ستارا لمآرب غير مشروعة. كان الاستعمار أحيانا يختبئ وراء مشاريع للوحدة وكانت الطبقة الاقطاعية تغتصب زورا وبهتانا هذا الشعار لا لتحققه بل لترد به على مطالب الشعب الاجتماعية، لتحارب به الثورة الاجتماعية. فكانت الوحدة في ذلك الحين مشبوهة ومظلمة الى ان دخلت في حياة الجماهير. ولكن يجدر بنا ان ننظر إلى هذه الحقيقة، يجدر بنا بعد ان مررنا بتجارب كثيرة وفضحنا بالتجربة كذب الطبقة الرجعية في تبني الوحدة وان لا وحدة مع الرجعية، يجدر بنا ان ننظر الى حقيقه اخرى، وهي ان لا تقدمية مع التجزئة. فاذا كنا في وقت مضى قد كفرنا بوحدة الرجعيين والاستعماريين، فلم يعد جائزا بعد ان استرد الشعب قضيته واستلمها بكلتا يديه، لم يعد جائزا ان نتخوف من الوحدة او نظن بها الظنون، لاننا بمقدار ما نتفهمها ونقدم عليها لنتبناها ونعجل في سيرها نبعد عنها الاستغلال.
فالوحدة يطلبها كفاح العمال قبل كل شيء -وكفاح العمال يطلب وحدة على نطاق عالمي، فكيف لا يطلبها على نطاق قومي- هذه الوحدة ان دخلها العمال، ان دخلتها الطبقة الشعبية الكادحة يخرج منها كل رجعي وكل مشبوه.
فالقضية قضيتنا فلا يجوز ان نقف منها موقف المتفرج من بعيد لاننا اذا لم نصنعها نحن الشعب، بأيدينا فمن ذا الذي سيصنعها؟
ولقد كانت وحدتنا القومية موضع الهجوم والتآمر الاستعماري والاجنبي عامة منذ زمن طويل. لان الاستعمار يدرك قبل غيره ما هو مفعول الوحدة اذا ما تحققت، وان تحققها نهاية للاستعمار في ارضنا -لا بل نهاية للرجعية وللتخلف ولكل ما هو ميت غير جدير بالحياة- فكانت الهجمات والمؤامرات توضع دوما في طريق الوحدة، ومن أدرى منكم بذلك، انتم ابناء المغرب العربي عامة وابناء المغرب الاقصى خاصة، من ادرى منكم بذلك الانقطاع، بتلك الحواجز الكثيفة التي وضعها الاستعمار بينكم وبين اخوانكم بالمشرق وحتى بينكم وبين اخوانكم في المغرب العربي نفسه.
فالوحدة اذن ليست ترفا نطلبه بعد ان نحصل على المطالب الجوهرية الضرورية، ليست شيئا يأتي في المستقبل، او من نفسه بصورة آلية بعد ان نكون حصلنا على استقلالنا وحريتنا وبعد ان نكون قد حققنا الديمقراطية والعدالة.
الوحدة ايها الاخوة داخلة في كل هذا، وهي شرط اساسي لكي نحقق كل هذا، وهي كالاستقلال وكالعدالة الاجتماعية ومطالب الطبقة الشعبية المشروعة، هي ايضا تحتاج الى معركة قاسية، وتحتاج إلى نضال، إلى انتزاع.
انها لا تأتي من نفسها بل علينا ان نكافح من اجلها في نفس الوقت الذي نكافح فيه من اجل حياة لائقة لشعبنا. لانها هي الواسطة لكي يتحقق الظفر لنضالنا التحرري والاجتماعي، وهي الضمانة ايضا لكي نحافظ على الحرية لوطننا وعلى المكتسبات الشعبية لجماهير شعبنا.
ان المستوى الجديد الذي حاول جيل الشباب العربي في كل قطر ان يرفع اليه القضية العربية في المشرق والمغرب، ويضع هذه القضية في العصر الذي نعيش فيه -أي في عصر المذاهب الاجتماعية، في عصر العقائد، اذ لم يعد جائزا ان تبقى قضية الامة العربية مرتجلة او تبقى اجزاء مفككة لا رابط بينها ولا منطق يجمعها- هو هذه الصيغة الجديدة التي لا نعتبرها صيغة نهائية ولا نعتبرها صيغة كاملة، اذ ان حياتنا يجب ان تتجدد دوما وان تنمو وتتعمق دوما، ولكن على كل حال هي صيغة نقلت النضال العربي من مستوى ضعيف فاتر مفكك الى آخر جديد يتصف بالمنطق والترابط والوضوح ويسمح بالتنظيم. هذا المستوى هو المستوى العقائدي الذي يتيح لقضية امتنا ان تظهر بشكل فكري متناسق.
وهذه الصيغة الجديدة غالبا ما يعبر عنها بالقومية العربية وان كان التعبير لا يزال غامضا وما يزال يتسع لتعاريف شتى، الا ان التيار الشعبي الذي يحرك الجماهير العربية في كل قطر عربي، يفهم ويدرك تماما ما هو المقصود بالقومية العربية، ويدرك انها هي الاشتراكية، يدرك انها هي الديمقراطية، ويدرك انها قومية انسانية تتلافى اخطاء الماضي وتصلح كل ما كان في الماضي سببا للتفرقة داخل امتنا ومجتمعنا.
هذه القومية ليست وقفا على العرب فحسب وانما هي صورة لإنسانية جديدة، أي اننا نؤمن بأن لكل امة في العالم الحق بأن يكون لها شخصيتها الحرة المستقلة. وان يكون هناك انفتاح بين القوميات وان يكون هناك تضامن في الكفاح التقدمي، وان يكون هناك انسانية جديدة تقوم على قوميات تقدمية حرة متضامنة لا استعمار فيها ولا عنصرية ولا تمييز.
ففكرة القومية العربية اذن لا تنحصر بالعرب وانما لها نزوع انساني. وفكرة الرسالة في هذه القومية تربطها بالانسانية عامة وتقيها من التردي في المفاهيم السلبية للقومية -كالمفهوم العنصري والمذهبي وكل تعصب وضيق او شهوة للسيطرة- وتذكرها دوما بأن امامها رسالة انسانية لا يمكن ان تؤدى اذا لم يكن الشعب العربي في الداخل ممارسا لحريته، اذ لا شيء ذا قيمة يمكن ان يصدر عن القسر والضغط والاكراه، فالحرية هي منبع الفضائل وهي التي تميز الشعب الحي، ولذلك فان الديمقراطية التي يكافح العمال في سبيلها ليست مطلبا عماليا فحسب وانما هي مطلب قومي لكل جماهير الشعب العربي، لكي نحفظ لقوميتنا العربية ونهضتنا الحديثة المعنى الانساني الايجابي البعيد عن كل تعصب وكل سلبية والذي يوجد السلام في داخل مجتمعنا ويسهم في ايجاد السلام في العالم: هذا المفهوم الانساني، هذه الملامح الايجابية لقوميتنا يجب ان نحرص عليها كل الحرص، واعود فأقول بأن المغرب العربي عليه مسؤولية تجاه الامة العربية، وهو مطالب بأداء قسم كبير في معركة القومية العربية، خاصة في تجربته الديمقراطية وفي فهمه للديمقراطية وفي كفاحه المرير الطويل من أجل الحرية والديمقراطية، من اجل المساواة الانسانية، من اجل الكرامة الانسانية.
لقد عرف المغرب العربي ما لم يعرفه المشرق العربي، عرف ألما عميقا، اذ ان الاستعمار دخل اليه ليس بالجيوش فحسب وانما بالهجوم والغزو البشري لكي يفنى شعبنا في المغرب ويحل محله شعب آخر، وصمد الشعب العربي لمعركة الافناء هذه، واستطاع من خلال هذه المعركة الشاقة ان يرجع الى نفسه وان يعيد النظر في كثير من التقاليد التي استلمها والانظمة التي كان يرتضيها والقيم والمفاهيم القديمة لكي يدافع عن بقائه امام شعب غاز متحضر. ففي المغرب العربي وقفت الامة العربية ممثلة في الشعب المغربي وجها لوجه امام الحضارة الاوروبية فكافحت وصمدت واعطت البرهان على حيوية امتنا وقدرتها على التجدد واعادة النظر في كثير من شؤونها لكي تصحح الاخطاء الماضية وتجدد الحاضر الذي هي فيه.
ان هذه التجربة الواسعة العميقة التي يخوضها الشعب العربي في المغرب وتونس والجزائر خاصة، والتي تبدو ثمارها وعلائمها ومميزاتها منذ الآن بأنها نظرة جديدة إلى الحياة وتقدير اساسي للحرية وللديمقراطية وايمان لا يتزعزع بالمساواة الانسانية..كل هذا يمكن ان يؤديه المغرب العربي الى النهضة العربية عامة لان تجربة المشرق العربي لم تكن بمثل هذا العمق، فلقد اراد الله ان يجعل اقطارنا متكاملة يكمل بعضها بعضا لكي تأتي النهضة العربية الحديثة كاملة الجوانب ولكي تكون جديرة بماضي العرب، وتكون نهضة أصيلة تفيد شعبها وتفيد الانسانية.
عام 1960
(1) حديث ألقي في الدار البيضاء بدعوة من جريدة “الطليعة” الناطقة بلسان الاتحاد المغربي للشغل بمناسبة احتفالات أول أيار.