الزمن والحركة الإنقلابية
الحركة الإنقلابية بتعريفها تعني عدم ترك الزمن يسيطر على مقدرات الأمور. فالإنقلاب معناه أن حالة الأمة بلغت حداً من السوء، أصبح معه تركها للظروف والتطور أمراً يعرضها للهلاك، وأنه لا بد من ظهور الحركة التي تقوم بتبديل الأوضاع قبل ان يفوت الوقت. فهي إذن الحركة التي تعجل سير الزمن.
والحركة الإنقلابية هي نقيض الحركة الاصلاحية، فأكثر السياسيين في بلادنا يقولون بالإصلاح التدريجي، ويرفضون كل تبديل عميق، لأن في التبديل العميق معنى العنف، فالتبديل العميق في الحياة الإقتصادية عندنا يعني مثلا انتزاع الأراضي من يد الإقطاعيين وتوزيعها على الفلاحين، وهذه الفكرة هي مرفوضة من قبل هؤلاء التطوريين، لانهم هم أصحاب المصالح الذين يحرصون على بقاء مصالحهم، وهم يدعون أن مثل هذا التبدل العميق الحاسم في أوضاعنا الإقتصادية لا يتم بدون ثورات واضطرابات وأخطار لذلك هم يفضلون التطور البطيء.
ففكرة السرعة هي من صميم الحركة الإنقلابية. وهذا يفترض أن تكون هناك حركة تستطيع السيطرة على الزمن وتعجيله، ووجود هذه الحركة يتطلب بحد ذاته بعض الزمن. فإذا قيل لنا بأن الوقت الذي نقضيه في تكوين حركتنا هو إضاعة للوقت وأنه يوصلنا الى يوم نرى فيه الأخطار تداهمنا ولا نستطيع دفعها، عندها نجيب بأننا جربنا كل الاستعدادات التي تستطيع التكتلات والمنظمات الحاضرة التي هي ليست إنقلابية أن تعطيها، فلم تتمكن من دفع الأخطار وحفظ سلامة البلاد. ولمسنا لمس اليد بالتجربة المرة المتكررة أن هذه الإستعدادات كانت واهية جداً وخادعة لأنها لم تقم على أساس الوعي والمسؤولية والجدية والإيمان والتجرد عن المصالح الخاصة، فكانت علاجات مخدرة لا أكثر، وكانت هي التي تأتي بالنكبات والخيانات. وعلى هذا أصبح وجود الحركة الصحيحة امراً وضرورة لا مفر منها ولو اقتضى الأمر أن ننتظر طويلا. فقد علمتنا الحوادث والتجارب أن الإرتجال لا يوصل الى النتائج المحمودة، وان بناء القضية العامة على أساس المصالح الشخصية لا يستطيع أن يحفظ هذه القضية، ويضمن لها النجاح، ولا بد من ان نسلك الطريق الطبيعي الذي سلكته جميع الأمم التي استطاعت أن تحيا حياة راقية متقدمة، وذلك ان تبنى القضية القومية على العقيدة الواعية التي تصهر الأفراد وتخلق منهم نواة صادقة لخدمة القضية العامة، وتخلق فيهم الفكر النير الذي يعرف كيف يسير ويتصرف، وكيف يشعر بجدية واجباته.
والشروط اللازمة للحركة الانقلابية تقوم على الوعي أولاً، وعلى الشعور بالمسؤولية ثانياً، وعلى الإيمان اخيراً. ولابد أن تتحقق هذه الشروط لكي تخلق الحركة الصحيحة، وكل عمل يستهتر بهذه الشروط أو ببعضها بحجة الإسراع، هو عمل متناقض وزائف، إذ ما الفائدة من السرعة إذا أوصلتنا الى النتائج القديمة نفسها ألا وهي عدم القدرة على مجابهة الأخطار… فالزمن الذي يصرف في تهيئة الشروط الأساسية ليس هو بالزمن الضائع، وان ما يحسبونه عقبة في الطريق ليس الا الطريق نفسه.
غير أن تحقيق هذه الشروط يجب أن لا يتطلب زمناً طويلاً، لأن كل العناصر موجودة متوافرة لإنماء هذه الإمكانيات في الجيل الجديد، فهو ليس جيلاً تائهاً في الصحراء، وانما هو ابن الوسط الذي يعيش فيه والأمة التي ينتسب اليها. ففي كل عربي تكمن بذور الوعي والخلق والمسؤولية والإيمان، وكل المحاولات التي قمنا بها كانت بمثابة تجارب، ولم يبق علينا إلا أن نخطو الخطوة الأخيرة ونستفيد من الماضي. فعندما نقول بأننا نريد ان نخلق جيلا جديدا لا نقصد باننا سنعلمه كل شيء بل نعني تنظيم ثقافته وتوجيهه توجيها صحيحا. فنحن لن نخلق فيه الأخلاق بل سننميها ونقويها، ولن نخلق فيه الإيمان لأنه مؤمن الإيمان الرائج البسيط، بل نسعى الى ان نقوي فيه هذا الإيمان ونجعله أعمق من الفورات الآنية. فعمل الحركة الإنقلابية ليس هو بالعمل التطوري البطيء، ويجب أن يزول الوهم القائم في أذهان البعض عن البعث العربي بأنه حركة بطيئة تشبه مدرسة.
إن زمن الحركة الانقلابية يرجع آخر الأمر الى نشاطها والى صدقها وجديتها، فإذا كانت مقدرة لمسؤوليتها فإنها لن تضيع أية لحظة، فعملها في السطح أو العمق يتطلب تحقيقاً مادياً مستمراً، وتثبيتا للمبادئ في النفوس وترسيخا لها. أما إذا ضعفت في الحركة صفتها الجدية فانها تصبح عندئذ بطيئة، فتحسب أن مجرد البطء يساعد على ترسيخ الافكار والمبادئ في نفوس الاعضاء. فالإكتفاء بالإنتساب الى الحزب والإيمان السطحي بمبادئه، لا يعني ان هؤلاء الأفراد قد أنقذوا أنفسهم من هذا الواقع الفاسد وأصبحوا في عداد الفئة الواعية المؤمنة، دون أن تترتب عليهم أية واجبات ودون أن يبذلوا جهداً في هذا الإنتساب. فإذا لم يتسغل الزمن لإنماء كفاءات الحزبيين أصبح مضيعة للجهد وقتلاً للكفاءات نفسها. فالحركة الانقلاية هي وحدها الحركة السريعة.
30 نيسان 1950
الصلة بين العروبة والحركة الإنقلابية
صلتنا بالماضي : هناك نفر يكاد يفهم من البعث العربي الذي هو حركة إنقلابية متجهة بقوة وعنف نحو المستقبل، انها حركة فاقدة الصلة بالماضي، وانها تعتبر أن كل التفاتة إليه تضيع جهداً يجب ان يبذل في بناء المستقبل… إن في هذا تشويهاً لفكرة البعث العربي التي تميز بين الماضي كروح والماضي كشكل.
كان يوجه للبعث العربي منذ نشوئه تهمة الرجعية، فقد فهم الكثيرون من البعث أنه إرجاع للماضي. فهموا من تعلقنا بماضينا وشخصيتنا أننا رجعيون ومحافظون، ثم انقلبت التهمة الى نقيضها.
أهمية التراث القومي: ان التشبع بالتراث القومي لا يعني مطلقاً العبودية للماضي والتقاليد، ولا يعني فتور روح الإبتكار والتجديد بل يعني العكس تماماً. والواقع ان الذين يفقدون روح التجديد وروح الإبتكار هم الذين لا يفهمون ماضي الأمة وروحها، ولا يفهمون من ذلك الماضي وتلك الروح الا القشور والمظاهر الجامدة.
إن اتصالنا بروح الأمة وتراثها يزيد في اندفاعنا ويقوي انطلاقنا، فلا نكون حائرين لأننا نكون واثقين أن كل شيء فينا سيأتي ملائماً لروح أمتنا. إننا عندما ننطلق من أساس متين هو التشبع بروح أمتنا، ومعرفة واضحة لأنفسنا ولواقعنا، وإحساس صادق بحاجاتنا، لن نكون عرضة لأخذ الأفكار المصطنعة وتقليد الآخرين، وانما تأتي افكارنا طبيعية ومبتكرة لأنها نتيجة لشعورنا الصادق وحاجاتنا الصادقة. إن شعورنا بهذه الصلة القومية العميقة بأمتنا هو الذي يفتح عيوننا على حاضرنا الأليم وهو الذي يرينا التناقض بين واقعنا وحقيقتنا، وهو الذي يحملنا مسؤولية إنقاذ الأمة وبالتالي هو الذي يوصلنا الى الإنقلاب.
الصلة القومية تقود الى الإنقلاب وتساعد على تحقيقه : إن الصلة القومية التي توصل الطليعة والأمة الى التفكير الإنقلابي هي نفسها التي تساعد أكبر مساعدة على تحقيق هذا الإنقلاب. لأننا بانقلابيتنا نمثل إرادة الأمة كلها، وهذه الارادة التي لم تتوضح بعد إلا عند القليل، والتي لا تزال مبهمة عند الكثيرين نعرف انها متمثلة قي حركتنا، ونعرف ان كل خطوة نخطوها ستلاقي صدى في النفوس وستحرك وتراًًً ًحساساً، وان كل يوم يمر علينا في نضالنا سيفتح عقولاً جديدة ويوقظ نفوساً جديدة. وبما اننا بنينا انقلابيتنا على صفتنا العربية، وانطلقنا الى المستقبل بنسبتنا الى أصلنا، فاننا حتماً سنتكلم اللغة التي يفهمها الشعب وحتما سنجد سبيلا الى سمعه وقلبه.
الإنقلابيون صورة سباقة لمجموع الأمة : إننا نعرف بأن هذه الفئة القليلة من الإنقلابين الذين تضمهم حركة البعث العربى هم قلة في الظاهر، قلة في البدء، ولكن صفتهم القومية الصادقة تجعلهم صورة مصغرة وسباقة لمجموع الأمة. نحن نمثل مجموع الأمة الذي لا يزال غافيا منكراً لحقيقته ناسياً لهويته، غير مطلع على حاجاته، نحن سبقناه فنحن نمثله، لذلك بيننا وبينه تجاوب عميق، حتى عندما نتصارع، حتى عندما يبطش بنا، هو منسجم معنا لأن طريقه هو طريقنا الآن، وإن لم يدر في الوقت الحاضر فسيعلم ذلك في المستقبل. إنما إيماننا مختلف عن الإيمان السحري لأنه مبني على أرسخ قواعد العلم، على الوقائع. هذه العقيدة هي اننا نمثل مصلحة الأمة وإرادتها، إذن نعتمد على تأييدها، وهذا التأييد الذي هو في حالة الكمون سينتقل الى حالة الظهور والفعل.
فقوانا ليست هي هذه القوى المنظورة المحدودة، قوانا لا حد لها في غزارتها. وأضيف أننا نعتمد على قوة أخرى هي أن حركتنا في اتجاه التقدم الإنساني. فهدفها ان ترتفع بالأمة من حالة التأخر الى حالة العمل والجد والإبداع، والتاريخ هو في هذا الإتجاه ونحن نمشي باتجاهه ومنطق التاريخ يقضي بأن تنهض الأمة العربية وأن تحتل مكاناً خلاقاً ايجابياً، وأن تقوم بدورها وتنشىء، فالتاريخ ايضاً يساعدنا.
هناك عدد كبير في أمتنا اصبح فاقد السيطرة على نفسه وعلى رأيه ونضارة شعوره، استعبدته المصالح وجمدته الإعتبارات الإصطلاحية، ففقد الحركة الحيوية اللازمة لكي يتمرد على المصالح الخاصة، لكي يتمرد على الإعتبارات الإجتماعية الكاذبة، لأن كل تمرد من هذا النوع يهدده في مصالحه ونفوذه ووجاهته، وهو يستمد وجوده من هذه الأوضاع والإعتبارات الزائفة لأنه لا يؤنس في نفسه القدرة على التحرر من مصالحه، فهو ينظر الى الأمة بمنظار نفسيته، ويرى الأمة على شاكلته عاجزة عن التحرر والتمرد على واقعها كما هو عاجز على التمرد على واقعه. فأعداء الفكرة الإنقلابية في بلادنا أو الذين يتمنون ولا يستطيعون السير في طريقها، هم أنفسهم أعداء القومية العربية. فلو كانت هذه الصلة حية لانتفضوا وشعروا بألم الواقع وبعار الحاضر، ولشعروا بالمسؤولية المترتبة عليهم من ضرورة تبديل هذا الحاضر بصفتهم جزءاً من هذه الأمة، ولاستطاعوا بالتالي ان يبدلوا نفوسهم وواقعهم ويتمردوا على مصالحهم.
صراع بين معسكرين، والظفر للإنقلابيين : عندما تتصارع فكرتان في حياة الأمة، فكرة جامدة بالية وفكرة جديدة حية، عندما ينشطر المجتمع الى معسكرين ،أحدهما يدافع عن القديم والجمود والمصالح الخاصة والثاني يدافع عن القيم الجديدة، عن التجرد والمثالية، التجرد والتضحية، يكون هذا الإنقسام في الأمة شكلياً وموقتاً في الواقع، لأن نفس المعسكر القديم المدافع عن الجمود والمصالح الخاصة فيه بذور إمكانيات نشوء الفكر الجديد، فكأن المعسكر الثاني هو التجسيد والتوضيح لهذه البذور والإمكايات الخيرة والكامنة فيه، وكأن معسكر الجمود والنفعية والمحافظة في صراعه مع المعسكر الثاني انما يصارع نفسه ويغلبها، ويتصارع مع غرائز الخير والحياة فيه لكي تستيقظ هذه الغرائز الخيرة ولكي ينميها الصراع ويقويها ويسمح بتفتحها الكامل. إن الحركة الإنقلابية في حيويتها وعنفها وصبرها وإيمانها، هي التي تتمكن اخيراً من إيقاظ وتحقيق هذه الإمكانيات الموجودة في نفس كل عربي. بهذا المعنى نستطيع أن نثق ونؤمن بأن معركتنا ظافرة لأن كل يوم يمضي عليها يضيف الى جيشها جنوداً أيقظهم صبرها واستمرارها وإشعاعها وأرجعهم الى نفوسهم، أي الى الصف النضالي الإنقلابي.
إن حركتنا إنقلابية عربية وقد بينا العلاقة بين الإنقلابية والصفة القومية وقلنا أن انقلابيتنا تنبع من صلتنا القومية وشعورنا بفقر الواقع وفساده وضرورة تبديله والقيام بانقلاب يرجع الى الأمة حقيقتها ويظهر كفاءتها الحقيقة وروحها وأخلاقها، والآن نتساءل عن وسيلة الإنقلاب؟ صحيح أن الإنقلاب فكرة ولكن لا بد لهذه الفكرة من أشخاص يفهمونها ويؤمنون بها ويمثلونها ثم يحققونها. إذن للإنقلاب أدوات حية من البشر هم الذين يعتنقون فكرته ويناضلون في سبيل تحقيقها. وبمقدار ما يكون اعتناقهم للفكرة عميقاً ونضالهم في سبيلها صادقاً، يكون الإنقلاب قوياً كاملاً. فالإنقلاب إذن هو صورة للذين يؤمنون به ويعملون له، وليس هو معجزة تهبط من السماء أو حادثة خارجة عن إرادة البشر وعن أعمالهم. وهذا يؤدي الى نتيجة أولى وهي ان الإنقلاب يجب ان يتحقق أولاً في نفوس الفئة القليلة التي تؤمن به وتبشر به العدد الأكبر، وتعمل على تحقيقه في مجموع الأمة، وكل تساهل في صدق تمثل هذه الفضائل في نفوس الإنقلابيين يهدد الحركة بالفشل والزيف. ولا يعقل أن نطلب من الأمة أن ترتفع الى مستوى لا نكون نحن قد بلغناه، ولا نكون قد برهنا للآخرين بأنه قابل البلوغ.
لا انقلاب بدون صراع : لاشك ان الغرض الظاهر للإنقلاب هو إزالة الأوضاع المصطنعة المفروضة على الأمة والتي تشوهها سواء أكانت هذه الأوضاع سياسية أو إجتماعية أو إقتصادية. ولكن الأوضاع تتمثل في أشخاص، وهي عبارة عن عقلية أشخاص ومصالحهم وعاداتهم، يألفون هذه الأوضاع ويحرصون عليها، ويدافعون عنها، فلا يمكن محاربة هذه الأوضاع الا من خلال الذين يتمسكون بها، ويستفيدون منها. إذن حركة الإنقلاب لا بد ان تهز كل الذين يستسلمون للأوضاع الفاسدة، ولا بد أن تعاكسهم، حتى تخلق في الأمة رد فعل للمرض عندما يستيقظ الفكر الحر والخلق القويم وتستيقظ الروح السليمة. فالإنقلاب ليس له الا معنى واحداً واضحاً صريحاً هو الصراع والمعاكسة للعقلية والخلق والمصالح السائدة، والبعث يولد من هذا الصراع.
وان الذين يحسبون أن مجرد تبديل في الأوضاع السياسية يوصل الأمة الى هدفها يخطئون أيما خطأ، فلو فرضنا ان الأوضاع السياسية في البلاد العربية تغيرت فجاة بفعل صدفة من الصدف، فنعتقد أن هذا التغيير لن يتناول الا الظواهر، لأن الأمة لم تقطع بعد مرحلة الصراع الذي يحرر فكرها ويقوم خلقها ويزيل التشويه عن روحها. فالواقع الفاسد ليس شيئاً مادياً متجسماًَ في الأوضاع السياسية أو الإجتماعية فحسب، وإنما هو شيء معنوي يشترك فيه الجميع بنسب مختلفة، ويمكن القول ان كل فرد يحمل اثراً من آثار هذا الواقع. فالفرد الإنقلابي هوالذي يصارع هذا الواقع في نفسه قبل ان يصارعه في المجتمع والأوضاع المادية. وان كل الذين لا يصارعون الواقع، ويحيون حياة طبيعية هادئة مريحة هم ضمن الواقع الفاسد الذي يجب أن نحاربه، إذ لولم يكونوا منه لوجب ان تتحول حياتهم الى ألم ونضال.
وأضيف ملاحظة أخيرة وهي أن مجتمعنا المتأخر المريض يعني وجود أكثرية ضعيفة جاهلة مستعبدة لا تقدر مسؤولياتها ولا تعي وجودها على حقيقته، لذلك تبقى الأقلية هي التي يمكن أن يتوفر فيها الوعي والشعور بالمسؤولية، وهذه الأقلية هي التي تنقسم في الواقع الى معسكرين : المعسكر الإنقلابي، والمعسكر النفعي والمعاكس لكل تجدد ولكل تبديل عميق في حياة المجتمع. فالمشكلة في مجتمعنا إذن هي مشكلة القيادة، مشكلة الأفراد الذين تتوفر فيهم الشروط لقيادة المجتمع. واذا كان مجتمعنا ما زال متأخراً حتى الآن فلأن هؤلاء الأفراد لا يحققون في أنفسهم الشروط الفكرية والأخلاقية والروحية اللازمة لملء مركز القيادة، والصراع هو بين القادة الصادقين والقادة الكاذبين.
10 ايلول 1950
من معاني الانقلاب
لن اطرق في هذا الحديث(1) موضوعا شاملا كاملا، بل افضل ان آخذ بعض ما توحيه فكرة الانقلاب التي يقوم البعث العربي عليها.
ايها الاخوان : لنحاول ان نتخلص من افكار اصطلاحية كثيرة ومن نقل العبارات المألوفة، والالفاظ المجردة، ولنحاول ايضا ان نرتفع قليلا فوق المشاكل القريبة العارضة، لنحاول ذلك كله، لكي نقترب من حقيقة مشكلتنا الكبرى، ومن حقيقة قضيتنا كأمة حية تنشد الحياة الصحيحة، وتشق طريقها بنفسها وبجهدها واثقة مؤمنة.
ما هو الانقلاب؟ هل تقف عند حدود التعريفات السياسية؟ هل يبقى فهمنا مقصورا على البرامج السياسية، وما تحويه من مشروعات ومقترحات، لتنظيم الحياة العامة في مختلف نواحيها؟ ام نفهم من الانقلاب شيئا اعمق واصدق؟
اننا نفهم من الانقلاب هذه اليقظة الحقيقية التي لم يعد مجال لانكارها والتشكك فيها ، يقظة الروح العربية في مرحلة فاصلة من مراحل التاريخ الانساني. الانقلاب في حقيقته هو هذه اليقظة، يقظة الروح التي تراكمت عليها اثقال الاوضاع الجامدة الفاسدة، وحالت زمنا طويلا دون ظهورها ودون انبثاقها واشعاعها. هذه الروح، تشعر اخيرا بالخطر الكبير، بالخطر الحاسم، فتنتفض انتفاضة حاسمة. وانتفاضتها هذه، وسيرها لن يكون الا في تيار معاكس للاوضاع التي عاقت ظهورها، والتي اثقلت عليها الاحمال، وشوهت طريقها، السير في طريق معاكس للاوضاع الراهنة، للاوضاع الفاسدة المريضة الزائفة، هذه المغالبة للتيار بقصد ان تستيقظ بقايا الروح الاصيلة في كل مكان توجد فيه، وتتجمع وتتكتل، لابد من هذا السير المعاكس للمادة، الذي يحيا في كل خطوة من خطاه، الذي ينبه ويوقظ، الذي يرد الى القوى الغافية والكامنة انتعاشها، وجديتها، وصحوها، وشعورها باستقلالها، وقيمتها وتأثيرها. فالانقلاب قبل ان يكون برنامجا سياسيا واجتماعيا هو هذه الحركة الدافعة الاولى، وهذا التيار النفسي القوي، هذه المغالبة الي لابد منها، والتي لا يفهم اي بعث للامة بدونها، ذلك ما نفهمه من الانقلاب.
اذن فنحن لا نحارب الاوضاع الراهنة لانها فاسدة فحسب، بل نحاربها لاننا مضطرون الى ان نحارب، لانه لا بد لنا من ان نحارب، لا بد للامة من ان تستكشف في نفسها بقايا القوى الصادقة، وان تستخرج من اعماقها كنوز الحيوية الكامنة، اننا نناضل ونكافح الاوضاع السياسية والاجتماعية الزائفة، الفاسدة، لا لمجرد ازالتها وتبديلها، بل ايضا لكي تعود للامة وحدتها في هذا النضال. فالامة انكرت ذاتها نتيجة الغفوة الطويلة، ونتيجة التشويه الطارىء عليها حتى لم تعد تعرف ذاتها، ولم يعد يعرف بعضها بعضا، لقد انقسمت ايما انقسام، فتناثرت اجزاؤها وافرادها، وهبطت الى مستوى وضيع والى سجن الانانية، وسجن المصالح الصغيرة، وسجن اعياد الجمود والقعود. وفي مثل هذا المستوى لا تنشأ وحدة بين الامة، ولا توجد الحرارة الكافية للتعارف والتآلف بين هذه الملايين من العرب. لا بد اذن من غليان لا بد من مستوى مرتفع، مضطرب، متحرك، لا بد من مشاق نجتازها، لا بد من سير طويل يدخل فيه الفكر مع الخلق مع الايمان، وان نجرب ونخطىء، ونصحح اخطاءنا. هكذا نتعارف، وهكذا يعود بعضنا الى بعض، فتتوحد الامة في طريق النضال والمشاق.
هذا بالنسبة للأمة كمجموع، واما بالنسبة الى افرادها، فالانقلاب الذي عرفناه بانه مغالبة للتيار، هو وحده الذي يكون الشخصية العربية من جديد، هوالذي يلقي على كل فرد تبعة اعماله، وهو الذي يطلق الفكر حرا مستقلا، ويقيم الخلق مسؤولا جديا، وهو الذي يفجر نبع الايمان في الروح، لان مثل هذا السير الطويل الشاق لا يستغني عن الايمان، بل ان مادته ودمه ينبعان من هذا المصدر الروحي.
فالانقلاب اذن طريق، طريق الى الغاية المنشودة، الى المجتمع السليم الذي ننشده. ولكنه ليس طريقا من الطرق، انما هو الطريق الوحيد. لهذا السبب الذي ذكرته -حتى لو ازيلت هذه الاوضاع من امامنا بمعجزة من المعجزات- فلن نكون الأمة المطلوبة ولن نصل الى الأهداف المطلوبة ولن نبني المجتمع المطلوب ولكن الأمة التي نريدها، والمجتمع الذي نريد ان نبنيه، متوقف علينا نحن، متوقف على جهودنا، على صدقنا، على وعينا، ولا يهبط من السماء، ولا يخرج بشكل آلي، ولكنه في فكرنا، وخلقنا، اذن لابد ان نمشي في هذا الطريق.
مغالبة التيار هي، في مثل حالتنا، المقياس الوحيد الذي يميز بين الصدق والكذب، بين الجد واللهو. عندما نجد الاستعداد لمغالبة التيار، عندئذ تصبح الاقوال والافعال والبرامج، وكل شيء آخر، ثانوية، ويصبح الشيء الوحيد الملموس الراهن الذي يمكن ان نطمئن الى وجوده هو ان نجد من يستطيعون تحمل هذه التبعة، ومن يسيرون في طريق معاكس للوضع القائم في البلاد العربية، وعندها تنشأ تباعا، وتنبت الفضائل المطلوبة لإكمال الطريق، وللبناء الجديد في نهاية الطريق. فالانقلاب هو مغالبة الحقيقة للواقع، لان للامة حقيقة رغم تخلفها ورغم تشوهها، وهذه الحقيقة تعلن عن نفسها مهما تكن سيطرة الواقع. والانقلاب هو هذا الاعلان، هذا الاثبات لوجود الحقيقة. الانقلاب هو مغالبة المستقبل للحاضر، لان اهدافنا المستمدة من اعماقنا ومن روحنا شعت وانطلقت تسبقنا، لتغرينا بالسير نحوها والتسابق اليها، هذا هو المستقبل، فالانقلاب هو اذن مغالبة هذا المستقبل، الذي هوحقيقة انفسنا واهدافنا، للحاضر المزيف، للحاضر الغريب عن حقيقتنا.
ايها الاخوان : الماضي شيء حقيقي، وشيء اصيل في حياة امتنا، ومن العبث ومن الخطل ومن العقم في التفكير ان ننكر هذه الحقيقة، اننا نقصد بالماضي ذلك الزمن الذي كانت فيه الروح العربية متحققة. وماذا نقصد نحن بالمستقبل، وما هو هذا المستقبل الذي يغرينا ويدفعنا الى النضال ان لم يكن هو الزمن الذي يجب ان تتحقق فيه روحنا الاصيلة. فماضينا بهذا المعنى الصافي الصادق، ارسلناه امامنا، اشعاعا ينير لنا الطريق ولم نتركه وراءنا نندب عهده ونستصرخ عونه، وننتظر بجمود وخمول ان يأتي هو الينا، وان ينزل الى مستوانا. ليس هذا هو الماضي، الماضي كحقيقة للروح العربية، كحقيقة متحققة للروح العربية لايمكن ان يأتي، ولا يمكن ان يرجع ويهبط وينزل، وانما علينا نحن ان نسير نحوه سيرا تقدميا الى الامام، وان نرتفع اليه ونصعد، وان نسلك طريقا وعرة صعبة حتى ننمي فينا الفضائل والمواهب والقوى التي تؤهلنا اخيرا لان نفهمه، فنمتزج به ونلتقي معه. فالسير التقدمي، والسير الصاعد في طريق الانقلاب هوالسبيل الوحيد لالتقائنا بماضينا. وهذا الالتقاء لايكون الا ارتقاء، ولا يكون هبوطا وانحدارا، او جمودا وامعانا في الجمود والقعود.
الى جانب هذه النظرة نحو الماضي التي نضعه في مستقبل بعيد يستثير فينا الهمم، نرتفع اليه ونبلغه بعد الجهد، ونستحقه استحقاقا كريما، توجد النظرة الاخرى التى تعكس ظلال الحاضر السوداء، البشعة، الثقيلة، على ذلك الماضي، فيفهم من الماضي انه استمساك بالحاضر وتشبث عنيد للاحتفاظ به، والاغراق في اخطائه ومفاسده. فكيف يكون هذا الماضي انطلاقا روحيا، وفكرا مبدعا وخلقا قويما مستقلا، وايمانا حيا فياضا؟ التشبث بالاوضاع الراهنة، المحافظة عليها ،الدفاع عن هذه الاوضاع التي تهدد العرب بالانقراض، ليس هذا هو الماضي، بل انه هو الحاضر، هو الواقع الفاسد، هو النفعية، هوعبودية المصالح. اما الماضي الحقيقي فهو الذي يدعونا حنيننا اليه، الى ان نعي ونجد، ونناضل ونرتفع. هذا هو الماضي الروحي الحر السليم الذي كان للعرب. لقد كان هذا الماضي عهدا تحققت فيه الروح، اي انه كان هو نفسه انقلابا بلغ فيه الفكر حريته واستقلاله، ونضارة احساسه بالحياة وبالعلم فابدع ونظم، وانسجم مع قوانين الحياة والطبيعة، وبلغت فيه الشخصية حريتها وفرديتها وجديتها ومسؤوليتها، فانطلقت تعمل اعمالا حرة، وتقف مواقف بطولية وتتجاوز حدود الانانية الى الانسجام مع الارادة العامة والانسجام مع المجموع وبلغت فيه الروح ينبوعها الصافي فامتلأت خصبا و تجددا، وعرفت قدرها الازلي، فاشبعت بالايمان.
لقد كان ماضينا انقلابا، ولن نبلغ مستواه، ولن نلتقي به الا عن طريق الانقلاب. فالانقلاب الجديد هو السير الواعي الجاد، المؤمن، نحو هذا المرتفع الذي يحل فيه التناقض وتوحد الاضداد، ويلتقي الماضي بالمستقبل، وتتصالح الامة مع نفسها في الابداع واداة الرسالة.
يسالوننا ايها الاخوان ماذا تقصدون بالرسالة، الرسالة العربية الخالدة؟ الرسالة العربية ليست الفاظا نتغنى بها، ليست مبادئ توضع في البرامج، ليست مواد للتشريع، كل هذه اشياء ميتة زائفة، لان بيننا وبين الوقت الذي نستطيع فيه ان نشرع من وحي روحنا ورسالتنا مسافة طويلة، وفاصلا كبيرا. ما هي اذن الرسالة الآن؟
هى حياتنا نفسها، هى ان نقبل بتجربة لهذه الحياة، بتجربة عميقة صادقة ضخمة جسيمة مكافئة مع عظمة الامة العربية، مكافئة مع عمق الآلام التي يعانيها العرب، متكافئة مع جسامة الاخطار الي تهدد بقاء الامة. هذه التجربة الحية الصادقة، التي تردنا اخيرا الى ذواتنا، والى واقعنا الحي، وتحملنا مسؤولياتنا وتضعنا فى طريقنا الصحيح، لكي نكافح هذه الامراض وهذه الحواجز، وهذه الاوضاع الزائفه، نكافح الظلم الاجتماعي والاستثمار الطبقي، وعهود النفعية والرشوة والاستغلال ونكافح الاستبداد، وتزييف الارادة الشعبية وامتهان كرامة الفرد العربي كمواطن وانسان، في سبيل مجتمع حر يسترد فيه كل عربي شعوره بذاته ووجوده وكرامته، بفكره ومسؤولياته.. التجرية التي نكافح فيها تقطيع اوصال الامة العربية الى اقطار ودويلات مصطنعة مزيفة، حتى نصل الى توحيد هذه الاعضاء المتناثرة حتى نصل الى حالة سليمة طبيعية لا يتكلم فيها عضو مبتور باسم الكل، حتى نتخلص من هذا الوضع الغريب الشاذ. عندها يستقيم للعرب ان يجتمعوا كلهم فتستقيم نفوسهم، وتتصحح افكارهم، وتتقوم اخلاقهم، ويتفتح مجال الابداع امام عقولهم، لانهم اصبحوا كائنا طبيعيا سليما، امة واحدة. فهذه التجربة السليمة الصادقة لمكافحة هذه الاوضاع حتى نصل الى الوضع السليم، تلك هي الرسالة العربية. والرسالة هي ما يقدمه جزء من البشر الى مجموعة الانسانية، ولا يعطى معنى الرسالة لشيء ضيق اناني وانما لابد لها من المعنى الانساني الشامل الخالد
فد تتساءلون كيف تكون رسالتنا هذه فى معالجة مشاكلنا، فاقول لكم بان العرب عندما يقدمون على هذه التجربة، وهم في الواقع قد بدأوا فيها وانغمسوا فيها ولن يتراجعوا مطلقا، عندما يقومون بكل ذلك، فانه لن يقتصر عمل هذه التجربه على حل مشاكلهم فحسب، بل يخرجون منها بتجربة انسانية عميقة تخلق فيهم شخصية مشبعة بآلام الحياة الانسانية ومعرفة اسرارها، ومداومة امراضها، فيقدمون للعالم وللانسانية كلها ثمرة هذه التجربة الخالدة.
شباط 1950
(1) حديث القي في مكتب البعث العربي في حمص
حول الإنقلاب
قلنا ان البعث العربي فكرة مدفوعة الى التحقيق في العمل، والبعث العربي لذلك حركة، حركة انقلابية، وعرفنا الانقلاب بانه هو التغيير الحاسم في مجرى حياة الامة، اي تحول حاسم يختلف عن التطور. وقلنا انه يلزم لتحقيق الانقلاب وجود وسائل، اي خلق جيل واع يبعد الخطر عن امته ويشعر بمسؤوليته لتحويل مجرى حياتها، ومؤمن بتحقيق ونجاح الانقلاب.
اذن اعطينا ثلاث صفات لهذا السبيل : ا – الوعي للشروط التاريخية والاجتماعية، اي انه عارف لماذا. كان هذا التحول ضروريا للامة. 2- الاخلاق، اي ان عليه ان يكون في الطليعة وان يخرج من العدد المنفعل المستسلم للاوضاع. 3- الايمان، اي انه لايكفي ان يكون فاهما لضرورة التحول ومقدرا لمسئوليته بل يؤمن بأن القدر والتاريخ وكل الظروف مهيأة لنجاح هذا الانقلاب. ومنها وصلنا الى القول بان السبيل الجديد هو وسيلة الانقلاب، ويعتمد هذا الجيل على الفرد، لان الوعي والايمان يفتش عنهما في الافراد لا في المجتمع.
بعد ذلك تكلمنا في الحقيقة والمواقع بالنسبة للشعب، فحقيقته شيء وواقعه شيء اخر، لان واقعه مفروض عليه فرضا من قبل الفئات المستثمرة والقوى الاجنبية. ان حقيقته قد طمست ولا زالت، كما ان التفاعل والاصطدام بين حقيقته وواقعه يجلو حقيقته ويهيؤه لتحقيق الانقلاب. ونظرتنا الى الشعب نظرة تفاؤل وايمان، ولمجرد تجسيد الجيل الجديد لفكرة الانقلاب، نجد الشعب يتنبه ويمشي في طريق الانقلاب. و نحن ننفي التشاؤم وسوء الظن بالشعب وباخلاقه لان واقعه الفاسد عارض طارىء، ولأن حقيقته كامنة تتجلى مع التجارب والآلام. فنفسية الانقلابي هي نفسية التفاؤل والايمان اي يؤمن بان الانقلاب قدر تفرضه شروط التاريخ ومواهب الامة نفسها، ويؤمن بان الشعب مستعد لتلبية هذا الانقلاب.
ثم تعرضنا الي مبررات هذا الايمان. هل هو استنادا الى تفسير معين للتاريخ، تفسير جبري، اي ان تطور التاريخ يؤدي حتما الى هذا المصير؟ قلنا ان لا موجب عندنا لمثل هذا التفسير، فالعربي الواعي المؤمن اليوم، حاجته لايجاد مبرر في الماضي لنهضته، بل يجد من الواقع نفسه مبررا للنهضة. فالسند هو الجيل الجديد الانقلابي، الذي اصبح حقيقة لا يجادل فيها والذي يتكون ويتكاثر ويترابط في مختلف الاقطار. هذا وحده مبرر ودليل على ان الامة قد نضجت وانتجت هذا الجيل، وهذا يدل على انها سائرة نحو الستقبل. فمبررات الانقلاب هي في الواقع نفسه لا في التاريخ.
ما دام الانقلاب هو من اجل بناء مستقبل جديد يختلف عن الحاضر اختلافا جوهريا فما هي معالم هذا المستقبل؟.. نحن لا نقول ان معالمه محددة منذ البدء ومرسومة منذ الماضي، وعندها يكون الانقلاب رجعة، كلا، نقول ان معالمه وخطوطه تحددها حاجات الامة التي تهتدي اليها بملء الحرية دون ان تكون مقيدة باي قيد. فالامة عندما تعي ذاتها ومكانتها في العالم وفي الزمن وتريد ان تتحرر من المرض والنقص تخلق وسائل تحررها ولا تستمد هذه الوسائل من اي شيء سابق. وقلنا ان هذه هي الطريقة الوحيدة التي تضمن مجيء هذا الانقلاب وهذا المستقبل منجما هو روح الامة واصالتها. أي بقدر ما تكون الامة حرة بالسعي نحو مستقبلها تكون منسجمة مع نفسها مخلصة لشخصيتها وعبقريتها وبالعكس، اذا وضعت قيودا لنفسها تخون شخصيتها وتبتعد عن روحها، وفي الماضي عندما كانت الروح العربية متجلية بقوة اوجدت لنفسها وسائل تحقيق ملائمة لظروف الزمان والمجتمع. والوسائل ليست من نفس جوهر الروح اي ليست شيئا اصيلا، اما الاصل فهو المستوى الروحي، فالعرب عندما يسترجعون المستوى الروحي العالي ويتفوقون عليه تكون الوسائل متلائمة مع روحهم بالنسبة للعصر. عندما نمشي بالابداع والحرية وتلبية حاجات صادقة وعميقة في حياتنا الحاضرة نلتقي بالروح التي كانت مهيمنة على ماضينا.
عام 1950
علاقة التنظيم بالعمل الإنقلابي
تعلمون ان مرحلة الإنقلاب في حياة الأمة، هي المرحلة التي يكون التشويه والانحراف قد طرأ على مختلف الاوضاع فيها، ليجعلها متناقضة مع مصلحة الشعب متعارضة مع التقدم والنهضة والإنبعاث القومي. وتمكن الفساد التشويه والإنحراف وانتشاره يحدث هزات في حياة الشعب، ويخلق نوعا من الإضطراب والشعور بالحاجة الى تبديل الأوضاع ومقاومة الفساد. ولكن هذا الشعور لا يتبلور بشكل واضح واع، الا عند اقلية من ابناء هذا الشعب، تدرك واقع امتها وتصمم على تبديله، وتتقدم الصفوف للنضال في سبيل قلب هذه الاوضاع وتغييرها، وتتجه الى الشعب لتنقل اليه وعيها، عاملة على تنبيهه وتثقيفه وتوضيح واقعه له، جاهدة لتسير بالشعب في طريق النضال المنظم.
فمن خصائص المرحلة الإنقلابية اذن، ان تكون قيادة الحركة الشعبية بيد اقلية اذ لو ان اكثرية الشعب كانت قادرة على وعي مساوىء الاوضاع حق الوعي، ولو انها كانت قادرة على تنظيم صفوفها حق التنظيم، ولو انها كانت تسير من نفسها في طريق النضال الجدي لتبديل الاوضاع، اذن لما كانت المرحلة انقلابية، ولما كانت الأمة بحاجة لانقلاب في حياتها واوضاعها للنهوض، بل لسارت اليه وتقدمت، عن طريق التطور الطبيعي. ولكن مثل هذا الوعي الشعبي العام، ما زال غير متوافر والحياة السياسية ضمن شروط النظم القائمة، ما زالت قاصرة عن تمثيل ارادة اكثرية الشعب وعن ايصال صوتها، بل تمثل في كثير منها، مصالح اقليات مستغلة ومعادية لمصلحة الشعب الى حد كبير. وفي مثل هذه الحال، يأتي العمل الإنقلابي في كل بلد، وفي كل شعب، وهو من جهد اقلية منه. ولكنها اقلية من نوعية خاصة. اقلية واعية لواقع امتها مؤمنة بقضية بلادها وبحقوق شعبها، متجاوبة كل التجاوب مع حاجات الشعب العميقة وامانيه. هذه الاقلية تتقدم هنا لتمثيل الشعب، قبل ان يفوضها الشعب تفويضا صريحا بهذا التمثيل، وهي التي تبدأ بان تتجه للشعب لتوقظه على واقعه ولتنظم نضاله وتقوده في طريق الإنقلاب.
وقضية التنظيم تطرح منذ البداية في العمل الإنقلابي. والا فكيف تستطيع هذه الاقلية الصغيرة ان تكون قوة وان تنهض باعباء النضال الفعال، وكيف للعشرات او المئات ان يقفوا في وجه الفساد وان يصارعوا الرجعية والاستعمار ومصالحهما الكبيرة الكثيرة، وكيف يقاومون ما خلفته عصور الانحطاط من جهل وانقسامات ومن فوضى مستعصية على العمل المنظم وحائلة دون تعاون الشعب ومشاركته، وكيف تستطيع هذه القلة بالتالي، ان تضم حولها قوة شعبية متكافئة مع ما تصدت له من صعوبات واخطار، كيف تستطيع كل هذا اذا لم تستنجد بالتنظيم، تستنفد به كل كفاءاتها وامكانياتها، وتعوض عن قلة عددها وفقر وسائلها، وتفتح امام عملها طريق النمو المضطرد. فالحركة الإنقلابية اذا لم تقم على تنظيم متين واع، تبدأ عملها ثم تتبعثر جهودها وتضيع بين شتى الاعمال الارتجالية، وتمضي دون ان تخلف اثراً في حياة الأمة. فالتنظيم شيء اساسي وحيوي يرافق العمل الإنقلابي بل هو من طبيعة هذا العمل ويستمد من فكرته الإنقلابية.
ويجدر بنا هنا ان نسجل ملاحظة، حتى لا نترك اي مجال للالتباس وسوء الفهم. وهي اننا لا نعتبر للتنظيم قيمة في حد ذاته، اي لا نراه منعزلا عن الفكرة التي يرتبط بها ويستلهم منها قواعده وحدوده. فبتجريد التنظيم عن الفكرة تصبح قيمته فنية بحتة، يمكن ان تستخدم للخير وللشر في آن واحد، فعصابات الاشقياء تستند في اعمالها الى التنظيم. ومعناه وصلاحه متوقف على الفكرة التي توحي به وتشرف عليه وتمده بالروح. فالتنظيم لا يخلق شيئا من العدم، والتنظيم ليس كل شيء في العمل الإنقلابي، وهو لا يعني ان هذه الاقلية الإنقلابية، ترتجل فكرتها وحركتها ارتجالا، او تعود للتنظيم لتخلق بواسطته حركة من العدم.
إن التنظيم، اي تنظيم كان، يعجز عن خلق شيء من العدم، ولكن الحركة الإنقلابية كما ذكرنا، انما تقوم في أساسها على مسلمة، على ان ثمة تجاوبا بين الاقلية الإنقلابية، التي كانت اسبق من غيرها الى وعي الواقع والشعور بالمسؤولية واقدر على ذلك، وبين بقية افراد الشعب، تجاوبا في الروح والحاجات والاماني. الاقلية الإنقلابية لا تبتدع شيئا من نفسها ولا ترتجل، ومهمتها في الواقع ان تترجم حاجات الشعب العميقة، هذه الحاجات التي تكون غامضة ومجزأة بالنسبة للشعب الذي لم يبلغ بعد الحد الكافي من العلم والوعي أو من القدرة على التعبير عن هذه الحاجات، وان عبر بين الحين والحين، بانتفاضات وحركات آنية تنم عن اتجاهه وعن حيويته وطاقته النضالية، كما تعبر بشكل جزئي وغامض بل ومشوه احيانا عن اهدافه التي يسعى اليها. ثم تأتي هذه الاقلية، التي هي من هذا الشعب، والتي يفترض فيها انها شاركت الشعب انتفاضاته ونضاله البدائي (وهذه الاقلية كانت في الاصل موزعة وغير متعاونة، ثم تعارفت وتوحدت بنتيجة التجربة والمراس الطويل والوعي. واصبحت قادرة على قراءة ما يعتلج في قلوب ابناء الشعب) لتتعرف من خلال آلام الشعب وانتفاضاته الارتجالية، على اهدافه الحقيقية وعلى امكانياته وقدرته على تحقيق هذه الاهداف. فعندما نقول ان الاقلية الإنقلابية لا بد وان تعتمد اعتمادا اساسيا على التنظيم، فلانها تبدأ من اعتمادها على ذلك التجاوب العميق بينها وبين اكثرية الشعب الساحقة، وتعرف ان طريقها الى قلوب الشعب مفتوحة، وان التنظيم هو الذي يمكنها من الوصول الى الشعب ومن قيادته، كما يمكنها من اختصار الزمن وتسهيل عقبات الطريق. وما مهمة الإنقلاب الا حشد القوى وتسهيل الطريق وازالة العقبات من طريق الشعب الذي يناضل في سبيل تحقيق اهدافه القومية.
واذا كان التنظيم لا يخلق شيئا من العدم، فان هذا لا يتناقض مع كون التنظيم الإنقلابي ذاته عملا خلاقا. وذلك بمعنى ان هذه القوى والطاقات النضالية الكامنة في نفوس الشعب تبقى غير متحققة بغير هذا التنظيم الإنقلابي. ووجودها هكذا كامنة، مثلها كمثل رجل يحتفظ بمبلغ من المال في صندوقه دون ان يستعمله، فلهذا المال وجود ولكنه غير محقق لقدرته الشرائية وغير مستثمر. وقوة الشعب النضالية يكون وجودها هكذا كامنا او مهدورا، والاقلية الواعية اول من يشعر بهذه القوة النضالية الكامنة في قلب الشعب، ولكنها اذا لم تنقل هذه الطاقة الى حيز التحقق، تبقى وكانها غير موجودة. عمل هذه الاقلية هو الذي ينقل امكانيات الشعب ويجعل منها حقائق راهنة، ويخلق منها عملا ونضالا بناء، ومثل هذا العمل الإنقلابي المنظم عمل خلاق.
لننتقل الآن من التحليل النظري الى الواقع الذي نحياه، لنرى ما هو موضع التنظيم في حياة شعبنا وفي حياة هذه الحركة الإنقلابية. لسنا بحاجة الى تكرار اوصاف هذا الواقع، فهو واضح يفرض نفسه على كل شاهد وبكل ما فيه من عيوب ونقائص. وعلينا ان نقيم قواعد وركائز وقلاعا ضمن هذا الواقع المملوء بالفساد والنقص والتخلف والجهل والميوعة، وعلينا ان نبثها هنا وهناك وفي كل ناحية، لكي تكون منطلقا للحياة الجديدة وللتوجيه الجديد الذي نريد نشره بين ابناء شعبنا، لنجذب الى هذه الركائز ولنكتل في هذه الحصون العناصر الاسلم من غيرها والاقل مرضا وتشويها والاقدر من غيرها على التفاهم والتعاون والاكفأ للعمل المنظم الواعي. وبهذا العمل تتسع وتنمو هذه الركائز والحصون، لتصل بالنتيجة الى تبديل حياة الشعب بكاملها وتغيير اوضاع البلاد كلها، ونصل بالتالي الى خلق حياة جديدة لامتنا.
وهذه الركائز لم نسمها قلاعا وحصونا، الا لما ننشده من ان تكون متينة جدا لكي تصمد لمقاومة الفساد، والاعداء الخارجيين والاخطار المستمرة، وهذه العناصر الإنقلابية لكي تنمو في عملها ونضالها، ولكي تتقدم ولا تكتفي بالصمود يجب ان تكون من نوع خاص متميز، فلا يكفي ان تكون صالحة سليمة، بل يجب ان يكون النظام الذي تتبعه في عملها، صحيحا وعقلانيا ومتينا ومضمون الاستمرار والنجاح. وهنا لا بد من الاصرار على دور العلم والثقافة، ودور الخبرة والتجربة، وكثيرا ما رددنا ان البعث لا يمكن ان يكون الا على اساس العلم والمعرفة والكفاءات الفنية، اذ كيف يمكن ان نحقق انقلابا في حياة امة تخلفت مئات السنين عن مستوى البناء والابداع واعرضت عن المساهمة في الحضارة الانسانية، بل كيف يمكن ان نرفع امتنا التي كانت سباقة ومجلية، من جديد الى مستوى الابداع وخلق الحضارة، دون ان نعتمد كل الاعتماد على اساس متين من العلم والثقافة والخبرة الفنية وهذا ما يجب ان يقوم عليه التنظيم الإنقلابي ليكون قادرا على خدمة اهداف الإنقلاب وتحقيقها. فنحن هنا بحاجة للكفاءة والعلم وللافادة من خبرة وتجارب الشعوب المناضلة والامم المتحضرة، وهذه التجارب تعطينا قواعد ودلائل نسترشد بها في تنظيمنا ونقتدتي بها في عملنا على ان نلائم بينها وبين اوضاعنا ونعدل منها حسب ظروفنا، وهناك اشياء عامة ومشتركة لايستغنى عنها في اي بلد بالنسبة لاي شعب، وهناك قواعد اساسية خرجت من خبرة وتجارب طويلة للامم التي سبقتنا في مجال الحضارة.
اذن فعملنا يجب ان يقوم على الاختصاص وان يسير في دأب واستمرار. وتنظيمنا يجب ان يكون متناسق الحلقات والاجزاء كالجسم الحي، كل عضو فيه يقوم بمهمته الخاصة ولكن ضمن المخطط العام الذي يضمن الحياة والنمو الكامل لهذا الجسم. والشيء الذي نريد الالحاح عليه هنا، لاننا قلما نوفيه حقه من الاهتمام والتقدير، هو ان التنظيم الإنقلابي الذي نحتاجه ولم نبلغ بعد مستواه، يتطلب انقطاع افراد للعمل الحزبي انقطاعا تاما، ليجعلوا من العمل الحزبي الإنقلابي شاغل حياتهم، منه يعيشون ويكسبون رزقهم، وفيه يضعون جميع امكانياتهم وكفاءاتهم وآمالهم وطموحهم. وبمثل هذا وحده، يمكن ان تنشأ عند هؤلاء الافراد، خبرة قومية نضالية عميقة، نتيجة الاستمرار الطويل والدأب والممارسة ومواجهة المشاكل يوميا، والوقوع في الاخطاء الكثيرة وتصحيح هذه الاخطاء بالتجربة والممارسة والمراقبة، والاتصال اليومي المباشر بحياة الشعب والتعرف الى مشاكله، والصلة الدائمة بحياة الحزب ومعاناة كل مشاكله وقضاياه للخروج من كل هذا بخبرة جديدة في كل يوم وكل سنة. وعلى هذا الاساس يستطيع الحزب ان يخلق افرادا يكونون في البدء آحادا ثم يصبحون عشرات ثم مئات والوفا، ويكون لكل فرد من هؤلاء، بنتيجة هذه الممارسة وهذا الايمان الذي تعزز بالعمل النضالي المتواصل، من الخبرة والكفاءة ما يعدل الفا ويستطيع ان يخلق الحركة والحياة في الف آخرين وان يكون مصدر اشعاع وتوجيه ووعي وقوة لمجموع الشعب. فالشباب المثقف الذي وعي ان مكانه التاريخي هو في هذه الحركة الإنقلابية، فتقدم اليها و سار في طليعتها، يجب ان يكمل هذا الوعي بالعمل النضالي الشعبي الإنقلابي المنظم. فلا يقف عند هذه المرتبه الاولى من الوعي، بل يرتفع الى مرتبة اخرى، ليعرف كيف تكون مشاركته على اقوى واحسن شكل، وليجعل مشاركته اقوى مردودا واعمق اثرا في حياة الأمة في هذه المرحلة.
ميشيل عفلق تموز 1955