شبكة ذي قار
عـاجـل










تحل علينا هذه الأيام ذكرى عبقة ومختلفة في سياقاتها ومذاقاتها عن غيرها من الذكريات والمواعيد والتواريخ، هي الذكرى 72 لتأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي، لتكون إيذانا بانطلاق مسيرة واعدة من النضال والمقاومة والكفاح دفاعا عن الأمة العربية وحقوقها المسلوبة وذودا على حياضها وأراضيها المغتصبة وسعيا لاسترجاع ثرواتها المنهوبة واسترداد كرامتها المنتهكة وعملا على معاودة بعث الروح فيها بتذليل الصعاب والعقبات أمام تطلعات جماهير العروبة وأهدافها وعلى رأسها النهوض مجددا والخلاص من الكبوة والانتكاسة الحضارية التي دامت طويلا.

فبإشراقة السابع من نيسان - أفريل 1947، دغدغت الوجدان العربي نسمات البعث الخفاقة، ونفضت الجماهير عنها غبار الهوان واليأس والقعود، ولاحت لها بوارق الأمل في غد مشرق وضاء لائق بها وبكونها سليلة أمة مجيدة وحضارات تليدة، بعيدا عن أجواء الإحباط واليأس والتشاؤم التي لفت فضاء العروبة بسبب المحن والخطوب التي حفته طويلا وعمل على إدامتها أعداء الداخل وأعداء الخارج في الآن ذاته، كما تراءت بوادر انفراج عديد المآسي التي كبلت معاصم العرب وكدرت صفوهم، حيث تلمسوا في ثنايا هذا الوليد اليافع عمرا والعملاق الشامخ رؤى وأفكارا ورهانات وغايات، والكبير مطامح وأهدافا، والصلب بناء والقوي عزما والواثق إيمانا بحق الأمة وبإمكانياتها الفعلية، معالم حقيقة عربية أخرى ممكنة بعيدا عن الواقع المزري وعكس الدمار المنجر عن الجرائم الاستعمارية والخيارات المتخاذلة والسياسات المتخلفة للحكام العرب وبشاعة الاستغلال والاضطهاد والتغريب وغيرها من مظاهر الاستخفاف بالإنسان العربي وبأمته ناهيك عن شتى الحروب النفسية الهوجاء التي تعرض لها من جميع الجهات والتي تعمل على تثبيت دونية العربي مقارنة بغيره من الأجناس والأعراق الأخرى.

وبإطلالة السابع من نيسان - أفريل 1947، عانقت الجماهير العربية لأول مرة بداية طريقها وأدواتها ومسالكها لتحقيق ما يعتمل في صدورها وما تتوق إليه عقولهم وما ترنو إليه أرواحهم.

فمع نسائم تأسيسه، ومع إطلالته الاولى، وأثناء بواكير معانقته للجماهير، أسهب البعث في تشريح واقع الأمة، وأظهر مقدرة استثنائية على استشراف حلول واقعية وممكنة كفيلة بتحقيق التغيير الجذري لذلك الواقع بل وقلبه رأسا على عقب.

وفصل البعث في تلك الاثناء مكامن العلل والوهن وعوامل التردي والانهيار وكشف عن أسباب التراجع المريب الذي ضرب فعل الأمة، وبين أن التغيير ممكن ومتاح وليس صعبا أو مستحيلا، شريطة أن يعي العرب جوهر أوضاعهم وأن يتسلحوا بالعزيمة والإرادة وأن يخلصوا النوايا ويصدقوا في العزم على امتلاك نواصيهم بأيديهم.

كما لم يكتف بذلك، بل تفطن بعبقرية رجالاته وقادته ومفكريه المؤسسين المبدعين الأفذاذ، لما غفل عنه غيره وما أدركوه، وذلك باكتشافه للحلقة الأغلى والأثمن التي أضاعها العرب طويلا، فكان أن دعاهم إلى المصالحة مع ذواتهم، والاعتزاز بهويتهم وبتاريخهم، وطالبهم بالتعرف عليه وسبر أغواره والنهل منه واستخلاص العبر من ثناياه، ووضح توضيحا سلسا مرنا، وعلميا لا مغازلة فيه ولا مغالطة، أن العرب أمة عظيمة بل من أعظم الأمم في التاريخ البشري، وأنها أمة ريادية رسالية عصية على الفناء والتركيع.

لقد أصل البعث واستخلص من عبر التاريخ ودروسه، لا من باب الحنين الوشائجي الماضي والوقوف على الأطلال، ولا من باب التكلس أو التشريع للجمود، وإنما من باب الحض على البناء عليه والانطلاق منه لمعاودة معانقة الأمجاد، ففيه - أي ذلك التاريخ - عشرات مئات المحطات النيرة والصفحات المضيئة التي خلدت مقدرة العرب على تجاوز المحن، والنهوض مجددا وبأكثر قوة إثر أي تراجع حضاري أو انحطاط أو جزر أو استكانة، ووثقت محافظة الأمة على تدفق دماء الحياة في شرايينها فلم تنته ولم تفنى ولم تضمحل.

وكانت هذه إحدى أهم الرسائل التي ضخها ووجها البعث إلى العرب، وكان مضمونها أن قدر الأمة الخلود، ومصيرها البقاء والصمود، مهما اشتدت الصعاب، وكثرت المحن. كما صارحها بأن الخلود ليس هدفا في حد ذاته، بل إن الهدف هو فعالية ذلك الخلود وجدواه ومهامه ووظائفه.

وإنه من نافلة القول إن استملاك تلك المهمة العظيمة والنهوض لها وتجسيدها والنجاح في إنجازها يستوجب إعداد رصينا وتوجيها رشيدا وإحاطة حكيمة بما يحول دون أدائها على أكمل وجه وفي أحسن الظروف.

لم تكن مهمة الوعي بضرورة الصمود بوجه منظومة العداء للعرب سهلة ولا مفروشة بالورد، حيث يستحيل نظريا التبشير ببارقة أمل تلوح في نفق الأمة المظلم سيما بتنامي الاختراقات المخيفة للساحة العربية ومن منافذ متعددة وعلى يد جهات أكثر من أن تحصى.

ولكن حزب البعث وبسبب إدراكه لهذه الحقيقة، وإدراكه أكثر لاستحالة إقناع الجماهير بإمكانية ثباتها بل وانتصارها في نهاية المطاف والحالة تلك، لم يركن للمغالطات والمخاتلة، بل اعتمد أسلوب المكاشفة والمصارحة، وبسط الحقائق كما هي بلا تجميل أو تزييف أو تبسيط.

عرض البعث المسألة القومية العربية بتعقيداتها وتحدياتها ورهاناتها بإسهاب، وأكد منذ البدء أن رفع لواء العروبة والدفاع عنها ليس مغامرة سياسية مرحلية، أو مخططا دعائيا يزول بزوال ثماره المفترضة، ولكنه قدر ذلك برسالة تنضاف لما يتوجب على الجماهير فعله، ووضح أنه مشروع نضالي حيوي وخطير بل وشديد الخطورة، فلا يحده سقف زمني ولا التضحيات أيضا مهما بدت باهضة الثمن.

لقد كان البعث ملما بجوهر المؤامرات التي تعرضت لها أمة العرب ولاتزال تحتد وتتجدد، وكان عارفا بأهدافها وطرقها وأساليبها وأسلحتها. ولذلك فلقد كان نهج الخلاص واضحا نصب أعينه، وهو الرهان على العروبة وأبنائها حصرا واجتناب التعويل على الأعداء وحيلهم ووعودهم الكاذبة، وهذا الرهان الحصري على العروبة هو الذي دفعه - واستخلصه في الحقيقة في الآن ذاته - لتمتين الصلة بين العروبة وبين أبنائها والمصالحة بينهما كما سبق وأشرنا إلى ذلك أعلاه.

ونظرا لكل ذلك، كان البعث مقتنعا باجتناب كل المعالجات والحلول التي جربت سابقا، فالتزم بمحورية الجماهير في سياساته وفكره ونضاله حتى أنه اعتبر الشعب مركز الفعل البعثي برمته ومعينه وظالته ووجهته وهدفه، لا رياء أو تملقا أو ادعاء، بل واقعا لا ليس فيه.

ومن هنا جاء البعث عربيا وحدويا إنسانيا، ومن هنا جاء ثوريا انقلابيا.
إن العلاقة بين ثورية البعث وانقلابيته، وبين عروبته وإنسانيته علاقة جدلية بإمتياز.

فالبعث، ولما آلى على نفسه الدفاع عن العروبة واسترجاع ألقها ومجدها، كان لزاما عليه أن يتسم بسمة الثورية ذلك أن البيئة العربية التي نشأ من رحمها وترعرع في أحضناها لا يمكن التعاطي مع مشكلاتها إلا من باب ثوري مطلق، بحيث تنظم الكفاءات والخبرات وتحشد الطاقات والسواعد بطريقة مثلى بالغة الصرامة، وتعمل كلها على هدي خطة مدروسة بإتقان ومعدة وفق مناهج وغايات موضوعية يكون التغيير الجذري للواقع المتعفن هدفها الأعلى والقطع مع السائد بتشعباته وتمظهراته المتردية المنشود الأبرز.

ولقد أسهب البعث منذ فجر إطلالته الأولى على الجماهير في تفصيل جوهر منطوقه ومسلكه ومنهجه الثوري، وذلك بأن حدد الأعداء المتربصين بالأمة وضبط العقبات والحلقات الرئيسية بشريا وماديا وحتى ثقافيا واجتماعيا التي تساعد أولئك الأعداء أو تنخرط في أجنداتهم، وبالشكل ذاته حدد تفاصيل التعامل معهم ولخصه في مفردة رئيسية هي المقاومة الجامعة الشاملة للأبعاد الشعبية والكفاحية والتي نص على ضرورة أن تغطي مجالات الحياة العربية كافة في سعي الجماهير لتسطير معالمها الثورية الجديدة المأمولة وأن تغطي أيضا ساحات الوطن العربي كله.

لم يفت البعث أن الاستعداد للثورة والتعبئة لها والسير فيها وتنفيذها لا يجب بحال من الأحوال أن يخضع لمنطق ذاتي ضيق أو أن يرتهن لحسابات الربح والخسارة بالمفاهيم السياسية المتداولة، ذلك أن الثورة هي قدر عربي صرف، وبها وعبرها يتحدد المصير العربي برمته، وهذا ما تختلف فيه الأمة عن غيرها من الأمم والشعوب باعتبار أن الهجمة عليها تختلف عن غيرها، وكذلك أهدافها وتجلياتها.

فالعرب مستهدفون وفق المنظور البعثي منذ انطلاقته، لا في ثرواتهم فحسب، بل لعل الثروة والمقدرات العربية إنما هي بعد من الأبعاد التي تؤجج رغبة الإصرار على ضرب العرب والعروبة، بل ولعلها بعد ثانوي أمام الأبعاد الأخرى.

فسبب الاستهداف الحقيقي للعروبة أبعد وأخطر من ذلك، حيث ينبني على دوافع لضرب الصروح الحضارية و الأرصدة القيمية والأخلاقية والروحية للعرب، وهو ما تنضح به المقررارت السرية للقوى الاستعمارية الغربية والدوائر الصهيونية التي تشكل رأس حربة تمزيق الجسد العربي، وما يؤكد ذلك ويدلل عليه واقعا هو تنصيب رجعيات عربية عميلة تملكت مصائر الأمة وأبنائها، ضمنت وحافظت على مصالح الدوائر المعادية كافة وخاصة في المجال الطاقي وكل موارد الثروة، وهو ما يفند الاقتصار القائل بأن كل هم الغرب الاستعماري الثروة العربية في تفسير لإصراره على بسط سيطرته المطلقة على الساحة العربية.

وإدراكا لهذه النقاط الجوهرية، ربط البعث الثورة بالعروبة لا من كونها مجرد انتماء عرقي كما يروج له المناوئون والمتخاذلون، بل باعتبارها إطارا حضاريا وثقافيا وروحيا جامعا برصيد أخلاقي وقيمي فريد، وعليه جاء التشديد على ضرورة أن تكون الثورة شاملة لجميع الأبعاد وواعية بكل التحديات والمخاطر، وأن تتحصن بأنجع الوسائل والأسلحة وأهمها على الإطلاق الإرادة والتصميم والوعي وخاصة الصدق في العزم على تسطير الواقع المتناسب مع إمكانات الأمة وتاريخها ومقدراتها كافة، والحرص على تنقية بيتها الداخلي وتطهيره وحمايته من المندسين والعملاء والمشبوهين والمترددين.

تهدف الثورة التي بشر بها البعث إذن إلى مقاومة العدوان الخارجي وتحرير الأراضي العربية المغتصبة جميعا، ولكنها لا تتوقف عند ذلك مطلقا، بل تتعداه إلى ضرورة تحرير الإنسان العربي من كل القيود التي تكبل وتمنع رقيه وإبداعه وتفجير طاقاته الزاخرة، وذلك بإعداده تربويا وثقافيا وعلميا لاكتساب الأهلية الضامنة لمشاركته في الثورة العربية الكبرى والدفاع عنها ببسالة.

فتحرير الإنسان العربي من الجهل والشعوذة والخرافة والأمية ومن الإذلال والتفقير والتهميش والاستغلال والإقصاء سيما من المشاركة في نحت معالم السياسة العربية، سيسهم ولا ريب في دفع الثورة إلى الأمام، وسيخلق لها رصيدا بشريا مهما وقادرا على ضخها بالحياة وبالعنصر النوعي والمهارات الكفوؤة كلما احتاجت له.

ثم إن البعث يعي ويؤمن أن الشعب هو جوهر كل فعل سياسي وعمل ثوري، بل إنه يراه المنطلق والمنتهى، ويرى أن كل قفز على الشعب والإنسان أو التحايل عليه أو اسنغفاله إنما هو كذب وتقاعس وغش وخداع، بل إنه أخطر من ذلك بكثير كونه يعد خدمة جليلة وخطيرة للأعداء سواء في الداخل أو في الخارج.

ومن هنا جاءت السمة الإنسانية لمنطوق البعث الثوري، ولم تتوقف عند ذلك مطلقا، بل إن البعث يؤكد على أن الإنسان العربي الجديد الذي إذا ما تمت عمليات صقله وتقويمه وتربيته وبنائه البناء السليم، سيكون له بصمته الفاعلة والريادية على المستوى الكوني وذلك بالنظر لما له من طاقات وصفات ومقومات فطرية ذهنية وقيمية وروحية وأخلاقية لا نظير لها، تنطوي على صفاء العقيدة وتأصل الإيثار والانفتاح فيه، فيهدي هذا الإنسان العربي البشرية كما هداها سابقا إلى فضاءات أرحب من السلام والتعاون والتقدم والازدهار.

( يتبع )
 





الثلاثاء ٤ شعبــان ١٤٤٠ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٩ / نيســان / ٢٠١٩ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أنيس الهمامي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة