شبكة ذي قار
عـاجـل










شاع استخدم مصطلح " الرّفيق " على الأفراد الذين يتوافقون على جملة من الأفكار والقيم وينتظمون في جماعات أو أحزاب أو هيئات مختلفة ويتقاسمون مجموعة من المبادئ التي يعتنقونها ويتعاهدون فيما بينم على التّمسّك بها والمحافظة والسّير عليها، كما يتشاركون في الرّؤية والتّحليل وقراءتهم للواقع حسب طبيعة الحلقة التي يتواجدون فيها سواء كانت فكريّة أو سياسيّة أو غير ذلك.

ولقد التصق هذا المصطلح حتّى يكاد ينحصر استخدامه في الأحزاب السّياسيّة وخاصّة اليساريّة والاشتراكيّة منها، فنجده شديد التّداول بين أعضاء ومنتسبي الأحزاب الماركسيّة والأحزاب القوميّة.

وبإحالة المصطلح على السّاحة العربيّة، فإنّنا سنجد له فيها مرادفات أو ما يقابله في الأحزاب الأخرى وعلى رأسها تلك الحركات الدّينيّة والأحزاب الليبرالية حيث يعوضّ فيها الرّفيق بالأخ، بل إنّ هناك أحزابا يمكن أن تسمّى بالعرضيّة أو الهامشيّة لكون لا ينبع وجودها من مشروع حقيقيّ يراد تكيسه على أرض الواقع، لا تورّع أعضاؤها عن إصباغ صفة " الزّميل " على بعضهم البعض.

إلاّ أنّه وفي الحقيقة، وفي عصرنا الرّاهن، فقد مصطلح الرّفيق مدلولاته وخبت قدسيّته وذهب بريقه للحدّ الذي غدا فيه مجرّد ترف تطغى عليه المجاملة حينا والتّملّق أحيانا والحسابات النّفعيّة أحايين أخرى.

فالرّفيق، سواء كان شخصا أو مصطلحا، هو في الضّمير النّضاليّ الثّوريّ ذلك المرء الذي يحرص طيلة حياته على البقاء أهلا لتلك الصّفة، فيسخّر ذاته وطاقاته وممتلكاته كافّة في سبيل الفكرة التي اعتنقها ويذود عنها وعن أهلها من رفاقه، ويبذل قصارى جهده في سبيل مزيد إشعاعها وتوسّع مداها وتألّق مغزاها، فيكون أوّل العاملين على تثبيتها وإبرازها في أبهى حللها وأصلب تمظهراتها وأجلّ رهاناتها، وهو أيضا متى تعلّق الأمر بالمصطلح شامة الأحرار وديدن الأصلاء وناموس المبدئيّين، وانضباط كلّي للفكرة والمشروع وما يضمن ديمومتها وتحقيق أهدافهما، واستعداد لا متناهي للتّضحية والفداء.

بلى، قد يكون هذا التّعريف أو التّقديم موغلا في المثاليّة حتّى ليكاد يتّخذ منحى طوباويّا، إلاّ أنّ الصّرامة لازمة وضروريّة لأبعد حدّ في التّنصيص بمنتهى الوضوح والتّشديد على تحديد تعريفات الرّفيق شخصا ومصطلحا، وتتضاعف الحاجة للحزم الكبير في ذلك خصوصا متى تعلّق الأمر بتناول المسألة في البيئة العربيّة لتزداد المهمّة جسامة إذا كان المجال مخصّصا للأحزاب التّقدّميّة والثّوريّة ذلك أنّ المسألة القوميّة العربيّة على قدر كبير من التّعقيد ما يفرض على طلائعها ونخبها أعلى درجات الانضباط والصّلابة كشروط لا استغناء عنها ولا حياد لتحمّل مقتضيات مهامّها الثّوريّة ورسالاتها النّضاليّة الكفاحيّة الجهاديّة.

حيث وبالنّظر لما تعيشه الأمّة العربيّة من منعطف خطير وغير مسبوق في تاريخها كلّه، وحيث تتكالب عليها الأمم وتتهافت عليها طغمة الأعداء من كلّ صوب وحدب، وحيث تلامس علامات تخلّفها وأمارات وهنها ودلالات تردّيها وانسداد الآفاق فيها مرتبة مفزعة، فإنّ تخليصها ممّا تعانيه وتَوْقِيَتها وتحصينها من التّهديدات الجدّيّة التي تؤكّد كلّ المؤشّرات أنّها قد تنتهي بها للاضمحلال وللتّفكّك الشّامل والاندثار الكلّيّ، لهو مهمّة حصريّة لنخبها الطّلائعيّة الثّوريّة حصرا.

وتتوزّع هذه المهمّة المصيريّة وينقسم دورها العاجل إلى أقسام عديدة تكاد تشمل مختلف جوانب الحياة من الفكريّ إلى الاجتماعيّ فالاقتصاديّ والتّثقيفيّ مرورا بالتّربويّ والتّعليميّ وصولا إلى الكفاح المسلّح وهو أعلى مراتب النّضال وأبلغ الدّلائل وأقواها تعبيرا عن استمرار نبض الأمّة، ولا تفرض هذه الشّموليّة نفسها في تلك المهامّ من باب المبالغات في التّقدير بل إنّها تنبع من استحقاقات عاجلة لا تحتمل تسويفا ولا ترقّبا أو تهاونا، وانطلاقا من هذه الأرضيّة، يصبح بالتّالي المرونة والتّساهل في تحديد مقاييس الرّفيق مصطلحا وشخوصا خطأ جسيما وإضرارا بالمصلحة القوميّة من جهة وبأساسيّات العمل الثّوريّ ومطالبه بل ويرتقي للارتداد عن المهامّ الموكولة والمنتظرة من الرّفيق، وعليه يكون لزاما الإصرار على ضبط شروطه ومواصفاته ومعانيه ومدلولاته بمنتهى الإلزاميّة من جهة والدّقّة والتّقنين من جهة أخرى.

فمن نافلة القول وعطفا على ما تقدّم إنّ كل هذا الاعتناء بهذه الصّفة أو المفهوم " الرّفيق "، يتماهى مع متطلّبات المرحلة والمنعطف التّاريخيّ الذي تعيشه أمّتنا وهو بذلك يتجاوز الفنطازيا الاستعراضيّة واللّعب بالمفردات والمفاهيم والمصطلحات ويتعدّى حدود النّقاشات الفكريّة العقيمة متى لم تنبع من أرض الواقع ولم تلامس الإحداثيّات الزّمانيّة والمكانيّة ومتى لم ترتقي لتلبّي انتظارات الأمّة واستحقاقات الوطن وآمال الجماهير ورهاناتها لتخليصها من عاديات زمنها وقد بلغ من الجور ما لا طاقة لها بمزيد تواصله واستمرار نزيفه.

فطرحنا هذا، لا يمكن أن يٌقْرأ على أنه من باب التّنظير في شيء، ولا يقبل بالقدر ذاته أن يؤوّل على أنّه يهمّ حزبا أو مجموعة أحزاب بعينها.. بل إنّه ووفقا لتقديراتنا ولمراقبتنا الدّؤوبة للنّضال السّياسيّ في وطننا العربيّ وتقييمنا لأداء العمل الحزبيّ بشكل أخصّ وأوسع وأوضح، فلقد سجّلنا تراجعا شاملا على هذا الصّعيد يشي به تدنّي قيمة النّخب السّياسيّة وتردّي مؤهّلاتها فكريّا وثقافيّا وحتّى عسكريّا، وليس من المبالغة في شيء إن ادّعينا بل وزعمنا أنّ مقارنة بسيطة بين القيادات السّياسيّة في الوطن العربيّ لحدود أواخر سبعينات القرن الماضي وبين مثيلاتها فيما بعد ستبعث في دارسها فزعا وهولا ورعبا حقيقيّا.

إنّ الشّرط الأساسيّ والرّئيسيّ من شروط ارتقاء الإنسان لمرتبة المناضل ثمّ منها إلى الرّفيق هو أن ينذر نفسه للفكرة والمشروع النّضاليّ الثّوريّ الذي يحمل بين ظهرانيه واقعا وممارسات لا رئاء وادّعاء وتظاهرا، وأن يكون وفيّا للمبادئ متمسّكا بها عاضّا عليها بالنّواجذ وهذا ما يحتّم عليه أن يصبح شديد الانضباط والإخلاص والتّفاني في خدمة المجموعة، تلك المجموعة الصّغيرة أو النّواة التي ينطلق منها للمجموعة الأكبر وهي الجماهير في كلّ الحلقات، فلا تثنيه عن عزمه انتكاسة مرحليّة أو هبوط طارئ ولا تلين إرادته مهما ادلهمّت الخطوب واشتدّت الضّربات التي يتعرّض لها سواء في شخصه أو بيئته التّنظيميّة أوّلا ولا حتّى في بيئته المجتمعيّة الجماهيريّة الواسعة ثانيا، كما يجب أن يلبيّ الواجب النّضاليّ ولا يتقاعس فيه بل أن يبادر ليكون مثال التّضحية والتّوثّب والتّحفّز الدّائمين، ولا ينبغي له بحال من الأحوال أن يغادر خصال الصّدق ومناقب الرّجولة والشّجاعة وسخاء النّفس والصّبر على الأذى والمشاقّ والمكابدة.

وهذا، ويبقى من بين أهمّ ما يجب أن يتحلّى به الرّفيق هو المواظبة المتواصلة على إبقاء جذوة الفكرة – العقيدة التي اقتنع بها وآثر الانخراط في هديها متّقدة وهّاجة وإعلاء رايتها وضمان توسّعها، ولا يكون ذلك إلاّ عبر التّقيّد الحرفيّ بالوسائل الكفيلة على تحقيق ذلك المبتغى، وهو ما يعني ضرورة الالتزام المسؤول والواعي والمتجدّد بمقتضيات وآليّات العمل التي انطلقت منها أساسيّات الفكرة تنظيما وتعاليم.. ذلك أنّه وبكلّ وضوح، سيكون من العبثيّة بمكان أن يدّعي أحدهم ههنا أنّ الفكرة يمكن أن تخلو من الضّوابط والأطر المؤدّية إلى ديمومتها وتطويرها وبسطها لمن يفترض أنّها جاءت لتغيّر واقعهم وتذهب آلامهم وتحقّق آمالهم وتدرأ عنهم المخاطر.

ومن خلال ما سبق، سيكون لزاما علينا التّأكيد على أنّ مصطلح الرّفيق لا يمكن أن يظلّ وساما يوشّح صدور كلّ من حمل الفكرة وحتّى من آمن بها لزمن مهما طال أو قصر، بل إنّ أعلى التّضحيات وأرقاها ليس بمقدورها أن تبقي على تلك الصّفة على من تخلّى عن مقتضيات الفكرة وغادر أطرها مهما كانت الأسباب والتّبريرات والظّروف.

فإذا سقط الالتزام والتّفاني في خدمة الفكرة والدّفاع عنها وصدّ ما يتهدّدها بقاء وتطوّرا واتّساعا وانتشارا، سقط ادّعاء الانتماء لها وما يترتّب عنه. ولا يعني هذا أنّ ذلك السّقوط أبديّ إلاّ في حالات الرّدّة أو الخيانة، حيث يمكن تداركه وتصويبه بمعالجة أسبابه وبواعثه معالجة صارمة وحاسمة، إلاّ أنّ التّدارك ليس مطلقا أو عشوائيّا ولا انتقائيّا أو مزاجيّا، بل إنّه مقنّن خاضع لضوابط دقيقة وتقاليد معروفة.

إنّ التّحرّي والتّدقيق في ماهيّة الرّفيق تأخذ بالاعتبار مدى التّمسّك بالفكرة ومقتضاياتها وحجم الدّفاع عنها والارتقاء والاعتزاز بها والذّود عنها، وهو ما يجعل المرء يٌخلع عنه مصطلح الرّفاق متى أدمن التّقاعس والتّكاسل وبثّ ما من شأنه ضرب الفكرة أو التّشكيك فيها وفي معتنقيها لغايات في نفس صاحبها، وهو شرف يحرم منه العاملون على خرق الصّفوف وتفريقها والإضرار بالجسم الملتفّ حول تلك الفكرة، ذلك أنّه لا يبرّر مجرّد اعتناقها لبرهة احتفاظ صاحبها باستحقاقات حملها إلاّ إذا تدارك وتجنّد لتصويب أخطائه ومعالجة أمراضه.

فالفكرة الثّوريّة غير منقطعة في الزّمان، ولا تحتمل الرّغبة بها حينا والرّغبة عنها أحيانا، ولا هي بمحتملة للفعل المناسباتيّ والعمل الموسميّ. إنّها عمل دؤوب وسعي حثيث لا تراخي فيه ولا تخاذل، وبقدر مرونتها وطابعها التّشاركيّ فهي صلبة شاقّة وحاسمة لا تلتفت في مسيرتها لمن تساقط منها أو اعتقد أنّه بمجرّد أن يتخلّف عنها فرد أو مجموعة أفراد أو تمرّدوا عليها، فسيخبو بريقها وستنتكس مساراتها، ذلك أنّها لا تحتاج من انضمّ إليها واقتنعوا بها بقدر ما يحتاجونها هم.

ولكن، لطالما طلعت علينا أصوات بصرف النّظر عن قلّتها أو كثرتها، من بين جنبات كلّ فكرة وإطار، تدّعي أنّها لا تتمرّد على هديها وإنّما تدعو لتنقيتها وتطويرها والرّقيّ بها وتكييفها مع متغيّرات الزّمان والمكان، ولكن كلّما سألهم من يشاركونهم تلك الفكرة أن يأتوا بزعمهم ويعرضوه للدّرس والتّصويب والإثراء والتّهذيب، أحجموا واتّهموا مطالبيهم بالتّكلّس والجمود وحبّ التّفرّد والتّعالي عن الإنصات للرّأي المخالف، ومثل هؤلاء إن تابعتهم وحرصت عليهم، نفروا منك وسعوا لحصارك واتّهامك بما ليس فيك، ليداروا حقيقة أنّهم غير صادقين في دعواهم ولا جادّين فيها، بل إنّ أفضلهم قد يقدّم لك طرحا مجترّا غثّا هزيلا سطحيّا ومسيئا لهم أيّما إساءة قبل الإساءة للفكرة ونواميسها وظوابطها.

فهل يجوز بعد هذا أن يَهِب كلّ من مرّ بخيمة الفكرة ومهما دام مروره بها، نفسة شارة القيادة والرّيادة والزّعامة نيشانا أبديّا؟ وهل بمسوّغ له أن يظلّ رفيقا للأبد؟ وهل يحقّ له أن يطمئنّ لقعوده وجحوده وتنكّره للفكرة بمجرّد أن يسوّق لذلك الفعل المذموم ويزوّقه ويحبّبه لبعض الضّعفاء والجبناء والمتكاسلين والنّفعيّين والمتضخّمة ذواتهم بلا استحقاق فعليّ؟


أنيس الهمّامي
نبض العروبة المجاهدة للثّقافة والإعلام
تونس في 12 / 02 / 2018
( نٌشِر في العدد 9 من مجلة ألق البعث الصادر يوم الخميس 15 / 02 / 2018 )
 





السبت ٢ جمادي الثانية ١٤٣٩ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٧ / شبــاط / ٢٠١٨ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أنيس الهمّامي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة