شبكة ذي قار
عـاجـل










( فلسطين هي الاسم الحركيّ للأمّة العربية، وإذا ما تألّمت تألّم كلّ العرب  )

هكذا أجمع العرب ذات زمن كلّما أرادوا التّأكيد على أنّ فلسطين قضيّتهم المحوريّة وهمّهم الأكبر وحملهم الأثقل، وكلّما سعوا للتّدليل على مدى تعلّقهم بها ونذر كلّ جهدهم وفعلهم في سبيل تحريرها وتخليصها من الاغتصاب الصّهيونيّ.

وفي الحقيقة، وبعيدا عن جلد الذّات، قدّمت جماهير أمّة العرب ما في وسعها وعيا وإدراكا لموجبات النّضال والجهاد من أجل فلسطين، إلاّ أنّها اصطدمت وللأسف الشّديد بعراقيل عديدة ومتنوّعة يظلّ أهمّها قطعا الخذلان العربيّ الرّسميّ وما أكثر فصوله وشواهده وما أعظم خيانات النّظم العربيّة المتواترة وتآمرهم على فلسطين ومن خلالها كلّ الهمّ القوميّ والمصلحة العربيّة الاستراتيجيّة العليا.

لقد تفطّنت الصّهيونيّة مبكّرا لمثل هذه الحقائق حيث استوعبت الشّرخ البائن والهوّة السّحيقة بين الأنظمة العربيّة والجماهير من جهة وبين شعارات تلك الأنظمة وتفعيلها واقعا ملموسا من جهة أخرى وذلك لعلمها أنّ أغلبها منصّب من قبل الدّوائر الاستعمارية وهي حليفتها الأهمّ ورافدها الرّئيسّ، لذلك استخفّ الكيان الصّهيونيّ طويلا بالعرب وخاصّة شعبنا العربيّ في فلسطين فاستباحته ونكّلت به على مرأى الأشهاد، وكانت في الوقت ذاته تسارع بالتّوقّي من بروز أنظمة ونخب عربيّة ثوريّة حقيقيّة تتبنّى مبادئ الثّورة العربيّة الكبرى وتعمل على تحرير الإنسان والأرض العربيّين بينما تهادن من دجّنتهم أو من اختاروا طواعيّة التّنكّر لكلّ الاستحقاقات السّياسيّة والقانونيّة والعسكريّة والأخلاقيّة والقوميّة فأداروا ظهورهم لأمّهات قضايا وطنهم.

تمثّل هذا الاستيعاب في حجم الجرائم التي ارتكبتها الصّهيونيّة بحقّ جماهير الأمّة العربيّة سواء في فلسطين السّليبة أو فيما يسمّى ببلدان الطّوق وحتّى الأبعد منها كالعراق وتونس والسّودان وغيرها، إذ رغم فداحتها فإنّها ظّلت في مأمن من أيّ ردّ إلاّ في حالات تعتبر نادرة قياسا بهول جرائمها وتعدادها.

إنّ تقصّي جرائم الكيان الصّهيونيّ بحقّ العرب سيحيلنا إلى السّياسات التي انتجها الصّهاينة طيلة سبعة عقود بل وما قبل ذلك، فلقد اعتمدوا في البداية على قلب الحقائق وبثّ الاكاذيب واطنبوا في ترويجها ثمّ ثبّتوا خطاب المظلوميّة استدرارا لأكبر قدر ممكن من التّعاطف ثمّ تعكّزوا على سياسة التّدرّج المرفقة دوما بجسّ نبض العرب، فكلّ جرم صهيونيّ يتمّ الإعداد له مطوّلا ثمّ يردف بآخر أعلى منه في سلّم العنف والإرهاب والعنصريّة وهكذا، إلى أن صار أمرا طبيعيّا جدّا ومألوفا يعانق مرتبة الحقيقة أن يتحدّث أقطاب الصّهيونيّة علنا ودون تستّر على سيرهم رويدا رويدا نحو إعلان الدّولة اليهوديّة بما يحمله ذلك من نسف نهائيّ لكلّ حقائق التّاريخ والجغرافيا في فلسطين وفي غيرها أيضا. وليس خافيا أنّ إعلان الدّولة اليهوديّة يقتضي تهجير أكبر قدر من جماهير شعبنا العربيّ في فلسطين وقضم مزيد من الأراضي ومنحها بقوّة السّلاح للمغتصبين الصّهاينة الوافدين من شتّى أصقاع الدّنيا، وكذلك طمس معالم عروبة فلسطين وخاصّة ضرب رمزيّتها الدّينيّة باعتبارها مهد المسيح وأرض الأقصى بكلّ دلالاته وقدسيّته عند العرب والمسلمين.

لقد خصّ الصّهاينة المسجد الأقصى باهتمام بالغ وأولوه مكانة مركزيّة في استراتيجيّتهم العدوانيّة طيلة عقود من الزّمن، وذلك تنفيذا لمخطّطات وبروتوكولات ما يعرف بحكماء بني صهيون التي تشدّد على ضرورة هدم الأقصى ونسفه لتشييد هيكل سليمان المزعوم مكانه.

ولهذا الغرض تحديدا، دأبت الحكومات الصهيونيّة المتعاقبة على فرض إجراءات رقابيّة مشدّدة خصوصا في محيط الأقصى كما كانت تحدّد الفئات والشّرائح وأعمار المصلّين فيه.

ويعتبر أوّل اعتداء صهيونيّ إرهابيّ صريح وواضح المعالم في هذا الصّدد هو إقدام أحد الصّهاينة على حرق المسجد الأقصى بعد أن تسلّل من باب المغاربة مشعلا النّار في المصلّى القبليّ للمسجد، وهو الحدث الجلل الذي بثّ الرّعب في قلوب الصّهاينة ما دعا كبيرة المجرمين الإرهابيّين غولدا مائير للقول تعليقا على ما حدث " عندما حُرق الأقصى لم أنم تلك اللّيلة، واعتقدت أنّ ( إسرائيل ) ستُسحق، لكن عندما حلَّ الصّباح أدركت أنّ العرب في سبات عميق " تعبيرا منها على ما استبدّ بها من خوف وخشية جرّاء انتظاراتها وحكومتها لما يمكن ان يصدر عن العرب والمسلمين من ردّ فعل يتماهى مع للمسجد الأقصى من قدسيّة حيث أنّه أولّ القبلتين وثالث الحرمين.

وها هي السّلطات الصّهيونيّة المجرمة تعود بعد قرابة نصف قرن لتستهدف الأقصى مباشرة ولكن بطريقة أكثر عنصريّة هذه المرّة حيث منعت يوم الجمعة الماضي الموافق ل14 -07-2017 منع إقامة صلاة الجمعة فيه بعد حصول اشتباك بين شباب فلسطينيّين وجنود صهاينة، وأرجع المجرم ناتانياهو الأمر لدواعي امنيّة مشدّدا على أنّ القرار قد يستمرّ إذا ما دعت الحاجة الأمنيّة لذلك.

إنّ أكثر ما يبعث على الصّدمة والذّهول بسبب هذه الحادثة هو أنّها لم تخلّف أيّ ردّة فعل عربيّة تذكر، فلقد تجاهل العرب الرّسميّون الأمر تجاهلا تامّا في تقاعس مدهش ومخيّب عن كلّ واجباتهم ولم يصدر أيّ موقف بصرف النّظر عن جدّيته، كما كان ردّ الفعل الشّعبيّ الجماهيريّ العربيّ بدوره متخلّفا بأشواط وأشواط عن فاجعة صدّ المصلّين عن الأقصى وإغلاقه بوجوههم، على عكس الحادثة الأولى التي عرفت مظاهرات عارمة تحدّت فيها الجماهير على امتداد الوطن العربيّ عربدة الأمن وحصاره وصبّت جام سخطها على الصّهيونيّة وعملائها ومهادنيها ومناصريها من عرب اللّسان.

إنّ حادثة الأقصى على قدر كبير من الخطورة إذ انّها تؤشّر على مدى الهوان الذي بات يلفّ المجتمع العربيّ في سواده الأعظم للحدّ الذي غدا معه لإغلاق الأقصى حدثا عاديّا لا يحرّك غيرة العرب والمسلمين ولا يستوقفهم لبضع دقائق ولا يستدعي منهم نفيرا ولا تحشيدا ولا مجرّد صراخ وتنديد واستنكار. وإنّ الأخطر من كلّ هذا هو تفشّي عدوى التّراخي المستبدّ بالنّظام الرّسميّ العربيّ وانتقالها لكافّة أوصال الأمّة العربيّة إلاّ من رحم ربّك، فحتّى تلك النّخب والمنتديات والأطر الجماهيريّة اختارت الصّمت ودسّت رؤوسها في رمال الذّل والاستسلام في سابقة مرعبة لا تنذر بغير مزيد من الانحطاط والتّردّي.

لقد غرقت الجماهير العربيّة في بحور النّوائب والمصائب والأهوال التي تعانيها خصوصا بعد ما ضرب الوطن العربيّ من هزّات عنيفة تمثّلت فيما بات يسمّى بالرّبيع العربيّ المزعوم الذي لم يعد بغير مزيد من الوبال والدّمار على العرب لاسيّما وقد تلا زلزال غزو العراق وإسقاط نظامه الوطنيّ وتدميره وتخريبه بالكامل.

ففي غياب جيش العراق العظيم وإسقاط نظامه، وبعد تكبيل جيش مصر الكبير باتّفاقيّة الإذلال التي أمضاها المجرم السّادات، وبعد إفراغ الجيش العربيّ السّوريّ من خيرة رجاله وكفاءاته وتحويله لأداة طائفيّة بيد النّصيريّة المجرمة، لم يبق للأقصى من حماة ولا غيارى يقاتلون في سبيله ويضحّون من اجله بالغالي والنّفيس.

لقد أفلحت الدّوائر الاستعماريّة والصّهيونيّة العالميّة في تخدير العرب وشلّ حركتهم بفعل ما شنّته ضدّهم من حروب مدمّرة تراوحت بين التّدخّلات العسكريّة المباشرة وبين الحروب النّفسيّة الهوجاء، وأحالتهم على صراعات مغلوطة ونزاعات طائفيّة وإثنيّة لا أساس لها ولا غرض منها سوى إذهاب ريحهم ومزيد تشتيتهم لتكون المحصّلة تثبيت التّفوّق النّوعيّ والشّامل للكيان الصّهيونيّ ومن ثمّة إحالة مظلمة فلسطين على رفوف النّسيان.

وإنّه لمن الأهمّية بمكان في هذه الأثناء أن نشدّد على بطلان الرّوايات والتّصريحات التي دأبت عدد من الأنظمة الإسلاميّة أو المحسوبة عليها كنظام الأجرام والخيانة والإرهاب في طهران والتي تدّعي عداءها للصّهاينة ومقاومة جرائمهم ونصرة فلسطين وتتحدّث ليلا نهارا عن الطّرق المؤدّية للقدس، وهي التي صارت طلائع قواتها المسلّحة على حدود فلسطين دون أن تنتخي للأقصى.

إنّها بداية عهد جديد وخطير تنتقل فيه الصّهيونيّة فعليّا من سياسة الدّق أسفل الجدار بما تعنيه من حفريّات لا تتوقّف تحت الأقصى لخلخة أسسه وتهديمه من جهة، وما تحمله من تقويض لأسس تماسك الأمّة العربيّة وتخريب أواصر التّضامن والتّآزر بين أبناء الوطن العربيّ من جهة أخرى.

أنيس الهمّامي
نبض العروبة المجاهدة للثّقافة والإعلام

تونس في  ١٨ / تمــوز / ٢٠١٧
 





الخميس ٢٦ شــوال ١٤٣٨ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٠ / تمــوز / ٢٠١٧ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أنيس الهمّامي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة