شبكة ذي قار
عـاجـل










في الوقت الذي اشرأبّت فيه أعناق جماهير الشّعب العربيّ في سوريّة لجينيف حيث تنطلق جولة جديدة من المفاوضات على أمل حلحلة المأساة التي ألقت بظلالها منذ خمس سنوات على بلاد الشّام، فاجأ الرّئيس الرّوسيّ فلاديمير بوتيين العالم بعزمه سحب قوّات بلاده من سوريّة وسط شحّ المعلومات والدّوافع والغايات من هذه الخطوة.

إنّ أيّة محاولة لاستقراء أبعاد القرار الرّوسيّ لا يمكنها على الأقلّ في هذه المرحلة أن تحيط بما يدور في الكواليس الرّوسيّة ولا العالميّة، وأيّة قراءة ستظلّ قاصرة ما لم تأخذ بالاعتبار الظّروف التي تولّد فيها دخول الدّبّ الرّوسيّ للأراضي السّوريّة بكلّ ثقله وعتاده وعديده وقوّته الضّاربة منذ شهور خلت ..

من المفارقات أنّ التّدخّل الرّوسيّ في سوريّة جاء بنفس السّرعة والارتجاليّة اللّتين طبعتا قرار الانسحاب، ولقد أعلنت موسكو إبّان خطيئتها السّافرة بالحضور العسكريّ الميدانيّ عن حزمة من الأهداف وكانت أساسا متمثّلة في السّعي لدعم حليفها النّظام الأسديّ وقد شارف وقتها على السّقوط كلّيّا، إضافة لحديثها السّاحر عن محاربة تنظيم الدّولة الإسلاميّة داعش مهدّدة بإنهائه وتحقيق ما عجز عنه غير الرّوس من أمريكان وحلفائهم وغيرهم، ولاك الرّوس أيضا علكة الحفاظ على وحدة سوريّة وسلامة شعبها.

ولقد انقسم المتابعون للملفّ السّوريّ، وانقسم معهم شعبنا العربيّ الصّامد في سوريّة تفاعلا مع خطوة الكرملين بين مؤيّد ومعارض ومحايد ..

وحذّرنا حينها من تلك التّطوّرات وعرّينا زيف الادّعاءات القائلة إنّ الرّوس قادرون على تغيير الواقع السّوريّ ودفع الأمور للانفراج فضلا عن قدراتهم الخارقة على القضاء على الخطر الدّاعشيّ، وذكرنا أنّ آخر ما يعني بوتين أمر خطر داعش على السّوريّين والعرب عموما، بل إنّ ما يحرّكه فقط هو الحفاظ على مصالح بلاده الامبرياليّة الصّاعدة في المنطقة وسعيه لضمان نصيب من كعكة الاكتشافات الطّاقيّة الهائلة هناك، إضافة لتجريب آخر مبتركات آلة القتل والتّدمير الرّوسيّة الفتّاكة.

وفي عرض سريع لأداء الرّوس في سوريّة، سنتبيّن أنّهم لم يكونوا جادّين ولا صادقين في حملتهم على داعش، بل إنّ أذاهم وبطشهم عانى منه حصريّا أطفال سوريّة ونسائها وشيوخها أو من تبقّى منهم هناك، حيث مثّلت المستشفيات والتّجمّعات البشريّة المدنيّة الوجهة الأفضل لحمم الموت الرّوسيّة، ليظلّ داعش محافظا على قدراته القتاليّة ومتنفّلا بهامش حركة ومناورة لا يستهان بها داخل العمق السّوريّ كما أنّ النّظام الأسديّ لم يستفد كثيرا من الجيش الرّوسيّ وازداد انكماشه وتقهقره داخل مربّعات ومقاطع بعينها ..

فما الذّي يدفع الرّئيس الرّوسيّ إذن لاتّخاذ قراره المفاجئ هذا في مثل هذه الظّروف؟
أوليس من المعلوم أنّ أيّ حرب أو تدخّل عسكريّ مّا، لا ينتهي إلاّ بانتهاء أهدافه وتحقيق غاياته؟
هل تمّ القضاء على داعش في سوريّة؟؟ وهل استفاد النّظام الأسديّ عمليّا من تدخّل الرّوس؟

إنّه وكما بيّنا سابقا، لم يتحقّق شيء من الأهداف الرّئيسيّة المعلنة من الرّوس ومن حلفائهم، فما مغزى هذه القرار إذن؟

قد لا يكون متاحا لنا التّخمين كثيرا ولا الذّهاب بعيدا في استبيان ذلك على الأقلّ الآن، خصوصا بعد سيطرة التّناقضات على التّصريحات المتواترة من موسكو ومن العواصم الغربيّة الأخرى.

ولكن يظلّ ثابتا أنّ الرّوس اصطدموا بحقائق الأرض فعجزوا عن الخلاص منها وذلك نظرا للتّكلفة الباهضة لحماقة رئيسهم المتهوّر بوتين وجرائمه النّاضحة إرهابا ووحشيّة بحقّ جماهير شعبنا العربيّ في سوريّة، وهو الذي جعل من سوريّة وشعبها حقلا لتجربة مبتكرات صناعته الحربيّة هذا من جهة، أمّا من جهة أخرى فالأكيد أنّ الرّوس تراجعوا وانسحبوا من سوريّة بفعل اقتناعهم بأنّه لا سبيل أمامهم لمواصلة تحدّي الولايات المتّحدة الأمريكيّة وحلفائها، وهو ما يشي بأنّهم حصلوا على صفقة ترضي نهم بوتين وإدارته ثمنا للسّكوت على طبخة يتمّ إعدادها وسيقع إخراجها قريبا.

فالخطوة الرّوسيّة تدلّل بما لا يدع مجالا للشّكّ أنّ النّظام الأسديّ يعيش لحظاته الأخيرة، وهو ما دفع حليفه الرّوسيّ الغادر للتّخلّي عليه وهذا ما تظهره تصريحات الخارجيّة الرّوسيّة وكذلك الفارسيّة الإيرانيّة التي تحدّثت عن وجوب الحذر وترقّب ما ستصفح عنه السّاعات والأيّام القليلة القادمة، ناهيك عن تصاعد خسائر عصابات حزب الله والحرس الثّوريّ الإرهابيّين في سوريّة ما سيجعل من فرص التّعويل على عامل الوقت عند النّظام المجرم في دمشق أمرا مستحيلا.

هذا، ولا يمكن عزل القرار الرّوسيّ في ظلّ كلّ ما تقدّم عن علاقته بالنّقاشات السّعوديّة الرّوسيّة التي وإن اختٌزلت عند عرضها على الإعلام في اتّفاق الجانبين حول تسوية سياسيّة من شأنها تضميد جراح السّوريّين، فإنّ الكواليس تتحدّث عن أبعد من ذلك لحدّ التّأكيد على أنّ روسيا لا تمانع من إسقاط الأسد وتدخّل التّحالف الإسلاميّ علنا في دمشق.

ويبقى قادم الأيّام كفيلا بإظهار مزيد من الحقائق وبتحديد دوافع روسيا وغاياتها ولن تخرج بالتّأكيد عن ضمان بوتين لمكاسب اقتصاديّة ستجعله ينكفئ على نفسه بعيدا عن تحدّي أمريكا ومن معها.

أنيس الهمّامي
لجنة نبض العروبة المجاهدة للثّقافة والإعلام
تونس في  ١٥ / أذار / ٢٠١٦





الثلاثاء ٦ جمادي الثانية ١٤٣٧ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٥ / أذار / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أنيس الهمّامي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة