شبكة ذي قار
عـاجـل










لا يختلف اثنان على أن تدخل النظام الإيراني في الشأن العراقي ليس سراً. وهو بطبيعة الحال ليس حديث العهد، إلا أنه كان في كل مرة يقدم نفسه بصيغة معينة.

ومن يدقق بطبيعة التدخل منذ وقع العراق تحت الاحتلال الأميركي والمتعدد الجنسيات، لا يحتاج إلى كثير تمحيص ليكتشف بأن نظام إيران مارس أسلوب التقية السياسية بانتظار اللحظة المناسبة التي يفصح فيها عن دوره في الإمساك بمفاصل الوضع العراقي. وهو طيلة وجود الاحتلال الأميركي، أعطى أولوية لأنماط من تدخله على أنماط أخرى. فهو بداية لم يمارس تدخلاً عسكرياً مكشوفاً، بل مارس دور الرقيب والموجه لإعادة تركيب المؤسسات الأمنية والعسكرية والتي غلب عليها الطابع الميلشياوي المرتبطة بمراكز تحكم تديرها غرفة سرية إيرانية مع وجود أمنيين تحت عنوان المستشارين.

وفي الجانب الاقتصادي، عمد إلى تطويع الاقتصاد العراقي وفق حاجة السوق الإيرانية وخدمة الدور الإيراني الأمني والسياسي خارج الحدود. وفي الجانب التربوي شرع تدخله عبر اتفاقية تربوية، وإقام شبكة من المؤسسات التعليمية والتربوية مع إدخال تعديلات على المناهج والمواد التربوية العراقية كي تتماه مع الرؤية الإيرانية حيال كثير من القضايا خاصة المتعلق منها بالعلاقات الثنائية وإعادة قراءة وتفسير التاريخ العربي والإسلامي وفق الرؤية الإيرانية التي تستبطن عدائية ضد العروبة.

وأما في الجانب الاجتماعي، فإنه سعى إلى ترويح أنماط سلوكية ومفاهيم اجتماعية تقارب العادات والتقاليد الإيرانية على حساب الأعراف والتقاليد العربية. وقد عمد إلى إغراق العديد من مدن العراق بالمجسمات والشعارات الإيرانية والنصب للمسؤولين الإيرانيين مترافقاً ذلك مع تدمير النصب العربية ( ونصب أبي جعفر المنصور نموذجاً ).

إن التدخل الإيراني الذي بدا نشطاً في الجوانب المشار إليها لم يهمل تدخله في شؤون المؤسسة الدينية العراقية لإضعاف الحوزة العلمية في النجف لمصلحة حوزة قم، ولترجيح مفهوم التشيع الصفوي على مفهوم التشيع العربي وللحؤول دون وجود رجل ديني عربي على رأس الحوزة، وإضافة إلى ما تقدم، فإن النظام الإيراني الذي يختزن مسؤولوه خبرة براغماتية ويتحسبون للمستقبل ومتغيراته عمدوا إلى تنسيب ملايين الإيرانيين إلى سجلات الأحوال المدنية لتحقيق جملة أهداف في آن:

الأول: أحداث خلل كبير في التركيب الديموغرافي لشعب العراق

الثاني: تأمين كتلة شعبية تدين بالولاء لإيران لتوظيف دورها في خمة المصالح الإيرانية إذا ما اهتزت الوسائط لأخرى.
الثالث: توطين هذه المجموعات المنسبة في المناطق المتاخمة للحدود بعد تهجير أهلها العراقيين وإقامة شريط حدودي يكون ولاء قاطنيه لإيران / ( وديالا نموذجاً )

هذه الأنماط من التدخل كانت تحصل على نار هادئة وفي وقت كان قوى العراق الوطنية منشغلة في مقاومة المحتل الأميركي. لكن بعد اندحار الاحتلال، وبروز قوى المقاومة، كقوة وازنة ومؤثرة في مجرى الحياة السياسية والشعبية العراقية، وتقديم نفسها كصاحبة مشروع وطني لإعادة توحيد العراق على الأسس الوطنية والديموقراطية انطلاقاً من الغاء إفرازات الاحتلال، أحدث النظام الإيراني نقلة نوعية في تدخله وأخذ يمارس دور الاحتلال من الباطن والذي اقتضى عمله التحرك في ثلاث اتجاهات.

الأول: تقوية مواقع أدواته في السلطة ( والمالكي نموذجاً )
الثاني: العمل على تشطير القوى السياسية – الدينية التي لا تدين بالولاء الكامل له.

الثالث: التحريض على قمع الحراك الشعبي الذي انطلق صبيحة دحر المحتل الأميركي، واستحضار عناوين المسألة الوطنية مؤشر على دور النظام الإيراني ومسؤوليه في تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وسرقته لأموال العراق وحمايته للسماسرة من أمنيين وسياسيين وطارئين على الحياة السياسية.

إن النظام الإيراني الذي تدرج تدخله صعوداً في الشؤون العراقية منذ وقع العراق تحت الاحتلال بدأ يتصرف في الآونة الأخيرة وكأنه الوصي على العراق وأن المفتاح المركزي للبيت العراقي أصبح بيده وأن الأبواب الداخلية ستكون مشرعة لحله وترحاله إلى أن كان ما لم يكن في حسبانه والذي تجسد في حالتين:

الأولى: هي حالة المقاومة الوطنية العراقية التي كما استطاعت أن تضع حداً للاحتلال الأميركي وتفرض عليه الانسحاب، استطاعت أن تشكل مصداً أمام الرياح الإيرانية الآتية من المشرق. وبذلك أثبت أنها الرقم الصعب لا بل الأصعب والذي لا يمكن تجاوزه في تحديد مصير العراق، وصعوبة هذا الرقم لا تقتصر على العامل الذاتي لقوى الفعل المقاوم وحسب، بل استمدت صعوبة تجاوزها من كونها تعبر عن المكنون الوطني لشعب العراق وعن عمق تجذر انتمائه الوطني.

الثانية :إن الجينات الوطنية العراقية أثبت من خلال المعطيات العراقية أنها الجينات، التي تحدد طبيعة الخريطة الوراثية للجسم الوطني العراقي. وقد أثبت هذه الجينات قوتها من خلال تفوقها على الجينات الأخرة التي حاولوا زرعها في الجسد العراقي والاختبار العملي لقوة هذه الجينات برز من خلال مقاومتها للفيروسات التي أدخلت إلى العراق. فعندما كان الاحتلال الأميركي مجسداً من خلال شخوصاته الأمنية والعسكرية ومؤسساته ومنشآءاته، أثبت عوامل المنعة الوطنية قوتها في ميدان المواجهة، وبالتالي انتصرت إرادة الفعل المقاوم على المحتل.

وعندما تقدم الاحتلال من الباطن من خلال مشهديات أشكال التدخل المختلفة للنظام الإيراني ليقبض على الوضع العراقي، تلاقت إرادة قوى الفعل المقاوم الذي تصدى للوجود الإيراني العسكري والأمني المباشر والمتظلل بميلشيات طائفية ومذهبية، مع إرادة الفعل الجماهيري، فكانت انتفاضة شعب العراق الشاملة رداً على التغلغل الإيراني في كل مفاصل الحياة العراقية. وعندما تهتف جماهير العراق من البصرة إلى بغداد :"إيران برا – برا، بغداد حرة حرة"، فهذا يعني أن جماهير العراق أدركت بحسها الاجتماعي ووعيها الوطني أن تردي أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية إنما يعود أولاً للمحتل الأميركي وثانياً للمحتل الإيراني، وأن الحل لمشاكل العراق هو بطرد المحتل أياً كانت هويته وأياً كانت تجسيداته واسقاط كل افرازاته.

إن الانتفاضة الشعبية إذ تكتسب أهمية، فلأنها تشكل رداً شعبياً على التغول الإيراني في تفاصيل حياة الشعب وإذ تستحضر في التهافات عناوين المسألة الوطنية، فلأن الجماهير تدرك جيداً، أن المحتل إنما هو ناهب للثروة ولا تستقيم مصالحه إلا على حساب مصالح الشعب الذي تنهب ثروته الوطنية وتضخ للخارج ولخدمة وكلاء المحتل وكل المستفدين الذين يستقوون بالاحتلال على حساب مصالح الشعب وأهدافه الوطنية.

لقد فتحت الانتفاضة الشعبية الوضع في العراق على أفق مستقبلي عنوانه لا لحياة حرة كريمة لشعب العراق في ظل عملية سياسية أفرزها الاحتلال، وان الذي يلبي الطموح الوطني هو إنتاج عملية سياسية جديدة تضع حداً للاحتلال وكل أشكال التدخل في الشؤون الداخلية العراقية وإعادة الاعتبار للخطاب السياسي الوطني الجامع والعابر للمذاهب والطوائف والذي يشكل البديل الموضوعي للخطاب المذهبي والطائفي الذي أنتج محاصصة ونهجاً تكفيرياً وترهيباً اثبتت سياقات الأحداث بأنه نتاج الاحتلاليين الأميركي والإيراني.

إن هذه الانتفاضة انطلقت ولن تعود إلى القمقم، والمهم أن تحافظ على سلميتها وديموقراطيتها ومضمون خطابها الوطني، وحتى لا يتم ضربها تحت عنوان ضرب الإرهاب ولا الالتفاف عليها وإجهاضها تحت عنوان ركوب موجتها. وإذا لم تسنح معطيات اللحظة فرض التغيير المطلوب إلا أنها أسست لواقع جديد لا يمكن لأحد أن يتجاوزه أسوة بعدم القدرة على تجاوز المشروع الوطني للقوى التي قاومت الاحتلال بكل أطرافه وتعبيراته وتأخذ على عاتقها إعادة العراق إلى سابق عهده، حراً عربياً ديموقراطياً موحداً، لا مكان فيها لمحتل أجنبي ولا لطامع شعوبي ومن لم يتعظ عليه أن يعيد النظر في حساباته ويقرأ جيداً الدروس التي أفرزتها القادسية الثانية.
 





الجمعة ١٣ ذو القعــدة ١٤٣٦ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٨ / أب / ٢٠١٥ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب المحامي حسن بيان نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة