شبكة ذي قار
عـاجـل










قلنا في الجزء التاسع من البعث باق إن حركات التوحيد القطرية في ليبيا والسعودية والسودان تميزت بثلاث خصائص أساسية ، هي إيديولوجيا ذات اتفاق مع الثقافة السائدة ومعبرة عن الواقع الاجتماعي ، وتنظيم فعال ، وأخيرا زعامة واضحة ذات شرعية واسعة في زمانها ومكانها ،أي أن الفكر الاجتماعي والسياسي مرتبط دوما بالعصر الذي ظهر فيه وبمشاغل أهله ، وانه بالتالي يفقد هويته الحقيقية ودلالاته الصحيحة إذا ما حاولنا فهمه على ضوء معطيات عصر آخر يختلف اختلافا واسعا عن ذلك العصر، كالاختلاف الهائل والملموس في كافة الميادين بين القرون الوسطى والعصر الحديث والمعاصر ، فأيديولوجية هذه الحركات كانت أيديولوجية دينية عدا الحركة السنوسية التي كانت حركة قومية بايديوجية دينية ، فالتنظيم هو الترجمة العملية والمادية للايديوجيا وكلما كانت الايدولوجيا أكثر تماسكا وانتشارا كلما كان التنظيم أكثر فاعلية ، وكلما كان التنظيم أكثر فاعلية كلما كانت الايدولوجيا أكثر قدرة على التجسد في الواقع المادي، أي أن العلاقة بين الايدولوجيا والتنظيم علاقة طردية لكلا الطرفين في القانون الرياضي ، وللتنظيم وظائف وأهداف أهمها الحفاظ على قنوات اتصال فعالة بين القيادة والقاعدة ، وتحقيق انضباط عال بين صفوف الأعضاء المنتمين ، وتعبئة اكبر قدر من الجماهير باتجاه أهداف الحركة ورؤيتها للحياة ، وتأشير مواطن القوة والضعف بالإجراءات التنظيمية ودفعها باتجاه الأمام ، كما أن التنظيم يخلق كوادر وكفاءات تستطيع أن تجسد الايدولوجيا بشكل متطابق مع روحيتها والمبادئ التي تطرحها وترجمة ذاتها إلى واقع مادي ، والمثل على هذا في تاريخنا هو الدعوة الإسلامية في أول عهدها عندما ظهرت في مكة المكرمة وبقيت هناك ثلاثة عشر عاما دون أن تحرز نجاحا سياسيا كبيرا ، إلا إن الهجرة إلى المدينة وخلال عشر سنوات أخرى اكتسحت الدعوة فيها الجزيرة العربية ووحدتها في كيان واحد ، وكان التنظيم هو العنصر والسبب الرئيس في تحول الإسلام من دين إلى دولة ومن فكرة بلغها الله سبحانه وتعالى إلى نبيه الكريم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم إلى واقع يعيشه المجتمع الجديد ( مجتمع الدعوة الإسلامية ) ، فالوهابية كانت مدركة لأهمية التنظيم وتبني محمد بن سعود لتلك الدعوة كان ذلك الحدث البداية التاريخية للدولة السعودية في أطوارها الثلاث، أما حركة محمد بن علي السنوسي فكانت خطوته الأولى في ترجمة دعوته إلى واقع مادي هي في إقامة بؤر ثورية شبيهة بحركة ( هجر نجد ) ( 1 ) ،

الذي اعتبرها نموذجا لمجتمع المستقبل وهذه البؤر هي نظام ( الزاوية السنوسي ) ( 2 ) وبالانتقال إلى محمد بن احمد بن السيد عبد الله المهدي نجد إن نقطة البدء في تحول دعوته إلى واقع مادي كانت عندما استلم قيادة الطريقة الصوفية ( السمانية ) ، وذلك في أعقاب وفاة شيخها القرشي ولد الزبن إلا إن المهدي حول الطريقة السمانية إلى تنظيم سياسي واجتماعي وأعلن مهديته في جزيرة أبا ، التي أصبحت مقرا لأنصاره الذين اخذوا يتضاعفون حتى أصبح عددهم أكثر من عشرين ألف مقاتل ، وفي العام 1885م احتل أم درمان وبعدها الخرطوم وبذلك سقطت السودان بيده وتحققت وحدتها ، وعلى ذلك فان التلازم بين الايدولوجيا والتنظيم هي مسالة ضرورية بل وحتمية لأي حركة سياسية ذات أهداف ، وهذا ما أخذت به حركات التوحيد القطرية الثلاث انفة الذكر وحاولت ترجمة دعوتها إلى واقع مادي ، أما البعث فعندما طرح نفسه كفكر على الساحة السياسية العربية في مطلع الاربيعينيات من القرن الماضي ، أكد على إن حركته تلتزم بشــــــكل تنظيمي وهـــو( الديمقراطية المركزية ) داخل الحياة ، التي تضمنت انتخاب القيادات عند المؤتمرات ، ومحاسبة القيادات عند المؤتمرات والأخذ برأي الأكثرية مع احترام رأي الأقلية ، والرابعة هو الاحتراف الثوري ،

أي أن المناضل في الحزب يجعل راحته وهمومه فرحه وكمده حياته أو موته من خلال هذه العقيدة التي ارتضاها لنفسه وجعلها هي الطريق لآماله وأحلامه وآمال وأحلام أمته في الوحدة والحرية والاشتراكية، كما أنه أدرك أهمية العاملين الأساسيين الأخريين بشكل كبير وهما الفكر ( الايدولوجيا ) والوجود الجماهيري فكان للبعث ايدولوجيا مستوعبة لمراحل تطور الأمة وظروف نشأتها ، وله جمهوره الواسع والكبير بدلالة وجود قيادة قومية على مستوى كل أقطار الأمة ،فالقيادة القومية تمثل الكيان السياسي للوحدة ، وقد يقول قائل وهل أن الوحدة العربية هي حكرا للبعث العربي الاشتراكي ؟ أم أن هناك قطاعات وحركات سياسية معنية بهذا ، وهنا نعود إلى مبادئ البعث ونظرته لقيام دولة الوحدة ، فالوحدة المرتقبة ستساهم فيها جميع القوى الوطنية العربية ، وعلى عموم ساحات الأمة ومن خلال الجبهة الشعبية القومية الموحدة التي ستكون النواة الأساسية والعملية لدولة الوحدة ،

وسيكون البعث صمام الأمان لديمومتها من خلال إرساء مبادئ الديمقراطية والتعددية الحزبية والسياسية والتداول السلمي للسلطة بما يحفظ حقوق كل طرف من أطراف الأحزاب والحركات السياسية العربية ، أما الخاصية الثالثة وهي الزعامة الواضحة وغير المختلف عليها فتشكل العنصر الثالث في تفسير وفهم حركات التوحيد القطرية الناجحة ، وعندما نتحدث عن الزعامة فان المعنى المقصود ليس مقتصرا على الزعيم الفرد الذي يشكل احد عناصر الزعامة لا كلها بل أن الزعامة قد تكون فردا ذا خصائص كاريزمية ، وقد تكون حزبا سياسيا ذا قبول اجتماعي واسع ، وقد تكون سلالة أو أسرة حاكمة وقد تكون إمارة مقاتلة تستمد شرعيتها من تصديها لعدوان خارجي ، وقد تكون مزيجا من كل هذه الأنواع ، وبقدر ما أهمية الخصائص الخاصة بالزعامة أو مدى تماسك النخبة القائدة إلا أن المهم فيها أيضا نقطتان أساسيتان هما : مدى وضوح القيادة والزعامة في تجسيدها للمبادئ وإحاطتها بالأمور السياسية والاجتماعية بقدر كبير ومدى القبول الشعبي لها (الشرعية ) وذلك في مرحلة تاريخية معينة وفي إطار اجتماعي معين ، وان الخصائص الذاتية للزعامة تلعب دورا كبيرا في بلورة هاتين النقطتين ، وعليه يمكن أن نقول أن وضوح الزعامة وعدم الاختلاف عليها مقابل زعامات أخرى ومدى القبول الشعبي لها يحددان بشكل مباشر تقريبا مدى انتشار الايدولوجيا ومدى تماسك التنظيم التابع لهذه الزعامة ، ومن ثم الوصول إلى تحقيق أهدافها ، يقول محمد عابد الجابري إن هناك ثلاثة أهداف كانت تحرك من الداخل بالفعل والممارسة التجربة التاريخية العربية الإسلامية منذ أن بدأت ، وهي نفسها التي تحرك من الداخل لكن في صورة حلم عنيد متجدد طموح العرب في الحاضر إلى مستقبل سيظل باستمرار مشروعا أمامهم ينمو ويتسع بكفاحهم ويتقلص ويضمر باستكانتهم وتخاذلهم , هذه الأهداف أو النزوعات هي : -

1- النزوع نحو التوحيد والوحدة .

2 - النزوع نحو التمصير والتمدن .

3 - النزوع نحو العقلنة ( 3 ) .

وللموضوع صلة في الجز ء القادم .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) إن التنظيم الفعلي والأكثر فعالية لدعوة الشيخ عبد الوهاب كان في حركة الملك عبد العزيز ال سعود الذي جعل من الدعوة حركة اجتماعية وسياسية تمثلت في حركة الإخوان والهجر .
( 2 ) الزاوية عبارة عن وحدة إنتاج اقتصادي ذات اكتفاء ذاتي إضافة إلى كونها مدرسة تثقيف عقائدي ( أيديولوجي ) وكذلك معسكر تدريب عسكري إضافة إلى كونها وحدة تنظيمية ضمن وحدات زوايا متعددة يربطها كلها الولاء والخضوع لسلطة زعيم الحركة السنوسية .
( 3 ) الجابري المشروع الحضاري العربي بين فلسفة التاريخ وعلم المستقبلات ص 12 – 13 .






الجمعة ٨ جمادي الاولى ١٤٣٦ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٧ / شبــاط / ٢٠١٥ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أبو مجاهد السلمي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة