شبكة ذي قار
عـاجـل










تأخر الرئيس الأمريكي أوباما كثيرا في تنفيذ التعهد الوحيد الذي كان السبب في إدخاله إلى البيت الأبيض ، أي الانسحاب من العراق ، فمن المعروف أن أوباما رفع شعارا مركزيا في حملته الانتخابية للحصول على دعم الحزب الديمقراطي له في انتخابات الرئاسة ، وتمسك به في حملة الانتخابات الرئاسية ، وهو الانسحاب الفوري من العراق ، ثم بدأت التراجعات على خطط الرئيس حتى وجد نفسه ينسحب استنادا إلى الاتفاقية الأمنية التي وقعها جورج بوش وليس ما رسمه لنفسه من مسارات ، وربما كانت هذه واحدة من مفارقات الانسحاب الأمريكي .


علينا أولا البحث عن جواب شاف لسؤال ظل يلح على كثير من مراقبي المشهد العراقي منذ أن أعلنت إدارة الرئيس السابق جورج بوش النية في الانسحاب من العراق ، وهو هل أن هذا الانسحاب جاء لنزعة إنسانية مفاجئة انتابت صانعي القرار في واشنطن ؟ أو لعقدة الذنب التي أحس بها الأمريكيون عندما تأكدوا بأنهم نفذوا عدوانهم استنادا إلى أكاذيب فاضحة فدمروا بنية دولة كانت عامل التوازن الإستراتيجي في أكثر مناطق العالم إثارة للقلق وعدم الاستقرار ؟ فإذا كان الأمر كذلك فلماذا ظلت هذا النوايا معطلة لسنوات طويلة ثم تحركت على حين غفلة ؟ بل سيطرح سؤال أكثر دقة ، إذا كانت هناك مشاعر إنسانية تحتل حيزا مهما في صنع القرار الأمريكي ، فلماذا لم تمنع هذه المشاعر الولايات المتحدة من الذهاب لخيار العدوان أصلا ؟ وبالتالي تمنعها من إسقاط هيبتها في مستنقع الوحل العراقي ؟


على الرغم من كل الطقوس والكرنفالات التي أقامها الأمريكيون في انجاز صفحة من صفحات الحرب على العراق وهي صفحة سحب القوات القتالية من شوارع المدن العراقية ، فإن المراقب كان يلاحظ بدهشة أن الجنود المستبشرين بالخلاص من مطحنة الموت العراقية ، كانوا مطأطي الرؤوس وطغت عليهم أحزان الهزيمة التي لحقت ببلادهم في البلد الوحيد في العالم الذي ظن مخططو الإستراتيجية الأمريكية أن شعبه سيستقبل قوات الغزو كقوات تحرير وما يستلزمه ذلك من نثر الزهور فوق رؤوس الجنود ونحر الذبائح تحت أقدامهم ، وربما كانت فرحة البعض منهم حينما قدموا إلى العراق أكبر من فرحتهم يوم الخروج منه ، ليس لأنهم مقاتلون شجعان ، وليس لأنهم مؤمنون بأهداف بلدهم ، وإنما لأنهم ظنوا أن الحرب على العراق لن تتطلب إطلاق رصاصة واحدة ، وأنهم ذاهبون إلى تمرين حربي دون تضحيات وأنهم سيأخذون مجده بلا مجازفة وسيحصلون على أوسمة دون تضحية ثم يعودون وتستقبلهم الحشود بعد أن حققوا نصرا ناجزا وضمنوا لأنفسهم أرصدة تتضخم مع الأيام ، ولكنهم واجهوا موتا من طراز لم يعهدوه حتى في أفلام الحرب العالمية الثانية ولا في الحرب الفيتنامية ، وتعايشوا مع الموت على مدار الساعة وفقدوا أمام أعينهم أصدقاءهم دون قدرة على إنجادهم ، وفوق هذا فقد تلوثوا بممارسات لن تغادر ذاكرة شعوب العالم وحتى الشعب الأمريكي سيخفض رأسه خجلا كلما ظهرت صورة من صور أبو غريب أو نشر موضوع في الصحافة أو شبكة الانترنيت عن الفساد المالي الذي طبع سلوك القادة الكبار والصغار لجيش الولايات المتحدة خلال سنوات الحرب ، فقد جلب الجيش الأمريكي أنماطا من الرشاوى والصفقات السرية التي ظن الكثيرون أنها حكر على مافيات المخدرات والقمار والسطو وعصابات الجريمة ، وإذا بالجيش الأمريكي أكبر مافيا منظمة على صعيد العالم .


ووسط هذه الأجواء الحزينة على المستوى الوطني الأمريكي والاحتفالية على مستوى الجنود الذين عاشوا ولادة جديدة من جحيم العراق ، أطل أوباما على العالم مستخفا بذاكرة الشعوب وقدرتها على الفرز بين الخطأ والخطيئة ، فهنأ الجنود العائدين مشددا على أن مهمتهم الناجحة في العراق قد جعلت بلادهم أكثر أمنا ، وهذا لا بد أن يستدعي سؤالا محددا للرئيس الأمريكي ، هل يسجل على نفسه تراجعا إستراتيجيا عن موقفه السابق والمعلن عن الحرب الأمريكية على العراق ؟ وهل يحاول أن يكفر عن خطأ كان قد ارتكبه بتخطئة خيار الرئيس جورج بوش في الذهاب لحرب العراق ؟ إذن لماذا رفع شعار الخروج من العراق إذا كان مقتنعا بأن قرار بوش كان كفيلا بجعل الولايات المتحدة أكثر أمنا ؟ ألا يعني ذلك أن أوباما يتناقض مع نفسه تناقضا صارخا ؟ أم أن كلمته جاءت لتؤكد أن الرئيس الأمريكي ( أي رئيس ) مجرد عتلة ضئيلة في ماكنة هائلة ؟ هذا في حال أن يكون الرئيس جزء من النسيج الأبيض ، أما وأن أوباما جاء مختلطا ومن أصول إسلامية من حيث الدين وأفريقية من حيث الأصل ، فلا بد أن تترك هذه العوامل عناصر ضعف لقطار الرئيس ويحدد من حريته بالقول والعمل ، وهذا ما يمكن أن نلمسه في عجز أوباما عن وضع أي من وعوده في حملته الانتخابية ضد وزيرة خارجيته هيلاري كلنتون، وفيما ضد منافسه الجمهوري جون ماكين ، بدء من قرار إغلاق غوانتانامو وسحب قوات بلاده من العراق وغير ذلك من الوعود الخاصة بحماية الخصوصية للأفراد ومنع الرقابة المفروضة عليهم تحت لافتة مواجهة أخطار الإرهاب الذي يتهدد الأمن القومي الأمريكي .


من غير الممكن بل من المستحيل وفي ظروف بلد مثل الولايات المتحدة أن تعترف بالخطأ أو الهزيمة ، ولكن أوباما الذي جاء محملا بوهم كبير عن قدرة الرئيس على إحداث انقلاب داخل مؤسسات الدولة التي ترسخت تقاليدها البيروقراطية عبر مسالك متعرجة وقوانين منتفخة وتقاليد متخشبة ، أدرك أن مؤسسة تم بناء قواعدها على أسس معينة لا يمكن لفرد مهما علت همته أن ينفذ انقلابا دستوريا ويزيح مراكز قوى مدت جذورها في أصول الشركات الكبرى ومصانع السلاح والكارتلات النفطية ، ولكن أوباما بدأ أسبوعا بعد الآخر يغادر أحلام يقظته الواحد تلو الآخر ، ويتحول إلى رئيس بلا طموحات شخصية غير أن يحصل على مرتب مناسب ويدون اسمه على لائحة رؤساء الولايات المتحدة ، ولم يبق له حلم إلا أن تحمل إحدى حاملات الطائرات النووية اسمه يوما كأصدق تعبير عن السلام ، الذي حمله إلى البيت الأبيض وقد لا تتاح له فرصة التجديد ، وربما لن يكمل رئاسته الأولى .


انسحبت القوات الأمريكية انسحابا مسؤولا على وفق المصلحة الأمريكية وما يضمن لها حفظ ما الوجه إن بقي هناك قليل منه أو بقي للولايات المتحدة وجها تستطيع مواجهة أحد به ، ولكن هل تمر الحرب دون أن يكلف أحد نفسه أن يسأل لماذا ذهبنا إلى الحرب وماذا حققنا فيها ومنها ؟


حسنا لندع تدمير منظومة الدولة العراقية ، فذلك شأن عراقي ولن يوليه الأمريكيون اهتماما ، فهذا شأنهم حيثما حلوا ، تركوا وراءهم أرضا محروقة تماما وفسادا لافتا لنظر المراقبين ، أليس أمرا مثيرا أن يحتل العراق والصومال وأفغانستان المراتب الثلاث الأولى على جدول الفساد المالي والإداري ، في لافتة كبيرة تقول ( الأمريكيون مروا من هنا ) ، نعم لندع ذلك كله ونركب المحيط من شرقه إلى شواطئ الولايات المتحدة الشرقية ، ونسأل مع ذوي القتلى الأمريكان من أمهات وآباء وأبناء ، لماذا قتل أبناؤنا ؟ وهل يستطيع جورج بوش أن يهدينا أبناء غيرهم ؟ وهل أن قرار الانسحاب القسري الذي أضطر أليه أوباما قادر على أن يبعث في أجسادهم الحياة ؟ أو أن يشفي معاقا واحدا أو يخفف من معاناة الشارع الأمريكي حينما يشاهد أفواج المجانين والمرضى النفسيين من ضحايا بوش ؟


قد يثبت الرئيس باراك حسين أوباما قليلا من المصداقية ، إذا ما اتخذ قرارا شجاعا واحدا يختتم به حياته الرئاسية والسياسية وهو قرار تشكيل لجنة مستقلة لدراسة أسباب الحرب وما تركته من آثار مدمرة على المجتمع الأمريكي نفسه ، اجتماعيا واقتصاديا ، فهل يفعل أوباما ذلك ؟ أم أنه سيمضي ما تبقى له من زمن في البيت الأبيض دون إثارة الغبار في طريق ذهابه إلى غرفة النوم ؟ ولكنه لن يفعل بكل تأكيد فقد اختار الذهاب إلى أفغانستان بحرب ستخرج منها بلاده الجديدة مثخنة الجراح ، وقد يأتي رئيس أمريكي عاقل يوما ما ويأمر بتشكيل عشرات اللجان التحقيقية في كل الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة في كثير من بقاع الأرض ، وحينها سنصدق ما جاء في مبدأ الرئيس الأمريكي القديم ولسون .

 

 





الجمعة٢٤ رمضان ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ٠٣ / أيلول / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نزار السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة