شبكة ذي قار
عـاجـل










يردد العراقيون مع بعضهم مثلا في سياق الحديث عن عدم جدوى الإتيان بفعلٍ ما حينما لا تكون من ورائه نتيجة نافعة ، هذا المثل يقول ( بعد خراب البصرة ) ، ولا أحد يمكن أن يحدد زمن الخراب الذي تعرضت له البصرة بحيث أصبح مثلا يضرب على مر الأجيال ، وربما تعرضت البصرة منذ أن بنيت بأمر من الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، لأكثر من خراب في تاريخها ولكن واحدا منها هو الذي انتزع قوة الجذب كي يبقى عالقا في الذاكرة الجمعية للفرد العراقي ، وربما تراكم الكوارث على هذه المدينة التي تغنى بها العراقيون كثغر لبلدهم الذي تعرض لغبن الجغرافية حينما تعمد المقص البريطاني حرمانه من إطلالة بحرية تتناسب وثقله الإقليمي والدولي وعمقه الحضاري ودوره المحوري في المنطقة ، ربما كان ذلك كله هو الذي فعل فعله بحيث يستقطب اهتمامهم ويحولون المرارة إلى مثل شائع ومتردد بكثرة على ألسنة المتجادلين وقد أزعم أن ما جرى أثناء فتنة الزنج في العصر العباسي وبعدها كان أهم المحطات القديمة التي صبغت لون البصرة بألوان الحزن والكآبة ، على الرغم من أنها مدينة معروفة بتسامح أهلها واستعدادهم للتخلي عن بعض حقوقهم من أجل الآخرين ، فما هي الأسباب التي جعلت البصرة تحتل الواجهة في الأخبار العالمية ، حينما خرج عشرات الآلاف من أبنائها في تظاهرة غضب مقيم ليتفجر في صيف حل قبل أوانه فلسع الجباه بقسوته ، وذّكّر الناس بأن الحكومة مدينة لهم بأكثر من توفير الطاقة الكهربائية كي تخفف عنهم لوح الهجيرة القاسي ، ولكنهم قلبوا الكتب والدفاتر فقرأوا أن أكثر من سبعة عشر مليار دولار قد أنفقت على قطاع الكهرباء ، ولكن خدماتها كانت تتراجع مع كل صفقة جديدة حتى بدا وكأن الأموال تلك كانت تخصص في مناقصات دولية لتدمير ما تبقى من طاقة تصل إلى البيوت من فضلة عهد الكهرباء قبل الاحتلال .


في تاريخها الحديث كانت البصرة هدفا للعدوان الإيراني في حرب الثماني سنوات ، فتعرضت أحياؤها السكنية الآمنة إلى القصف المدفعي الذي دمرها عن آخر غرفة نوم توزعت أسرة أطفالها دون انتظام وحصد أرواح الآلاف من أبنائها ، وكانت عيون الولي الفقيه ترنو بحسرة إلى هذه المدينة متطلعة لضمها إلى أراضي الإمبراطورية الفارسية الجديدة كما حصل مع إقليم الأحواز ، فكانت هذه الأطماع تتقافز من بين أسنانهم بمناسبة أو دونها ، لتعتبر مدينة البصرة مهرا لزواج باطل وعرس دموي تحت لافتة تعويضات الحرب ، لأنهم لا يقدرون معنى الرابطة الوطنية لأية مدينة في العالم ، فالخميني جاء به زبد البحر وألقاه على شواطئ لم تتعاطف معه يوما ولم يشعر بتعاطف معها إلا بقدر ما تضيف إلى رصيده أو تعطيه من وجاهة ودور ، والتقت مفاهيمه التي تعيش هوس الاغتراب عن منطقة لا ينتمي إليها ودين أقحم أفكاره التدميرية بين دفاتره ، مع طامحين طامعين بالتهام كل أصفر ظنا منهم أنه ذهب وكل ورق أخضر ظنا أنه دولار ، جاءوا بلا قدرات أو مؤهلات أو أساس حضاري بعد فوضى عصفت بإيران سميت ثورة إسلامية ، وأصبحوا حكام دولة لا تفكر برسم حدودها لتحاكي تجربة الصهاينة في فلسطين المحتلة تسعى للتمدد ، وكما جاء الانكليز من الفاو فقد ظن عسكر الخميني أن ضم العراق إلى حديقة جمران لن يتم إلا عبر بوابة الفاو ، فكانت عمليات شتاء 1986 والتي انتهت باحتلال إيران لهذه المدينة النائمة على شواطئ الخليج العربي استفزازا حقيقيا لكل عراقي تتحرك في داخله بقية من دم يأبى التلون والتلوث ، وأريد لاحتلال الفاو أن يكون المقدمة الميدانية للزحف شمالا حتى جسر إبراهيم الخليل ولهذا ألحقتها إيران بعمليات نهر جاسم في شتاء 1987 تأسيسا على خطة الاحتلال القديمة التي كانت تقضم العراق من حلقة الألم الموضعي ، ولكن تلك الموجات سرعان ما تكسرت فوق المملحة وبين بساتين النخيل ، والتقت فتنة الزنج الجديدة مع دمى نزعت جلودها ولوت ألسنتها بلحن القول ، وتحركت من دون كابح من صدق أو ضمير أو دين مزعوم مع الاحتلال الأمريكي الذي جاء من الفاو نفسها ، أو بعده لتمكنه من فرش أجنحة الموت فوق العراق واستيقظت شهوة الملك في عيون ورثة الخميني المتشاكسين فتارة يتحدث البعض عن كونفدرالية للجنوب ترتبط بزواج مع جمهورية الولي الفقيه ، وتارة يتحدث المخطوبون عن حق ولي نعمتهم بتعويضات قدرها 100 مليار دولار ، وتتنافس الأرقام مع بعضها ليصبح المهر عراقا كاملا ، خطوة على طريق تعويض متأخر عن انهيار إمبراطورية كسرى بجهد لا يقف عند حدود التهام الجزيرة والخليج العربي ، وكانت عيونهم على الدوام تتركز على البصرة ، وكأنها معروضة لكل السماسرة في سوق النخاسين بعمائم أو أربطة عنق أو قبعات تم إنتاجها في مصنع واحد ، ومن البصرة في ثمانينات القرن الماضي ، نضع اليد على جرح نازف جديد حينما ركز جيش الولي الفقيه كل ثقله لتدميرها وكأنه فتنة الزنج ، بحيث تحكي لنا قصة ( خراب البصرة ) الحزينة .


ولكن البصرة العصية على الألم والتي عبث بها أحفاد فتنة الزنج وأخلاط الفوضى الخلاقة ، وجيوش الجنرال مود من قبلهم كانت تدهش الغزاة الذين جاءوا من بعيد أو الذين لم يتكلفوا عناء السفر فعبروا الحدود ، أو أولئك الذين غزوها من بعض من كان محسوبا عليها فرهن جهد ببضع من الدولارات أو التومانات أو كليهما معا ، كانت تخرج كل مرة من صالة العمليات الكبرى ومن غرفة الإنعاش وهي أكثر سعفا وتمرا ، وطلبة على مقاعد الدراسة أو أطباء ومهندسين وعلماء ، وأكثر بغضا لجزاريها وقاطعي الماء عنها والطامعين بحقول نفطها وبشواطئها القصيرة على مياه الخليج العربي ، كانت تتنفس بين الرمال والملح وتقدم لضيوفها أطيب ما عندها من البرحي وعشرات العناوين من التمور الأجود فوق البسيطة ، ولكن تسامحها وكرم أهلها يتحول إلى رصاص أبي أو سهام أدق من شوك سعفها والذي يطلق عليه العراقيون كلمة ( السلّي ) بعيون من يحمل لها ضغينة أو يستبطن ما لا يقدر على البوح به ، هذه المرة كانت البشارة منها حينما خرجت لتغتسل مما حاول أعداؤها إلصاقه بها من صفات لم تكن لتحتمل وقعها أو لتدخلها في مناهجها الدراسية أو تربية أبنائها أو لتزرع نخيلها على غير هوائها وتربتها ومائها ، خرجت في إرهاصات ثورة على المحتلين الرئيسيين والثانويين ، ومن يرد لهم البقاء لإبقاء البصرة أسيرة المحبسين أو الثلاثة وربما أكثر من ذلك ، خاصة بعد دخول من كان يتضاءل أمامها لأزمان طويلة ، فأراد استغلال جرحها النازف فتطاول عليها فمنهم من سطا على مياهها وأرضها ومنهم من ينتظر ، ومنهم من لاحق صياديها وهم في عرض الخليج العربي فاستكثر عليهم أن يعودوا بقليل من عطائه لقمة لعيال ينتظرون بقلق على من ركب البحر مجازفا بحياته أو بقاربه أو بكليهما ، أمام من استأسد لحظة انعدام الوزن لغياب قوة الأمس .


كان لتظاهرات البصرة صدى تردد في مدن العراق وعبر الحدود دون جواز سفر أو تأشيرة من أحد واحتل موقعه في صدارة الأحداث العالمية التي سيكون لها ما بعدها ، إنها ليست غضبا على انعدام الكهرباء ، فالكهرباء مقطوعة منذ سبع سنين ، ولكنها انتفاضة على من صادر الكهرباء واحتكرها لنفسه وحاشيته ومنعها من مستحقيها ، انتفاضة على المحتلين ومن جاء معهم أو بعدهم ومن ساعدهم على البقاء حتى اليوم في بلد ما كان لهم أن يبقوا فيه بعد انطلاق أسرع مقاومة في أي بلد من بلدان العالم دون أن تمد لها يد المساعدة ، وحوصرت إعلاميا وسياسيا وماليا وعسكريا ، ولكنها هي التي فرضت على أعدائها حصارا أخلاقيا فكانت أقوى من كل من اعتقد أنه قادر على حصارها .





السبت١٤ رجــــب ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٦ / حزيران / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نزار السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة