شبكة ذي قار
عـاجـل










يحدث في العراق هذه الأيام ما يمكن أن نسميه (انتفاضة الكهرباء)، على الرغم من أنها أيضاً، انتفاضة جوع وغلاء أسعار وتردٍ في الخدمات فظيع، وعدم استقرار أمني لم تشهد له الدنيا مثيلاً في طول مدته وقساوته، وحصده لأرواح العباد وسلبه أموالهم.


هذه شرارة من شرارات كان متوقعاً لها أن تشتعل، تمهيداً لحدث أكبر هو فرض الشعب لإرادته، بطرد المحتل وتسلمه مقاليد أمره بيده، وإذا كانت ثورة العشرين التي نستقبل في الثلاثين من هذا الشهر ذكراها التسعين كانت شرارتها اعتقال الشيخ شعلان أبو الجون، فهذه الشرارة اشتعلت بعد قتل العراقيين وذبحهم والاستهانة بكرامتهم وسرقة ثرواتهم في وضح النهار، وهؤلاء الذين كانوا يدّعون أنهم (مناضلين) ضد (نظام دكتاتوري دمر شعب العراق)، هم من فسر للعراقيين معنى الدكتاتورية والتدمير بالملموس، لا بالتهم الجزاف.


العراقيون -ولا ننكر- عانوا قبل الاحتلال من مشكلة الكهرباء، وقاسوا بسببه الكثير، والسبب كان معروفاً وهو استهداف قوات التحالف محطات توليد الطاقة الكهربائية وتوزيعها، وكل ما يمت إليها بصلة، وأرفقت تلك القوات ذلك بحصار قاس شديد لم يحدث في تاريخ شعب من الشعوب، منعت معه حتى أقلام الرصاص لطلاب المدارس، ولكن على الرغم من ذلك كان وضع الكهرباء أحسن، بفضل العقل العراقي الذي صنّع قطع الغيار وخلق البدائل، وخفف من تأثير التدمير الذي بلغت نسبته 100٪ لمنشآت الكهرباء.


الوزير الدكتور كريم وحيد الذي أنفق مليارات الدولارات لإعمار قطاع الكهرباء يطالب العراقيين دائماً بالصبر، وهو الذي كان قيادياً في هيئة الكهرباء (التي كنت قد اقترحت في تسعينات القرن الماضي فصلها عن وزارة الصناعة والمعادن لينشغل أهل الصناعة بصناعتهم وأهل الكهرباء بكهربائهم)، يعلم أنه لو كان قد أنفق 10٪ من هذه المليارات الممليرة على قطاع الكهرباء لكان قطاع الكهرباء في تلك السنين بألف خير، ولما عانى العراقيون من القطع المبرمج، وعلى الرغم من ذلك كان قطاع الكهرباء في وضع أفضل مما هو عليه الآن، مع إن القطاع الآن لا يعاني من الحصار وتتوفر له أرصدة بأرقام فلكية.


أريد أن أذكّر الوزير الدكتور وحيد بحادثة لا يمكن أن تمحى من ذهنه، عندما دعينا إلى ندوة لمناقشة واقع الكهرباء في تسعينات القرن الماضي وفاجأنا الرئيس الراحل صدام حسين بالحضور والمشاركة في المناقشة، وكان الدكتور وحيد بمنصب مدير عام للتخطيط والمشاريع في الهيئة، على ما أذكر، وطُرحت فكرة أننا لا نستطيع تطوير قطاع الكهرباء حتى وصول ما اتفق عليه العراق من عقود مع دول ضمن مذكرة التفاهم، وظل الرئيس صدام يصغي للمناقشات طويلاً، وكان وحيد يقف على قدميه أمام لوحة عليها تخطيطات شارحاً، فتدخل الرئيس صدام ليحسم المناقشات بقوله إننا لا نستطيع أن نعتمد على مواد مذكرة التفاهم، إذ قد لا تصل إلى العراق لسبب من الأسباب، ثم تساءل: ماذا نستطيع أن نفعل مع هذا الاحتمال؟.. وضرب مثلاً: لو أن العراق اعتمد على مصدر واحد في التسليح لخسر الحرب العراقية الإيرانية، ثم طلب من المسؤولين الإجابة عن تاريخ اختراع الكهرباء، فقيل له: اخترعها الإنجليز قبل سبعين سنة.. فعاد وسألهم: هل أنتم الآن أكثر معرفة بالكهرباء وتصنيع المحطات من الإنجليز قبل سبعين سنة.. أم أنهم قبل سبعين سنة أكثر معرفة بها منكم الآن؟.. وكان الجواب أننا الآن أكثر معرفة بذلك منهم قبل سبعين سنة، فقال: إذن، لنحشد طاقات الدولة ونصنع محطة توليد بميكا واط واحدة بالطريقة التي صنعها الإنجليز قبل سبعين سنة، ثم نطور ما نصنع ونرفع الطاقة إلى ثلاث وأربع وخمس ميكا واط للمحطة الواحدة، وبهذه الطريقة سنستطيع توفير الطاقة الكهربائية لعموم العراق ونضمن أن الأعداء لن يستطيعوا قصفها إذ لا جدوى من قصف محطة صغيرة بصاروخ ثمنه أعلى من ثمن المحطة نفسها..


مضى على هذه المناقشة أكثر من ساعة ونصف والدكتور وحيد وزير الكهرباء الحالي واقف على قدميه، فالتفت إليه الرئيس صدام وقال بالنص: (أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟!)، ثم أضاف: أتعبناك يا دكتور.. تستطيع الجلوس لتستريح..


ولكن الدكتور وحيد لم يترجل ولم يسترح إلا بعد الاحتلال، عندما عمل مع المحتلين وأزلامه ليجعلوه وزيراً في حكومة هشة.
الآن وقد انتفض العراقيون في البصرة وتظاهروا ضد الفساد، وضد الوزير الذي أنفق المليارات، ومازال واقع قطاع الكهرباء يتردى، مما اضطره لإعلان استقالته، وضربت قوات الأمن هذه التظاهرات فصرعت عراقياً وأصابت عدداً آخر منهم، فقد ساند العراقيون جميعاً هذه الانتفاضة، ليعلموا الحكام المفروضين عليهم بإرادة المحتل أنهم مازالوا شعباً حياً يتفانى من أجل كرامته وحرية بلده. أقول للدكتور الوزير ولأمثاله: ليست العبرة في أن يصبح المرء وزيراً، ولكن العبرة أن يخدم المرء وطنه وشعبه، وأن لا يخونهما بمدّ يده لأجنبي غازٍ، وإذا تمتعت بمنصب الوزارة يوماً فإن الشعب سيحاسبك دهراً على الأيام التي قضيتها على هذا الكرسي المزيف الذي صنعه المحتلون..


وأريد أن أستفسر منك يا (سيادة الوزير): هل صحيح ما تسرب من أنباء أن رئيس الوزراء المنتهية ولايته أمرك أن تتلف كل عقود الكهرباء الموقعة مع الشركات الأجنبية والفرار إلى خارج العراق؟





الجمعة١٣ رجــــب ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ٢٥ / حزيران / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب سلام الشماع نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة