شبكة ذي قار
عـاجـل










كثيرة هي المفارقات المضحكة المبكية في آن معاً في زمننا هذا، يصعب عدّها ويستحيل حدّها، خاصة وأن المعمورة أصبحت قرية صغيرة بأسباب التواصل، ونهم الطغاة عبيد الشيطان وحراس كراسيه، فالذين التزموا منهج الفطرة السوية وآمنوا برسالة ربهم هم لا يجنون من هذا التواصل إلا الألم والويلات والحسرات، فيما يستحوذ أتباع الشيطان على كل المقدرات، ولا يعلو على صوتهم صوت، ليس بسبب قوة أو كثرة فيهم، إنما لضعف ووهن في عدوهم.


خلال شهر تشرين الثاني 2003م نشرت مجلة ألمانية تدعى دي ستايف على صفحاتها حوارا مع وزير الخارجية الأمريكي آنذاك كولن باول، أشار فيه إلى ظاهرة يتغابى هو وكثير غيره عن حقيقتها وأسبابها، رغم أنها لا تحتاج إلى مزيد عناء ليهتدى إليها هو ومن يريد.


قال باول مدعياً العجب من واقع يؤرقه: "إن مشكلة الولايات المتحدة تكمن في أنها تلقى من قبل الشعوب قبولا أقل من الذي يكنّه القادة لها".
قالها كثير غيره، ورددها أكثر منهم بعده، وكأنهم جميعاً لا يعرفون لم يمنحهم الحكام تقديرا وقبولا لسياساتهم، ولم ترفضها الشعوب وتمقت فاعليها !


فالحكام، كما أثبتت الكثير من أحداث القرن الماضي ومستهل القرن الحالي، ارتبطت مصالحهم الشخصية، لا مصالح شعوبهم بعجلة السياسة الإمبريالية، التي لا ترتبط بقيم وأعراف ولا حدّاً أدنى من الأخلاقيات، ولأن أهداف الحكام لا ترتبط بمصالح وتطلعات شعوبهم، بل بمكاسب كراسي حكمهم، وسعيهم لتأمين تمسكهم بها، بأسنانهم وأيديهم وأرجلهم وظهورهم وبطونهم، فليس من سبيل أمامهم، والحال هذه، إلا أن يعبروا عن اعجابهم وتقديرهم وفروض طاعاتهم بالسرّ والعلن لسياسات أسيادهم، أو من يتقوون بهم في مسار حفظ الكراسي من أن تنقلب بهم.


أما الشعوب، فلأنها هي المستهدفة بتلك السياسات الامبريالية المجرمة، فليس أمامها إلا التعبير عن الكره والاحتقار والرفض لتلك السياسات والعاملين عليها، ولأنها رهائن مستباحة الحرمات تحت أسواط حكامها، فهي لا تملك أكثر من ذلك، تقول ولا تملك القدرة على الفعل.


وكولن باول ومعه كل الذين يمثلون المنهج الامبريالي ومن يستند عليهم في حفظ كرسيه، يدركون جيداً أن لا قيمة لمشاعر الشعوب طالما هي لا تتحول إلى فعل وسلوك، ولا تشكل عائقاً أمام تحقيق أطماعهم ومشاريعهم، فالإمساك بتلابيب الأنظمة يؤمن لهم على الدوام سلب الشعوب قدرتها على الفعل والتأثير الجدي، تعبيراً عن ذلك الرفض والامتعاض.


فطالما امتلك الغرب الصليبي المتصهين القدرة على خلق الأزمات وإدارة وجهتها، فإنه لم ولن يعبأ بالشعوب، ولا يضع في حساباته كل أساليب الرفض والكره الشعبي، طالما يتحكم هو بوجهة تلك الأساليب وحدودها ويقرر مستوياتها ويرسم خطوطها الحمراء والخضراء والصفراء.


فالفترة الزمنية التي شهدت الإعداد والتمهيد لغزو العراق منذ الهجمة الصفوية عام 1980م وحتى احتلاله عام 2003م قد شهدت آلاف التظاهرات الحاشدة لأغلب شعوب الأرض، بما فيها شعوب الدول المشاركة بالعدوان والغزو، والتي تجاوزت حشودها في عدد ليس بقليل من المرات الملايين، تندد بالعدوان وترفض منهج الطغيان واستخدام القوة الغاشمة ضد العراق، رغم كل دعاوى التضليل التي لفقتها القوى الامبريالية من أجل تبرير عدوانها، رافقها المئات من الندوات والدعوات الرافضة لمنهج القوة، ثم أجهدت الشعوب فكرها لتجد اسلوباً جديداً للرفض من خلال المندوبين الذين قدموا للعراق بصفة دروع بشرية من مختلف شعوب الأرض ومشاربها، بهدف ثني المتعطشين للدماء عن المضي في منهجهم العدواني.


وعندما حزم الشيطان أمره وقرر فأطلق رسل الموت والتدمير لتسقط على رؤوس العراقيين وممتلكاتهم فجر يوم الأربعاء 20-3-2003م هبت شعوب الأرض مرة أخرى تستنكر وتعارض وتهدد وترجوا وتأسف وتأمل بأن يتوقف العدوان.


لكن رغم أن الحشود التي توجهت لغزو العراق لم تكن لتزيد على نصف مليون علج مع خطوطها الخلفية، فإنها فرضت إرادتها على مليارات البشر ممن عبروا عن رفضهم بكل السبل المباحة واللغات المتاحة، ولم يلتفت أحد منهم لتلك الشعوب أو يرد على مطالبها أو يطيب خاطرها أو يضع في ذهنه أي اعتبار لها ولرفضها.


والسبب لا يعود لتفرد هذه الأقليات الضئيلة أمام الشعوب بامتلاك القوة، فالشعوب تملك من القوة ما لا تستطيع كل جيوش الأرض وترساناتها التدميرية أن تقف بوجهها، لكن السبب يكمن في أن الشعوب مغيبة ومقيدة ومرغمة على التخلي عن أسباب قوتها وتفوقها ببطش الأنظمة وجيوشها وقوانينها وأكاذيبها، وهي لا تملك مع حالها هذا إلا أن تكون وقوداً للنيران التي تشعلها الأنظمة في سبيل تحقيق مآربها وغاياتها، التي تتخفى دائماً خلف أهداف كاذبة، أو يد تكدح لتجمع الضرائب في جيب الحاكم، أو بطاقة انتخابية يتزكى بها الحكام.


جدير بالذكر أن الخلل لا يكون دائماً فيمن يحكم، لكنه دائماً وأبداً في الكرسي الذي يتشيطن فيأمر وينهى، ذلك لأن الكراسي لم تعد قائمة ولا تستند على شرعة الله تعالى، بل على مناهج الشيطان ودواعيه، وإن كان عبد الكرسي معمماً وملتحياً، فالله تعالى يقول: {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ}(سورة المائدة: من الآية48)، فما أنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم شريعة ومنهج، وذلك سبيل المؤمنين، ولغيرهم من أهل الأهواء شرائع ومناهج عديدة.


فلينظر أي منا إلى ما تستند عليه كراسي الحكام في مشارق الأرض ومغاربها اليوم، فإنه لن يجد لشرعة الله مكانا فيها، إن أمده الله ببصيرة صادقة، فهي إما قائمة على أمر الشيطان وإما أن تكون بحمايتها وخاضعة لها، فالكراسي التي يحكم من فوقها الشيطان وإن كانت قليلة، فإن غيرها لا يملك القدرة على تثبيت قوائمه على الأرض إن لم يكن في كنفها وعنايتها وتحت عينها فيكون بالنتيجة منها واليها.


ولعل واحدة من أبرز الدلائل التي تشير بجلاء إلى تجاهل الأنظمة لشعوبها وانصياعها لإرادات الطغاة عبيد كراسي الامبريالية، هو ما قامت به العديد من تلك الأنظمة من غلق للسفارات العراقية وطرد لمنتسبيها من بلدانها بحجج ارتبطت كلها بذريعة واحدة تقول أنهم كانوا يمارسون أعمال لا تتفق مع مهامهم الدبلوماسية، لكن أحداً من تلك الأنظمة لم يقل لقد انصعنا وأطعنا الأمر الذي وجهه إلينا ذنب إبليس بوش بضرورة غلق السفارات العراقية حال بدء العدوان، رغم أن كثير من تلك الأنظمة كانت تدعي أن العراق يتعرض لعدوان وقرصنة خارج إرادة المجتمع الدولي ودون تفويض من هيئاته الأممية، ورغم أن تلك الأعمال المشينة حدثت منذ الأسبوع الأول للغزو حيث لم يكن الغزاة حينها قد حققوا على الأرض سوى الانتصارات الكاذبة والهزائم المنكرة على يد رجال العراق، كما فعلت الحكومة اليابانية والفلبينية واليونانية والأردنية والاسترالية وغيرها، فشعوب تلك البلدان كانت تطوف الشوارع صباح مساء طيلة أيام الغزو مستنكرة للعدوان وداعمة لشعب العراق في تصديه للمعتدين بمشاعرها، لكنها لم تتمكن من ثني أنظمتها عن المشاركة في العدوان بمختلف الوسائل والسبل.


فالحقيقة الأكيدة أن كل الحكام يقولون نحن نعبر عن إرادة شعوبنا، لكن أحداً منهم لم ولن يحترم شعبه ويستجيب لإرادته حالما يعتلي كرسياً، بل هي إرادة ذلك الكرسي وبعض متطلباته على الدوام.


ولا أضن أن كولن باول بحاجة اليوم ليعرف من أحد جوابا على تساؤله ذاك البليد الخبيث، لأنه يتمتع بما أنعم عليه كرسي الطاغوت من خيرات العراق المنهوبة، وهو قبل ذلك يعلم جيداً أن من يسعى لكسب ودّ الشعوب وينحاز لها ثم يتجاهل رضى الحكام فإن مصيره مصير العراق.





الثلاثاء٠٣ رجــــب ١٤٣١ هـ   ۞۞۞  الموافق ١٥ / حزيران / ٢٠١٠م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب حــديــد الـعـربي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة