شبكة ذي قار
عـاجـل










الاختلاف الأيديولوجي بين إيران و"إسرائيل" لم يمنع التقارب التكتيكي بينهما من أجل المصالح المشتركة (1)

أ. د. مؤيد المحمودي

 

تمتاز السياسة الخارجية الإيرانية بالسمات البراغماتية الصرفة التي يغلب عليها طابع الانتهازيّة لكونها تضمر عكس ما تظهر وتتصف بالخداع ونقض العهود وعكس الحقائق. ما يجعلها سياسة ميكافئيلية بحتة تضع في منظورها دائما أولوية واحدة هو تحقيق طموحات إيران التوسعية بالهيمنة على الدول المجاورة. ولا تتردد إيران بالتعاون مع ألد أعدائها إذا اقتضى الأمر لتحقيق هذه الغاية. وقد تجلّت هذه الحقيقة بشكل واضح عندما أطلقت الثورة الخمينية في البداية شعار محاربة الشيطان الأكبر على عدوها اللدود الولايات المتحدة الامريكية، لكنها سرعان ما تعاونت مع هذا الشيطان في عملية الاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان ضاربة بعرض الحائط الروابط التاريخية المشتركة التي تجمعها مع هذين البلدين الجارين. ورغم أن الحرب على العراق كانت خطيئة كبرى ارتكبها الأمريكان لصالح اسرائيل بمعونة إيرانية، لكنّها تحولت في النهاية الى مكافئة كبيرة لحكومة الملالي على خدماتها اللوجستية الكبيرة للمحتل الأمريكي. وهو ما أكده وزير النفط الإيراني سابقا عبر التصريح التالي" لقد ساعدت أمريكا إيران على جعلها القوة الإقليمية الأكبر بعد هزيمة صدّام وطالبان، ولم يكن العراق ليتحوّل إلى وضع أفضل من الوضع الذي تحوّل إليه بالنسبة لنا "

وهذا الاسلوب الميكافيلي اتبعته إيران أيضا لإقامة علاقة مستدامة مع اسرائيل بالرغم من أن النظام الايراني يتبع ايدولوجية ثيولوجية ذات طابع طائفي يختلف عن ايدولوجية اسرائيل الصهيونية التي تهدف الى اقامة دولة يهودية عنصرية على حساب دولة فلسطين العربية المتأصلة في التاريخ. وقد اعتمدت اسرائيل استراتيجية تجاوز العالم العربي الرافض لها عن طريق إقامة تحالفات مع المحيط الأبعد الذي يعاديه، أو على الأقل لا تربطه روابط وثيقة مع العالم العربي مثل دول إيران وتركيا وإثيوبيا. فوجدت اسرائيل أن موقع إيران في هذا المحيط شديد الأهمية لمصالحها بسبب نزعتها الطائفية المتطرفة ونزاعها الطويل مع العرب على الخليج وشط العرب. وقد اتسمت هذه العلاقة السرية بينهما بطابعها المركب الذي ظاهره العداء وباطنه التعاون المنفعي الرخيص. وتعود جذور هذا التعاون الايراني الاسرائيلي المبطن الى عهد حكم الشاه الذي جعل من إيران جسرا لتسهيل هجرة اليهود العراقيين والايرانيين الى اسرائيل عبر تركيا. وبالقابل فان اسرائيل ساعدت الشاه لوجستيا أثناء النزاع بين إيران والعراق حول شط العرب فكانت تقوم بالإشراف على تدريب الضباط الايرانيين في دورات خاصة داخل الأراضي المحتلة. وقد جرى هذا التعاون بين الطرفيين بسرية تامة اذ كانت إسرائيل تراعي عدم إحراج الجانب الايراني امام جيرانها العرب من خلال تجنب ختم جوازات العسكريين الايرانيين عند دخولهم إليها أو خروجهم منها تاركة الختم التركي وحده عليها. فضلا عن التعاون الإسرائيلي مع إيران لمساعدتها في تصنيع صواريخ أرض- أرض بالإضافة الى انشاء شركات نفطية مشتركة بين الجانبين.

وفي بداية عهد خميني شهدت العلاقات الاسرائيلية الايرانية بعض الجمود بسبب تعاطف اسرائيل مع حكم الشاه، لكنها سرعان ما استعادت زخمها عند نشوء الحرب العراقية الايرانية نتيجة للعزلة التي كان يعيشها نظام الملالي، فلم يجد هذا النظام غير اسرائيل بلدا يمد له يد العون في السلاح والمساعدات اللوجستية الأخرى التي تمت خفية خلال مباحثات عن طريق وسطاء إما إسرائيليين من اليهود الذين سبق وأن عاشوا في إيران وإما غربيين من عناصر مقرّبة من الجانبين. وفي تلك المفاوضات تم الاتفاق على بيع أسلحة إسرائيلية لإيران، بمباركة من خميني الذي كان على اطلاع بتفاصيلها عن طريق ابنه. وعلى أثر نجاح هذه الصفقات تتالت التصريحات الإيجابية للمسؤولين الإسرائيليين مرحّبة بالتوجه الايراني الجديد، والذي وضع الاختلاف الإيديولوجي جانباً كما وصفه شمعون بيريز في العام 1987. كما إن اسحق رابين وزير الدفاع الاسرائيلي قال في حينه أن " إيران هي أفضل صديق لإسرائيل"، ونوه الى الخطر العراقي لتبرير الحاجة إلى مدّ يد العون لطهران. وفي تلك الفترة تسرّبت أخبار فضيحة الكونترا (إيران غيت) التي كشفت عن نقل أسلحة أمريكية لإيران بمساعي إسرائيلية. وحسب ما ذكره باحث اميركي في جامعة بيل أن 80 % من أسلحة إيران التي استخدمت في الحرب مع العراق كانت تأتي من إسرائيل. عندها حاول خميني التغطية على انكشاف تلك الفضيحة بالهجوم على منظمة التحرير الفلسطينية لقبولها التفاوض مع اسرائيل فيما عرف باتفاقية أوسلو. ويدحض هذا المسار التكتيكي الذي اتبعته إيران للتعاون عسكريا بالخفية مع الكيان الصهيوني ما كان يسوقه الفكر الخميني من شيطنة لإسرائيل واعتبارها دولة عدوة للإسلام.

وبعد وفاة خميني عام 1989 استمرت العلاقة الإيرانية الإسرائيلية على حالها، تحمل مصالح متبادلة معادية للمحيط العربي سرّاً، وصوت عالٍ مقاوم وممانع علناً. وقد أكد على ثبات هذه العلاقة يوسي ألفير مستشار رئيس الوزراء الاسرائيلي آنذاك في مقابلة تلفزيونية بعد بضعة أيام من وفاة الخميني" أن العدو الحقيقي لإسرائيل هو العراق والدول العربية الأخرى، في حين يوجد لدى إيران كافة الأسباب التي تجعلها صديقة لإسرائيل… هي تملك النفط وتضم يهوداً، وهي أسباب جيدة لتجديد الاتصالات مع إيران بغض النظر عن النظام الحاكم فيها". وبالفعل فقد أبلغت وزارة الخارجية الإسرائيلية نظيرتها الأمريكية بأن إسرائيل استأنفت مشترياتها من النفط الإيراني. وبالرغم من بروز مشروع البرنامج النووي الايراني الى العلن في ذلك الوقت الا أن بعض المسؤولين الاسرائيليين حاولوا تخفيف المخاوف من هذا المشروع على بلادهم، إذ صرّح أوري سافاي رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية علناً: "إن إيران لا تشكل تهديداً لأن برنامجها العسكري يستهدف جيرانها المباشرين وليس إسرائيل". كما استبعد ضرب إسرائيل بالصواريخ الإيرانية، فقد قال يوسي ألفير، الضابط السابق في الموساد ومستشار رئيس الوزراء" إن الإيرانيين ربما يتحدثون عنا، ولكننا لسنا همّهم الاستراتيجي الأول ولا حتى الثاني، كما أننا لسنا سبباً يدفعهم إلى تطوير أسلحة نووية". وفي مقابلة نشرتها هآرتس عام 2004 انتقد سيكيف وهو من أبرز المؤرخين الإسرائيليين علاقة بلاده مع إيران قائلا " العلاقة بين إيران واسرائيل تكتيكية قصيرة الأمد يمكن أن تقلل من الخطر الذي يحيق بإيران فيما تعمل على حماية هدفها الاستراتيجي الحقيقي، وهو تولي القيادة الإقليمية".

أثناء تولي نتنياهو لرئاسة الحكومة في اسرائيل اعتبر الدخول في تحالف استراتيجي مع إيران هو أكثر أهمية من التعامل مع القيادة الفلسطينية التي تسعى الى اقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967 لا تخدم توجهاته اليمينية المتطرفة التي تهدف الى الاستيلاء على كامل الأراضي الفلسطينية. لذا عمل نتنياهو جاهداً على إفشال أوسلو وإنهاء صيغة الأرض مقابل السلام. وكان لإيران مصلحة جيوسياسية في معارضة الجهود الرامية للوصول الى تلك المعاهدة، لأن فكرة قيام دولة فلسطينية تسحب من يدها مبرر تغلغلها في الأراضي اللبنانية والسورية وبالتالي تقلص نفوذها في المنطقة. لذا عملت على تخفيض التوتر بين لبنان وإسرائيل، وضغطت على حزب الله لكي يوافق على وقف إطلاق النار مع اسرائيل بعد عملية عناقيد الغضب. لكن طموحات إيران كانت أكبر من اقامة علاقة استراتيجية مع اسرائيل، بل أنها كانت تنظر لها مجرد محطة لتحسين علاقتها مع واشنطن لذا فضلت أن تبقي تلك العلاقة في الخفاء وتظهر معاداتها لإسرائيل أمام العالم العربي لأنها أكثر فائدة على مستوى العلاقات الاقليمية مع جيرانها.

وعلى ضوء هذا التوجه الايراني الجديد استغلت حكومة خاتمي أحداث الحادي عشر من أيلول لإعادة العلاقة مع أمريكا، وقدّمت عروضاً سخية للتعاون معها، وكان لها دور حاسم بتشكيل حكومة أفغانستان وتوقيع معاهدة بون مع الوجوه الأفغانية المعادية لطالبان. لكن بالرغم من تحقيق أمريكا فوائد كبيرة من هذا التعاون، إلا أن اللوبي الموالي لإسرائيل قابل المساعدة الإيرانية بالتجاهل والتهميش، واشترط لتحسين العلاقة الأمريكية الإيرانية أن تمرّ أولاً عبر إسرائيل حتى لو كانت مصلحة أمريكا تقتضي العكس. اذ أن إسرائيل تحرص على الإمساك بمفتاح علاقات دول الشرق الأوسط مع الولايات المتحدة، وأن أية زاوية مهما كانت ضيقة لفتح باب العلاقة مع الولايات المتحدة يجب أن تقبض ثمنها مسبقاً وبالطريقة التي تراها مناسبة لمصالحها. وإلا فإنها تملك من النفوذ ما يجعلها قادرة على الوقوف بوجه مثل هذه المحاولات بقوة، وهذا ما حدث فعلا لإيران عندما حاولت إقامة علاقة منفردة وبعيدة عن اسرائيل. لكن البراغماتية الايرانية عملت جاهدة على احتواء هذا الموقف الاسرائيلي المتشنج من خلال مجموعة مبادرات طمأنت فيها اسرائيل الى حسن النوايا اتجاهها. فقد صرّح خاتمي وقتها بقبول حل الدولتين والاعتراف بالوجود الإسرائيلي على أرض فلسطين وقال سفير إيران باليونسكو عندما التقى كبير الحاخامات الإسرائيليين في إحدى المؤتمرات إن "إيران ليست العراق وهي لن تهاجم إسرائيل أبداً". كذلك صرّحت معصومة ابتكار نائبة الرئيس الإيراني الى صحيفة يديعوت أحرنوت " أن إيران سترحب بالدخول في حوار مع إسرائيل، وأنها عاكفة على مراجعة سياستها تجاها ". كما نشرت صحيفة هآرتس بأن مسؤولين ايرانيين طلبوا التفاوض مع الإسرائيليين على معاهدة حول الصواريخ، وأكّدوا بالوقت نفسه أن بناء ترسانتهم العسكرية ليس موجّهاً ضد إسرائيل وهو ما أكده جواد ظريف مندوب إيران بالأمم المتحدة حين أعلن " إن إيران لا تعترف رسمياً بإسرائيل لكنّ ذلك لا يعني القيام بأي عمل عسكري ضدّها". فضلا عن المبادرة التي قام بها الأمريكان للطلب من الحكومة الإسرائيلية عام 2006 أن تعمل على تخفيف حدة التوتر مع إيران وقد استجابت اسرائيل اليها كما أكده تصريح عوزي دايان العضو المؤثر في حزب الليكود الذي وضح " أنّ إيران ليست عدوا لناً، ولكن علينا التأكد من عدم تمكنها في اقتناء أسلحة دمار شامل".

 






الاحد ٣٠ شعبــان ١٤٤٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٠ / أذار / ٢٠٢٤ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب مؤيد المحمودي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة