شبكة ذي قار
عـاجـل










جيش العراق في ذكرى تأسيسَه

المحامي حسن بيان

 

يعود تاريخ تأسيس الجيش العراقي الى السادس من كانون الثاني عام ١٩٢١، وبذلك يكون قد مر على إعلان تأسيسه مئة وثلاثة أعوام. وقد دأبت الحكومات العراقية المتعاقبة منذ إعلان التأسيس إلى احياء هذه الذكرى باعتبارها مناسبة وطنية، ترتقي حد المناسبات الوطنية التي تؤرخ لتأسيس الدول أو نيلها استقلالها.

وما ميز الجيش العراقي عن غيره من الجيوش العربية، وحبذا لو كان هناك جيش عربي واحد، هو حِرَفِيته وعقيدته القتالية. والمقصود هنا ايضاً العقيدة السياسية التي توجه هذه الجيش باتجاه محتوى استراتيجية النضال القومي والدفاع عن الامن القومي بكل عناوينه ومضامينه.

بالنسبة للميزة الاولى، فإن هذا الجيش تميّز بحرفيته ومهنيته وانضباطيته رغم التبدلات والمتغيرات السياسية التي كان يشهدها العراق على تعاقب المراحل السياسية التي عبرها منذ تأسيس دولته في مطلع العشرينيات من القرن الماضي وحتى اتخاذ قرار بحله من قبل المحتل الأميركي سنة ٢٠٠٣.

وهذه الحرفية والمهنية والانضباطية كان لها الدور البارز في تمكين هذه المؤسسة من أن تكون المؤسسة الارتكازية الأهم في بنيان الدولة الوطنية وفي حماية امن المواطن من مخططات التخريب الداخلي، وحفظ أمن العراق من مخططات الاختراق المعادي للسيادة الوطنية والامن القومي العربي من مشاريع العدوان أياً كانت مصادره.

أما بالنسبة للميزة الثانية، فإن هذا الجيش تميز بدوره استناداً الى عقيدته القتالية انطلاقاً من وعي مختزن لديه، بأنه ليس مؤسسة ذات وظيفة فنية تحكمها تراتبية محددة وحسب، وإنما هو مؤسسة ذات مهمة وطنية وقومية.

فالمهمة الوطنية تفرضها ضرورات حماية الوحدة الوطنية من محاولات التخريب التي تستهدف البنية الوطنية، وحماية السيادة الوطنية من التطاول عليها ممن يتربصون شراً بالعراق للنيل من وحدته الوطنية.  والمهمة القومية، تفرضها ضرورات حماية الامن القومي العربي ممن يسعون الى اختراقه بالعدوان والاحتلال والتخريب عبر التغول في العمق المجتمعي.

هذه العقيدة القتالية، ببعديها السياسي والمهني، لجيش العراق، وان كانت ادرجت في مواد قانونه الاساسي الوطني، الا انه ما كان ليصل الى المستوى الذي بلغه من حضور فاعل في تأدية دوره في البعد الوطني والمدى القومي، لو لم تكن شخصيته تشكل انعكاساً للشخصية الوطنية العراقية. فالجيش هو ابن بيئته الشعبية، وعندما تكون هذه البيئة مشبعة بالروح الوطنية ولا تجد نفسها الا في رحاب الهوية القومية الجامعة، فمن الطبيعي جداً أن يكون هذا الجيش الذي ينضوي في صفوفه كل الطيف الاجتماعي في العراق، أن يكون صورة مصغرة لشعب العراق الذي تميز بوطنيته وعمق التزامه القومي.

هذا الجيش الذي اختبرته المواجهات مع أعداء الشعب والأمة، على ساحة العراق ومساحة الوطن العربي الكبير، بقدر ما استمد من مخزون الوطنية العراقية شحناً تعبوياً لازَمَهُ في كل مسيرته منذ التأسيس، فإنه منح هذه الوطنية العراقية مناعة، جعلت الجسم الوطني العراقي عصياً على الاختراق من قوى العدوان الخارجي والتخريب الداخلي. وهذا الامر نفسه ترجم بمفردات عملية في دوره على مستوى الانخراط في كل معارك الامة العربية التي خاضتها ضد أعدائها المتعددي المشارب والمواقع.

وإذا كان العراق، وُضِعَ في رأس لائحة الاستهداف من القوى المعادية، فلكونه شكل أحد مواقع القوة والاقتدار في البنية القومية والتي تجلت معطياتها بشكل خاص إبان الحكم الوطني الذي قاده حزب البعث العربي الاشتراكي، حيث استطاع ان يقيم تجربة رائدة في التحول السياسي والاجتماعي والاقتصادي والتنمية الشاملة للبنية العراقية بكل مجالاتها، كما لعب دور الحاضن لقضايا الأمة العربية وخاصة قضية فلسطين.

من يستعرض تاريخ العراق منذ تأسيس دولته، لا يسعه إلا أن يواكب تاريخية جيشه الذي لعب دوراً بارزاً في أبرز المحطات السياسية التي مر بها العراق على مدى ثمانية عقود.

من دوره في مقاومة الاستعمار البريطاني وثورة رشيد عالي الكيلاني في باكورة الاربعينيات، ودوره في ثورة ١٤ تموز ١٩٥٨، وثورة ١٤ رمضان ١٩٦٣، وثورة ١٧-٣٠ تموز ١٩٦٨، الى دوره في حرب فلسطين ضد العصابات الصهيونية (ومقبرة شهدائه في جنين هي شاهد خالد على ذلك)، كما دوره الفاعل في حرب تشرين ١٩٧٣على الجبهتين المصرية والسورية فهو الذي حمى دمشق وحال دون سقوطها.

وإذا كان يسجل لهذا الجيش دوره في تقديم الدعم بالمشاركة والخبرة الفنية والعتاد في كثير من الاقطار العربية التي كانت تتهددها مخاطر خارجية، من موريتانيا إلى السودان واليمن، ولبنان بعد الاجتياح الصهيوني لجنوب لبنان ١٩٧٨، فإن المحطة الأبرز في تاريخيته ومسيرته هو تصديه للحرب التي فرضها النظام الايراني بعد استلام المؤسسة الدينية لمقاليد السلطة في إيران وإطلاق حملتها العدائية المجبولة بالحقد الشعوبي الدفين ضد العروبة.

لقد خاض جيش العراق حرباً امتدت ثماني سنوات، وخرج منها أكثر قوة واقتداراً على مستوى قدراته العسكرية وخبرته القتالية وتصنيعه العسكري، رغم الدعم القوى الذي قدمه التحالف الصهيو -  اميركي للنظام الايراني وامداده بالسلاح والخبرات الاستخبارية والعسكرية وما "إيران غيت "، إلا المكشوف من مستور العلاقات التسليحية وغيرها، بين الكيان الصهيوني ونظام الملالي في طهران.

هذا الجيش الذي خاض حرباً في مواجهة تحالف دولي قادته اميركا وشاركت فيه انظمة عربية، رمى الكيان الصهيوني ب ٣٩ صاروخاً، ادراكاً من القيادة السياسية في العراق بان الحرب التي شنت عليه في ١٩٩١، وألحقت بحصار ظالم لم يشهد التاريخ مثيلاً له انتهاء بالغزو سنة ٢٠٠٣، انما كانت تنفيذاً لقرار صهيوني اتخذ في كواليس دوائر الحكم الاميركي، لإسقاط العراق وبما يمثل من ثقل في البنيان القومي واستتباعاً بتقويض كل مؤسسات الارتكاز الوطني للعراق، والجيش هو المؤسسة الأهم.

لذا فعندما وقع العراق تحت الاحتلال، فإن اول قرار اتخذه المحتل الاميركي هو حل الجيش العراقي والقرار الثاني هو اجتثاث البعث.

لقد اتُخِذ قرار حل الجيش، لأنه بدون ذلك ما كان يمكن تقويض بنية الدولة العراقية وصولاً الى تقويض البنية الوطنية. والامر لم يقف عند حد حل الجيش، بل أعقب ذلك، تنفيذ حملة ممنهجة لتصفية ضباطه وكفاءاته العسكرية، خاصة الذين عملوا في حقل التصنيع العسكري. وقد تشارك النظام الايراني والكيان الصهيوني في تنفيذ هذا المخطط، إذ توزع الطرفان المهمات، حيث تولى الأول، تصفية ضباط سلاح الجو والقوة الصاروخية، وتولى الثاني تصفية العلماء والخبراء خاصة خبراء الطاقة الذرية.

لقد أدى حل جيش العراق الى تفكك بنية الدولة، واقيم نظام للمحاصصة السياسية والاقتصادية والمالية بدلاً عنها. وبحل الجيش وتفكيك مؤسسته، تشكلت المليشيات التي ترتبط بمركز التحكم والتوجيه المخابراتي الإيراني. وأصبح العراق مرتعاً تسرح وتمرح فيه هذه الميلشيات بما يخدم المصالح الايرانية على حساب مصالح الشعب الذي نهبت ثروته الوطنية وطيّفت حياته السياسية وعم الفساد كل نواحي الحياة.

لقد أدى حل الجيش العراقي الى تحلل بنية الدولة، وبهذا التحلل انكشف العراق امام كل اشكال الاستباحة لأمنه الوطني، وبانكشاف أمنه الوطني انكشف الامن القومي العربي، وبات ظهر الامة العربية مكشوفاً، وبأن هذا الانكشاف بشكل واضح في الانعكاسات على الساحات التي تخوض مواجهات مع الأعداء القوميين للأمة من العدو الصهيوني الى النظام الشعوبي في إيران وانتهاء بالنظام التركي. ويكفي الوقوف على ما تتعرض له غزة من حرب إبادة، واستباحة سوريا وليبيا واليمن من قبل قوى دولية وإقليمية لتتبين حقيقة ذلك.

 كما كان لتدمير العراق واسقاط نظامه الوطني ودولته وحل الجيش العراق من تداعيات سلبية على الأمن الوطني للأقطار التي تتعرض للعدوان الصهيوني او تلك التي يتفاقم فيها التغول الإيراني وبما يثبت بأن الأمن القومي العربي هو وحدة عضوية تضعف مناعتها عندما تضعف المناعة الوطنية لمكوناتها. 

إن قرار حل الجيش العراقي، كان قراراً مدروساً ومخططاً له، ونجاح اختباره في العراق وتأثير ذلك على بنية الدولة وابراز دور الميلشيات وتشريع تمويلها ودورها على حساب دور الجيش الوطني، دفع كل من يضمر شراً بالأمة إلى اعتماد هذا الاسلوب في تقويض بنى الدول الوطنية، وما جرى في سوريا واليمن وليبيا ولبنان واخيراً السودان، انما يندرج في سياق ضرب بنية الدولة الوطنية عبر اسقاط دور مؤسساتها الارتكازية واهمها مؤسسة الجيش.

من هنا، فإن مخطط حل الجيش العراق لا تستقيم النظرة إليه إلا إذا وضع في سياق المؤامرة على الأمن القومي العربي عبر اضعاف عناصر مناعته، وجعل ساحات الأقطار مكشوفة أمام كل اشكال التدخل الخارجي من اقليمي ودولي. وإن إبراز دور الميلشيات تحت مسميات مختلفة كي تكون بديلاً للجيش الوطني، وتشريع دورها الأمني هو إسفين يضرب في بنية الدولة الوطنية لخلق واقع يدفع البلاد نحو التشظي في ظل إسقاط دور المؤسسة الوطنية الارتكازية. 

في ذكرى تأسيس الجيش العراقي، لابد من التأكيد على ان البناء الوطني لا يستقيم دون قيام المؤسسات الوطنية الارتكازية وأهمها مؤسسة الجيش التي يحكم عملها قانون وطني، سواء لجهة تركيبة هياكلها التنظيمية أو لجهة مبررات وجودها ودورها وعقيدتها القتالية، ببعديها التقني والسياسي، المتمحورة حول مهمتها الأساسية في حماية الأمن الوطني كما الأمن القومي.

 فتحية إلى هذا الجيش العظيم في ذكرى تأسيسه، وتحية إلى شهدائه الذين سقطوا على مساحة الوطن العربي الكبير، وهو الذي قدم نفسه قولاً وفعلاً كجيش عربي معني بالدفاع عن حياض الأمة العربية بقدر ما كان معنياً بحماية البوابة الشرقية للوطن العربي.  






السبت ٢٤ جمادي الثانية ١٤٤٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٦ / كانون الثاني / ٢٠٢٤ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب المحامي حسن بيان نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة