شبكة ذي قار
عـاجـل










تلفزيون لبنان، قبل ان تطلق الدولة رصاصة الرحمة على شاشة الوطن.

نبيل الزعبي

 

كافيةً كانت، هي الايام المعدودة التي امضاها موظفو تلفزيون لبنان مطلع شهر آب الجاري في اضرابهم التحذيري مطالبين بتسوية اوضاعهم المعيشية على غرار ما تعامل به الدولة اللبنانية سائر موظفيها في الادارة العامة،

وحاسمة ايضاً تلك السويعات القليلة على طلب وزير الاعلام اللبناني اغلاق هذه الشاشة، كي تحقق قضية تلفزيون لبنان من التضامن الشعبي ما لم يكن ليخطر على بال أحد من المسؤولين طوال السنين الماضية ما اجبر الوزير على اعادة البث مساءً مع الوعد بإنصاف الموظفين والوقوف على مطالبهم.

قد لا يعرف هذا الجيل الناشئ من اللبنانيين شيئاً عن محطة تلفزيون لبنان الرسمي سوى ما كانت جوقات التهريج  وتمثيل " الشانسونيية " اللبناني ،  تتناوله بالسخرية والتمبلة والتوقف عند الماضي دون التحرك نحو المستقبل ، دون ان تتناول جذور المشكلة التي يعانيها هذا الصرح الاعلامي الوطني الذي بدأ في العام ١٩٥٩ وتربت اجيال لبنانية على ما كان يقدمه من برامج ترفيهية وتوعوية وفنية وتربوية ، اكثرها هادف ولا يخدش الذوق العام او يبتذل ويحرّض ويشحن في تعاطيه مع الشؤون العامة كما نرى ونتابع اليوم على أكثر من شاشة لبنانية وللأسف،  وبذلك تمكنت شاشة تلفزيون لبنان على علّاته ، ان تكون الصوت المدني، ربما  الوحيد ، الذي ينطق بلسان لبنان الواحد الموحد في ظل انتشار محطات التلفزة الخاصة المتعددة الانتماءات والولاءات ، وصراعات دبابير السياسة الداخلية ، وشكّل صورة مصغّرة عن المؤسسات اللبنانية الرسمية التي لم تحظَ يوماً على رضا امراء السياسة اللبنانية ونواطيرها فاهملوها عن سابق تصور وتصميم لمصلحة اعلامهم الخاص ومنابرهم الفئوية وتركوها وحيدةً :

- إما لتصارع في سبيل البقاء،

-او تُحتَضَر امام اعين اللبنانيين لسنوات عدة ولا من يهتم او يبالي،

اما تلفزيون لبنان الوطني، فكان المؤسسة الوحيدة التي، وبالرغم من تركها تُحتَضَر منذ ما يزيد عن العقد من الزمن، الا انه بقي يصارع في سبيل البقاء وتلك واحدة من صور الصمود غير الموجودة في المؤسسات الاخرى، والدعوة الى دعمها واستنهاضها اليوم تكاد تكون واجباً وطنياً ملّحاً يعني كل الوطنيين العابرين للطوائف والمذاهب والمناطق، بقدر ما يعني الاعلام المرئي والمسموع والمقروء غير الخاضع لميليشيا وحزب وتنظيم سياسي معين.

تكبر الحاجة الى تلفزيون لبنان اليوم أكثر من اي وقتٍ مضى مع تحوُّل الاعلام اللبناني الخاص الى رديف متكامل لتحالف ميليشيا المال والطوائف والنفوذ السياسي، خاصةً ان تلفزيون لبنان خلال مسيرته الطويلة استطاع ان يحرر نفسه من تلك الالتزامات التي تفرّق ولا توحّد ليبقى محطةً جامعة لكل اللبنانيين على مختلف مشاربهم واطيافهم السياسية وحتى الحزبية وغير الحزبي منها.

فهل هي مصادفةً مثلاً ان يتوقف هذا التلفزيون في اليوم التالي على أبشع ما بثته التلفزيونات الخاصة في لبنان من تعبئة وتحريض سياسي وطائفي، اجمع كل اللبنانيين على انه لا يندرج سوى في إطار النفخ في ابواق الفتنة واستحضار عيّنة صغيرة من ماضي اعلام الحرب المشؤومة التي لم يزل لبنان يعاني ذيولها حتى يومنا هذا، ونعني ما شاهده اللبنانيون والعالم من ابواق ولهجات تحريضية مرفوضة اعادتنا الى الاجواء البغيضة التي سبقت حرب السنتين وكانت المادة الخصبة لإشعالها.

نعم، لم تكن المحطات الاخرى بمعظمها، بريئةً البتة مساء يوم الاربعاء في التاسع من شهر آب لهذا العام عندما كادت حادثة بلدة الكحالة ان تودي الى خلق اجواء الحرب المشؤومة بالخطاب والاتهام المتبادل من جديد، ليتغلب النفخ في نار الفتنة والاغترار بالقوة الفائضة على كل ما يدعو الى التعقُل والتريُث الى حين انهاء الجيش لمعالجته للحدث وهو الذي نال من التهجُم ما ناله بدوره وكأن المطلوب ان يكون لطرف لبناني دون الآخر.

ماذا لو كان التلفزيون الذي اُقفِلَ لساعات معدودة يوم الجمعة في الحادي عشر من آب  تابعاً لحزب سياسي فاعل يندرج تحت مسمى المنظومة الحاكمة ، او كان امتدادا لطائفة او مذهب او يُمَوّل من جهات خارجية ، فهل كانت السلطة المعنية بتوقيفه، لتجرؤ  على ذلك ، وكم من سماءٍ ستُطبَق على الارض ، وكم من طرقات ستُقطَع ، ومزامير ستندُب وطبولُ ستُقرَع في سبيل الرايات والاعلام التي لا تتسع امكنتها للعلم اللبناني ، وكل راية فيها تكتفي بلونها البرّاق الخاص بها وشعارها الذي لا يمت بِصِلَة لنشيدنا الخالد " كلنا للوطن للعلى للعلم"،

و"شيخنا والفتى، عند صوت الوطن،

أُسد ُ غابٍ متى، ساورتنا الفِتَن".

ليس مطلوباً اليوم النظر الى الضائقة المعيشية التي يرزح تحت وطأتها الموظفون والعاملون في هذا الصرح الاعلامي العريق فحسب ، بقدر ما تدعو الحاجة الوطنية اليوم الى اعادة الاعتبار له واستنهاضه وتكريسه منبراً وطنياً لكل اللبنانيين بكل ما للكلمة من معنى ، ليكون الصوت الوطني  الوحيد في برية المتنافسين على شرذمة الوطن وتقسيمه ، ومتنفساً ثقافياً حقيقياً امام شتى حالات الاختناق الفكري والثقافي الذي تُحدِثُه المنابر الخاصة التي لا تعدو ان تكون صوتاً للحظائر الموجودة ولم ترتقِ بعد الى مصاف الاعلام الوطني الحر المستقل.






الاحد ٣ صفر ١٤٤٥ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٠ / أب / ٢٠٢٣ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نبيل الزعبي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة