شبكة ذي قار
عـاجـل










طرابلس، والإضاءة من جديد على تراثها المُهمَل، وأبنيتها المتصدعة الآيلة للسقوط.

 

نبيل الزعبي

 

في شهر تشرين الأول من العام ١٩٧٣، وإثر حرب تشرين التي خِيضَت ضد العدو الصهيوني، اتخذت الحركة الوطنية اللبنانية قراراً بمسحٍ عام لملاجئ الأبنية في المدينة، تحسباً لأي امتدادٍ للحرب ودرء للمزيد من الاخطار وتكبُد الدماء التي كان العدو لا يفرّق بين مقاتل ومدني، في اعتداءاته.

ولقد كانت مهمة مسح منطقة باب التبانة من مسؤولية رفاقنا في حزب البعث العربي الاشتراكي وتوجيه مباشر من نائب المدينة  المنُتَخَب حديثاً آنذاك ، الدكتور عبدالمجيد الرافعي  ، حيث  لم نترك  بناءً الا ودخلنا اليه وسجلنا ملاحظاتنا ومدى صلاحية استخدام الابنية كملاجئ صالحة لإيواء المواطنين عند الضرورة ، ولشد ما فوجئنا به يومها ، أن اكثر من ستين بالمئة من هذه الابنية ، ليست بغير الصالحة وحسب ، وإنما تشكّل أخطاراً نسبية داهمة على ساكنيها قد تلحق بهم في اية لحظة ، نتيجة تسرُب المياه الصالحة إلى تلك الملاجئ واختلاطها بمياه المجارير الآسنة المفتوحة عليها ، وذلك يعود لسببين :

-الاهمال البلدي في المراقبة الهندسية للأبنية وتركها على ذمة التاجر الذي كان يحتمي بفاسدٍ في السلطة والزعامة المحلية وتركه دون حسيب او رقيب.

-التهاون المستمر في اصلاح شبكة المجارير والمواسير الصحية في كل بناء والتي تتطلب سحب المياه من الملاجئ اولا بأول ومنع تكرارها من جديد. 

 

لقد بقيت الحال على ما هي عليه سنين عديدة بالرغم من وضع بلدية طرابلس أمام حقيقة الوضع أعلاه آنذاك ، لتزيد من حجم أخطاره عامي الحرب الاهلية ١٩٧٥/١٩٧٦ والقصف من الخارج على المدينة، والتي عادت لتتفاقم مع بداية الثمانينات من القرن الماضي ، عندما ابتُليَت التبانة بمن أغرقها بقتالٍ عبثي استمر عشرات السنين بين ما سُمّي ( الجبل والبعل ) عندما كانت المدفعية الثقيلة وقذائفها لا توفّر بناء وآخر على هذا المقلب أو ذاك ، ولتتحوّل المنطقة ، وما يحيطها من مربّع سكني يضم المنكوبين والبداوي والقبة والزاهرية والسويقة وباب الحديد والاسواق الداخلية ، وحيث كانت تصل القذائف والرصاص العشوائي ، إلى مناطق منكوبة بكل ما للكلمة من معنى، دون ان نغفل ان شارع سوريا ، الشريان الاقتصادي الحيوي لطرابلس ، قد دُمِّر  تجارياً عن بكرة ابيه وهجره التجار والمستثمرون إلى مناطق أخرى بعيدة عن سوح القتال العبثي .

 

هذا الواقع دفع بغالبية اهالي هذه المربعات المقتدرين ، وخاصة في التبانة والقبة، إلى مغادرتها إلى مناطق اكثر أمناً ليبقى فيها الاقل اقتداراً من الذين طحنت من عزيمتهم قساوة العيش ومرارة الظروف الأمنية اللاحقة بالانتماءات السياسية التي لا يتسع المجال لذكرها في هذه العُجالة ، غير أن تداعياتها لم تزل حتى يومنا هذا متمثلةً بكل هذا الإصرار " الرسمي" على أن تدفع  طرابلس الأثمان الباهظة كي لا تقوم لها قائمة وتبقى مشلولة القدرة على استعادة دورها الاقتصادي والاجتماعي وهي التي تملك مرفأً من أهم مرافئ المتوسط ، ومصفاةً معطلة ومعرضاً يملك كل المواصفات العالمية للمعارض يتحول تدريجياً إلى خرسانة غير  صالحة للاستخدام، شأنه شأن الملعب الدولي الأولمبي الآخر ، أما المدينة القديمة، وهنا بيت القصيد، فقد تحولت بأبنيتها المتصدعة وبناها التحتية المتهالكة إلى عبءٍ على المدينة بدل استثمارها وتحويلها إلى أن تكون المدينة الأجمل على شاطئ المتوسط ، وهي تملك كل مقومات ذلك .

 

ماذا تنتظر السلطات المركزية والمحلية أن تفعل ، وأمامها مدينة تنهار ، وتراث يندثر شيئاً فشيئاً ، وأبنية متهالكة مرشحة للسقوط ، لم يكن بناء ضهر المغر-القبة ،  منذ اشهر قليلة ، اولها ، ولا مدرسة الأمريكان التابعة لجغرافية باب التبانة آخرها ، وهي المدرسة العريقة تراثاً واكاديمياً قبل ان يطالها ما طال أبنية المدينة التراثية من اهمال وتصدُعات، وحتماً لن ينتهي الانهيار بها ، وفي المدينة أكثر من أربعمائة مبنىً مماثل آخر على اقل تقدير ، يعيش ساكنوها شتى حالات القلق وانتظار الموت الرحيم، فلا يملكون سوى التسليم بالقدر القادم لا محالة نتيجة عجزهم عن توفير البدائل، وعجز الدولة عن القيام بمسؤولياتها تجاه مواطنيها حفاظاً على أرواحهم ، وهذا اقل ما يجب ان تفعله ، فتراها غير قادرة وللأسف ، سيّما وان تجاهل الاخطار على بناء مدرسي كمدرسة الأمريكان يؤشر بأصابع الاتهام إلى وزارة التربية التي لم تولِ اهتمامها بالصروح التعليمية في البلد وتركتها قنابل موقوته تنهمر على رؤوس الطلبة في اية لحظة كما حصل للطالبة الشهيدة ابنة الستة عشر عاماً ماغي محمود التي دفعت ثمن ذلك بروحها ودمها المهدور على مذبح الفساد اللبناني ومروحته التي لم تكتفِ بملاحقة اللبنانيين  في قوتهم ومعيشتهم وغرف نومهم ،وانما تمتد اليوم إلى مدارسهم وصروح البلد التربوية أيضاً .

أمام هذا الواقع المرير نسأل:

-ماذا يمنع بلدية طرابلس من استثمار توأمتها لمدنٍ عدة وتنقذ ما يمكن انقاذه من أبنية تراثية فيها، -ومن يُعيق وزارة الثقافة عن القيام بواجباتها تجاه الأبنية المصنفة " تراثية"، وادراجها على سلم المواقع الأثرية الخاضعة لاهتمامات منظمة اليونيسكو، وتوفير الدعم المادي اللازم لترميمها، بعد ان تجاهلتها وزارة السياحة وكأن طرابلس تعيش في كوكب ٍ آخر.

-وأين وزارة التربية لتدق ناقوس الخطر حفاظاً على المؤسسات التعليمية الموضوعة تحت عِهدتها ورعايتها!

 

أما أثرياء المدينة، فكل ما تحتاجه مدينتهم لتعود إلى الحياة، يكاد لا يساوي نزراً يسيراً مما يدفعونه على شراء اليخوت التي يبدو أن العناية بها أهم لديهم من أية عناية اخرى بمدينتهم الأم، هذا إن بقي لديهم " شلش " حياء يربطهم بالمدينة وناسها بعد كل ما جرى.

 

 






الجمعة ١٠ ربيع الثاني ١٤٤٤ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٤ / تشرين الثاني / ٢٠٢٢ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نبيل الزعبي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة