شبكة ذي قار
عـاجـل










لم يتعرّض حزبُّ في لبنان من الاضطهاد والتنكيل والالغاء منذ عهد الاستقلال حتى الماضي القريب جداً ، مثلما تعرّض له حزب البعث العربي الاشتراكي الذي تعود بدايات تأسيسه في لبنان الى مطلع الخمسينيات من القرن الماضي بعد الاعلان الرسمي في دمشق في السابع من نيسان من العام ١٩٤٧، حيث تمكن "الفرع اللبناني "وبسنوات قليلة جداً ،

من التمدد في كل المناطق اللبنانية ،

والانتشار بين مختلف شرائح المجتمع اللبناني ومكوّناته الشعبية والاجتماعية ،فتصدّى لمشروع ايزنهاور وحلف بغداد ، وانتصر لمصر العروبة وهي تواجه العدوان الثلاثي ( البريطاني الفرنسي والصهيوني ) عليها عام ١٩٥٦، مثلما تصدّى لانزال المارينز في بيروت بدعوة من كميل شمعون والاسهام في الثورة على حكمه عام ١٩٥٨ حيث سقط للحزب احد ابرز مناضليه ،الشهيد جلال نشوئي ، الذي مازالت منظمة الحزب في طرابلس تحمل اسمه حتى يومنا هذا ، مرحبّاً في نفس الوقت ببزوغ فجر اول وحدة عربية في العصر الحديث بين قطري سوريا ومصر تحت مسمى "الجمهورية العربية المتحدّة"التي كان لفرع الحزب في سوريا الدور التاريخي الكبير في تحقيقها ، ولينوبه بعدها ما ينال الحركات الثورية التحررية من مدٍ وجزر ، بدأت بالانفصال بين قطري الوحدة في ايلول ١٩٦١،وإغراق القطر المصري في حربٍ ضروس في اليمن انتصاراً لثورتها ،منهكةً الجيش المصري كاحد اسباب هزيمة الخامس في حزيران ١٩٦٧واحتلال سيناء والضفة الغربية والجولان ، لتضاف هذه النكسة الكبرى الى نكسات "البعث" في سوريا والعراق وإجهاض تجربتيه في الحكم اللتان بدأتا في العام ١٩٦٣ ،الاولى في العراق في ردة ١٨ تشرين من العام ١٩٦٣ , ولم يكن قد مضى على تجربة الحكم سوى اشهر قليلة ،والثانية في سوريا في ردة ٢٣ شباط من العام ١٩٦٦.

وبالرغم من الترددات الامنية والتنظيمية والسياسية الضاغطة على الحزب في لبنان ، حيث من المحال ان لا تتأثر الساحة اللبنانية بما جرى في سوريا، فأنه يُسَجَّل للتنظيم في لبنان وقوفه الثابت مع الشرعية الحزبية وتوطيد انتمائه للقيادة القومية للحزب ،
انطلاقاً من تمسكه بمبادئ الحزب ونظامه الداخلي ، مقدماً في سبيل ذلك التضحيات الكبيرة ومواجهاً التحديات المختلفة التي لم تقف امامه حائلاً في دخول القائد البعثي الدكتور عبدالمجيد الرافعي الى الندوة البرلمانية في العام ١٩٧٢ بأصوات شعبية وازنة في طرابلس شمالي لبنان ، وتقديم الدعم الكامل للدكتور علي الخليل،احد امناء السر السابقين للقيادة القطرية ، في النجاح في مدينة صور في لبنان الجنوبي ،

معززاً ذلك بالفرح القومي الذي حققته ثورة الرفاق البعثيين في العراق عام ١٩٦٨، وما احدثته من تغييرات جذرية في مفهوم النضال العربي والتحول الاشتراكي والصراع مع العدو الصهيوني.

لقد كانت مرحلة السبعينيات من القرن الماضي احدى اهم مراحل النضال الوطني والقومي التي ارساها البعث في لبنان بالتزامن مع دوره الريادي في تأسيس المجلس السياسي للحركة الوطنية اللبنانية ،
كإطار جامع للقوى الوطنية والتقدمية اللبنانية ، التي دافعت عن عروبة لبنان ووحدته وشكلّت الدرع الواقيي للمقاومة الفلسطينية امام التيارات الانعزالية التي اشعلت حرباً داخلية بين العامين ١٩٧٥ / ١٩٧٦ ، وقد اذهلها التمدد الوطني والتضامن مع القضية الفلسطينية العابر للمناطق اللبنانية بديمغرافيتها
المتنوعة ، وليواجه لبنان بعدها اجتياحاً عسكرياً صهيونياً في العام ١٩٨٢ وصلت فيه دباباته الى قلب العاصمة بيروت بالرغم من القتال البطولي للمقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية ،

ومن ضمنها قوات البعث وجبهة التحرير العربية ، بعد ان اعطت الولايات المتحدة الاميركية بشخص رئيسها رونالد ريغان الضوء الاخضر للكيان الصهيوني بانهاء منظمة التحرير الفلسطينية، وليدخل لبنان بعدها في دائرة الدول العربية التي يحتل العدو قسماً من اراضيها في الجنوب اللبناني بعد انسحابه من بيروت ، ولينتقل الصراع العسكري مع الكيان الصهيوني الى مرحلةً جديدة تولته قوىً ذات امتدادات اقليمية وخارجية حصرت القتال لنفسها ومنعت عن الآخرين اية مشاركة خارج عباءتها ،

وقد دفع الحزب خيرة مناضليه الذين رفضوا هذا الواقع وليدخل بعدها مُجبٍراً في نطاق العمل "تحت الارض" بعد ان مورست عليه ابشع حالات التضييق الامني والتصفيات الشخصية ومصادرة مقراته واملاكه احتلالا وبيعاً ،دون ان نغفل ما تعرضت له مقرات الحزب ومنزل امينه العام الدكتور عبدالمجيد الرافعي في شهر آب من العام ١٩٨٣ ،من احتلال واستشهاد عشرات الرفاق على ايدي القوى الظلامية التي افرزتها تلك المرحلة لتستكمل بدخول قوات الردع السورية في العام ١٩٨٥ والمباشرة في شن حملات غير مسبوقة ضد الجهاز الحزبي واعتقال المئات من اعضائه متجاوزةً ما قامت به خريف العام ١٩٧٦ عندما دخلت تحت مسمى قوات الردع العربية ،
وكلها احداث اليمة نستنكف الدخول في تفاصيلها منعاً لنكأ الجراح واستعادة الماضي الاكثر الماً.

انه من الصعوبة بمكان على ابناء هذا الجيل ان يستوعبوا المراحل المريرة والقاسية والمضنية التي عاشها البعثيون في لبنان بدءاً من تلك المرحلة التي بدأت في العام ١٩٨٣ وامتدت عشرين عاماً كاملاً ،

كانت مشهدية التنظيم الحزبي خلالها على الشكل التالي :

١ - اغتيال واعتقال العشرات من قيادات وكوادر واعضاء وانصار الحزب على طول الاراضي اللبنانية حيث لم يسلم من ذلك حتى الاقرباء والمعارف والاصدقاء ،

٢ - مصادرة كل ما يتعلق بمقرات وممتلكات للحزب واحتلالها وبيع معظمها بصكوك مزورة غير رسمية ،

٣ - لجوء العديد من الكوادر والرفاق الى اعتماد كل ما يمكن من التخفي والسرية وابتداع الحدود الدنيا من التواصل الداخلي بما تقتضيه الظروف الامنية.

٤ - تعرُض التنظيم لنزيفٍ غير مسبوق من خسارة رفاق اضطرتهم الظروف الامنية والملاحقات ،

الى السفر خارج لبنان ،سيّما الكوادر الطلابية والرموز الشعبية ، حيث وجدوا الملاذات الآمنة في بلاد الله الواسعة فاستقروا هناك وإسسوا أُسَرَاً وانجبوا وصارت عودة معظمهم بالتالي من الامور شبه المستحيلة.

٥ - حل الحزب على ايدي اولى حكومات ما بعد الطائف في العام ١٩٩٠ وسحب ترخيصه لمصلحة حزب آخر حصرت مسمى البعث به بهدف سحب اي غطاء سياسي وقانوني لعمل الحزب.
لم تكن ضريبةً واحدة يدفعها البعثيون في لبنان وهم يحملون جمر المبادئ فيقطعون بها جلجلة من الدم والشهداء والمعتقلين ومداهمات "زوار الفجر "التي لم يسلم منها بيتُ بعثي في لبنان ، وكلها معاناة لم تكن لتعدم ارادة التصميم على الحفاظ على التنظيم اولاً ،

وتوفير مستلزمات الصمود لعائلات الشهداء والجرحى والمعتقلين ومن دفعوا ضريبة التهجير القسري ثانياً ، وتلك من اصعب مراحل النضال السلبي للحزب الثوري ،
واشدّها غزارة لناحية تصليب العصب التنظيمي وإكسابه المناعة الداخلية التي هي الشرط الاساسي لاستمرار الحركات الثورية والتحررية على مدى الزمن.

الى ذلك ، كان العمل "الواجهي" مطلوباً بشدة كي لا "تتكلّس" مفاصل التنظيم ويكون العامل الامني ذريعة للغياب عن قضايا الامة ، سيّما وان الانتفاضة في فلسطين قد انطلقت ، والعراق يواجه الحظر الاقتصادي الجائر عليه ، ولبنان يعيش ضائقة اقتصادية حادة ،وكان التوجه العام صوب انجاح مبادرة القيادة الوطنية العراقية التي قدمتها

للدولة اللبنانية في نطاق "النفط مقابل الغذاء" وكثّف الرفاق الاتصالات للدفع بقبول العرض العراقي باصلاح مصفاة طرابلس وانشاء مصفاة اخرى للتكرير واعتماد مرفأ طرابلس كمرفإ اساسي لاستيراد المواد الغذائية المتوجهة للعراق ولو استجابت السلطة اللبنانية يومها لكان في خزينتها مليارات الدولارات من الاحتياط بدل الافلاس الحاصل ،

الى ذلك كانت "لجان دعم الانتفاضة في فلسطين ورفع الحظر عن العراق " تنشط على الساحة اللبنانية بحضور اساسي للحزب ومشاركة فلسطينية ولبنانية دعماً لفلسطين والعراق وحشد الجهود الشعبية لنصرتهما ، بنفس الوتيرة النضالية التي تزامنت مع الرفض الشعبي العارم لغزو العراق واحتلاله عام ٢٠٠٣.
وفي السنوات الاولى التي تلت العام ٢٠٠٠، ومع حدوث بعد الانفراجات على صعيد الضغط الامني في لبنان ، ومع العودة التدريجية لنشاط الحزب العلني ، اصطدم باصرار قوى الوصاية على لبنان على منع الحزب العمل تحت مسماه "البعث" ،

فكان التوجه للعمل تحت مسمى "طليعة لبنان العربي الاشتراكي " كحزب قيد التأسيس مع المطالبة القضائية باستعادة الاسم السابق ، وهذا ما لم يتحقق وللاسف ، فاكتفى الحزب بالترخيص الذي حصل عليه في العام ٢٠٠٥ تحت مسمى "طليعة لبنان العربي الاشتراكي" وعلى اساسه خاض الرفيق الراحل الدكتور عبدالمجيد الرافعي العائد الى البلد في ايار ال٢٠٠٣ بعد تهجير قسري ناهز العشرين عاماً ، الانتخابات النيابية في طرابلس ٢٠٠٥ محققاً نسبة تصويت فاقت ال٧٥٠٠٠ صوت انتخابي ( خمسة وسبعون الف ) بالرغم من كل المضايقات وضعف الامكانيات المادية والمحاربة الشرسة التي تعرّض لها ، ما يؤكد ان الحزب لم يزل يعيش في ضمير اللبنانيين رغم كل سنوات الإبعاد ومحاولات الالغاء ، وإن خوض المعركة الانتخابية لم يكن في سبيل الحصول على مقعد نيابي بقدر اعتبار ها وسيلة ديمقراطية للتواصل مع المواطنين والتفاعل مع همومهم وقضاياهم.

اعقب ذلك انعقاد المؤتمر الاول للحزب تحت المسمى الجديد "طليعة لبنان "في العام ٢٠٠٥ بعد غياب لاكثر من عقدين من الزمن مؤكداً على استعادة الحياة الديمقراطية في صفوفه ليختتم المؤتمر بانتخاب قيادة قطرية جديدة تتولى زمام الامور الحزبية السياسية والتنظيمية لخمس سنوات متتالية ، وليعقب ذلك ايضاً ثلاث مؤتمرات متتالية في الاعوام : ٢٠١١ / ٢٠١٦ / ٢٠٢١ حيث كان المؤتمر الاخير هذا العام تأكيداً على استمرارية الحزب الايجابية في تأصيل الحياة الديمقراطية داخل صفوفه ، ولضخ الدماء الجديدة في هيكليته التنظيمية بعد انتخابات الفرق والشعب والفروع الحزبية بعيداً عن التعيينات ،
والعمل بالنظام الداخلي الذي هو صمام الامن للحياة الداخلية للاحزاب الثورية وفي مقدمتها الحزب.

هذا الحزب الذي قال فيه الشاعر البعثي المناضل مجلًي القائد :
محال ان تموت وانت حيُ
وكيف يموت ميلادُّ وجيلُ،
فبعث الموت امرُّ مستطاعُ
وموت البعث امرُ ّ مستحيلُ.
.. الى كل ذلك ، يبقى البعث ،وتبقى شرعيته ، ويبقى حياً في ضمير امته وعروبته ،
هذه الامة الحيّة العصيّة على الفناء و التي كُتِب لرسالتها الخلود.






الاحد ٤ ربيع الاول ١٤٤٣ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٠ / تشرين الاول / ٢٠٢١ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نبيل الزعبي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة