شبكة ذي قار
عـاجـل










إن تشكل أمة من الأمم أيا كانت هذه الأمة يرتبط ارتباطا عضويا وجدليا بمدى تحقق أمنها القومي وضمان ديمومته بصفة متينة صلبة بعيدة عن الرخاوة والمزاجيات المرتبطة بالسلطة القائمة حيث يعد الأمن القومي الشامل للأمة أمرا مصيريا ومحددا محوريا لواقعها وهو ما يوجب إبعاده - أي ذلك الأمن - عن الحسابات الضيقة والرهانات الذاتية والتشخيصات الخاطئة بما يعني وجوب إخضاع كل الدراسات والقراءات والتوجيهات والتوجهات المتعلقة به لضوابط دقيقة جدا ولنواميس بالغة الصرامة لأنها لا تؤثر فقط في واقع تلك الأمة وجماهيرها بل يتجاوز تأثيرها تلك الحدود لتشمل جوانب الحياة كافة ولتغطي مصير الأجيال المتعاقبة بالإضافة لسلامة الأرض وحدودها وغير ذلك.

ومن بين أوكد معالم ضمان الأمن القومي هو وبلا مبالغة، ضرورة التعامل معه على أنه وحدة شاملة متكاملة وكل لا يتجزأ، فالحديث عن الأمن القومي والبحث على تحقيقه وتثبيته لا يستوي مطلقا ولا يعقل البتة بالفصل بين مستوياته أو بالمفاضلة بين بعضها أو بتقديم بعض منها عن البقية، وإن الفهم الدقيق والإلمام الواسع به يتعارض ضرورة مع مثل تلك الممارسات.
إن خطورة الأمن القومي وخطورة التعاطي معه والخوض فيه، إنما تأتتى حصرا من ارتدادت المس منه وانعكسات الإخلال به وهو ما لا يحتاج برهنة أو تبيانا ذلك أنه أمر بديهي لا يخفى على أحد.

ولو حاولنا تقصي الأمثلة لسجلنا بكل تأكيد أن أحد أبرز الأمثلة على تداعيات الاستخفاف بالأمن القومي سيكون حتما مثال أمتنا العربية، فما مآل الأمور و المنعطف المتردي الذي يجرف العرب اليوم إنما هو وليد إهمال ولاة أمور العرب لأمنهم القومي وتغافلهم عن التعاطي معه بما يستحق من اهتمام وأولوية.

وفي واقع الأمر، فإن إخفاق العرب في تناول مسألة الأمن القومي إخفاقا ظاهرا فاضحا لا لبس فيه، يعود لأسباب رئيسية كثيرة وشديدة التعقيد، ومع ذلك يبقى لذلك الإخفاق ثلاثة أسباب رئيسية وعميقة.

إن أول أسباب ذلك الإخفاق يعود رأسا لطبيعة الحياة السياسية في أقطار الوطن العربي التي اتسمت بغياب حرية اختيار الجماهير لمنظومة الحكم التي كانت قد فرضت فرضا وأسقطت إسقاطا من طرف المنظومة الاستعمارية التي خربت الحياة في ديار العرب وأغرقتها في وابل من المطبات والمتاهات التي استعصى الخروج منها أو حتى التقليل من أخطارها، فلقد تم فرض أنظمة ذات خلفيات مناقضة تماما لواقع الأمة ككل ولواقع أقطارها كل على حدة، ناهيك عن ارتباطات تلك الأنظمة بمحاور لا هم لها إلا إدامة تقويض أمن العرب القومي وإدامة انهياره وضعفه وترديه.

ويعود السبب الثاني لغياب الرؤية الاستراتيجية فيما يتعلق بالأمن القومي عند العرب، ويزداد الوضع سوءا في هذا الصدد بسبب ارتباط هذا الغياب أو انعدام تلك الرؤية وتولدهما من السبب الأول الذي أشرنا إليه أعلاه.فغياب الرؤية الاستراتيجية لم يكن مطلقا نتيجة قصور أو عدم إدراك، بل إنه كان متعمدا ومقصودا، حيث أن الأنظمة المسقطة والقائمة على خدمة الأجنبي و المرتبطة به ارتباطا تبعيا لم يكن ليسمح لها بحال من الأحوال بالتفكير الجدي في تأسيس منظومة متكاملة للأمن القومي، لأن التأسيس لمثل ذلك يعني رأسا المرور لتخليص الوطن والأمة من الأخطار المداهمة لها والمتربصة بها، وهو ما لا يستوي والواقع المفروض بغايات فارضيه ورهاناتهم.

أما السبب الثالث، فيرجع لتفكيك أبعاد الأمن القومي وتفتيتها والفصل القهري بينها، حيث لم يحدث التعاطي مع الأمن القومي على أنه وحدة صماء متكاملة لا يجوز اجتزاؤها أبدا، فتم حصر الأمن القومي عند العرب في البعد الأمني فقط، وتم تغييب بقية العناصر وتهميش غيره من الأسس والتقليل من أهميتها.وتم في هذا الصدد ضرب أعمدة منظومة الأمن القومي لتستفحل المعضلة عربيا، فلم يول العرب أي اهتمام يذكر بالأمن القومي المائي والأمن القومي الزراعي والأمن القومي الغذائي والأمن القومي الصناعي والأمن القومي العلمي والتربوي والأمن القومي الثقافي والأمن القومي الحضاري والأمن القومي المجتمعي.

حصر العرب أمنهم القومي في البعد الأمني إذا، وكانت هذه هي الطامة الكبرى التي عانى بسببها أبناء العرب الويلات وتجرعوا المرارات.فحتى التعاطي مع هذا الصعيد على أهميته كان قاصرا وقشريا بدون أدنى حرفية.

ولا ينبغي أن يدور بخلد الواحد منا أن الجانب الأمني المقصود ههنا هو الإعداد لدرء التهديدات وصد الاعتداءات الخارجية، لأن تسويقات الأنظمة العرب ورواياتها الرسمية وحقيقة تعاملها مع الملف الأمني باعتباره بعدا وحيدا أوحد للأمن القومي، إنما لم يتجاوز في واقع الأمر مجرد حماية عروش الحكام وضمان بسط نفوذهم بما يرافقه من بطش وقهر واستبداد وكليانية وشمولية ومن ثم اضطهاد وتنكيل بالمواطن وحرمانه من أبسط حقوقه في الحياة الكريمة.

تم إذن تفكيك منظومة الأمن القومي، وتم التلاعب بأحد أخطر محددات مصير الأمة العربية، وتم أيضا تسفيه كل نفس صادق وتكميم كل صوت حر ومحاربة كل عزم شجاع سعى أصحابه لتغيير ذلك التمشي الخطير والدفع باتجاه العمل على خلق منظومة أمن قومي شاملة صلبة ومتينة مخلصة وعلمية وعملية تراعي تطور الشعب العربي وتنضبط لمصالحه انضباطا صارما.
غابت الدراسات العلمية المختصة، وغابت الإرادة وغابت معها الرؤى الاستراتيجية، وحل محلها الارتجال والتسويف و المماطلة والتراخي والاستهتار، فانهار الأمن القومي العربي انهيارا كليا، وبات الوجود العربي على المحك.

غاب التخطيط، وغاب الاستشراف، وغاب الإخلاص، وعم الفساد والإفساد، فانهارت دول، وشردت مجتمعات، واضمحلت مواريث وقيم وأخلاق ومبادئ، وعطشت أمصار، وجففت أنهار حتى باتت مصر هبة النيل محاصرة مهددة جديا في مستقبلها المنظور وغدا كل من العراق وسورية على شفا حفرة أو أدنى من العطش القسري، وأطبق الجفاف ومن ثم الجوع على السودان واليمن و الصومال.

إن ما يعانيه العرب وما يتخبطون فيه من دمار وانهيار هو نتيجة حتمية لغياب منظومة أمن قومي جامعة، ولانعدام استيعاب الدروس واللحظة معا، ولغياب المحرك القومي وخاصة تحمل المسؤولية الملقاة على كاهل الساسة والحكام ولإهمال مصلحة الأمة القومية الاستراتيجية العليا ولازدراء حقوق أبنائها.
فهل بوسع العرب تدارك ما فاتهم؟ وهل من أمل في إطلاق مشروع بعث منظومة أمن قومي عربي شاملة تعوض العرب عما لحق بهم من أضرار فادحة؟
ألا تستحق الأجيال الناشئة والقائمة أن تدرج مصائرهم ضمن أوكد أولويات حكام العرب؟






الثلاثاء ٢٠ محرم ١٤٤٢ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٨ / أيلول / ٢٠٢٠ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب أنيس الهمامي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة