شبكة ذي قار
عـاجـل










لعل أكثر ما يحرج المتعاطين في شؤون الحراك الشعبي الدائر في لبنان هذه الأيام، هو ما يتعلق بالإجابة عن مرجعية هذا الحراك ولماذا لم يتم تسميتها حتى الآن وقد مضى ما يفوق المائة يوم على الانطلاقة، حيث أن ما تقدم يشكل القاسم المشترك بين كل ما يدور من أحاديث وتساؤلات حول هذا الحراك الذي اتخذ طابع الانتفاضة الشعبية العارمة ذات الطابع الثوري كما توافق على ذلك الجميع. والواقع أن ما يتردد يومياً حول هذه التساؤلات تشمل طرفين متناقضين تماماً : الأول : هو طرف السلطة الحاكمة التي كلما أرادت إحراج الحراك، انبرت للمطالبة بتسمية قادته في محاولة لا تبعد كثير عن الأساليب البوليسية التي يهمها تكوين الملفات الشخصية لكل من يعارضونها في الشارع أكثر مما هو الاهتمام بما يجري على الأرض، بالرغم أن "مندوبي" الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة لا يغادرون الساحات وهم بلبوس التعاطف مع الحراك الشعبي وبعضهم يزايد على الآخرين بطروحاتهم المتطرفة والتي باتت معروفة لدى كل من يواكب الساحات منذ السابع عشر من تشرين الأول المنصرم حتى يومنا هذا. الثاني : هو طرف "الطيبين" من أبناء الشعب اللبناني ولا سيما الذين يواكبون الأحداث عن بعد دون التقرب المباشر من الحراك، وهؤلاء بغالبيتهم يتأثرون بما يصدر عن الطرف الأول ( السلطة ) من ( بروباغندا ) سياسية وإعلامية تضخها ليلاً نهاراً على الناس، وما تبقى منهم ( أي الناس ) إنما يصدر تساؤله عن حسن نية أو عدم دراية كاملة بما يجري من معاناة يومية سواء داخل الساحات الميدانية، أو داخل كواليس السلطة التي ما زالت تتشبث بامتيازاتها الممثلة لأمراء الطوائف والمذاهب وكل منظومة الفساد التي تحكمت بالبلاد إلى ما يزيد عن العقود الثلاث من السنين حتى يومنا هذا. واذا كان الشيء بالشيء يذكر فأنه لوعدنا إلى تجربة السترات الصفراء التي اجتاحت فرنسا في الأشهر المنصرمة مطالبة بالتغيير والإصلاحات الجذرية، وما آلت إليه اليوم من فراغ في الزخم الثوري المطلوب بعد إيقاع قادتها في فخ التسميات التي جرَّتها إليه السلطات الفرنسية التي بدأت بمحاربة قيادة هذا الحراك من اليوم الأول لتسميته سواء بتشويهه تارة أو بزرع الأسافين بمختلف التناقضات بين قياداته ورموزه ومؤيديه لتأكد لنا كيف آلت هذه المحاولات كلها إلى التراجع الملحوظ الذي تشهده الحركة المطلبية للسترات الصفراء في فرنسا مؤخراً. من هنا، فإن العاقل هو من يتعظ بالتجارب، وقد أثبت كوادر الحراك الشعبي اللبناني أنهم على قدر كبير من المسؤولية وإدراك ما يمكن أن يعتري مسيرتهم من أفخاخ سلطوية، فاكتفوا حتى الآن بإبراز الرموز التي أصبحت معروفة على مختلف الساحات داخل الأراضي اللبنانية، هذه الرموز التي تحظى باحترام الجميع وآثرت نكران الذات على حب الظهور والخفة في التعاطي بالشؤون العامة، ولعمري أن تلك إحدى مكامن القوة داخل هذا الجسم الحراكي والتي ثبت أنها الانجع والأكثر أمانة وضمانة حتى هذه المرحلة على الأقل. ثم أن ما لا يمكن تجاهله مطلقاً هو ما نشهده يومياً من دخول مجموعات على خط الحراك الشعبي وارتكابها لممارسات لا تحترم الحراك وديموميته، فتنفرد بأعمال عنفية لا تلقى قبولاً واستحساناً من الناس وان دخلت في حيّز ردود الفعل على العنف السلطوي، كما أن الجميع قد سلَّم بأن حرق الإطارات ونشر سمومها على الناس هو أمر ضار بالصحة والبيئة معاً، كذلك فأن قطع الطرقات ودون أية خطة متكاملة ومبرمجة ذات أهداف واضحة، تفقد وظيفتها السياسية وتؤدي إلى تعطيل الأعمال والمصالح للناس وهذا ما أدركه العقلاء والمسؤولون داخل الحراك الشعبي ونبهوا اليه، غير أن استمرار تلك المجموعات في تطرفها إنما يبغي أمرين اثنين لا ثالث لهما : الأول : جر الحراك الشعبي إلى معارك جانبيه تحرفه عن سلميته وديمقراطيته التي حازت على إعجاب العالم أجمع في الداخل والخارج. الثاني : تنفيذ أجندات ترغب السلطة الحاكمة في فرضها على الساحة الداخلية الغاية منها جعل الناس تنفض عن المشاركة في أي تحرك شعبي وتصوير هذه المجموعات بأنها ممثلة حقيقية للحراك، لتسهيل ضرب الطرفين لبعضهم البعض. إلى كل ذلك، فإن الكتلة الشعبية الواسعة التي يمثلها الاتجاه الوطني الذي يقدم رؤية واضحة للتغيير والمؤمنة بعدالة القضية التي يقوم عليها الحراك، ستبقى هي النواة الصلبة التي عليها إدراك كل ما يحيق بالحراك من محاولات تطويق وتضييق وتشويه، وبالتالي فإن استمرار رموز الحراك في خانة الفعل والابتعاد عن الانفعال، يشكل الركيزة الأول لاستمرار الزخم النضالي الثوري على وتيرته المعهودة. فالحراك حتى الآن استطاع أن يحقق إنجازات متقدمة لا لبس أبداً في أهميتها، وما ينتظره غداً هو الأخطر والأهم وربما الأنضج أيضاً نظراً لما يمتلكه الحراكيون من تجارب وخبرات قيّمة في تحريك الشارع ومنهجة التحرك، فالفعل هو ما يجب أن يكون سيد المرحلة اليوم وغداً، سواء سقطت حكومة حسان دياب اليوم أو في طريقها إلى السقوط إن لم تكن في مستوى طموح الناس، وحذار حذار من كل انفعال أو "فشات" خلق لن تقدم للحراك سوى الرجوع إلى نقطة الصفر التي بدأ منها أو الوقوع في الغيبوبة القاتلة وحسب.




الاحد ١ جمادي الثانية ١٤٤١ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٦ / كانون الثاني / ٢٠٢٠ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نبيل الزعبي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة