شبكة ذي قار
عـاجـل










مرت أعوام والغزاة يقيمون في تفاصيلنا ، المآذن تبكي والنواقيس خرساء ووجه لضفة نهر كانت تغار منه السماء ، قد جعله الطغاة أرض جرداء ، وبعض من أشلاء كانت بالأمس طفلة بهية تلثغ بالراء.

وبين انقاض الألم يحمل الأعظمية في طياته مسجدا في كل فجر يبوح ان للحق طريق ، ضفة تميز من يحبها فتمنحه قرنفلة ، تضمد الجراح ، وتمسح العرق عن جباه المتعبين ، أما الطغاة والفاجرين فتنفجر فيهم كقنبلة .

في فجر الأعظمية كان الحالمون يستيقظون على الأمل ، يشيعون شهداءهم ويخفون أحزانهم عن العدو لكي لا يمنحوهم لحظة انتصار ، ويقيمون الشهادة افراحا ليالي طوال ، وجسر يعبر الضفتين ما بين الكاظم وحنيفة النعمان ونهر يلتف حولهما فيحتضنهما احتضانا كأم تحتضن توأميها ، تكاد الضفتين ان تكونا ذاكرة بغداد تفتح على تواريخ وأزمنة وفصول ، فيها من التعب ما فيها ، ومن الألم والأمل ، أعراس الشهداء ، ولحظات العاشقين ، تأمل الشعراء ، وبلقيس تخرج من تفاصيل أمواج دجلة تلبس في الربيع بساقها أحلى الخلاخل ، والمتنبي يتوسط ساحة يصف بشعره الماضي والحاضر والمستقبل مدحا ووصفا ، رثاءا وهجاءا ، الماجدات فيها يمنحن ابناءهن ومهورهن فداءا للوطن ، يودعن الذاهبين للجبهة ، وفي المساء يستقبلن بالفرح ويشيعن الشهداء ، فيختلط فيها رائحة البارود ونسائم الياسمين ، ويغسلن العلم ، ليؤدي الأطفال له التحية في كل صباح ويلثغون في النشيد العربي ، فالعروبة في تلك الصباحات كانت هنالك سماء ، تغطي الجباه ، وتخرج من تفاصيل الكتب ، وتتسرب الى المترددين لتصبح في تفاصيلهم ولحظاتهم بعض من أمل ، في الأعظمية كان الغرباء يُعرفون من تلته المشي وتأتاة الحديث وتلعثم الحروف على الشفاه لكنهم ابدا لم يشعروا يوما فيها أنهم غرباء ، فلا غربة في الأعظمية الا للطغاة والمعتدين.

والتفاف النهر حولها قد جمع الضفتين فيها فلا شمال فيها ولا جنوب ، فهنالك كنت ترى العراق من شماله الى الجنوب ، ترى سومر ، اكاد ، بابل وآشور ، البصرة هناك نينوى والسليمانية وأربيل ، بعقوبة والنجف وكربلاء ، الرمادي وتكريت وسامراء ، ترى العراق بلا تقسيمات أو مسميات ، ترى الحضارات هناك وكره الأطفال للمستعمرين والمحتلين والطغاة ، وامتعاظ النساء من التخاذل والتراجع والانكسار.

زهو يتسرب اليك كلما مررت في شارع هنا أو محلة هناك ، وفخر وعزيمة ينتاب كل تفاصيلك كلما مررت بعرس من أعراس الشهداء ، يقول صاحبي الذي تشرب الأعظمية والكاظمية في سبعينات وثمانينات القرن الماضي : أما الطفولة فقد كانت طليعة تمر بمراحل وخطوات لتصل الى مرحلة الفتوة ، وكانت الطلائع تشارك في المؤتمرات والندوات والمناسبات ، وفي استقبال ضيوف الدولة القادمين من دول العالم ، طفولة لها هيبة بحجم الوطن ولها تفاصيل وأنظمة بكل اعتبارات الطفولة والانسان.

ويضيف لقد امتلأنا كرامة يا صديقي ، ولولا ما تسرب الينا من أمل من تلك اللحظات لما صمدنا الآن ، نعم كنا نقاتل ونموت لكنا في العيش كنا في عزيمة والموت كرامة واستشهاد ، كنا نتراجع لكنا ابدا لم نعش الهزيمة ، نموت لنحيا لا هروبا من الحياة ، حتى السراب كنا نعيشه بحقيقة انه لولا السراب لما واصلنا السير لنبحث عن الماء ، كنا يا صديقي بكل المعاني نحيا الحياة لا نعيشها.أما اليوم وبعد أن اخترقنا المستعمر فقد عرف كيف يفتتنا ويبث فينا روح الهزيمة فالعيش ذل واستعباد والموت قد بات حالة هستيرية تكال بالكيلوات أو بالحجم وعدد الرؤوس المقطوعة.

ويضيف صديقي : لم يكن يوم التاسع من نيسان ٢٠٠٣ من أصعب الأيام بل قد يكون تاج أيام الكرامة ، حين أمطر الغزاة وعملائهم الأعظمية بقصف الطائرات والمدافع بغارات مكثفة ونشبت معارك ضارية مع الغزاة والمستعمرين قبل أن ينالوا من الأعظمية ويخربوا ملامحها التي كانت فيما مضى درة بغداد.

من هنا بدأت النهاية يا صديقي ، حينما أخرجوا الينا المارد المذهبي ، ذلك المارد الذي لم نتخيل هيئته يوما ولا حجمه ، بل لم نفكر في وجوده فيما مضى على الاطلاق ، لا في الأعظمية ولا في الكاظمية ولا حتى على جسر الأئمة الواثق بينهما والشامخ ، نعم لم يهزمنا الغزاة في بطشهم وقتلهم ، بل هزمونا حينما تسللوا الى داخلنا.

( ها هم جحافل التتار قد قدموا ، حملوا خلاصة فكرنا ، تراثنا ، كتبنا ، فاذا بمائك يتحول حبرا أزرق تتلقاه كل السطور التي القيت فيك فنبتت على شاطئيك أشجارا ونخلا وحفرت قبورا لجحافل التتار ، تحفظ التاريخ يا عبدالرحمن ، وماذا فعل التاريخ وقد صرت غريبا عن الأهل واالصحاب ، وقد آل مصيرك الى مطعم تل الزعتر تغسل الاطباق وتمسح الموائد وتقاوم التعب بالغناء ) .. اقتباس

وعاد صاحبي ليقول : لكنه العراق ، نعم العراق الذي لن يموت ، وهو العراق الغني أكثر من معنى الثراء المادي ، والعراق الذي ابتدع القانون لا يمكن أن يعيش طويلا بلا قانون ، بهذه العبارات اختتمت تواصلي مع صاحبي في العراق بعد أن حدثني عن التظاهرات التي بدأت بعد ما يزيد عن خمسة عشر سنة من دخول التتار اليها في القرن الحادي والعشرين .





الاثنين ٢٠ ربيع الاول ١٤٤١ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٨ / تشرين الثاني / ٢٠١٩ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب المهندس صهيب الصرايرة نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة