شبكة ذي قار
عـاجـل










ما كان حلماً بالأمس، بدأ يتحقق فيتحول إلى واقع، وصار على المناضلين أن يستمروا في أحلامهم فلا يتراجعوا عن نشر البذار، فلا ييأسنّ أحد منهم من تفجر براعمها مهما طال الزمن، فلكل آتٍ في هذا الكون زمن وحين.

هل هو عودة إلى الزمن الجميل، أم أن اللبنانيين قد فاض بهم الحنين فانتفضوا على حاضرهم وتفضوا عن واقعهم كل ما لم يعد للصبر عليه احتمال، فطلقوا اللامبالاة إلى الأبد.

إنها سيدة العواصم بيروت، تعود إلى ريادتها، عاصمة للحرية والتغيير فتشدوا للديمقراطية من جديد، بعدما عزَّ عليها أن تسبقها الخرطوم وبغداد وتونس وعاصمة المليون شهيد في الجزائر.

بيروت هي ست الدنيا، نعم، وآن لها أن تفخر بذلك، وأحيائها وشوارعها ومناطقها ومجتمعها، وطيف الوانها، كلهم يجتمعون اليوم في ساحتي الشهداء ورياض الصلح فيصلون الليل بالنهار في الوسط من المدينة الذي يشهد اليوم على انبعاث أحلامهم من جديد.

إنها طرابلس، التي أثبتت مجدداً أن التغيير الحقيقي يحتاج إلى معاناة حقيقية بالقدر الذي عاشته المدينة على مدى عقود السنين الماضية فأرادوا تصويرها ( قندهاراً ) وإذا بأبنائها المجتمعين في الساحات بكل أطيافهم الشعبية والاجتماعية، يعلنونها المدينة الأرقى حضارة وسلمية على شاطئ المتوسط وحواضر المدن.

طرابلس عاصمة الشمال حرماناً كما هي حلبا عاصمة عكار التي اعلنوها عاصمة فلم يضيفوا عليها سوى الاسم وأبقوها على حرمانها من أي إنماء ما لتبقى خزاناً بشرياً يفرضون عليها النواب الذين على العكاريين الاقتراع لهم طوعاً لا اختياراً.

دون أن ننسى الضنية والمنية التي أرادوها مكباً للنفايات لا للإنماء أما دير عمار فأغرقوها بسموم الدواخين وحالات السرطان المتفشية.

إنها النبطية عاصمة جبل عامل التي ترفض المس بإرادتها في التغيير وهي تعطي الأمثولة الرائعة في حراكها السلمي على أيدي من هزم جبروت الصهيوني الطامع في أرض الجنوب يوماً، فلم ترضى السكوت على من يعمل على تجويعها وأفقارها في الداخل، فالمعركة واحدة سواء في مواجهة من يطمع بالأرض أو الذي يطمع بلقمة العيش، ومصادرة الإرادة، شأنها شأن بنت جبيل التي باتت أيقونة للصمود الإعجازي المقاوم، إلى كفررمان الكبيرة بمواقفها، فالعاصمة الثالثة لمدن لبنان صيدا التي تقاوم اليوم كما تفعل بيروت وطرابلس لتستحق أن تكون عاصمة حقيقية للجنوب تنعم بما تنعم به عواصم المدن انماءاً وازدهاراً.

إنها بعلبك بحجارتها التي تشهد على آلاف السنين من الحضارة، فتركت لأبنائها صلابة الحجر والقدرة على الصمود على الضيم، وبات الحجر صديقاً وفياً للبشر فيها، لا يأبهان لعوادي الزمن فجعلوا عقارب الساعة تدور لمصلحتهم، دون التوقف عند محطات المصالح الداخلية والخارجية.

إنها صور، عاصمة احيرام وحجر الرحى في نقل الصورة الزاهية لصمود اللبنانيين على أرضهم الطاهرة، بالقدر الذي كانت سفنها الشراعية، تنقل خشب الأرز لتشييد حضارة العالم، ولها في كلتا الحالتين، رسالتها التي لا تندثر لأنها صنو للحرف وللأبجدية في لبنان.

إنها إرادة أهالي كسروان – جونيتها وذوقها، ومزرعة يشوع وغزير كما هي إرادة أهالي جل الديب والأشرفية إلى المتنين الشمالي والجنوبي والجبل اللبناني الأشم من الجية إلى عالية إلى برجا فجبيل وعمشيت إلى البترون، وصولاً إلى البقاع بعاصمته زحلة ومدنه وقراه ودساكره من اللبوة إلى شمسطار التي وقفت كلها تنادي للتغيير ورفع كل أشكال الظلم الاجتماعي والابتزاز الاقتصادي الذي ينعكس تلاعباً بالنقد والقيمة الشرائية لعملة الوطن.

ولأنه ليس بمقدورنا أن نجول على كل قرية وبلدة ومدينة ودسكرة في لبنان، فقد كان من الضروري أن نسجل ما تسجله الناس على الطرقات والشوارع والساحات العامة من حالات اعتراضية لم يسبق لها في هذا البلد أي مثيل، دون أن تبخس ما قام به اللبنانيون طوال الأيام الماضية بلياليها ونهاراتها وهم من أثبت للعالم أجمع أن ما يحصل ليس انفجاراً لغضب كاف في النفوس بقدر ما صار إصراراً على التغيير وقلب الطاولة على كل أولئك الذين أفقروا البلاد والعباد على مدى السنين القاحلة الماضية التي حولت اللبنانيين إلى كثرة ساحقة، بل أغلبية هائلة، من الفقراء تتحكم بهم قلة من الذين امتطوا مقدرات البلاد وثرواتها فاختلقوا كل ما يفرّق اللبنانيين بدل التوحد على مواجهتهم وأغرقوهم في الخطاب الطائفي المذهبي الأحادي واستدرار العواطف والغرائز دون أن يحسبوا أن يوماً ما سيأتي وتقوم قيامة اللبنانيين عليهم ويصحو المارد الشعبي من غفوته وسياته العميقين.

من هنا، فإن ما حصل مساء يوم الخميس في السابع عشر من تشرين أول الجاري، لم يكن سوى القشة التي قصمت ظهر البعير، كما يقول المثل،

فوراء الأكمة ما وراءها كما تقول العرب أيضاً، ووراء الضريبة التعسفية على استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، كان هنالك هذا الكم الكبير من الاستهتار بحقوق الناس المعيشية والاجتماعية والاقتصادية. وصارت عمليات النهب من جيوب الفقراء هي الغاية المثلى لهذه الحكومة كي تسد عجزها لتترك الحيتان الكبار والمصارف وتجار العقارات ورأس المال المتوحش، يستمرون نهشاً في مصير اللبنانيين وأفقارهم دون أن نغفل أن مئات الالاف من المستأجرين القدامى صاروا اليوم مهددين بالمبيت في الشارع إذا ما تم تطبيق قانون الإيجارات الحالي سيء السمعة والصيت.

كما أنه يجب أن لا يغفل عن البال أيضاً، أن مئات المصانع والمحلات التجارية التي تتوقف عن العمل تحت ضغط الإفلاس والأوضاع الاقتصادية الصعبة،

يقابلها إيقاف تام لكل مشروع إنتاجي مثمر وتوقف للحياة الاقتصادية في هذا البلد في ظل تدهور القيمة الشرائية لليرة اللبنانية، واقتصار سلة غذاء المواطن على رغيف الخبز الذي بدأ بدوره يفقد مقومات صموده كآخر قلاع الصمود لدى الطبقات الفقيرة والمعدمة.

ومع ذلك، وبدلاً من الرضوخ لمطالب الناس التي حفظها اللبنانيون والعالم أجمع بنداً بنداً وهي تُتلى على لسان المواطنين على مدى ساعات البث الليلي والنهاري لمحطات التلفزة،
خرجت الحكومة عشية يوم الاثنين ٢١ / ١٠ الجاري برزمة من القرارات التي تلتف على مطالب الناس مراوغة وتخديراً تحت مسمى الورقة الإصلاحية التي تفتقر إلى أبرز مقومات الأمن الاجتماعي والاقتصادي في ظل الغياب الحقيقي للحل السياسي وما يشكل كل ذلك معاً خطورة على الأمن الوطني اللبناني برمته.

إنها تراجيدياً الشارع اللبناني الذي انتفض بالأمس، ليترك للبنانيين أجمع أن يقرروا كيف يكون الشعب هو مصدر السلطات، وكيف تكون الانتفاضة ومتى تتحول إلى ثورة تطيح في طريقها بكل مقومات نظام الطائفية السياسية الذي أفقر الشعب وأوصل البلاد إلى حافة الهاوية، لتقيم النظام الوطني الديمقراطي البديل الذي كان ولم يزل حلم اللبنانيين الذي لا بد أن يتحقق وقد بدأ فجر الحالمين، ينبلج، فما عاد الحلم بالمستحيل على الحالمين، وما عادت شمس الحرية والتغيير ببعيدة عن كل من ينتظر شروقها.

في ٢٤ / ١٠ / ٢٠١٩





الخميس ٢٥ صفر ١٤٤١ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٤ / تشرين الاول / ٢٠١٩ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نبيل الزعبي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة