شبكة ذي قار
عـاجـل










يَحتَدُّ الصراع بين الدول، تَتَجمع فتَتَفرق، تَتَحارب فثَمَّ صُلح آت، تُصادقُ فتُعادي، كُلُّ ذلك حسبَ ما تُقدره من مصالحَ تَجلبها لشعوبها ومفاسدٍ ومضارٍ تواجهها أيضاً خدمة لمصالح شعوبها.

ذلك ما تُنْبي به الثقافة السياسية المتحكمة في سياسات دول العالم في هذا العصر. ومن خلال تحليلها والتعمق في دراستها يمكن الوقوف على موجهات هذه السياسة أو تلك لهذه الدولة أو تلك.

لا يشُك عاقل أن لإيران أهدافاً ومصالحَ استراتيجية في المنطقة بشكل عام، وفي العراق على نحو خاص، باعتبار أن العراق المُنافس الوحيد التقليدي لإيران في المنطقة وحائط الصد الأقوى الذي لعب أدواراً مهمة في التصدي للتغلغل الإيراني في الخليج العربي وفي نطاق الأمن القومي العربي، وذلك ضمن مشروع استراتيجي إيراني، له من الموجهات والأهداف والأدوات التي تساعده في تحقيق ذلك.

حاولت إيران في ثمانينات القرن الماضي وبعد "ثورتها المزعومة" من تصدير مشاكلها الداخلية بافتعال حربٍ مع العراق أملاً في تعويض الفشل الداخلي الناتج عن " الثورة" بنصر خارجي على عدو تقليدي، ولكن هذا الطموح فشل وتمرغت أطماع إيران بالوحل، وتكشفت خلال الحرب أكذوبة "الشيطان الأكبر" ألأمريكي، حيث كانت أمريكا هي الممول الأول بصفقات السلاح بتأييد " صهيوني – إسرائيلي".

فلَمْ تقف إيران عند هذا الحد من الفشل والغطرسة والطمع، فقد عملت خلال سنوات طويلة على تأسيس وتأثيث " الطابور الخامس " داخل العراق وخارجه، منتظرة اللحظة المناسبة للانتقام من العراق والاجهاض عليه.

هذه الفترة من فترات الصراع كانت بداية لتأسيس بعض الأدوات الإيرانية، من خلال مؤسسات سياسية وعسكرية للتحرك لتنفيذ أهداف "الثورة المزعومة"، والعمل علي تصديرها إلى العراق وكافة دول المنطقة العربية ، من خلال قلب أنظمة الحكم وتشكيل أنظمة جديدة تدور في فلك إيران وتدين بالولاء والطاعة لسلطة الولي الفقيه، وفي هذا الإطار تم تأسيس ما يعرف بالحرس الثوري الإيراني وفيلق بدر واللذان لعبا دوراً مهماً في إدارة الصراع الإيراني مع العراق خاصة بعد عام 1991 من خلال إدخال الآلاف من المنتمين إلى الحرس الثوري إلى العراق، ومحاولة تجنيد بعض العراقيين للعمل في فيلق بدر وغيره في محافظات البصرة وميسان وواسط وذي قار، وهذه العناصر استطاعت أن تقوم بعدد كبير من العمليات العسكرية كالقتل وتخريب الدوائر الحكومية.

مع الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003، وما رافقه من تغيير في المعادلة السياسية داخل العراق، لصالح القِوى المرتبطة مع إيران، حيث فتح الاحتلال الأمريكي المجال العراقي لدخول قوى إقليمية عديدة، على رأسها إيران، التي تُحاول تحقيق أجنداتها الخاصة مستعينة في سبيل تحقيق ذلك، ببعض الكتل العراقية الجديدة التي تعاظم دورها بعد الاحتلال وسقوط النظام الوطني.

استخدمت إيران قبل احتلالها للعراق عدداً من الأدوات السياسية والأمنية للنفوذ إلى الواقع العراقي ووضح ذلك من خلال تنسيقها وعدم اعتراضها أو إعاقتها للخطط الأمريكية لضرب العراق وإسقاط دولته ونظامه، نظراً لتوافق ذلك مع الهدف الإيراني المتمثل في تدمير العراق وإزاحة النظام القومي العربي، وخلق نظام جديد يُسهل التوغل الإيراني، وكذلك قيام إيران بعد الاحتلال الأمريكي للعراق بتصفية وقتل المئات من الضباط والطيارين ورجال المخابرات والعلماء العراقيين، ومطاردة وإزاحة القوى العراقية القومية المعادية للتوجه الإيراني، مع تقديم الدعم المالي والمخابراتي للقوى المؤيدة لها خاصة حزب الدعوة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية.

عملت إيران على خلخلة الأوضاع السياسية والاجتماعية الاقتصادية في العراق ، والعمل أيضاً على إضعاف حكوماته تمهيداً لخلق قيادة سياسية ضعيفة تدين بالولاء والطاعة لها، الأمر الذي يسهل تحقيق مصالحها بأقل تكلفة ممكنة، كما عملت إيران على الضغط على الحكومات العراقية المتتالية من أجل تقديم تنازلات مرتبطة بالحدود المشتركة، وفي هذا الإطار استطاعت إيران انتزاع موافقة العراق علي اتفاقية الجزائر عام 1975 التي تحدد الحدود الفاصلة بين البلدين، كما استطاعت أيضاً انتزاع موافقة الحكومة العراقية التي تشكلت بعد الاحتلال الأمريكي على إعلان مسئوليتها في شن الحرب على إيران في عام 1980، ومما يستتبع ذلك من آثار قانونية خاصة بالتعويضات وغير ذلك الكثير..

وكانت إيران قد وضعت عنواناً للتحرك تجاه العراق يخالف حقيقة نواياها، من خلال اختراق منظومة القيادة العراقية ، من خلال تعيين المستشارين للقادة الجدد في العراق ، والمتحكمين في النظام السياسي حول بعض القضايا والمشكلات العراقية السياسية والاقتصادية، بالإضافة على التوجه المكثف لتغيير الواقع الديمغرافي في العراق وتغيير الوزن النسبي لبعض مكونات الشعب العراقي خاصة من "الشيعة"، وذلك من خلال الضغط على الحكومة العراقية لإعطاء الجنسية العراقية إلى عدد كبير من الإيرانيين الموجودين في العراق والذين يُقَدر البعضُ عددَهم بأكثر من مليوني إيراني.

هذا الاحتلال الموغل في العراق والذي بدأ منذ يومه الأول بنهش الجسد العراقي بشراً وأرضاً، واجهته القِوى الوطنية العراقية المؤمنة بقوميتها ممثلة " بحزب البعث العربي الاشتراكي " والقِوى العراقية الوطنية الأخرى التي قاومت الاحتلالين الأمريكي والإيراني منذ بداياته الأولى، وما زالت هذه القِوى تُسطر أروع الملاحم في مناهضة الاحتلال الإيراني الفارسي.

وبالطبع فإن هذه المقاومة المسلحة مترافقة مع المقاومة السياسية على النهج القومي أربكت وتصدت للمشروع الإيراني الذي يسمونه " أمجاد فارس " بالسيطرة على الدول العربية كلها وإن لم يكن فعلى بلاد الشام والعراق واليمن والخليج العربي.

والمعروف أن دولة الولي الفقيه التي تستخدم العمامة السوداء لاستعادة ما تسميه أمجاد فارس القديمة، قد حاولت ولا تزال تحاول، وقد حققت بعض النجاحات في استخدام بعض المكونات المذهبية "التفتيتية والتمزيقية" التي غدت تعتبرها جزءاً من العائلة الطائفية التابعة لها، لتحقيق، إنْ لم يكن كل، فبعض تطلعاتها في هذه المنطقة، ومع التأكيد هنا على أنَّ المقاومة الفعلية التي تواجهها هي مقاومة كل أطياف الشعب العراقي حتى "الشيعة العرب" الذين يتمسكون بوجدانهم القومي -العروبي، في كافة أرجاء العراق.

إن الحديث عن الاحتلال الإيراني واعتباره الخطر الأكبر والأكثر تهديداً للأمن القومي العربي يواجه معضلة عند البعض، فهناك من يجد صعوبة في اعتباره أخطر من الاحتلال " الإسرائيلي " في فلسطين وفي الجولان السوري.

إنه لا يمكن إلا اعتبار أن " إسرائيل" كيان معادٍ، وسيبقى معادياً إلى أن تتحرر فلسطين كلها، من البحر إلى النهر، ثم إنه لا يمكن إلا اعتبار أن الحركة الصهيونية حركة استعمارية في كل الأزمنة، وحتى في المستقبل، فهذه مسألة محسومة ولا نقاش فيها، وهنا فإن المفترض أن تكون إيران إلى جانب الأمة العربية في صراعها التاريخي مع الدولة الصهيونية المحتلة كما تدعي إيران منذ" ثورتها "، وهو صراع سيبقى مستمراً ولن ينتهي إلا بتحرير آخر ذرة من تراب فلسطين.

إن مشكلة معممي إيران يتصرفون تحت تأثير ثارات "فارسية" قديمة، وأنها تسعى الآن لاحتلالٍ آخر كالاحتلال الصفوي للعراق، الذي تواصل بكل ثقله وعنصريته لسنوات طويلة ثم اندحر.

إن الحقيقة الساطعة كالشمس هي أن الاحتلال الإيراني أشد خطورة من الاحتلال "الإسرائيلي".

نعم أشد خطورة من احتلال "إسرائيل" لأنه مصحوب بأبعادٍ مذهبية وطائفية وعقائدية، ولأنه مزق وسيمزق الجزء الشرقي من العالم العربي مذهبياً وطائفياً، ولأنه انطلق من بؤر توتر سعت هذه إيران إلى تحويلها إلى ألغام موقوتة.

وتجدر الإشارة في هذا المقام مع فائق الاعتزاز والفَخَار بأن هناك صحوة وجدانية قومية عروبية في العراق وفي اليمن، وبالطبع في سوريا ولبنان.

إن "إسرائيل" كيان غاصب ، فهذا لا نقاش فيه إطلاقاً، وهذا الكيان سيبقى معادياً للعرب ما دامت تحتل ولو ذرة تراب واحدة من فلسطين؛ لكن المعروف أن احتلالها لا يقترن بأي أبعاد «عقائدية» ومذهبية، كما في بعض الدول العربية التي تستند إلى بعض ضعاف النفوس في الكيانات "الطائفية" في هذه الدول، وكما هو الوضع بالنسبة لإيران، ولذلك فإننا نرى أن الاحتلال الإيراني أشد خطورة من الاحتلال "الإسرائيلي" وكلاهما زائلان لا محالة ، و الشرط الوحيد لإزالتهما المقاومة المسلحة مستندة لفعلٍ سياسي مقاوم يعتمد الثوابت الوطنية والقومية، وهو ما يمثله البعثُ العربي.





الخميس ٧ ذو الحجــة ١٤٤٠ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٠٨ / أب / ٢٠١٩ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب ناصر عبد المجيد الحريري نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة