شبكة ذي قار
عـاجـل










منذ بداية عقد الخمسينيات شهد الوطن العربي إرهاصات لتحولات سياسية واجتماعية مؤكدة، فقد تأكد للشعب العربي وهن نظامه الرسمي على نحو خطير وضعف إدائه على المستويات المحلية والإقليمية والدولية وفقدانه للإرادة السياسية، مما جعل الأرض العربية ساحة لاختبار نوايا الدول العظمى والقوى والحركات الطامعة بأرضه وثرواته الطبيعية، مستغلة حالة التخلف التي تعيشها الدول العربية كلا على انفراد، أو لانعدام منظومة الأمن القومي العربي الجدية والقادرة على توفير مستلزمات الأمن الذاتي عسكريا وسياسيا واقتصاديا وتحصين المواطن بوجه التيارات الثقافية الوافدة من جهات العالم الأربع والتي كانت تهدف إلى مسخ الشخصية العربية واقتلاعها من جذورها.

وكان لنكبة فلسطين وقع الصدمة التي فاقت كل تصورات المواطن العربي عن سلامة مسيرة النظام الرسمي الجديد والذي أقامته دول الاستعمار الغربي منذ توقيع اتفاقية سايكس- بيكو، وطُرحت تساؤلات مريرة عن مآل ما تم إنفاقه على الميزانيات العسكرية منذ استقلال بعض البلدان العربية بموجب خرائط تلك الاتفاقية، فقد هزّت ( هزيمة ) سبعة جيوش عربية أمام ( عصابات ) يهودية مدعومة من المعسكرين الشرقي والغربي، هزّت الوجدان العربي من الأعماق ووضعته أمام أكبر هزيمة سياسية عسكرية منذ الاستقلال عن الدولة العثمانية وإقامة الدولة الوطنية الحديثة، وكان من الطبيعي جدا أن تحصل ردود فعل سياسية واجتماعية حادة على تلك النكبة سواء على مستوى الشارع الشعبي أو على مستوى النخب السياسية أو العسكرية، لتؤشر حقيقة مؤلمة عن مستوى الوعي العربي، وذلك بتأكيد أن العربي لا يساير حركة التاريخ وربما يقاومه بقوة الموروث من تقاليد بالية وأفكار محنّطة عفى عليها الزمن، ولا يتحرك إلا إذا تعرض لصدمة عنيفة توقظه من سبات تم فرضه عليه.

كانت باكورة الحراك الذي شهده الوطن العربي، ثورة الثالث والعشرين من تموز/يوليو 1952 في مصر والتي قوبلت بلا مبالاة في الشارع العربي، إما بسبب عدم وصول الخطاب الإعلامي والسياسي للثورة في ذلك الوقت نتيجة لضعف الاتصالات فقد كان فيه جهاز الراديو بندرة الذهب، أما التلفزيون فلا وجود له في الوطن العربي كله وحتى في خيال المواطن ربما يعتبر من أحلام ألف ليلة وليلة، ولكن النهج القومي للرئيس الراحل جمال عبد الناصر والذي تمكن من فتح أبواب مصر أمام الأفكار القومية وحسر الدعوات القطرية والنعرة الفرعونية، وأقام شبكة إعلام قوية عابرة لحدود مصر وخاصة إذاعة صوت العرب، أصبح بالإمكان تداول أخبار ما يجري في مصر، وبعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 حدث التحول الكبير على مستوى الشارع العربي، وانتعشت الآمال لدى الجماهير العربية في أن زمن الخلاص قد أطل على الأمة وأن شعار وحدة الأمة الممتدة من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي انتقل من مكاتب الأحزاب القومية ومن عقول المفكرين العروبيين إلى الشارع العربي وبات يطرح بقوة، ولا بد من الإقرار أن ثورة مصر وفكر البعث العربي الاشتراكي أحدثا تحولات كبيرة وكان لهما الدور الكبير في اليقظة العربية وما حصل في عقد الخمسينيات من ثورات أو انقلابات عسكرية.

ولكن شعورا بالخيبة والمرارة سرعان ما سيطر على الشعب العربي مرة أخرى، وذلك بعد هزيمة الخامس من حزيران 1967، في ما اصطلح على تسميته بحرب الأيام الستة، لا سيما وأن الهزيمة جاءت بعد هزيمة أخرى لا تقل عنها تأثيرا على المشاعر القومية، تلكم هي انهيار تجربة وحدة مصر وسوريا في 28 أيلول 1961 وهذا ما أعطى كثيرا من أعداء الفكر القومي مادة للتشكيك بقدرة العرب على إعادة مجدهم القديم، ولكن ومن قلب المحنة والشعور بالتردي والتراجع جاء الرد من بغداد.

ففي فجر الأربعاء السابع عشر من تموز 1968 جاء الرد الأول على هزيمة حزيران إذ حقق جهد منسق بين حزب البعث العربي الاشتراكي ونخبة من ضباط الجيش العراقي تغييرا في نظام الحكم، ثم أمسكت قيادة الحزب بكل إيقاعاته لحظة بلحظة وساعة بساعة على الرغم من وجود ثألولة دخيلة تسللت إليه في ظرف معقد من ظروف الإعداد للثورة ولم يكن هناك بدّ من التعامل معها بمرونة ثورية تحيّنا لفرصة تطهير المسيرة مما علق بها، فبعد ثلاثة عشر يوما فقط تم تطهير الثورة مما لحق بها من غبار الطريق، فعاد وجه الثورة ناصعا مشرقا يحمل ألق الآمال التي تعلقها الأمة على حركة البعث التاريخية.

ومع أن للحزب موقفا معروفا من الانقلابات العسكرية فإنه اضطر ولحسابات غاية في الدقة ونتيجة لتوازنات الوضع السياسي في العراق خاصة بعد التطورات التي عاشها القطر بعد 14 تموز 1958 وما رافقها من ممارسات دموية شاركت بها أطراف سياسية محسوبة على السلطة حينها وبتأييد منها، أدت إلى وقوع مجازر دموية في مدن عراقية كثيرة وخاصة الموصل وكركوك، مما أضطره في 8 شباط للإعداد لتغير ثوري كان للجيش الدور الحاسم في نجاحه، بعد أن وصلت كل محاولات إقناع النظام القائم بنبذ سياساته الشعوبية والعودة إلى البيئة العربية باعتبارها حاضنة العراق الحقيقية، فتم له ما أراد مجنبا العراق مزيدا من الضحايا وذلك بتنفيذ ثورة 8 شباط 1963، والتي شارك فيها مناضلو البعث مشاركة فعّالة جعلت نجاحها في متناول اليد، ولكن وبسبب وجود تيارات سياسية مختلفة تضم كل طرف كان يتصادم مع سياسات عبد الكريم قاسم، كان طبيعيا أن يقع التصادم ولهذا حصلت ردة 18 تشرين الثاني 1963.

وعندما انتكست تجربة ثورة رمضان بعد تسعة شهور من قيامها نتيجة الظروف المعقدة ذاتيا وموضوعيا والتي رافقتها وكانت تحيط بها، وعودة الحزب إلى ساحة النضال السري، طفقت قيادة الحزب أولا بإعادة بناء التنظيم على أسس جديدة فاستطاعت خلال فترة وجيزة من إقامة تنظيم حديدي بكل معنى الكلمة، ثم انتقلت إلى المرحلة الثانية وهي الإعداد لثورة مستفيدة من تجربة الإخفاق السابق، لأن الشعب العراقي شعب صعب المراس وعندما يريد ألا ينسى شيئا فإنه يستذكره بل ويستحضره متى شاء، فكانت قيادة الحزب حريصة على ألا تكرر صفحات الماضي القريب على الرغم من أنها تعي جيدا أن سلبياته قد بُولغ بها كثيرا ووضعت تحت عدسات مكبرة وبنظرة حاقدة، فكان ما حصل في 17 و30 تموز 1968 تطورا نوعيا في طراز التخطيط له وتنفيذ صفحاته، مما أدى إلى حالة ترقب مؤقت ثم إلى التفاف لاحق من قبل الشعب حول الثورة.

هذا كله دفع بالكثير من المثقفين العرب أو من أصدقاء الحزب إلى طرح تساؤل ظنّوه مشروعا، عن دواعي لجوء الحزب إلى خيار الانقلابات العسكرية في العراق على الرغم من أنها لم تكن انقلابات عسكرية خالصة؟
ربما كان السؤال بحاجة إلى إجابة فكرية مقنعة حين طرحه خاصة.

صناديق الاقتراع في معظم البلدان العربية كانت تأتي على وفق هوى المشرفين عليها أي نظام الحكم القائم أو الجهات الدولية الداعمة، كما أن مجتمعا تسود فيه الأمية بنسب تقرب من 80% لا يمكن أن يُنتج برلمانا معبرا عن تطلعات الشعب، وقد أكدت التجارب الانتخابية المتعددة التي شهدها العراق بعد احتلال 2003 وخاصة البرلمانية الأخيرة أن نسبة المشاركة فيها لم تزد عن 16%، أن العوامل المؤثرة بالنتائج المعلنة ترتبط بمستوى الوعي المتدني أو الولاءات المستندة إلى منطق طائفي نفعي، أو تأثير المؤسسة الدينية وفتواها الملزمة للأتباع بالتصويت لقوائم بعينها، أو ابتزاز المليشيات المسلحة الممولة من إيران والتي تتحرك خارج سيطرة الحكومة التي تعبر عنها أصلا، أو المال السياسي وأخيرا التزوير الذي لم تشهد مثله انتخابات سابقة في أي بلد من بلدان العالم الثالث، فإذا كان هذا هو ما يحصل في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، فكيف يمكن أن نفترض الأوضاع لو أن الانتخابات قد أُجريت في منتصف عقد الخمسينيات من القرن العشرين؟ وما ينطبق على العراق ينطبق بدرجات متقاربة على الأوضاع السياسية والاجتماعية في الوطن العربي.

قد لا يحصل التغيير الذي وصل السلطة عبر ما يراه البعض انقلابا عسكريا في المراحل الأولى لوقوعه على تأييد شعبي واسع، ولكنه مع وضوح برنامجه السياسي والاقتصادي يبدأ بالاستقطاب التدريجي لرأي الجماهير، وهذا النوع من الدعم هو الأكثر ثباتا من الهبّة الشعبية والتي تأتي على شكل فورة سرعان ما تنطفئ جذوتها سريعا كما بدأت سريعا.

بالمقابل قد يحصل أن حكومة تصل إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع عبر دعم شعبي واضح، ولكنها تتحول إلى دكتاتورية مستبدة مع الوقت يفقد فيها المواطن حقوقه السياسية والاجتماعية ويتراجع الاقتصاد الوطني إلى مستويات متدنية يدفع ثمنها المواطن نفسه، فليس كل تغيير ثوري يواصل عزل الشعب عن المشاركة في صنع القرار السياسي، وليس كل سلطة قادمة عبر صناديق الاقتراع تعتمد أسلوبا ديمقراطيا في إدارة الحكم وتداول السلطة, ولنا في تجربة العراق الحالية أنصع الأدلة.

ولأن البعث يستند على قاعدة شعبية عريضة وعلى أرث عقائدي وفكري عميق لتاريخ الأمة ومعادلات تطورها، وتاريخ نضالي وسياسي طويل، فقد باشر خطط النهوض بالعراق على كل المستويات، لا ليكون بديلا عن تجربة الدولة العربية الواحدة، بل على طريق إرساء دعائمها وتهيئة مستلزمات إقامتها، لهذا كانت خطوته الأولى بعد تثبيت أمن التجربة الجديدة، توسيع نطاق المشاركة الشعبية في صنع القرار الوطني، ومع أن التنظيم الحزبي يمتد في الأوساط الشعبية، إلا أن قيادة الحزب رأت أن التعرف عن كثب على هموم المواطن يعتبر شرطا للانطلاق بمشاريع التطوير والتثوير في مختلف القطاعات، فكانت تجربة ( أنت تسأل والحزب يجيب ) أول اختبار لقدرة الحزبيين على العمل في الوسط الجماهيري واستخلاص الخبرات والتجارب من الحاضنة الشعبية الواسعة، وقد أسفرت تلك التجربة عن خلاصات في غاية الأهمية لمستقبل ما تنوي القيادة من اتخاذه من قرارات.

لكن التركة الثقيلة من متراكم التخلف والتي ورثها الحزب بعد وصوله إلى السلطة في تموز 1968 جراء الانتكاسات التي وقعت فيها النظم السابقة التي تعاقبت على حكم العراق، دفعت به إلى إعادة النظر بجدول الأولويات، فكان والحال على ما كان عليه يفرض استحقاقات من نوع قديم جديد، فكان القضاء على الأمية والتوسع بنشر التعليم الابتدائي وفرضه بقانون ثم الانتقال إلى التعليم الثانوي ثم اتخاذ قرار شجاع جدا باعتماد مبدأ مجانية التعليم كان الخطوة التنويرية الأولى، قرار مجانية التعليم وإلزاميته استوجب تشييد عشرات الآلاف من الأبنية المدرسية تمهيدا لإيصال خدمات التعليم إلى أقصى نقطة من الأرض العراقية، فانتشر مئات الآلاف من المعلمين والمدرسين في القرى النائية وفي أقاصي الصحراء والأهوار وجبال الشمال بعد أن التحق ملايين التلاميذ في مقاعد الدراسة.

وفي خطوات متلازمة شهد العراق أوسع مستوى من الخدمات الطبية الوقائية والعلاجية لا سيما وأن العراق كانت تستوطن فيه أمراض وبائية مثل الملاريا والكوليرا، فأنشأت وزارة الصحة معاهد لتخريج الكوادر الطبية الوسطى بتنسيق عالٍ مع وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، اعتمدت خطة لتخريج الأطباء وإرسال البعوث الطبية والعلمية إلى شتى أرجاء العالم وتم رصد ملايين الدنانير لهذه الأغراض عندما كان الدينار العراقي يزيد على ثلاثة دولارات وثلث الدولار.

لقد احتل تطوير البنى العلمية التحتية حيزا كبيرا من اهتام قيادة الحزب، لأن أي تطور في أي قطاع من القطاعات ما لم يكن مستندا على قواعد علمية وطنية رصينة يبقى هشا وغير قادر على الاستمرار والعطاء، لهذا فقد وضعت خطط فورية ومتوسطة المدى واستراتيجية أي بعيدة المدى، لنقل التكنولوجيا كمرحلة أولى ثم توطينها كمرحلة لاحقة ليصار إلى انتاجها محليا فأُنشأت مراكز البحث العلمي في شتى المجالات، وكان طبيعيا أن يكون التركيز في المرحلة الأولى على القطاع الزراعي أولا من أجل الوصول إلى الاكتفاء الذاتي والتحرر من قيود السيطرة التجارية على الغذاء من قبل الولايات المتحدة خاصة، ثم الانتقال إلى القطاع النفطي لسببين، أولهما أن النفط هو الثروة الوطنية الأولى التي يعتمد عليها الاقتصاد الوطني، فكان الطلبة العراقيون يتدفقون على المعاهد المتخصصة في مجال النفط انتاجا وتسويقا وتسعيرا، ولذا لم يكن مستغربا أن يباشر العراق باعتماد سياسة نفطية انطلقت بدايتها في مباشرة الانتاج من حقول الأراضي المستعادة من الشركات الاحتكارية بموجب قانون رقم 80 لسنة 1961، وتم توقيع عقد الانتاج مع الجانب السوفيتي، وتم افتتاح حقل الرميلة الشمالي في ذكرى تأسيس الحزب في 7 نيسان 1972، من قبل الرئيس الشهيد صدام حسين عندما كان نائبا لرئيس مجلس قيادة الثورة، وألكسي كوسيجين رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي حينذاك، وما كاد الأول من حزيران من السنة نفسها يطل على الوطن إلا وكان الأب القائد أحمد حسن البكر يعلن قانون رقم 69 لتأميم عمليات شركة نفط العراق.

وبعد أن تعزز وضع العراق اقتصاديا بعد التأميم انطلقت خطط التطوير العلمي والاقتصادي والتكنولوجي تحول العراق خلال وفترة وجيزة إلى أكبر ورشة عمل تحت الشمس، فمع التعليم تم نشر الخدمات الطبية، بخطوات ترافقت مع إيصال الكهرباء إلى القرى النائية، وتم فتح آلاف الكيلومترات من طرق المرور السريع والطرق الريفية.

ومع وصول الطرق الريفية إلى أقاصي القرى كان طبيعيا تشجيع الانتاج الوطني لتغطية حاجات الوطن من الغذاء، ومن أجل ذلك أقيمت آلاف الكيلومترات من قنوات الري والبزل وأقيمت مشاريع استصلاح التربة وتم دعم الفلاحين بالمكائن والمعدات الزراعية والبذور المحسنة والمبيدات وتم تيسير القروض لتوسيع قاعدة الانتاج الزراعي، فأصبح العراق سلة غذاء سكانه.

وبفضل التركيز على النتاج الفكري والثقافي والأدبي والعلمي وما أولته الثورة من دعم، ازدهرت الثقافة والآداب والفنون ازدهارا سريعا أعاد إلى الذاكرة حالة الازدهار الذي عاشته بغداد أيام الخليفة العباسي المأمون، فعادت بغداد إلى سابق مجدها في النشر في مختلف المجالات.

وعلى مستوى المكانة الإقليمية والدولية للعراق، وتعزيز دوره في منظومة الأمن القومي العربي وتفعيل معاهدة الدفاع العربي المشترك، كان العراق سبّاقا في تلبية النداء العربي في الدفاع عن فلسطين وكل أرض عربية تستصرخه بعد أن أولى اهتما استثنائيا لبناء مؤسسة عسكرية وفق أحدث الأساليب والعلوم العسكرية مع تجهيز الجيش العراق بأحدث الأسلحة كل ذلك ترافق مع بناء قاعدة رصينة للصناعات العسكرية، فصار الجيش العراق مثلا بين الجيوش في الكفاءة والاقتدار، ويوم ناداه واجبه القومي للدفاع عن دمشق عندما كانت على وشك السقوط تحت الاحتلال الصهيوني في حرب تشرين الأول 1973، ولم يستأذن العراقُ النظامَ الرسمي العربي ولم يطلب تأشيرة لجيشه للدخول إلى سوريا، فانطلقت دباباته على سرفها مئات الكيلومترات في خطة إنجادٍ تعيدُ إلى الذاكرة العربية هبةَ خالد الوليد إلى الشام قبيل معركة اليرموك، وتلبية المعتصم لنداء حرة عربية من عمورية قالت وامعتصماه، وبعد تحقيق الجيش العراق لأهدافه التي كُلف بها، بدأت المرحلة الثانية من بناء جيش وطني حديث قادر على خوض معركتين في آن واحد، فكانت القادسية الثانية بعد وصول خميني إلى السلطة في إيران وتهديداته الوقحة بتصدير الثورة.

لقد أرادت قوى الشر في العالم شرقا وغربا إشغال العراق في حرب طويلة فلم تجد غير إيران التي تمتلك موروثا ثأريا مع العراق كان ذا مطامع مؤشرة لدى كل عراقي أصيل، أطماع بثرواته وأرضه ومصادرة تاريخه واقتلاعه من جذره العربي، مع إصرار تلك القوى على إطالة أمد الحرب لزمن يمتص كل موارد العراق البشرية والاقتصادية وإيقاف مسيرة النهوض فيه، ومنعه من التفرغ للبناء الاقتصادي المتنوع، ولكن الحرب على ضراوتها وشدة وطأتها، بل ربما دفعت عجلة طموحه إلى الأمام بقوة وثقة، فلم تمنع الحرب العراق من دخول عالم التكنولوجيا من أوسع أبوابه، وبدأت ثمار التعليم الإلزامي والمجاني والبعوث العلمية الخارجية تؤتي أكلها ليعود الطلبة وهم علماء كبار في اختصاصاتهم وليباشروا البناء من حيث انتهت الدول المتطورة التي سبقت العراق، فتم استيعاب الكثير من عطاءات التكنولوجية بعد الحصول عليها من مصادرها العالمية.

وخلال الحرب أقيمت قاعدة واسعة وعميقة للصناعات الحربية، وتم انتاج مختلف أنواع الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة بما سدّ حاجة مهمة من احتياجات الجيش العراقي من أنواعها المحلية واستطاع العراق أن يضع حدا لاحتكار السلاح والعتاد الحربي اعتمادا على مصانعه، وفي النهاية كان النصر حليف العراقيين، ببسالة الرجال وتضحياتهم وعزم القائد صدام حسين على تحقيق النصر الناجز، فكانت العمليات العسكرية التي باشرها الجيش العراقي منذ نيسان 1988 بشارة نصر غير منقوص وأول انتصار حرر فيه العرب جزءً من أرضهم من دون أن يقترن ذلك بمفاوضات تعقد فيها الصفقات السياسية السرية، فقد جرّع العراقيون خميني كأس السم كما اعترف هو بذلك فأعطى موافقته صاغرا عن يد على قرار مجلس الأمن الدولي المرقم 598 بعد سنة من صدوره، ثم مات بعد ذلك بعد أقل من عام من انهيار دولته تحت ضربات العراقيين.

ذلك كله لم يكن ليعجب القوى الكبرى الشرقية والغربية، فباشروا تنفيذ مخططهم المحفوظ في أدراج أجهزة مخابراتهم والقاضي بتقسيم العراق، لأن عراقا وبهذه القوة وبهذا الإصرار قوة تهدد مصالح الغرب في أكبر منطقة منتجة لمصادر الطاقة في العالم، فتم استنهاض مخاوف بعض الأشقاء العرب من قوة العراق، فبوشر بالخطوات الأولى والتي بدأت بتخفيض أسعار النفط إلى مستويات متدنية أضعفت قدرات العراق في إعادة بناء ما دمرته الحرب ناهيك عن مواصلة برامج التنمية والتطوير التكنولوجي، وحاول العراق بكل ما يملك من قدرات سياسية ودبلوماسية التوصل إلى حلول معقولة للأزمة مع جميع الأطراف من دون تقديم تنازلات مخلة بالسيادة والكرامة الوطنية، ولكن دول النفط تمادت في تخفيض أسعاره إلى حد أن سعر البرميل لم يعد كافيا لتغطية كلفة انتاجه، يضاف إلى ذلك أن الكويت وجدت فرصتها لتحقيق أهدافها القديمة فباشرت خطة التمدد على حقول نفط عراقية خالصة أو باشرت بالإنتاج الأفقي من حقول عراقية أخرى، مما أزّم الموقف إلى حدود حاول العراق إيجاد مخرج من الأزمة لأنه كان على يقين أنه مستهدف بنظامه السياسي وبثرواته وقوته، ولكن الإصرار على حشر العراق في طريق لا مندوحة عنه، أدى إلى ما يسمى بحرب الخليج الثانية والتي قادت إلى حرب دمار شامل وانتقام وحشي إذ استخدمت فيها الولايات المتحدة كل آلتها العسكرية تحت غطاء دولي من مجلس الأمن الدولي الذي حولته إلى دائرة ملحقة بوزارة الخارجية الأمريكية وحولت الكونغرس بغرفتيه إلى سلطة تشريعية للعالم، فكانت الوحشية التي اعتمدتها الولايات المتحدة عام 1991 من الهمجية بحيث يقف المؤرخون حيارى فيما يدونون عن تفاصيله المأساوية عبر صواريخ توما هوك وغيرها من الصواريخ وأحدث الطائرات القاصفة وقاذفة القنابل الاستراتيجية التي كانت تنطلق للأسف الشديد من مطارات عربية.

ولم تقف نوايا الشر التي كانت كل من أمريكا وبريطانيا تحملانها على العراق، فبعد ثلاث عشرة من سنين عجاف من الحصار الاقتصادي الجائر الذي لم يعرف له العالم له مثيلا ولن يعرف أبدا، شن تحالف دولي جديد حربا غاشمة على العراق عام 2003 تحت حجج واهية ثبت بطلانها بعد كل التحقيقات التي أجرتها وكالة المخابرات المركزية، واحتل الأمريكيون العراق ودمروا منظومة الدولة والمؤسسات التي أقامتها تدميرا لا مثيل له حتى في الحرب العالمية الثانية، ولم يكتف الأمريكيون بتلك الفعلة القبيحة، بل سلموا العراق لإيران مجانا وسهلوا لها السيطرة على ما تبقى من ركائز ومنشآت انتاجية وخدمية ففككوا ما وجدوه من مصانع ونقلوا عبر مليشياتهم الطائفية ما عثروا عليه من مكائن ومعدات ثقيلة خاصة ببناء السدود والطرق والجسور، فتحول العراق إلى ضيعة تعبث بها المافيات بعدما انقطع حبل الأمن فيه وباشر حكامه الغرباء الذين سلطتهم إيران بموافقة أمريكية مباشرة أو صامتة، نهب ثروات العراق وتحويلها إلى دولة الولي الفقيه أو إلى أرصدة خاصة أو عقارات في مختلف بنوك العالم، تحسبا ليوم يفقدون فيه مجدهم الزائف الذي جاءهم على أجنحة طائرات الموت الأمريكية.

ماذا يستطيع الكاتب أن يسرد عن حصيلة سنوات المجد التي عاشها العراق تحت سلطة البعث؟ عليه أن يتخيل أن العراقيين استطاعوا أن يمسكوا بخيوط الشمس ويحتلوا لبلدهم معلوما يستطيعون الفخر به بين الأمم.
 





الخميس ١٦ ذو القعــدة ١٤٤٠ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١٨ / تمــوز / ٢٠١٩ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نزار السامرائي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة