شبكة ذي قار
عـاجـل










ثقيلة كانت على أبناء طرابلس والمقيمين فيها، تلك السويعات الأخيرة من شهر رمضان التي اختتموا فيها أيام تعبدهم وليالي تراويحهم الإيمانية في هذا الشهر الفضيل،لتنبلج ساعات الفجر الأولى لأيام العيد على معمودية دم من نوع آخر سالت فيها دماء ذكية طاهرة تجاوزت حدود المدينة مصطبغة بتراب الوطن بمختلف تلاوينه المناطقية ونسيجه الاجتماعي صارخة على الملأ، أن المؤسسة العسكرية ليست لنفسها وإنما هي للبنان، كل لبنان، لكل اللبنانيين.

طرابلس، التي اعتصمت في الأيام الأخيرة لشهر رمضان، دفاعاً عن حقوق الجيش والقوى الأمنية، منعاً للمس بأي منها،
هي طرابلس التي عادت مساء اليوم الدامي للحدث الإرهابي المجرم، ووقفت وقفة واحدة في أكبر ساحاتها العامة، تدين وتستنكر معتبرة ما جرى قد أصابها في كبد حياتها اليومية، بقدر ما أصاب لبنان بأمنه واستقراره.

طرابلس، الحزينة يوم العيد، هي طرابلس التي لم تهنأ يوماً بعيد، وقد جعلوا منها مسرحاً دائماً ومتنقلاً للموت المجاني العبثي في لبنان،
فحولوها إلى صندوق بريد لتبادل الرسائل المتفجرة للإقليم والجوار وكل القوى المرتبطة بالصراعات الخارجية، لتنمو على جنبات ماضيها القريب بؤرٌ من التكفير والإرهاب تُستولد وتتكاثر كلما أمعنت السلطة المركزية في المدينة حرماناً، واستكثرت عليها أي إنماء، وتراجعت عن وعود وعهود قطعتها وتنكرت لمؤتمرات عامة ورسمية وغير رسمية عقدت تحت شعار إنماء المدينة، لنستذكر في هذا المجال المؤتمر العام الذي عقد في السراي الحكومي منتصف تسعينيات القرن الماضي فتحول إلى كذبة، وكذبة كبيرة تعود فتكبر وتتكرر مع كل استحقاقات انتخابية نيابية وشعبية مفصلية يعودون فيها لاستدرار عطف أبنائها لصالح قوى لم تعد تستحق العطف، في مدينة ما عاد يكفيها من المعاناة، أن تبقى حية ترزق على قيد الحياة فتنتظر أن يُعلن موتها السيادي والاعتباري بدل أن تُترك تُحتضر بين أن تكون أو لا تكون.

هي طرابلس التي سرقوها بهجة الفرح صبيحة يوم العيد فاستبدلوا سعادة أطفالها بالحزن على من يُتِّم من أمثالهم.

هي طرابلس التي يريدون لنا أن نصدق أن من تسبب بمعاناتها ومآسيها، ذئبٌ منفرد شارد واحد، فنتناسى قطعان "الذئاب" الأخرى التي تعشش داخل خلايانا الاجتماعية والاقتصادية، كل منها ينهش في جسد الوطن ومقدراته بقدر ما هو متاح له من قدرات وإمكانيات في بلد يتم تقاسمه على حسب الأوزان والأحجام لكل "ذئب" جديد تخطى حدود القطط السمان التي لم تعد تكتفي بحاجتها الخاصة من النهب والمال الحرام.

هي طرابلس، التي استبدلوا ماضيها الناصع، بحاضر لا يملك سوى كل مظاهر البشاعة والجهل والتخلف والفقر وفق تخطيط منظم ومبرمج بدأ منذ تركوا المصانع فيها تغلق عن بكرة أبيها، ولا سيما تلك المتواجدة في منطقة البحصاص، على سبيل المثال لا الحصر، وقد تحولت اليوم إلى خرسانات يعشش فيها الصدأ والخراب على مدى الفترة الزمنية التي أعقبت حرب السنتين 75-76، بعد أن كانت لوحدها توفر آلاف فرص العمل لأبناء المدينة، يوم كانت طرابلس عامل الأمن والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي لكل الشمال اللبناني، فتركوها مرمية على أرصفة الإهمال، شأنها المصانع والمؤسسات، وشأن المعرض الدولي والمرفأ والمصفاة، وتركوا أبناءها عرضة لجشع واستثمار رأس المال الجديد المتوحش الوافد ما بعد اتفاق الطائف، وليعتاشون على أعطيات هؤلاء مما يتركونه لهم من فتات أموالهم وفوائدها.

هي طرابلس، التي شوهوا هويتها الوطنية والقومية ليفرضوا عليها هوية مذهبية طائفية مقيتة، تحولت فيها المدينة من قلعة للعروبة وقلبها النابض في لبنان ومقلع أبطال وثوار يرفد الوطن بكل ما يحتاجه من سواعد شابة في معارك الحرية والتحرير،
إلى خزان بشري لا يُنظر إليه إلا ككتلة انتخابية مذهبية ضخمة معدَّة للاستهلاك في كل دوره انتخابية يعبـأون فيها الناس تحت شعارات التخوين من الأخر والخطر على المذهب وكل ما لم يعد يُطعم خبزاً أو يوفر لقمة عيش كريم لأناس أُغرقوا في البطالة والفراغ والتبعية العمياء يقابلها هجرة غير مسبوقة من الشباب والشابات للخارج ونزيف حاد من أدمغتها التي يصدرها البلد للمهجر بأبخس الأثمان وأفدح الظروف.

إزاء كل ما تقدم، لا يتوقعن أحد أن تكون النتائج بمعزل عن الأسباب، وأن لا ينفرد "ذئب" آخر ويشرد على سجيته في طرابلس وغير طرابلس غداً طالما أن قطعان الذئاب الأخرى التي تأكل من صحننا اليومي وتنهش من لحمنا الحي، تسرح وتمرح تحت راية القانون والديموقراطية المزيفة التي أدخلت إلى حياتنا السياسية نماذج غير مسبوقة من أقزام السياسة التي تحكم وتتحكم/ فهؤلاء لا ولم ولن يبنون دولة، لأن الدولة وبمختصر الكلام، تبنيها قيادات بمستوى رجال دولة.

... وكفى!





الثلاثاء ٨ شــوال ١٤٤٠ هـ   ۞۞۞  الموافق  ١١ / حـزيران / ٢٠١٩ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نبيل الزعبي نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة