شبكة ذي قار
عـاجـل










كثيرة هي العناوين التي يجدر التوقف عندها والاطلالة عليها، بدءاً من الذكرى السادسة عشر للغزو الأميركي والمتعدد الجنسية للعراق، وما تولد عنه من نتائج وتداعيات ما تزال آثارها تتفاعل حتى الآن على مستوى العراق كما على مستوى الوطن العربي والإقليم، إلى إبراز الموقف الأميركي على حقيقته جال قضية فلسطين أولاً، وقضايا المنطقة والعالم ثانياً وحيث لم يكد يجف حبر التوقيع الأميركي على قرار الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، ونقل السفارة الأميركية إليها، ومن ثم تمهيد الأرضية السياسية لتمرير صفقة القرن التي ترافقت مع جملة إجراءات تتعلق بالالتزامات الدولية ومنها الأميركية تجاه "الأنروا"، حتى جاء الإعلان عن اعتراف أميركي بضم الجولان إلى كيان الاغتصاب، والتعامل مع "إسرائيل" ليس باعتبارها دولة قائمة بالاحتلال على هذا الجزء من التراب الوطني السوري، بل باعتبارها دولة ذات "سيادة" تطبق على الهضبة القوانين الإسرائيلية في اعتراف بقرار الكنيست الصهيوني عام 1981 ولو بمفعول رجعي .

هذان القراران الأميركيان المتعلقان بالقدس والجولان، صدرا في لحظة اندفاع أميركية جديدة لإعادة تشكيل المنطقة وإقامة منظومة إقليمية تقوم على أنقاض المنظمات الإقليمية القائمة ومنها جامعة الدول العربية، استمراراً لنهج أميركي وسياسة ثابتة تسير عليها الإدارة الأميركية بتبدل رئاساتها منذ تشكل النظام الدولي عقب الحرب العالمية الثانية.

إن هذان العنوانان يجدر التوقف عندهما كما عناوين أخرى، كالعمليات البطولية التي تنفذ في الأرض المحتلة وآخرها عملية الشهيد عمر أبو ليلى، كما في استفحال ظاهرة الفساد السياسي والإداري والاقتصادي والاجتماعي في العراق في ظل إدارة حاكمة أفرزتها عملية سياسية تدير سلطة هي الأكثر فساداً في العالم، وحيث أتت حادثة العبارة في "أم الربيعين" لتكشف عمق المأساة الإنسانية والوطنية التي يعيشها العراق بعد ستة عشر عاماً على احتلاله وتدمير بنيته الوطنية والمجتمعية في ظل الرعايتين الأميركية والإيرانية لمنظومة الفساد التي تحول العراق في ظل إدارتها إلى دولة فاشلة.واما لبنان فالحديث يطول عن فساد إداراته في ظل نظام المحاصصة والطائفية .

وإذا كان الحراك الشعبي في السودان يستحق وقفة تقدير ومعه حراك الجزائر لأجل إسقاط التمديد والتأبيد في الحكم وإفساح المجال أمام تداول سلمي للسلطة، فإن الحدث الذي يجب أن يأخذ حيزاً من الاهتمام السياسي والإعلامي هو الحدث النيوزيلندي ليس انطلاقاً من واقع الفعل الجرمي الذي ارتكبه شخص مشحون بكل العداء العنصري، بل من واقع ردة الفعل الرسمية الشعبية التي أدارتها رئيسة وزراء نيوزيلندا وكل طاقم إدارتها السياسي والأمني والإعلامي.

مما لا شك فيه ولا جدال حوله، إن الجريمة التي أودت بحياة خمسين من المصلين هي جريمة مروعة بكل الأوصاف والمقاييس، وأن من نفذها، لم يكن يعيش لحظة تخل أو يأس، بل كان يعي أبعاد فعله الجرمي وهو الذي تبين من خلال وضع اليد على أداة الجريمة، استحضاره إلى تواريخ ذات دلالات رمزية ترتبط بصراعات شهدتها القرون السابقة في فترة ما عرف بالحروب الصليبية والتي هي عبارة عن حملات استعمارية غلفت بشعارات دينية، كما هي ذات صلة بمعارك حاصلة في سياق توسع السلطنة العثمانية إلى البلقان والقلب الأوروبي.

إن يقوم هذا المهووس على ارتكاب تلك الجريمة، وتحت العناوين التي قدم نفسه من خلالها، فهذا يدلل، بأنه وإن نفذ جريمته منفرداً أو بمساعدة من وفر له تسهيلات لوجستية إلا أن الهدف ليس قتل أكبر عدد من المصلين صادف أنهم مسلمون وحسب، بل توجيه رسالة إلى العالم بأن ثمة جو مشحون بالعدائية أخذ بالتشكل لدى بيئته اجتماعية، وأنها تعبر عن هذه العدائية بأشكال مختلفة ومنها عملية نيوزيلندا.

إن الشحن العدائي الذي دفع منفذ العملية لارتكاب الجريمة، عبر عن بعدٍ عنصري وهذه المرة بسبب الاختلاف في الدين وهذا بطبيعة الحال يناقض المواثيق والإعراف الدولية وشرعة حقوق الإنسان والتي نصت على أن الناس متساوون في الحقوق دون تفريق على أساس اللون أو الجنس أو الدين. لإن من يعتبر اللون أو الجنس أو الدين أو العرق، من أسس التمايز البشري، فهذه هي العنصرية بذاتها، وبالتالي فإن الفرد عندما يمارس عملاً يعبر من خلاله عن تمايزه "لتفوقي" بسبب اللون أو الجنس أو الدين أو العرق، فهو لا يعبّر عن سلوك فردي وحسب بل يعكس سلوكه الفردي توجهات منظومة متكاملة تديرها مجموعات منظمة.

هذه المجموعات المنظمة استطاعت أن تقيم نظماً سياسياً لها، وتضفي على سلوكها العنصري تشريعاً وضعياً، وأن أبرز نموذجان في العصر الحديث هما النظام السياسي في جنوب افريقيا، والذي مارس "الابارتيد" التي تعني تفوق العرق الأبيض ( أو العنصر الأبيض من المستوطنين ) على سائر سكان البلاد الأصليين أو الوافدين والذين كانوا يدرجون تحت خانة الملونين.

وأما النظام الثاني، فهو نظام الكيان الصهيوني، وقد وثق بقرار الأمم المتحدة في منتصف السبعينات باعتبار الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية.

لقد سقط النظام العنصري في جنوب افريقيا، لكن لم يسقط حتى تاريخه النظام العنصري الغاصب لأرض فلسطين والذي يستحضر في سلوكه نظام "الابارتيد" ، وهو اليوم يستفيد من الدعم الأميركي المطلق والذي وظف تأثيراته المتعددة الأشكال لالغاء قرار الأمم المتحدة بوصف الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية.

من هنا، فإنه بعد التطور الحاصل على حركة الحقوق المدنية وخاصة داخل المجتمع الأميركي، يشتد التركيز للاستثارة العنصرية على الاختلاف بالدين بعد إعطائها هوية سياسية. وأن التشكيلات التي برزت على مسرح الأحداث السياسية وتم الترويج الإعلامي لها وتم الاستثمار بها لتنفيذ أجندات سياسية، إنما تندرج ضمن هذا السياق، وهي وأن أدت دوراً في تخريب بنى مجتمعية، إلا أنها ساهمت أيضاً في تغذية "عصبية" لا تستقيم الحياة لها إلا بالغاء الآخر المتمايز دينياً. ولهذا فإن ما قام به منفذ عملية نيوزيلندا لم يكن صاعقة في سماء صافية، بل جاء في سياق تعبئة إدارتها منظومة تعرف كيف تشحن الأفراد وكيف توظف أعمالهم في سياق مشروع سياسي متكامل الأبعاد وهادف لجهة النتائج.

إن هذه الظاهرة وبالنظر إلى خطورتها على التعايش التصالحي بين المتمايزين والمختلفين، هو ما يجب مواجهتها بخطة ذات شقين:

الشق الأول: هو عدم النظر إلى السلوك العنصري للأفراد باعتباره ظاهرة فردية منعزلة عن مناخ التعبئة النفسية والسياسية في البيئة التي يعيش فيها، بل النظر إليها باعتبارها تعبر عن ظاهرة عامة تتغذى من مرضعات قد تكون غير منظورة للشرائح الاجتماعية العامة، لكنها تتصرف وفق خطة ممنهجة.وعلى أهمية المساءلة العقابية للفرد أو المجموعة المنفذة لأفعال تنضح بالعنصرية، إلا أن الأهم مواجهة الظاهرة باعتبارها ظاهرة منظمة، وبالتالي فإن الجرم الذي يرتكبه الفرد إنما يكون في سياق الجريمة المنظمة التي يبغي المحرضون الوصول إلى تحقيق غايات سياسية ولا هم من يقوم بالتنفيذ.

الشق الثاني: أن سعي القوى التي تغذي السلوك العنصري غالباً ما تبقى في الظل، لأنها تدرك أن أفعالها ممقوته على المستوى الانساني ومنه المجتمع السياسي العام بشرائحه العريضة. ولذلك فإن مواجهة السلوك العنصري الفردي بموقف جمعي، هو المطلوب، لأنه يضع الرد على الجريمة الفردية ليس باعتبارها فعلاً فردياً منفصلاً عن سياقاته عامة، بل باعتبارها تعبّر عن ظاهرة تشكل خطراً على المجتمع الإنساني العام.

إن ما أقدمت عليه رئيس وزراء "نيوزيلندا" هو عمل جدير بالاحترام والتقدير، لأنها أشرت حيث يجب التأشير ، وتصرّفها على مستوى السلطة بكل أجهزتها، لم ينم عن تعاطف مع أسر الضحايا وعلى أهمية ذلك، بل الأهمية أنها حولت ردة الفعل، إلى قضية وطنية من خلال مشاركة الشعب كله في استنكار الجريمة وإدانتها وإبداء التعاطف والاحترام ليس لأسر الضحايا فقط، بل لكل الذين اعتبروا أن الرسالة موجهة إليهم من هذا الفعل الجرامي.

إن ردة فعل دولة "نيوزيلندا" بكل عناوينها الرسمية، أثبتت أن ساحة الاعتراض الشعبي والسياسي ضد الأعمال ذات الطبيعية والبواعث العنصرية هي أوسع من مساحة البيئة التي تروج مثل هذه الأعمال. وإنه بقدر ما تتسع مساحة الأولى تضيق مساحة الثانية وموقف رئيسة نيوزيلندا نموذجاً.

إن العنصرية التي تجسدت من خلال أنظمة حكم كما حال جنوب افريقيا و "اسرائيل"،هي الأعلى في تراتبية النظام العنصري،لكن العنصرية التي تتجسد في منظومة مفاهيم هي الأخطر كونها تعشعش في نفوس الناس وتحوّل سلوكهم إلى سلوك مشحون بعدائية قاتلة .

ولهذا فإن العنصرية بشكلها المتجسد بنظام سياسي أو المتمثل بمنظومة مفاهيم لا تسقط إلا بتحويل مواجهتها إلى قضية رأي عام على مستوى الأوطان كما على المستوى الانساني .

في جنوب إفريقيا سقط أحد نظم العنصرية في العصر الحديث ولم يبق سوى الكيان الصهيوني،وفي نيوزيلندا ،خسرت العنصرية إحدى معاركها بعدما حولت الدولة ردة الفعل إلى قضية رأي عام وقضية وطنية وهذا ما يجب ان يحتذى به لمحاصرة النظام العنصري على مستوى النظم والمنظومات .





الجمعة ٢٣ رجــب ١٤٤٠ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٩ / أذار / ٢٠١٩ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة