شبكة ذي قار
عـاجـل










قبل أن تجري الانتخابات الرئاسية الأميركية ومعرفة من سيفوز بالرئاسة، شغلت التحليلات السياسية مساحة واسعة من الضخ الإعلامي الذي غطى هذا الحدث، باعتباره حدثاً ليس كغيره من الأحداث المشابهة، نظراً لكون أميركا تلعب ومنذ فترة طويلة دوراً مؤثراً في رسم معالم السياسية الدولية. وهذا الاهتمام بالانتخابات الأميركية ليس حديثاً ولم يقتصر على الأخيرة منها، بل كان يرافق كل حملة انتخابية، وكانت التحليلات والكتابات حيال هذا الموضوع تنطلق في كثير من الأحيان من تغليب المعطى الشخصي للمرشح ومن ثم للفائز وصولاً إلى ربط معالم السياسية العامة ببعديها الداخلي والخارجي بالسلوك أو بالرؤية الذاتية للمرشح.

هذا التقويم للعملية الانتخابية في أميركا، لا يقارب الموضوعية، لأن كثيراً ممن يقاربونها، غالباً ما تطغى عليهم تأثيرات الأهواء الشخصية و الرغبة في تحديد مواصفات السياسية العامة بما يلاءم المصالح السياسية. فإن كان البعض متذمراً من سلوك الإدارة القديمة أبدى ابتهاجاً بالإدارة الجديدة، وأن كان مرتاحاً للإدارة السابقة أبدى قلقاً وتخوفاً من الإدارة الجديدة. وكلا الطرفين لا يأخذان بالاعتبار، أن أميركا هي دولة مؤسساتية، واتخاذ القرار فيها يخضع لآلية محددة تجعل كل موقع مفصلي في هرمية السلطة، موقعاً تنفيذياً. وعندما تكون الدولة محكومة بنظام المؤسسات، فإن الشخصنة في الإدارة السياسية تتراجع لمصلحة دور المؤسسات سواء كانت تمارس دوراً في الحقول التنفيذية أو التشريعية أو كل ما له علاقة بسير المرفق العام. وهذا يعني، أن الدول المحكومة بنظام المؤسسات لا تخضع سياسيها العامة للأهواء و للمزاجية الشخصية بل تبقى محكومة بالضوابط العامة. والضوابط العامة في الدول المؤسساتية تتعلق بالنظام العام، بحيث أن كل من يتولى السلطة يجد نفسه مقيداً بها وفي راس ذلك ما يسمى بالمصالح الوطنية العليا. هذه المصالح الوطنية العليا تتقدم على مصالح الأحزاب السياسية حتى ولو كان الحزب حاكماً، كما أن مصالح المنظومات السياسية ومنها أحزاب السلطة والمعارضة تتقدم على مصالح الأشخاص وأياً كانت مواقعهم.

إن المصالح الوطنية العليا في الدول المؤسساتية هي ثوابت وطنية لا يستطيع أحد تجاوزها لأنها ترتبط بمفهوم الأمن الوطني وهذه سمة تفرض نفسها في أميركا كما غيرها من الدول العريقة في بنائها المؤسساتي، بحيث أن الأمن الوطني يبقى دائماً فوق الخلافات السياسية، وهذه لا تقتصر على جانب دون الآخر وإنما تتناول الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية. ولهذا فإن الدول المؤسساتية إذا ما وجدت نفسها في خطر يهدد أمنها الوطني، فإن الخلاف السياسي الداخلي يتراجع لمصلحة حماية الأمن الوطني، ومن يتولى سلطة، وأن كان يختلف في برنامجه السياسي الداخلي عن الأخرين، إلا أن هذا الخلاف لا يسحب نفسه على الموقف من القضايا الوطنية العليا.

ومن يراقب تناوب القوى السياسية المتصارعة في الداخل الأميركي حول برامجها السياسية حيال ما يعتبر قضايا استراتيجية لا يجد كثير خلاف بين الجمهورين والديموقراطيين ولا بين ما يعتبر يساراً أو يميناً أو وسطاً في أوروبا وهذا يتناول الدول التي تدير حياتها السياسية تعددية حزبية وليست المحكومة بنظام الحزب الواحد.

بالعودة إلى أميركا، فإن هذه الدولة، تعاقب على إدارتها السياسية منذ أمد بعيد الحزب الجمهوري والحزب الديموقراطي، وفي كلا الحالتين لم يبرز تغيير جوهري في استراتيجية هذه الدولة خاصة في السياسة الخارجية.

فعلى مدى فترة الحرب الباردة، كانت الاستراتيجية الخارجية تقوم على أساس حماية أمن أوروبا وأمن النفط وما يترتب على ذلك من تفريعات لهذين الاثنين وخاصة أمن "إسرائيل". وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط نظام الثنائية الاستقطابية الدولية، أضافت أميركا للهدفين الأخرين، هدف فرض مرجعية عملتها الوطنية كمرجعية تحتسب على أساسها سائر العملات الأخرى والمعادن والمواد الأولية وخاصة النفط والغاز.

وعلى هذا الأساس، فإن أميركا سواء تولى إدارة السلطة فيها الحزب الجمهوري أو الحزب الديموقراطي ستبقى محكومة بهذه الاستراتيجية، وأن انعكاساتها على العرب هي حماية "أمن النفط وأمن "إسرائيل"، لأن كل هذين الأمنين يرتبطان بما تعتبره مصالح استراتيجية وضرورة لحماية أمنها القومي. وبالتالي فإن مؤسسات الحكم في أميركا لا تغير استراتيجيتها وأن تغيرت من رموز الإدارة السياسية فيها. وإذا كانت بعض الأمور يطالها التغيير، فهذا يطال الشكل دون الجوهر والفرق يبقى في الإخراج الشكلي، كما الفرق بين مشهدية الإعدام بالرصاص أو الشنق أو اختناقاً بغرف الغاز المقفلة.

من هنا، فإن نجاح مرشح الحزب الجمهوري على حساب مرشح الحزب الديموقراطي ليس ناتجاً عن اختلال في الاستراتيجية الأميركية التي تحكمها ثوابت المصالح العليا للدولة الأميركية إبان حكم الحزب الديموقراطي، بل بسبب رغبة المزاج الشعبي الأميركي في التغيير من ناحية، وبسبب ردة فعل عنصرية ضد الملونين من ناحية أخرى، وقد استطاعت الماكينة الانتخابية لترامب أن توظفها في الحد الأقصى الممكن من التأثير. أما ما دون ذلك، فإن الحزب الجمهوري لن يغير كثيراً في الاستراتيجية الأميركية لأن القضية لا تتعلق بالمزاج الشخصي للرئيس المنتخب ، وإنما بمصالح أميركا، ولو كان الأمر كذلك، لكانت أميركا قد أحدثت تحولاً نوعياً في استراتيجيتها العامة حيال تعاملها مع العالم الخارجي إبان وجود أوباما في البيت الأبيض، وهو من أكثر الرؤوساء الأميركيين ثقافة سياسية و فكرية ، وهو ينتمي إلى إلى ما يسمى بشريحة "الملونين" ولو كان هذا الأمر يفرض نفسه لكان فرض نفسه في تقديم أميركا صورة جديدة ومغايرة في دعمها لقضايا العالم التحررية وبالأخص قضية فلسطين.

إن ترامب، لن يلغي النظام الصحي الداخلي في أميركا، لأنه حاجة وطنية أميركية، ولن يغير من نهج السياسية الأميركية العدائية ضد كل من تعتبره منافساً ندياً لها، أو مهدداً لمصالحها الحيوية والحرب التي تديرها أميركا، ستبقى مستمرة سواء كانت بالأسلوب الخشن المعبر عنه بالعمل العسكري أو بالأسلوب الناعم المعبر عنه بنظام العقوبات الاقتصادية، وبالتالي يجب عدم الوقوع في فخ المراهنة على تحول نوعي في الاستراتيجية الأميركية العامة، ويكفي أن نعطي بعض أمثلة على ذلك.

منها الموقف الأميركي من القضية الفلسطينية، والموقف الأميركي من احتلال العراق، والموقف الأميركي من أمن "إسرائيل"، وأمن النفط من وجهة النظر الأميركية، وأمن أوروبا والموقف الأميركي مما تسميه الإرهاب. هذه القضايا التي يتمحور حولها جل النشاط السياسي الدولي والقاري والإقليمي، تقدم أميركا نفسها فيها عبر استراتيجية واحدة رغم تبدل الرؤوساء الأميركيين وتناوبهم ما بين جمهوريين وديموقراطيين منذ اغتصاب فلسطين وحتى الآن.

لذلك، لا رهان على تبدل نوعي في السياسية الأميركية وخاصة حيال القضايا العربية، لأن هذه السياسة ثابتة وأن تغير الرؤساء وعلى العرب كما على غيرهم أن يقلعوا عن شخصنة السياسية الأميركية، لأن الأوضاع في أميركا غير الأوضاع في بلادنا، والمعايير وآليات الحكم واتخاذ القرارات فيها غير تلك السائدة في بلادنا وذلك يجب الاعتماد على النفس.





الاربعاء ٢٣ صفر ١٤٣٨ هـ   ۞۞۞  الموافق  ٢٣ / تشرين الثاني / ٢٠١٦ م


أكثر المواضيع مشاهدة
مواضيع الكاتب المحامي حسن بيان نسخة للطباعة عودة الى صفحة مقالات دليل كتاب شبكة ذي قار تطبيق شبكة ذي قار للاندرويد إشترك بالقائمة البريدية
أحدث المواضيع المنشورة